سئل أمبيرتو إيكو عن الدور الذي يمكن أن تلعبه السميائيات في النضال ضد العنصرية والكراهية، فكان جوابه بسيطا : علموا الطفل الفرنسي أن كلمة lapin ( أرنب) الفرنسية ليست سوى كلمة ضمن آلاف الكلمات المنتمية إلى لغات أخرى تستعمل هي أيضا من أجل الإحالة على الشيء نفسه في العالم الخارجي.
إن العالم الذي نطلق عليه صفة " الإنساني" ليس كذلك إلا في حدود إحالته على معنى ما. گريماص
إن الإنسان كائن رمزي، إنه رمزي بكل المعاني التي يمكن أن تحيل عليها كلمة رمز. فهو يختلف عن كل الموجودات الأخرى من حيث قدرته على التخلص من المعطى المباشر وقدرته على الفعل فيه وتحويله وإعادة صياغته وفق غايات جديدة. ويختلف عنها أيضا من حيث قدرته على العيش مفصولا عن الواقع ضمن عوالم هي من نسج أحلامه وآلامه وآماله. ولم يكن ذلك ممكنا إلا من خلال نحت فعالية تعبيرية جديدة ستكون هي الإشارة الأولى على ميلاد تاريخ جديد خاص بالإنسان وحده. إنه تاريخ نشأ ونما في الرمز ومن خلاله، وبواسطته سينفصل الإنسان عن محيطه المباشر لينشر ذاته أو يخبؤها داخل" أشكال رمزية" (1) بالغة الغنى والتنوع تستوطن كل شيء في حياته، فهي الدين والأخلاق والأساطير والخرافات، وأشكال التعبير المتنوعة وعلى رأسها اللسان بطبيعة الحال.
لقد كان ظهور الرمز في حياة الإنسان حاسما، " فمن خلاله وداخله، استطاع أن ينظم مجمل تجاربه الحياتية في انفصال عن العالم. وهذا ما جنبه التيه في اللحظة، وحماه من الانغماس داخل عالم بلا أفق ولا ماض ولا مستقبل ضمن الأبعاد المباشرة ل "الهنا" و" الآن". فكما أن ابتكار الأداة أدى إلى انفصال الإنسان عن الموضوع، فإن الرمز قاده إلى الانفصال عن الواقع " (2). وليست الإحالات الدلالية المتنوعة وطرق إنتاجها وسبل تداولها واستهلاكها سوى حصيلة حركة " ترميزية" دفعت بالإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب المباشرة اللصيقة بالزمان والفضاء، وقادته أيضا إلى بناء عوالم متحررة من قيود الواقع وتأليفاته المحدودة، لقد بنى عوالم مطواعة وقابلة للصياغات المتجددة، وقابلة أيضا للتكيف والتجدد والمسخ المطلق. وقد يكون ذلك هو الخطوة الأولى التي قادت الكائن البشري إلى الانفصال عن الكائنات الأخرى التي تركها وراءه بلا تاريخ ترزح تحت نير طبيعة لا تقوم سوى بإعادة إنتاج نفسها.
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تعلم كيف يحول الأصوات إلى لغة متمفصلة تُستعمل أداة للتواصل وإنتاج الفكر وتداوله، وهو الوحيد الذي استطاع ضبط علاقاته مع غيره من خلال سن القوانين والشرائع والاحتكام إلى الأعراف والأخلاق، وهو وحده الذي تعلم كيف يحتفي بأفراحه وأحزانه من خلال طقوس يخضع لها في حالات الموت والكوارث والزواج والختان، وهو وحده الذي يسمي آلامه ويتعرف عليها ويميز بينها، وهو أيضا الكائن الوحيد الذي خلق عوالم جديدة هي غير ما تراه العين لتمييز المتخيل عن الممكن والمحتمل والقابل للإسقاط، إنه فعل ذلك كله لأنه اكتشف مع حالات الترميز الموضوعي المتتالية قدراته الهائلة على التصرف في كل ما تمده به الحواس ويأتيه من الطبيعة. لقد خرج عن طوع كل شيء، ولم يعد يكتفي بما تقدمه الطبيعة خاما، كما لم تعد ترضيه محدودية أعضائه ومجهوداته الحسية الهشة.
وهذا ما يبيح لنا الحديث عن سلوك سميائي يُنظر إليه باعتباره مجموعة من الإكراهات الجديدة المضافة إلى السلوك الطبيعي البيولوجي للإنسان، فهذا السلوك المعطى خارج أية مفصلة مسبقة لا يتجاوز حدود ما تمليه ردود الأفعال الغريزية المشتركة بين كل الكائنات الحية. إن السلوك السميائي شيء آخر، إنه في حدوده البسيطة والعميقة على حد سواء، صياغة جديدة للتجربة الإنسانية خارج إكراهات الحضور المادي للأشياء، لقد اكتشف الإنسان وجهها الآخر مجسدا في العلامات : فمن خلال هذه العلامات أصبح بإمكان الإنسان أن يتحدث عن " مطلوب غائب عن الحواس "، بوساطة ما يحل محله أو يعوضه، أو ينوب عنه في الحضور والغياب على حد سواء، بل أصبح بإمكانه الحديث عن كائنات وأشياء هي من صلب الخيال و عوالمه، لكنها أصبحت مع الوقت جزءا من ثقافته ومن موجودات عالمه، منها يستمد صورا دالة على القسوة أو الهمجية أو الحنان والوداعة أو دالة على التوغل في أقاصي الفضاء والزمان ( الغول وجزر الواق واق). إن العلامة اختصار وتهذيب للوجود المادي وتعميم له.
بل إن الترميز أيضا صياغة للسلوك الإنساني بعيدا عن إكراهات التوجيهات الأولية للوظائف البيولوجية داخل الجسد الإنساني ذاته. فالعين تبصر وستظل تبصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولكنها لن تنتج أبدا سلوكا سميائيا، فهي من خلال هذا السلوك المباشر لا تقوم سوى بأداء وظيفة بيولوجية مشتركة بين كل الكائنات الحية، ولكنها حين تغمز، تنزاح عن هذا المعطى البيولوجي المشترك لكي تنتج فعلا دلاليا يحتاج إلى معرفة لا علاقة لها بفعل البصر، فهي من المضاف لا من الفطري. لذلك لا يمكن فهم هذه الحركة البسيطة إلا من خلال استحضار السقف الثقافي الذي جعل من تحريك خاص للعين دالا على معنى بعينه، ومع هذه الحركة نلج دائرة السلوك السميائي، وحينها تتحرر العين ( وكل أجزاء الجسد ) من وظائفها النفعية الأولى لكي تمد سلطانها في جميع الاتجاهات
لقد تعلمت العين كيف تجزئ المدرك البصري وفق تصنيفات دلالية مسبقة استنادا إليها يتحدد " الموقف" من موضوع النظرة. فهي ترنو وتحدج وتحدق وتحملق وترى وتنظر، وفي كل حالة من هذه الحالات تنحاز إلى معنى بعينه، معنى يحتوي فعل البصر ولكنه ينزاح عنه ليضيف تنويعا دلاليا جديدا. بل إن العين قامت بأكثر من ذلك، لقد أصبحت قادرة على التحكم في حركاتها وأشكال وجودها فتحولت إلى أداة حاملة " للقسوة" و" الحنان" و"الوعد" و" التهديد" و" الإغراء" الخ.
وما يصدق على العين يصدق على كل الحواس، فداخل السلوك السميائي تكف هذه المنافذ الأصلية عن التعرف المحايد على موضوع يوجد خارجها، لتصبح قادرة على إنتاج موضوعات جديدة هي كميات دلالية تضاف إلى البعد الغريزي المباشر. وتلك حالة اليد في اللمس، وحالة الأذن في السمع، وحالة اللسان في الذوق، والأنف في الشم. واستنادا إلى هذه التحولات الحاسمة في حياة الإنسان، ستظهر إلى الوجود أنساق سميائية جديدة هي خزان هائل من الدلالات الإضافية التي لا تكشف عنها الحواس من خلال وظائف التعرف فيها، كما لا تقولها الظواهر الطبيعية من خلال تجليها المباشر، بل هي حصيلة رغبة الإنسان في إعارة الكون جزءا من نفسه، واستدراج الأشياء والكائنات إلى مناطق نفوذه.
والحاصل، أن السلوك السميائي هو نتاج عوالم التجريد والتعميم والرمز، سلوك لا يمكن أن يُفهم ويستوعب ويؤول إلا باعتباره مسمارا داخل عجلة تجريدية لا تتوقف عن الدوران والحركة. والرمزية في هذا المجال، كما هي في كل المجالات الأخرى، إحالة على وجود مجرد تمكن من التخلص من الوجه المادي للعالم. وهو وجود يمد شبكته في كل الاتجاهات. فالرمزية المشار إليها أعلاه " ليست خاصة بلغة الإنسان فحسب، وإنما تشمل ثقافته كلها. فالمواقع الأثرية والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية، والملابس هي أشكال رمزية أودعها الإنسان تجربته لتصبح قابلة للإبلاغ. فوجود الإنسانية مرتبط بوجود المجتمع، ولكننا يمكن أن نضيف أيضا أن وجود المجتمع رهين بوجود تجارة للعلامات. فبفضل العلامات استطاع الإنسان أن يتخلص من الإدراك الخام، ومن التجربة الخالصة، كما استطاع أن ينفلت من ربقة "الهنا" و"الآن". فبدون تجريد لا يمكن الحديث عن مفهوم، ولن يكون هناك، نتيجة لذلك، وجود للعلامات " (3).
ومن هذه الزاوية يجب التعامل مع العلامة، فهي في نهاية الأمر وبدايته، نتاج سيرورة ترميزية نتخلص بوساطتها من إسار طبيعة لا ترحم، لكي نلج عوالم المفاهيم التي لا تأخذ من الوجود المادي سوى العام والمجرد والقابل للتعميم. لقد حلت العلامات محل الوجود بأشيائه وظواهره وكائناته وطقوسه. لقد حلت محل عالم يتميز بالتنافر والتعدد والتداخل واختصرته في نماذج وبنيات عامة هي القانون الضروري الذي من خلاله يُرد المتعدد إلى ضرب من الوحدة.
لقد تمكن الإنسان من خلال العلامات من ترويض كل شيء، لقد روض الغرائز في المقام الأول، فأنسنها، أي أدرجها ضمن ما تمليه الثقافة ويستدعيه وجود الآخر. فتعلم كل شيء، تعلم كيف يأكل، وكيف ينام، كيف يبتسم ويضحك ويقطب، وتعلم كيف ينظم جنسه ونسله ويميز بين أهله وأقاربه، ويصد أعداءه والمتربصين به، واكتشف أخيرا حميميته التي قادته إلى ابتكار الأخلاق وبناء الجدران العازلة. وانتبه إلى محيطه وبدأ في ترويضه، فتحكم في آليات الطبيعة، فروض الماء، ومد السواقي والترع والسدود، وحفر القنوات الرابطة بين القارات. وروض النار وحولها إلى " حرارة " مجردة متعددة الأشكال يستثيرها متى شاء. وروض الجبال، وروض البحار، لقد أصبح سيدا للكون فقط من خلال قدرته على تنظيم تجربته خارج إكراهات اللحظة ومحدودية " الهنا".
بل إن الأمر يتجاوز حدود تنظيم خاص بتجربة عامة، فالعلامة هي أداتنا أيضا في الكشف عن مناطق في النفس البشرية لا ترى بالعين المجردة، فالمرئي منها هو تجل يكشف عن وجود طاقة انفعالية بلا هوية ولا حدود ولا معنى. فالإحساس " سابق في الوجود على التجلي الدلالي"، و" سابق على أي تمفصل سميائي"، وهو بذلك يوجد خارج حدود الخطاب، الأداة التي من خلالها يمكن تطوير موضوعات تخص أشكال وجوده، إنه يعد، وفق هذا الوجود، " الظاهر الأدنى للكينونة "( 4)، أو هو الحد الأدنى للوجود الحي الذي لا شيء بعده سوى الموت والفناء المطلق.
إن هذا " الإحساس" لا يمكن أن يصبح مرئيا إلا من خلال تجزيئه وتحويله إلى وحدات قابلة للعزل والتمييز، هي ما يطلق عليه في اللغة العادية " الهوى"و" الاستعداد" و" الشعور" و" الميل " و" الحب " و" الكراهية "... الخ، فكل منطقة من هذه المناطق تحيل على عوالم سلوكية بعينها وتقتضي أفعالا وردود أفعال برِعت علوم النفس في تحليلها وتمييزها وضبط الفوارق بينها. بل إن التمييز لا يتوقف عند هذا الحد، فكلما توغلنا في الدهاليز المظلمة لهذه النفس، امتد التجزيء ليطال هذه الوحدات ذاتها، فالحب قد يكون " جوى" وقد يكون " هياما" و" عشقا"، تماما كما يمكن للكراهية أن تكون " مقتا" و" بغضا" و" قلى"، وقد يزداد حجمها فتصبح "حقدا " إلى ما هنالك من التدقيقات التي تشير إلى مناطق تتطلب تغطية لغوية لكي تفهم وتتميز. بل يمكننا أيضا، من خلال الإشارة إلى الفعل الملازم لكل حالة، الكشف عن المزيد من التنويعات: فقد تكون هذه الحالة مرتبطة " بالرغبة في الامتلاك "، وقد تكون تلك تعبيرا عن الرغبة في "الفناء في ذات المعشوق"، وثالثة مرتبطة " بالازدراء "، والأخرى بالرغبة في "الفتك بالغريم وقتله" الخ.
ولقد شكل هذا الحضور المجسد في وحدات غطاء إضافيا هو نتاج ممارسة ممتدة في زمن لا ينتهي. فالأمر في جميع الحالات لا يتعلق بشخص يحاور نفسه، أو يصوغ فرضيات خاصة لا تصدق إلا على حالته هو، بل يتعلق بتواصل يجمع بين اثنين ضمن تفاعل متجدد باستمرار. فالاندفاع الانفعالي يتجه دوما إلى الخارج، ويتشكل باعتباره موقفا من " آخر " يوجد خارج الذات المنفعلة. لذلك، " فإن صورة السلوك السميائي عندما تتخذ شكلا بيشخصيا قابلا للملاحظة نكون أمام لغة. ولقد تصور البعض أن هذه اللغة يجب أن تكون في المقام الأول لفظية، فالطابع اللفظي هو شكل الفكر، ومن المستحيل أن نفكر دون كلام. ولهذا السبب فإن السميولوجيا ستكون جزءا من اللسانيات (بارث). فعلم اللغة اللفظية هو العلم الوحيد القادر على شرح بنيتنا الذهنية، والقادر أيضا على شرح بنية لاوعينا " (5).
وهنا مربط الفرس، فخارج التغطية اللسانية كل شيء مساو لنفسه ومنكفئ عليها، إنه هنا لا أقل ولا أكثر، جزء من كيان قد يستمر في الوجود طويلا أو قد يبتلعه النسيان كما ابتلع ملايين الأشياء والكائنات غيره. فنحن لا نعرف عن العالم إلا ما يسمح به اللسان، وكل ما يأتي إلى الذهن هو بالضرورة من طبيعة لسانية. لذلك، فإن العالم لا يتسلل إلى أذهاننا إلا من خلال حدود اللسان ومن خلال طريقته في تقطيع المدرك الموضوعي. إن وجوده " الحقيقي" لا يكمن في ما تقدمه المادة، بل يتجلى من خلال أشكال تحققه داخل اللسان. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أن إدراك العالم مبرمج بشكل مسبق داخل اللغة، فاللسان الذي نتبناه يفرض علينا تقسيمات وتصنيفات ليست كونية، وهو ما تكشف عنه صياغة الزمن والعدد والألوان، وهو ما يكشف عنه التركيب والنبرة أيضا.
وهذا ليس نفيا للوجود
المادي، فذاك أمر تأباه " ماديتنا" ذاتها وترفضه، بل هو اعتراف باستحالة الإمساك به دون وسيط، " لقد تم التشكيك في الأشياء، لا في العلامات كما يقول لوك، فالأفكار ليست شيئا آخر سوى علامات ستينوغرافية نستعملها من أجل بلورة وتنظيم بعض فرضياتنا حول الأشياء التي نسائلها " (6). وهذا ما يفسر " رغبة الأشياء في احتلال موقع داخل اللسان(...) فالواقعي هو القابل للوصف" (7).
إن الأمر يتعلق بسلسلة من حالات الترميز الموضوعي التي امتدت من أبسط الأشكال وأكثرها عمومية، وهي أفكار عامة وغامضة بدأ من خلالها الإنسان يصنف الأشياء والكائنات ويفصل بينها استنادا إلى خصائص عامة كالحجم والشكل واللون، وهي البدايات الأولى للتصنيف المقولي اللاحق، وانتهاء بظهور اللسان باعتباره أرقى أداة في التمثيل والتواصل وإنتاج المعرفة واستقبال الآخر أو صده. إن أشكال الترميز هذه هي التي تفسر " السيرورة التي من خلالها استطاعت اللغة انتشالنا من " طبيعة " نجهل عنها كل شيء، لكي تقذف بنا داخل ثقافة تمنحنا أبعادا موضوعية. إن الطفل الذي يقرر أن يتعرف على نفسه باعتباره ذاتا سيكون هو ذات التلفظ. إنه يريد أن يعين نفسه بصفته " أنا "، ولكنه بمجرد ما يدخل مدار اللغة، فإن هذه " الأنا "، التي يقوم ببنائها، تتحول إلى ذات للملفوظ وذات للجملة والمركب اللساني الذي من خلاله يكشف هذا الطفل عن مكنون نفسه. إن هذه ا"لأنا" هي منتوج ثقافي ( بورس يقول إنها النوع الذي تبلوره الثقافة لكل " الأنات" الممكنة ). فعندما تتماهى " أنا " التلفظ مع " أنا " الملفوظ، فإنها تفقد بعدها الذاتي، إن اللغة تسجنها داخل غيرية، وعليها أن تتماهى معها لكي تبني ذاتها، ولكنها لن تستطيع التخلص منها بعد ذلك أبدا " (8). وهي طريقة أخرى للقول إننا أسرى لغاتنا لا فاعلون أحرار داخلها كما قد توهمنا بذلك " دورات الكلام " المتحققة و" الأداء الحر".
ومن هذه الزاوية كانت الحاجة إلى معرفة خاصة تتولى مهمة البحث في هذه الأنساق، وتكشف عن نمط وجودها ونمط اشتغالها، وتكشف أيضا عن قدرتها على التجدد والتغير، بل عن مهارتها في التحايل والتزيي بمظهر البراءة الطبيعية التي تبعد عنها كل الشبهات كما كان يحلو لبارث أن يقول وهو يتحدث عن الأنساق الثقافية. فقد تضللنا المظاهر الخارجية للوجود وتوهمنا أننا نتحكم في كل شيء، وقد نتوهم أيضا أن الوقائع التي تحيط بنا هي كيانات بديهية في الوجود والاشتغال. إن الأمر على خلاف ذلك، لقد بلور المجتمع في سيرورة تشكله الممتدة في أعماق تاريخ لا نعرف عنه إلا الشيء القليل سلسلة من الأنساق والقواعد الضمنية التي توجه كل شيء وتتحكم في اشتغال كل شيء، إنها تتحكم في اشتغال المؤسسات وتوجه السلوك الفردي والجماعي على حد سواء. لقد مكنتنا المعرفة التي وفرتها السميائيات من الكشف عن الطريقة التي من خلالها يتسلل المجتمع إلى العلامات ويستوطنها ويحولها إلى مستودع لأحكامه وتصنيفاته، بل ووجدانه أيضا. فالسميائيات طريقة جديدة في فهم الظواهر وتأويلها، وهي أيضا طريقة جديدة في التعامل مع المعنى.
وقد تنبه الفكر الإنساني منذ زمن بعيد إلى هذا الطابع المركب للوجود الإنساني، فأخضعه للتأمل والدراسة رغبة منه في استخراج القواعد التي تتحكم في السلوكات الرمزية المبهمة التي تتخذ أحيانا شكل خرافات وأساطير وأحيانا شكل لغة قائمة الذات وأحيانا أخرى شكل لقى أثرية تخفي داخلها بعض أسرار الإنسان.
وهذا ما سنحاول التطرق له في الفقرات الموالية. سنقدم في البداية عرضا بسيطا عن بعض " الأفكار السميائية" التي حفل بها التراث الإنساني، والغرض منه إثارة الانتباه إلى أن التفكير في العلامات قديم قدم الظواهر السميائية ذاتها، ولكنه لم يتخذ شكل علم مستقل إلا مع المؤسسيين بورس وسوسير الذين سنعرض لهما تباعا في الفقرة الثالثة والرابعة من هذا المقال.
فقد عبر أرسطو عن حالات الترميز هاته التي قادت الإنسان إلى التميز والتفرد بعوالم لا يمكن أن تأتي من علامات بسيطة من خلال قدرته على تلمس الفوارق بين الصالح والطالح والضار والنافع، وهي فوارق لا يمكن أن تظهر إلا من خلال الكلام. " فأن يكون الإنسان كائنا سياسيا أكثر من النحلة أو أي حيوان آخر يعيش حياة جماعية فهذا أمر بالغ الوضوح. فالصوت دال على الألم والفرح، فلهذا فإن الحيوانات الأخرى قادرة أيضا على استعماله ( فهي بالغة التطور لدرجة أنها قادرة على الشعور بالألم والفرح والتعبير عن ذلك). إلا أن الكلام يستخدم من أجل التمييز بين النافع والضار وبين العادل من غير العادل " ( 9). ومن ثمة، فإن إنسانية الإنسان مشروطة بظهور اللغة، فمن خلالها تستقيم الحياة الجماعية، ومن خلالها يتم التواصل بين الأجيال وتتراكم المعارف وتتنوع وتنقل من مرحلة إلى أخرى ويحصل التقدم.
وأمر هذا التميز بين وصريح " فالألفاظ التي ينطق بها هي دالة أولا على المعاني التي في النفس، والحروف التي تكتب هي دالة أولا على الألفاظ. وكما أن الحروف المكتوبة - أعني الخط- ليس هو واحدا بعينه لجميع الأمم كذلك الألفاظ التي يعبر بها عن المعاني ليست واحدة بعينها عند جميع الأمم. ولذلك كانت دلالة هذين بتواطؤ لا بالطبع "(10). فالحالات الوجدانية الإنسانية واحدة رغم تنوع الكائنات واختلافها، إلا أن التعبير عنها صوتا أو كتابة لا يمكن أن يكون واحدا. وتشكل هذه الملاحظة البدايات الأولى نحو تلمس أحد المبادئ الأساسية الخاصة باللسان الذي هو العرف، العرف الثقافي واللغوي وكل الأشكال الرمزية التي أنتجها الإنسان وأودع داخلها كل حياته.
وقد كان أرسطو بهذا التمييز سباقا إلى تحديد فحوى التوسط الإلزامي بين الحدود المكونة للعلامة. فقد لاحظ، وهو يتأمل الوظيفة الكلامية، أن الحوار الإنساني يشترط وجود العناصر التالية: "الكلام" و"الأشياء" و"الأفكار". فالأشياء هي ما تراه حواسنا وما تدركه عقولنا، أما الأفكار فهي أداتنا لمعرفة الأشياء، وأما الكلام فهو الأصوات المتمفصلة في وحدات، وهي ما يخبر عن الأفكار، فبدون علامات لا يمكن تصور أي شيء. وسيضيف أرسطو عنصرا رابعا اعتبر في مرحلة من مراحل تاريخ البشرية عنصرا حاسما في شكل الإبلاغ وأدواته، ويتعلق الأمر بالكتابة (11). وعلى الرغم من أن هذا العنصر مشتق من العنصر الثالث ( الكلام)، فإنه شكل تحولا كبيرا في حياة الناس. فلقد أدت الحاجة إلى إخبار الغائب عن الحواس إلى خلق حالة إبلاغ " مؤجل" أدى إلى ظهور الكتابة، فانتشر تداول العلامات واتخذ أشكالا جديدة.
وهكذا فإن هذه العناصر الثلاثة ( أو الأربعة) لا يمكن أن تشتغل مجتمعة دون أن يكون هناك رابط يجعل منها كيانا قادرا على إنتاج دلالة تخص علاقتنا بالكون الذي يحيط بنا؛ فلا يمكن إدراك الأشياء خارج المفاهيم، كما لا يمكن صياغة مفهوم واحد خارج الحدود اللسانية، ولن تكون الأصوات وحدها دون الإحالة على مفاهيم سوى هواء بدون روح ولا معنى، وستظل المفاهيم جوفاء دون تصور معطيات تبنى استنادا إليها هذه المفاهيم. إن هذا الرابط هو ما سيطلق عليه بورس وسوسير لاحقا سيرورة التدليل، وهي السيرورة التي تجعل من هذه العناصر علامة مكتفية بذاتها.
قرنا بعد ذلك أو أكثر سيقدم الرواقيون، في الفلسفة اليونانية دائما، صيغة جديدة يتحدد من خلالها اللسان في الاشتغال والوجود والمكونات. فقد ميزوا بين ثلاثة عناصر في وجود كل علامة: " فالعلامة تجمع بين ثلاثة عناصر: مضمون العلامة، والعلامة، وما هو موجود فعليا. ف" ديون" علامة لأنه يتضمن مضمونا للعلامة وهو الشيء الذي تكشف عنه العلامة وندركه باعتباره حاضرا في أذهاننا في حين لا يدركه المتوحشون رغم أنهم يسمعون الصوت، وما هو موجود فعلا، ويتعلق الأمر بديون ذاته " (12). وميزوا بعد ذلك بين العناصر النفسية وغير النفسية، فالصوت والشيء الفعلي محسوسان، أما مضمون العلامة، وهو ما يتطابق مع المدلول السوسيري، فنفسي، لأنه صورة مجردة عن الشيء.
وضمن التراث المسيحي يقدم لنا القديس أوغستين تصورا تلعب فيه النظرة اللاهوتية للكون الدور الأساس. فاللغة في تصوره أداة لاحقة للفكر ولا تقوم سوى بالكشف عن مكنونه من خلال ألفاظ بعينها. فالفكر عنده " كم" معرفي أودعه الله في نفس كل متكلم، يحقق، من خلال ألفاظ معدودة، بعض جزئياته. ويلاحظ القديس أوغستين " أننا لا يمكن أن نقول أي شيء دون أن نفكر، وأننا نفكر بالكلمات رغم أن الفكر سابق في الوجود على الكلمات المنطوقة منها أو المتخلية فقط، فالشخص يمكن أن يفهم كلمة قبل النطق بها وقبل أن تتشكل الصور الصوتية الضرورية لذلك. إن هذه الكلمة لا تنتمي إلى أي لسان، إلى أي من تلك التي نطلق عليها الألسنة الإثنية (...) فعندما ندرك فحوى فكرة الشيء، فإن اللفظ الدال عليها سيكون لفظ نابع من القلب لا باليونانية ولا باللاتينية ولا بأية لغة أخرى" (13).
وكل شيء في هذا البناء يعود إلى التصور الذي يتبناه أوغستين عن الفكر. فهناك أولا سلطان الله الذي لا تحده حدود، وهناك ثانيا معرفة محايثة مرتبطة بملكوته، وهناك أداة للتوسط توصل هذه المعرفة إلى عباده في الأرض، إن هذه الأداة هي اللفظ أي اللغة، والتوسط يتم من خلال سيرورة تتمفصل في الألفاظ التالية : " لفظ القلب وهو لفظ مفكر فيه خارج أي لسان، واللفظ الداخلي، أي لفظ القلب الذي تحول إلى لفظ داخلي مفكر فيه من خلال لسان إثني، ثم يأتي في المرتبة الثالثة اللفظ الخارجي، أي اللفظ الداخلي المجسد من خلال الكلام وهو بذلك لفظ محسوس" (14). هناك إذن ترابط بين عوالم الداخل وعوالم الخارج، فما هو متحقق من خلال اللفظ الخارجي ليس سوى صورة لما هو موجود في ملكوت الله، ذلك" أن اللفظ الذي يرن في الخارج ليس سوى صدى للفظ الذي يلمع في الداخل "(15).
وهذه القضايا هي ذاتها التي ناقشها الفكر اللغوي العربي بشكل مباشر أو غير مباشر(16). فوضع اللغة وطبيعتها وعلاقتها بعالم الأشياء وعوالم الفكر كانت عند المشتغلين بهذا الميدان هي المدخل إلى فهم الدلالات وتصنيفها. بل يمكن القول إنها حددت مواقف لاهوتية وعلمية متشعبة اتخذت من آدم وقصة تعلمه لأسماء الأشياء منطلقا لتأويلات متباينة يضيق المجال عن الإشارة إلى بعضها.
وهكذا فقد شاع عند اللغويين والأصوليين والفلاسفة وفقهاء اللغة العرب أن الأشياء متعددة الوجود، فهي موجودة في الأعيان وموجودة في الأذهان وموجودة في اللسان، وكل وجود له آلياته طبيعته الخاصة (17). فالأول دال على المرجع، وهو ما يحدد الوجود الموضوعي للشيء، ويشير الثاني إلى المدلول، أي المفاهيم، أما الوجود الثالث فيحيل على الدال، وهو أداتنا الأولى في التعرف على العالم الموجود خارج الذات المدركة. وسنؤجل الحديث عن طبيعة الوجود الأول، فليس مؤكدا أن وضعه يدخل ضمن تعريف العلامة، فالراجح أن التصنيف الدلالي يستند إلى المفاهيم لا الموضوعات الخارجية.
إن ما يجب التركيز عليه في هذا السياق هو هذا الترابط بين المظاهر التي يتخذها الشيء ويدرك وفقها، فهو الذي يشكل كنه السيرورة المنتجة للدلالة وتداولها. وهكذا لن يكون غريبا أن ينظر أغلب هؤلاء العلماء إلى العلامة باعتبارها سلسلة من الروابط لا كيانا معطى من تلقاء نفسه. والحاصل أن السيرورة الدلالية تستند إلى علاقات تجمع، في الغالب الأعم، بين عنصرين على الأقل، فهي " كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول " (18). وكما هو واضح، فإن الأمر يتعلق بربط ثنائي يقصي المرجع الخارجي، فهي أيضا " كون اللفظ بحيث متى أطلق فهم معناه للعلم بوضعه"، (19) والوضع ( أي التعاقد الاجتماعي أو العرف أو الاعتباطية) هو أساس التمثيل وأساس الربط بين الدال والمدلول، وإليه تستند عملية المفهمة، ولهذا فإن الألفاظ عند أغلب هؤلاء" دالة على المعاني بتواطؤ لا بالطبع" (20)، "فأكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف " (21). وعلى هذا الأساس، فإن " معنى اللفظ هو أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه " (22).
وتوضح كل السياقات السابقة أن الألفاظ دالة على المعاني، والأشياء لا دخل لها في تعريف العلامة،
فالعالم الخارجي لا يتسرب إلى الذهن إلا باعتباره ما يستوجب النقل إلى اللسان. ومع ذلك، فإن استبعاده في تعريف العلامة لا يعني نفيا لوجوده، إن وجوده الوحيد هو ما يقوله اللسان عنه، وهو وجود مفهومي، فالمفاهيم " تحل محله" بتعبير بورس. وهكذا فإن الارتسام المشار إليه أعلاه يُنظر إليه، في المعرفة اللسانية الحديثة، باعتباره اشتقاقا لصورة من موضوع غير محدد، ويكون هذا الاشتقاق نتيجة سيرورة تقليصية تقصي العناصر الحشوية لتنتج قسما، والقسم ليس معطى خاما، بل هو بناء معقد يقوم به التسنين وتختزنه الذاكرة، " فالعلامة اللسانية لا تربط بين اسم وشيء بل تربط بين صورة سمعية وتصور ذهني " كما حدد ذلك سوسير بشكل قطعي.
استنادا إلى هذه الملاحظات الأولية الخاصة بالظواهر السميائية من جهة، والنظرات التأملية التي أثارها وجود عوالم لا يستقيم وجودها " الحقيقي" في الأذهان إلا من خلال أشكال توسطية قضى الإنسان زمنا طويلا في نحتها وتهذيبها من جهة ثانية، سننتقل إلى الكشف عن بعض مظاهر المعرفة السميائية الحديثة التي اتخذت هذه المرة شكل علم مستقل، وذلك من خلال بسط آراء المؤسسين ، فيردناند دو سوسير ، و شارل سندرس بورس.
II
يتحدد تاريخ السميائيات عادة من خلال الإحالة على علمين من أعلام الفكر الإنساني الحديث : سوسير ( 1857- 1913) وبورس (1839-1914 ) باعتبارهما المؤسسين الفعليين للسميائيات الحديثة. فقط أطلق الأول على العلم الذي بشر به في بداية القرن العشرين" السميولوجيا"، وهي علم سيأخذ على عاتقه دراسة " حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، وسيكون هذا العلم جزءا من علم النفس العام" (23)، في حين أطلق الثاني على علمه الجديد " السميائيات". وقد قضى ما يقارب نصف حياته في صياغة مفاهيمه وبلورتها، إلى حد اعتباره الأساس الذي قامت عليه كل العلوم، وسيصنفه ضمن المنطق، " فالمنطق في معناه العام ليس سوى تسمية أخرى للسميائيات " (24)، وبهذا فهو جزء من بناء فلسفي مهمته رصد وتتبع حياة الدلالات التي ينتجها الإنسان من خلال جسده ولغته وأشيائه وفضائه وزمانه، وباختصار من خلال كل ما يمسه أو يجربه أو يحيط به.
وعلى الرغم مما في هذه الإحالة من الغموض والالتباس وعدم الدقة، فإنها مع ذلك شكلت نقطة إرساء سيؤرخ انطلاقا منها لنشاط معرفي امتدت آلياته التحليلية إلى كل ما يؤثث الوجود الإنساني. فما بين الرجلين اختلافات كثيرة، بل لا يجمع بينهما أحيانا سوى تعريفات أولية عادة ما تتعلق بالعلامة ودورها في بلورة الفكر وإشاعته، أو الرغبة في الخروج من دائرة العفوي والمباشر والحسي لولوج عوالم التجريد التي تعد وحدها الأداة التي مكنت الكائن البشري من التسلل خارج الوجود اللحظي المنفلت من أي تمفصل : في الفضاء والزمان واللغة والدلالات.
لقد تحدث سوسير عن السميائيات عرضا معلنا عن حقها في الوجود،أما بورس فقد قدم لنا علما متكاملا مستقلا من حيث الأسس المعرفية ومن حيث المفاهيم، ومن حيث الإجراء التحليلي المصاحب لكل التصنيفات الخاصة بالعلامات. لذلك فإن تاريخ السميائيات لا يستقيم إلا من خلال الفصل بين التجربتين، وتمييزهما عن بعضهما البعض من أجل صياغة تصور عام للسميائيات يستند إلى منجزات المؤسسين معا.
1-فيردنان دو سوسير والسميولوجيا
لقد أحدثت أفكار سوسير ثورة إبستمولوجية كبيرة امتد تأثيرها بعيدا في مجال الإنسانيات. فخلاصاته حول اللسان ومكوناته واشتغاله عُممت على مجالات معرفية كثيرة، بدءا من الأنتروبولوجيا وانتهاء بالتحليل النفسي مرورا بالنقد الأدبي. ويكفي أن نذكر بأن بنيوية كلود ليفي شتراوس (25)مستمدة، في كثير من جوانبها، من مقترحات سوسير في ميدان اللسانيات. ولم يتردد جاك لاكان (26) في صياغة حدود الحلم انطلاقا من الثنائية السوسيرية الدال والمدلول، فالحلم عنده كيان مبني باعتباره لغة ويشتغل كما تشتغل اللغة. ولا يمكن إدراك ماهية الأدب و أسراره، في تصور بارث، خارج حدود اللسانيات التي تشكل مادته الأساس. بل إن الرابط بين الدال والمدلول سيكون هو المدخل نحو فهم تفكيكية دريدا وتصوره للتشظي اللامتناهي للدلالة.
وربما كان تصنيفه " اللسان باعتباره واقعة اجتماعية " هو المدخل الأساس لتلمس بعض الأسس المعرفية التي استند إليها سوسير في صياغة تصوراته الجديدة للسان، وهي الأسس التي قادته إلى الفصل القاطع بين معطيات اللسان الموضوعية، ما يشكل موضوع اللسانيات عنده، وبين تحققات الكلام المرتبطة بالفرد وتقلبات أهوائه، وهو أمر يصعب معه عزل عناصره والتحكم فيها وتصنيفها، وسيترتب عن هذا الفصل نتائج بالغة الأهمية عبر عنها سوسير من خلال سلسلة من الثنائيات التي تعد جوهر عمله الريادي في مجال اللسانيات الحديث
ومفهوم " الواقعة" كما هو معروف، مفهوم مركزي في كل مجاللات المعرفة الخاصة بالعلوم الإنسانية، وبدأت أهميته في الظهور مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر عند عالمين كان لهما تأثير قوي في الدراسات الإنسانية، السوسيولوجيا منها على الخصوص، هما أوغيست كونت ودوركايم. فقد لعب هذا الأخير دورا مركزيا في صياغة حدود علم الاجتماع المعاصر، وهو الذي رسم له في مرحلة مبكرة أهم أسسه المعرفية، وذلك من خلال التعاطي الجديد مع معطيات العلم وموضوعه وطريقته في تصنيف الظواهر وشرحها. ومن هذه الأسس مفهوم الواقعة ذاتها.
إن " الواقعة " هي " معطى تجريبي قابل للمعاينة ويتميز بطابعه الموضوعي". وهي، على هذا الأساس، كيان مفصول عن الذات المدركة، إنها " حدث خاص وقابل للضبط في الزمان وفي المكان" (27)، وبذلك تتميز من جهة عن " القانون العلمي" فهو من طبيعة كونية، أي يصدق، على كل تجربة ممكنة محددة ضمن نفس الظروف "، وعن " الموضوع، فهي ليست موضوعا، بل علاقة ممكنة بين الموضوعات" (28). استنادا إلى هذا، فالواقعة كيان مبني وليس معطى، ومن ثمة لا يمكن تصورها ورسم حدودها خارج إمكانية تأويلها.
وضمن هذه التحديدات الأولية والأساسية يجب إدراج المفهوم الخاص للواقعة الاجتماعية كما تصوره دوركايم وحدد خصائصه. و" الواقعة الاجتماعية" هي ما يشكل موضوع علم الاجتماع عنده، وهي ما يفصله عن باقي العلوم الأخرى. فالمجتمع في تصوره هو مجموعة من التمثلات ومصنوع، تبعا لذلك، من مجموعة من الأفكار. لذلك فالواقعة هي أولا " شيء "، وهي بذلك توجد خارج الفرد وتشكل كتلة مستقلة عنه، " فالشيء هو كل ما يصلح أن يكون مادة للمعرفة ولكن دون أن يقود إلى خلق تداخل بينه وبين الذهن الذي يدركه، وهو كل ما لا يمكن تمثله بطريقة ملائمة من خلال إجراء تحليلي ذهني بسيط، وكل ما لا يمكن للذهن أن يتعرف عليه إلا إذا انفصل عنه وتلمس طريقه نحوه عبر الملاحظة والتجربة منطلقا من العناصر الأكثر ظهورا والأكثر تداولا إلى عناصره الأكثر عمقا" (29).
وكلمة " شيء" هنا لا علاقة لها بالطابع المادي كما توحي به التسمية، بل له علاقة بتصنيف مجموعة من الأفكار أو التمثلات في انفصال عن التماس السيكولوجي الذي قد يجعل منها كيانا فرديا معزولا. وبعبارة أخرى، إن الشيء واقع موضوعي لا نعرف عنه أي شيء بشكل مسبق، وتجب ملاحظته من الخارج. وهذا ما يحيلنا على المبدأ الثاني، وهو أن المجتمع مصنوع من مجموعة من التمثلات الموجودة خارج الأفراد، وتشكل هذه التمثلات " طريقة في الفعل والفكر والإحساس، وتتميز بكونها توجد خارج الوعي الفردي " (30).
إن وجودها خارج هذا الوعي هو ما يمثل قوتها الضاربة، فهي" تتمتع بقوة قسرية بموجبها تفرض على الفرد، أراد ذلك أم أبى " (31). وهي بطبيعتها تلك، تختلف من جهة " عن الوقائع العضوية لأنها فعل وتمثل، وتختلف من جهة ثانية عن الوقائع النفسية، لأن هذه الأخيرة لا وجود لها إلا في الوعي الفردي ومن خلاله" (32).
وفق هذه المبادئ لا يمكن للمجتمع " أن يكون مكونا من مجموعة من الأفراد، بل هو نسق يتشكل من الترابطات القائمة بينهم، وتشكل هذه الترابطات واقعا له ميزاته الخاصة " (33). ولهذا لا تحتاج الواقعة الاجتماعية لكي تفسر إلى معرفة توجد خارجها، ذلك " أن السبب المحدد لها يجب البحث عنه في وقائع سابقة، لا في حالات الوعي الفردي"، وبالإضافة إلى ذلك " فإن وظيفة الواقعة يجب البحث عنها في العلاقة التي تقيمها مع غاية اجتماعية ما " (34). والخلاصة " أن الأصل البدئي لكل سيرورة اجتماعية ما يجب البحث عنه في تشكل الوسط الاجتماعي الداخلي"(35).
تلك باختصار شديد أهم المبادئ التي اعتمدها دوركايم من أجل رسم حدود موضوعه وتحديد طبيعته ونمط اشتغاله، وهي المبادئ التي سنعثر عليها متفرقة أو مجتمعة عند سوسير، وهو يبحث عن موضوع علمه داخل حقل من الممارسة الإنسانية كان موزعا على علوم لا رابط بينها ونعني به اللسان.
وهو المبدأ ذاته الذي سيعتمده سوسير في عمله من أجل بلورة موضوع اللسانيات التي بشر بها باعتبارها علما خاصا باللسان لا بالوقائع المحيطة به. فمن أجل تحديد اللسانيات يجب تحديد موضوعها، وموضوعها " هو دراسة اللسان في ذاته ولذاته"، وهو ما يستدعي تحديد ما يعود إلى اللسان وما يُلحق به عن باطل. إن اللسان عنده " واقعة اجتماعية" وهو بذلك " موجود خارج الفرد وخارج قدرته على تغييره أو تبديله "، وسيكون تبعا لذلك " مفروضا وليس حرا"، فعندما يولد الطفل لا يستشار في أمر اللسان الذي يجب أن يتبناه. ولهذا، فإن البحث عن محددات اللسان لا يمكن أن تتم إلا من خلال العناصر التي يوفرها اللسان دياكرونيا وسانكرونيا. فالوقائع اللسانية خاضعة لانتظامات لا تضبط عناصر معزولة بل تتحكم في مجموعة من العناصر ضمن وحدة: إنه النسق، فالعنصر يكون دالا من خلال موقعه داخل نسق معين، وهو ما سيطلق عليه لاحقا مستويات الوصف. والمبدأ ذاته يحكم مجموع اللغات التي يتوسل بها الإنسان من أجل إبلاغ تجربته بشكل مباشر، أو غير مباشر.
وبهذا التصور كان سوسير يدشن مرحلة جديدة في تاريخ اللسانيات، حيث استبعدت كل العناصر التي لا تربطها علاقة مباشرة باللسان ولا تدخل ضمن تمفصلاته المتعددة. وهذا أمر أساس، أولا لأن الوصول إلى صياغة قوانين عامة تخص اللسان ستكون هي المقدمة الضرورية لتعميم هذه القوانين على الظواهر غير اللسانية، وثانيا لأن اللسان يعد أرقى الأنساق التي يستعملها الإنسان في التواصل، وبذلك فهو يعد مؤول كل الأنساق. فنحن لا يمكن أن نشرح الموسيقى بالموسيقى، كما لا يمكن أن نشرح اللوحة من حلال رسم لوحة أخرى، إننا نصف المعنى ونقيس حجمه وتبدلاته وأشكال تحققه من خلال الحدود اللسانية لا خارجها.
لقد بدأ سوسير من البداية، ويتعلق الأمر بتعريف اللسان. وهي خطوة هامة جدا كما سنرى لاحقا، لأنها هي التي ستقوده إلى تحديد طبيعة كل العناصر المشكلة لهذا الكيان الرمزي البالغ التجريد، وهي التي ستحدد نمط وجود الثنائيات المتعددة التي من خلالها يتحدد ويصنف ويشتغل.
لقد رفض سوسير بشكل قطعي أن يكون اللسان مدونة، أي مجموعة من الوحدات المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بعالم الأشياء كما هي في العالم الخارجي. فاللسان لا يمكن أن يكون ظلا للأشياء، ولا يمكن أن يكون لائحة من الأسماء التي تحيل على معادلات مستقلة تتمتع بوجود مادي أصلي في العالم الخارجي. إن القول بذلك معناه الاعتراف بأن " الفكر سابق في الوجود على اللسان "، وأننا يمكن أن نفكر خارج اللسان وإكراهاته "، ومعناه أيضا اعتبار الفكر كتلة كلية معطاة ومصوغة في منأى عن اللسان وآلياته.
والحال أنه " لاشيء واضح قبل ظهور اللسان، ولا يمكن صياغة فكرة واحدة دون علامات"( سوسير). فالعلامة، أي اللسان، هي المدخل الذي يحول الكتلة الفكرية العديمة الشكل ( هالمسليف) إلى وحدات مضمونية قابلة للإدراك والمعاينة، لذلك" فالعلامة ليست غطاء تمنحه الصدفة إلى الفكر، بل هي عضوه الأساس والضروري. فالعلامة لا تستعمل فقط من أجل إبلاغ مضمون فكري تام، إنها الأداة التي من خلالها يتخذ هذا المضمون شكلا ويخرج إلى الوجود، ومن خلالها يتخذ معنى" (36). وكما ستصوغ ذلك السميائيات بدقة متناهية لاحقا، فإن عالم اللسان ليس هو عالم الواقع بالضرورة، إن اللسان يصوغ حدود عوالم من كل الطبائع بما فيها تلك التي لا وجود لها ولم توجد ولن توجد كما هو شأن الحيوانات الخرافية والفضاءات البعيدة التي نسج
حدودها خيال إنساني جامح يرغب في تجاوز المحدود والمرئي.
والخلاصة أن اللسان نسق من العلامات، وهو بذلك لا يمثل العالم الخارجي ولا يعبر عن مكنونه إلا من خلال إدراجه ضمن مفصلة مزدوجة: مفصلة خاصة بالدال، وهي مفصلة اعتباطية ولا يحكمها، كما سنرى ذلك، أي قانون عقلي، فهي حصيلة سيرورة اجتماعية لا يُعرف لها بداية ولا نهاية. إن اللسان " أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" ( ابن جني). ومفصلة تتم على مستوى المدلول، حيث لا يشكل التمثيل إحالة على موضوع مادي، بل استثارة لصورة ذهنية هي من طبيعة نفسية. ويتعلق الأمر في هذا المستوى باختزال التجربة الواقعية في نموذج عام هو الذي يحضر في اللسان. أو هو سيرورة تقليصية للعناصر الحشوية غير المميزة. وذاك أمر أساس " فالعلامة لا تجمع بين اسم وشيء، بل تجمع بين تصور وصورة سمعية، وهذه الصورة ليست الجانب المادي في الصوت، فهو شيء فيزيقي بشكل خالص، بل البصمة النفسية لهذا الصوت، أي التمثل الذي تقوم به حواسنا، إنه حسي و نعتبره أحيانا " ماديا " وذلك فقط في الطرف المقابل للتصور الذي يعد أكثر تجريدا منه" (37).
إن الأمر في المفصلتين معا يتعلق بصياغة حدود واقع لا يمكن أن يرى إلا من خلال اللسان. فاللسان هو المصفاة التي من خلالها يتسلل العالم الخارجي إلى أذهاننا وفيه يعشش ويتناسل ويخلق صوره المتعددة التي تتجاوز المعطى المباشر، لكي تخلق عوالم الممكن والمتخيل. فنحن لا نعرف عن العالم الخارجي إلا ما يسمح به اللسان أو يبيحه، لذلك فاللسان " شكل وليس مادة ". ( سنرى لاحقا أن الدلالة البنيوية في كليتها ستبنى انطلاقا من هذا التقابل بين مادة هي الأصل في التكون وبين أشكال تحققها).
ومن خلال هذا التصور الجديد للسان سيعاد تعريف العناصر المشكلة للسان." إن اللسان نسق من العلامات المعبرة عن أفكار، وهو بذلك شبيه بالأنساق الأخرى ". إنه لا يشكل سوى أداة تعبيرية ضمن أدوات أخرى يتوسل بها الإنسان من أجل إبلاغ تجربته. ولهذا التعميم أهمية كبرى، رغم نسبيته كما سنرى ذلك لاحقا، فالأنساق السميائية الأخرى تخضع لنفس منطقه وتشتغل بنفس طريقته، فهي الأخرى منتجة للدلالات وهي الأخرى محكومة بمبدأ الاعتباطية، و" القوانين التي سيتم اكتشافها في السميولوجيا سيتم تطبيقها على اللسان ".
هناك فصل أول بين وجهي الورقة، ما يعود إلى الدال، وما يعود إلى المدلول، الأول صورة سمعية، وهي نتيجة تقطيع خاص يتم داخل متواصل صوتي عديم الشكل، وهذا التقطيع ليس سوى محاولة لتحديد شكل رمزي سيحل محل شيء آخر وفق أعراف خاصة تتم ضمن منظومة لغوية ما. وهو بذلك كيان صوتي، نفسي و ليس ماديا، فما يحدد " الدال هو البصمة الصوتية التي تلتقطها الأذن، لا الجانب المادي الذي أحدثه"، فعندما تلقط أذني صوتا ما، فإنها ستصنفه ضمن خانة معينة دون اعتبار لمادة المصدر. وهو مفروض وليس حرا، فالفرد يجب أن يقبله باعتباره قدرا مفروضا لا يستطيع أمامه فعل شيء، إنه يستقبله بشكل سلبي، فالدال الذي تختاره المجموعة اللغوية لا يمكن استبداله بآخر ". إن " الكلام وظيفة ثقافية، لا معطى بيولوجي خالص،" فالطفل إذا انتزع من بيئته العربية ووضع ضمن الثقافة الفرنسية، فإنه سيتعلم المشي كما يتعلمه كل الأطفال العرب، ولكنه سيتكلم الفرنسية، رغم أصوله العربية (38).
والشيء نفسه يصدق على المدلول، فالمدلول ليس شيئا، إنه تصور أو هو صورة ذهنية عن العالم الخارجي بأبعاده الواقعية أو المخيالية. إنه بذلك كيان نفسي، إنه صياغة مجردة لوقائع موضوعية. فما هو أساس في المدلول ليس الكتلة الفكرية التي يتضمنها، بل طريقة التقطيع التي تقود إلى صياغة وحدات مضمونية هي التي تشكل ما يسمى الرؤية الثقافية المودعة في كل لسان. فالمعطى الخارجي واحد إلا أن عمليات التقطيع تختلف من لسان إلى آخر. بل إن الأمر يتجاوز هذه الحدود، فاللسان ليس أداة للتواصل فحسب، إنه أيضا أداة للتمثل، وهو أيضا أداة لصياغة الرؤى المتعددة للعالم الذي يحيا داخله الإنسان. وكما حدد ذلك سابير مبكرا، وربما في استقلال عن تصورات سوسير، فإن اللسان يشتمل على توجيهات مسبقة تحدد مجمل تصوراتنا عن الكون وأشكال وجوده وتجلياته ( اللسان شكلنة للعالم ). فما نعرفه عن العالم والطريقة التي تتم بها هذه المعرفة وأشكال التمفصل الخاصة بها، وأنماط توزيع المضامين عمليات تتم داخل اللسان ومن خلال آلياته في التقطيع المفهومي وصياغة حدود الفضاء والزمان. إن اللسان هو الأداة الوحيدة التي تمكننا من القيام بذلك.
ولا يمكن فهم هذه المبادئ العامة دون تحديد طبيعة الرابط القائم بين الدال والمدلول، فالعلاقة بينهما علاقة اعتباطية، أي علاقة لا يمكن تبريرها منطقيا وعقليا، إن الأمر يتعلق برابط عرفي هو حصيلة سيرورة إبلاغية طويلة قادت الإنسان في نهاية الأمر إلى اختراع أشكال ترميز موضوعي بدأت بتكوين الأفكار وانتهت بظهور اللغة، باعتبارها أرقى الأشكال داخل هذه الحركة الترميزية على الإطلاق. ويمكن تلخيص مضمون هذا المبدأ في غياب عناصر مادية ملموسة تقود المتحدث ( أو المستمع) إلى الانتقال مباشرة إلى المدلول الذي يحيل عليه الدال الذي تلتقطه أذناه، إنه تواضع وعرف تحكمت فيه مؤثرات كثيرة منها المؤثرات الطبيعية وأشكال التطور والحاجات الإنسانية المتنوعة الخ. دون أن يعني ذلك " أن الذات المتكلمة حرة في استبدال بالدال الذي تختاره المجموعة اللغوية دالا آخر يناسب هواها (...) إن المقصود بالاعتباطية أن الدال غير معلل في علاقته بالمدلول، الذي لا تربطه به أية روابط طبيعية" (39).
وهو مبدأ لا يقتصر ولا يحكم النسق اللساني فقط، إنه يتحكم في كل الأشكال التعبيرية التي يعتمدها الإنسان في توصيل تجربته والإخبار عنها. " فكل وسيلة تبلورت داخل المجتمع تستند مبدئيا إلى عادة جماعية، أو إلى عرف، وهو ما يعني الشيء نفسه. فالعلامات الدالة على الآداب السلوكية التي تشتمل على تعبيرية طبيعية ( حالة الصيني الذي ينحني أمام إمبراطوره تسع مرات مثلا ) ليست كذلك إلا لأنها محكومة بسلسلة من القواعد، وهذه القواعد هي التي تفرض استعمالها لا قيمتها الجوهرية " (40).
وكما رأينا ذلك سابقا في الفقرة الخاصة بالإرث الإنساني في مجال السميائيات، فإن هذه العلاقة لها موقع متميز داخل التأملات اللسانية التي تعج بها مكتبة التراث الإنساني منذ الفلسفة اليونانية مرورا بالتراث الديني المسيحي والإسلامي على السواء وانتهاء بالنظريات المعاصرة في هذا المجال. لقد كانت قضية اللغة وظهورها وموقعها داخل الوجود الإنساني من القضايا التي أثارت الكثير من التساؤلات التي أشرنا إلى بعضها في الفقرة السابقة. إلا أن ما هو أساسي هنا هو بالضبط اتساع دائرة الاعتباطي لكي يشمل كل اللغات الإنسانية، بما فيها الملفوظات الإيمائية والطاقة التعبيرية التي تتمتع بها الأشياء و إحالات الطقوس الاجتماعية. بل إن سوسير يجعل من الاعتباطية الميدان المفضل للسميولوجيا، " فموضوع السميولوجيا هو الأنساق ذات الطبيعة الاعتباطية" (41). وهي الملاحظة التي سيستند إليها الداعون إلى سميولوجيا التواصل لإقصاء كل ما له علاقة بالدلالة، فهذا النشاط لا مجال له في السميولوجيا. فمجمل الأنساق غير اللسانية في نظرهم معللة، كما هو شأن الصورة مثلا، وهي لذلك لا يمكن أن تشكل موضوعا للسميائيات. والأمر ليس كذلك بطبيعة الحال. فهذه الدعوى ستسقط مع مرور الوقت من تلقاء ذاتها وستنجز في مجال سميائيات الدلالة أهم الأعمال التي تنسب حاليا إلى السميائيات بامتياز، ومنها أعمال بارث وگريماص وإيكو وغيرهم.
إن جوهر الاعتباطية يشير إلى أمر آخر، إنه الأساس الذي يتحدد من خلاله موضوع السميائيات وحقل اشتغالها. فما يطلق عليه عادة السلوك السميائي يتحدد انطلاقا من هذه الخاصية بالذات، فكل ما هو معطى بشكل سابق على الممارسة الإنسانية أو يوجد خارجها، وكل ما هو مدرج ضمن الطبيعة باعتبار بعده المادي المفصول عن أي معطى آخر غير معطياته المادية لا يمكن أن يكون موضوعا للسميائيات، فهو في جميع هذه الحالات لا يمكن أن يكون حاملا لدلالة، فهو لا يحيل إلا على نفسه. وهذا أمر بالغ الأهمية في مجال التمفصلات الممكنة للمعنى، فالمعنى ليس محايثا للشيء، ولكنه حصيلة ما تضيفه الممارسة الإنسانية إلى طابعه المادي. وبعبارة أخرى، إن الإنسان يودع في الأشياء والوقائع والطقوس والظواهر الطبيعية جزءا من نفسه. وبهذا، وبه فقط، تتحول هذه الأشياء والوقائع والظواهر إلى شيء آخر غير كونها وقائع أو ظواهر، إنها هنا لكي تحيل على شيء آخر غير ماديتها المباشرة.
بل إن الإنسان يفعل أكثر من ذلك، إنه يعير العالم الطبيعي أجزاء من نفسه ليصوغ العالم على شاكلته ويحوله إلى كائن ناطق فاعل منتج للدلالة ومستهلك لها. وليس غريبا أن نتحدث عن ذراع الجبل ورأسه، وفخذ القبيلة، والذكر والأنثى في كل شيء. إنها عوالم الطبيعة قد اتخذت بعدا إنسانيا، أي ثقافيا. وهذا البعد هو الذي سيحل في ميدان السميائيات محل الاعتباطية.
فلقد اقترح إيكو للخروج من دائرة الاعتباطية بمفهومها اللساني الصارم، مع الحفاظ على فحواها، الحديث عن " التجربة الإدراكية " التي تستعير مادة نشاطها من التجريد الذي يلحق مواد التجربة الواقعية ويحولها إلى خطاطات عامة. فمن المؤكد أن الظواهر الأيقونية ( الصورة مثلا) تبدو معللة في أبعادها الظاهرة، فعندما أشاهد صورة ما فإنني لا أتردد في رد هذه الصورة إلى صاحبها، فهي بديله الاصطناعي، وهي جزء من هويته البصرية. إلا أن الأمر كذلك فقط إذا نحن وقفنا عند حدود التعرف المباشر، أي عندما نقف عند حدود ما يقدم إلى العين باعتباره استنساخا أو إعادة إنتاج اصطناعي لموضوع طبيعي موجود أمام العين. فالأمر في هذه الحالة لا يتطلب سوى ما تستدعيه التجربة المشتركة، حاسة البصر في المقام الأول، والتوفر على العناصر الأولية للحكم.
إلا أن هذا المستوى ذاته ليس بالبداهة التي نتصور، فما تدركه العين ليس كيانا متكاملا محددا من خلال مجمل المعطيات التي يمثل من خلالها أمام العين، إن الأمر على العكس من ذلك، إن الإدراك يشتغل بطريقة أخرى ويخضع لقوانين أخرى هي تلك التي تقود الذات المدركة إلى إنتاج النماذج التي تمكنها من إدراك مجمل النسخ التي يحفل بها الوجود الإنساني. فكل شيء يمكن أن يختصر في نموذج عام يمتلك صفة التمثيلية ويستعيد بشكل مختصر البنية الأصلية التي تشكل الهوية العامة للشيء. وبعبارة أخرى، يشترط إنتاج البنية العامة المجردة، بالضرورة، التخلص من العناصر غير المميزة والاحتفاظ بالعناصر التي تتكرر في كل النسخ. حينها، نكون أما نموذج عام، أي أمام بنية تشتمل بشكل احتمالي على كل إمكانات التحقق. ففي الحالة التي تخص الوجود المادي للإنسان يمكن أن نستحضره من خلال خطاطة عامة تمثل الشكل المختصر للبنية التي يمكن من خلالها التعرف على شيء اسمه إنسان، وتتشكل هذه الخطاطة من خلال العناصر التالية : رأس ورجلين ويدين: مكان الرأس دائرة ومكان باقي الجسد مجموعة من الخطوط.
إن هذا الرسم البسيط جدا كاف للإحالة على كائن بشري. لن يتعلق الأمر بالتأكيد بامرأة أو رجل أو طفل، أو شاب أو شيخ أو مريض أو معافى ولا أي شيء آخر، إن الخطاطة تكتفي بالإحالة على " فصيلة" بعينها هي تلك التي ينتمي إليها هؤلاء جميعا.
والحاصل أننا لا ندرك النسخة، وما يتسلل إلى الذهن شيء آخر غير المرئي المباشر. إننا ندرك شيئا لا يرى، ولكنه يعد الأساس الذي يبنى عليه كل إدراك يعتمد قوانين الرمزية. وأنت ترى الإنسان الذي يقف أمامك، فإن ما تراه هو البنية المجردة التي تمكنك من التعرف على النسخة المتحققة، أي وجود الإنسان الفعلي.
إن الإدراك لا يعتمد النسخة مدخلا للتعرف على العالم الخارجي، لأن ذلك مناف لآليات الإدراك التي تعتمد التجريد وسيلة لامتلاك العالم الخارجي فكريا، بل يستدعي النموذج الذي يقوم بتنقية وتهذيب النسخ وتحويلها إلى ذاكرة عامة من خلالها تتسرب كل الذاكرات المخصوصة إلى عوالم الحقائق المفردة التي تقدمها الأشياء. ذلك أن الإدراك ذاته هو سيرورة افتراضية ( abductif) بالمفهوم الذي يعطيه بورس لهذه الكلمة : الاعتماد على معرفة سابقة من أجل التعرف على واقعة مباشرة، فإذا ما رأيت شيئا من
بعيد ولم أتبينه استحضرت كل " الخطاطات" المجردة التي أتوفر عليها، لكي أتمكن من تحديد الهوية الحقيقية لهذا الشيء أو هذا الكائن. فالشيء أو الكائن لا يمكن أن يدرك إلا من خلال القسم الذي ينتمي إليه ( انظر المثال الذي يقدمه إيكو في كتابه " العلامة" ) (42).
ولقد عبرت هذه الإشكالية عن نفسها من خلال مجموعة من المفاهيم الوثيقة الصلة بما تثيره طبيعة الروابط بين الدال الأيقوني ومدلوله ( وكذلك الدال الأماراتي ومدلوله كما سنرى). ونعثر في كتابات أمبيرتو إيكو على تحاليل مفصلة لهذه القضية، بل واقترح نماذج نظرية ستستعيدها جماعة مو µ وإن بشكل غير مباشر ( 43). وتعتبر هذه المقترحات إضافات حقيقية في ميدان الدراسات السميائية للصورة والعالم الطبيعي أيضا.
فهذه الروابط تدور، جميعها، حول حقل علائقي متكون من مفاهيم من قبيل : "التشابه" و"التجاور" و"العرف" و"النموذج الإدراكي " و" سنن التعرف " و" البنية الإدراكية" (44)...الخ، وغيرها من المفاهيم التي تحيل جميعها على علاقات ملتبسة بين مكوني العلامة الأيقونية. بل إن الحسم في طبيعتها هو الذي سيمكننا من فهم الطريقة التي تنتج من خلالها العلامات غير اللسانية دلالاتها، وهي التي تمكننا من الانتقال من الإدراك بمعناه العام الذي يختصر في تبين موضوعات خارج الذات المدركة، إلى إنتاج الدلالة بحصر المعنى.
إن هذه المفاهيم، كما رأينا، وثيقة الصلة بما تحيل عليه مقولتا سوسير "الاعتباطية" و"التعليل" في اللسانيات ودورهما في تحديد طبيعة الدليل اللساني ونمط اشتغاله. فاعتمادا على هذه المفاهيم التصنيفية، نُظر إلى فكرة " الأيقونية " - في مجال الإدراك البصري - باعتبارها نقطة البداية التي ستقودنا إلى إعادة النظر في كل الوقائع البصرية ونمط إنتاجها للدلالات. وهذه الفكرة هي التي مكنتنا من الخروج من دائرة الحقل اللساني المنسجم والقابل للعزل، لولوج عالم السميولوجيا باعتباره كونا يتضمن أنساقا متباينة فيما بينها.
وهكذا، عوض أن نجعل من فكرة " الأيقونية"، التي تحيل في كل السياقات على فكرة تقود بهذا الشكل أو ذاك إلى مبدأ التشابه، مرادفا للإدراك المعلل ومدخلا نحو إدراك وفهم إواليات الصورة، علينا أن نستحضر "البنية الإدراكية "، التي تنتظم داخلها مجمل الخطاطات المجردة، ونتعامل معها باعتبارها شيئا سابقا على الأيقونية ومتحكما فيها. فالتعرف على هذه البنية يشكل "المفتاح السري" الذي يجب أن يقودنا إلى تحديد المفهوم الخاص للنموذج الإدراكي، أو ما يطلق عليه إيكو في أحيان كثيرة "سنن التعرف" ( الذي يشكل المعرفة الأولية التي تساعد الذات المدركة على فك رموز مجمل الصور البصرية وربطها بالتجربة الواقعية التي تشير إليها). استنادا إلى هذه المعرفة سيتضح أن الأيقونية مشروطة " بمعرفة القواعد الخاصة باستعمال الموضوعات، فهذه القواعد هي التي تحول بعض هذه الموضوعات إلى علامات" (45). فلا سبيل إلى الخلط بين الشيء ووضعه كعلامة، " فالعلامة مختلفة، من الناحية المادية، عن الشيء الذي هي دليل عليه، ولو لم يكن الأمر كذلك لأمكن القول إني علامة لنفسي" (46).
فنحن في واقع الأمر، لا ندرك أي شيء بشكل مباشر. فالإدراك والتذكر يقتضيان استحضار "خطاطة سابقة" ( "النموذج الإدراكي" أو "البنية الإدراكية" أو" سنن التعرف") تثوي داخلها مجموع النسخ التي تلتقطها العين وتنتشي بها ضمن عالم يعج بالأشكال والصور والألوان. وهذا له ما يبرره في إواليات الإدراك ذاتها، فعالم الأشياء لا يلج إلى الذاكرة على شكل " أشياء " معزولة لا رابط بينها، بل يتسلل إليها عبر النماذج المنظمة لهذه الأشياء في أقسام متباينة. فعلى الرغم من أن ما نراه هو شيء مخصوص فعلي وواقعي، فإن ما يتسرب إلى الذهن هو فكرة عن الشيء وليس الشيء ذاته.
إن فكرة التبسيط هاته هي التي تحكمت في عمل " البنيويين الأوائل " وهم من أقارب السميائيين وأسلافهم القريبين، فحلم البنيوي كان هو الانتقال " من تبسيط إلى تبسيط إلى تبسيط إلى أن يصل إلى الإمساك بالسنن الذي تنتهي عنده كل الأسنن " حينها يمسك بما يشبه الجوهر الكلي الذي يشتمل على الأصل النهائي للشيء أو الواقعة أو الكائن. بل ذهب بهم الأمر، كما يشير إلى ذلك إيكو، إلى حد افتراض إمكانية الجمع بين وقائع مختلفة ضمن بنية واحدة كما هو الشأن مع المثال الذي يقدمه إيكو والذي يكمن في رد الشجرة والكائن البشري إلى بنية مجردة واحدة ( 47).
إلا أن الأمر سيتخذ أبعادا أخرى عندما نترك جانبا الإدراك بشروطه المشار إليها أعلاه والقائمة أساسا على التعرف على شيء ما، إلى محاولة الإمساك بالأشياء المضافة. والمقصود بالأشياء المضافة هنا الدلالات التي تضاف إلى ما يشكل عمق الهوية التصنيفية. فإنتاج الدلالات يحتاج إلى سيرورة من طبيعة أخرى، وهي سيرورة تتطلب استنفار طاقات انفعالية مبثوثة في عناصر الشيء وأشكاله وألوانه وأعضاء الجسم ووضعاته، وفي الترتيبات الفضائية والزمنية للطقوس الاجتماعية كيفما كان نوعها. فأن تكون النظرة حزينة أو قاسية أو متوسلة، وأن يكون الوجه دالا على الاعتداد بالنفس أو يكون هذا الطقس احتفاء بقيمة مقدسة أو دنيوية، فإن ذلك ليس معطى من خلال وجوده المادي، إنه موجود في "المضاف" وموجود في " التأليف" و" التنسيق" و" الربط بين العناصر"، وباختصار إنه موجود في النسق المولد الذي من خلاله تتحول كل العناصر إلى خزانات دلالية متجددة ومتنوعة.
ومن هذا تستمد الخلاصات السابقة أهميتها. فهي لا تقتصر على تأكيد الطابع الاعتباطي للوقائع غير اللسانية، فتلك مسألة بسيطة، لأننا في نهاية الأمر وبدايته لن نمنع أنفسنا من تقديم دراسة سميولوجية للصورة، فقط لأن جورج مونان قرر أن يضعها خارج هذه المقاربة لطابعها المعلل. إن أهميتها تكمن في أنها فتحت أمامنا الباب واسعا لتحديد البعد الآخر الذي يتحدد في الموضوع الرئيس للسميائيات: الرغبة في تحديد السيرورات الدلالية التي تنبثق من الوقائع وتنتشر في اتجاهات لا يتحكم فيها سوى السياق ( هذا إذا افترضنا أن أمر تحديد عدد السياقات مسألة سهلة)، دونما اعتبار للحامل للدلالة، " لأن الدلالة لا تكترث للمادة الحاملة لها"، فهي تعترف بوحدة الظاهرة الدلالية من حيث هي الضابط لحدود أية ظاهرة، " إن العالم الذي نطلق عليه صفة " الإنساني" ليس كذلك إلا في حدود إحالته على معنى "(48).
والسميائيات صريحة في هذا المجال، إنها لا تثق في الظاهر، فالظاهر ممر عابر يقود نحو مجهول لا يمكن تحديد حجمه وامتداداته بشكل مسبق، فالدلالات ليست كمّا مودعا في الأشياء والكائنات يجب الكشف عنها وتقديمها للغافلين من القراء الذين لا يمتلكون " النظرية الصحيحة"، إن المعنى سيرورة. لذلك فالسميائيات كشف واستكشاف دائمان، إنها لا تحدد معنى، فالمعنى لا موطن له، بل تقتفي آثار السيرورة المنتجة له، وهي سيرورة لا تقود إلى العودة إلى أصل أول، أو منبع أصلي أو نهاية عندها تتوقف الحياة، إنها تقود إلى سيرورات أخرى توجد في الأفق الذي كلما اقتربنا منها ازدادا ابتعادا. فحيث " يرى الناس الأشياء ترى السميائيات دلالات"، فلا وجود لتجربة إنسانية خرساء خالية من المعاني ولا تتخللها العلامات. وهذه التجربة هي كذلك ضمن بناء ثقافي، لا ضمن معطى طبيعي أو بيولوجي محايد.
والخلاصة أن المعنى ليس كيانا جاهزا، إنه يخضع في وجوده وفي تحققه لمجموعة من الشروط، حرصت السميائيات على تحديد بعضها باعتبارها تشكل الروح التحليلية التي تتميز بها. وهذه الشروط هي التي أبعدتها عن الأحلام البنيوية الأولى التي اعتقدت أن بإمكانها تحديد النصوص دون أن تكترث لمعانيها، وجنبتها السقوط في أوهام التحاليل التي كانت تتصور أن بإمكانها الإمساك بمعنى جاهز يمكن، بقليل أو كثير من الذكاء، فصله عن باقي مكونات النصوص. إن الأمر على خلاف ذلك في السميائيات، للاعتبارات التالية :
1- إن التعرف على المعنى جزء من سيرورة تكونه، ولا يمكن تصور معنى خارج السيرورات المتعددة التي تشتمل عليها الوقائع، وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن المعنى ليس واحدا ولا يمكن أن يكون كذلك، ذلك أن المعاني ليست كيانات منفصلة عن بعضها البعض بل هي حصيلة تأليفات متتالية ومختلفة لعناصر النص، فكلما غيرنا من موقع العناصر، نكون قد أسقطنا سيرورة تقود إلى معنى أو معاني جديدة.
2- وإن المعنى واقعة ثقافية، يحتاج بناؤه إلى تعبئة كل المعارف التي يشير إليها النص ويبنى ضمنها. فالتحليل ليس تقنيات تمكن من التعرف على معنى سابق، بل هو القدرة على الكشف عن الروابط الممكنة بين ما هو متحقق وبين ما هو موجود ضمن علاقات مستترة لا تعمل العلاقات الظاهرة إلا على حجبها وتضليل الذين يقتربون منها. وقد تجرأت جوليا كريستيفا ذات يوم فاعتبرت السميولوجيا " علما للإيديولوجيا "، يقينا منها أن المعنى هو واقعة تبنى ضمن الثقافة وليس رصيدا مودعا في ذاكرات المعاجم.
3- إن المعنى كيان مرتبط بالنسق المولد، وفي غياب النسق الذي يحكم السيرورات ويوجهها ويعيد إنتاجها لا يمكن أن " نستقر" على معنى، أو " نطمئن " لدلالة. فما يحيل على هذا " المعنى " ضمن هذا السياق، لا يمكن أن يقود إليه ضمن سياق آخر.
4-إن المعنى هو نتاج " ربط علائقي"، (mise en relation) ومفهوم العلاقة مفهوم مركزي في طريقة تصور بناء الوقائع وتحولها إلى كيانات دالة. فتحديد معنى ما معناه دعوة الذهن إلى ربط هذا العنصر بذاك، ولا يمكن للمعنى أن يكون إلا نتاج هذه الروابط.
وذاك هو المدخل الرئيس الذي سيمكننا من التحول من التعرف المباشر على ما يمثل أمام الحواس باعتباره سلسلة من المراجع الخرساء، إلى محاولة تحديد الهويات الدلالية التي من خلالها يتسلل الشيء والواقعة والكائنات إلى العالم الإنساني. فهذا العالم يتحدد من خلال قدرة ما يؤثثه على إنتاج الدلالات، وخارج هذه القدرة لن يكون الشيء سوى كيان بلا حول ولا قوة. فالعين التي جعلت من الصخرة دالة على القسوة، كانت تصنع سياقات تستخرج من الصخرة سياقا آخر هو الصلابة، لأن الصلابة لا تعني بالضرورة القسوة.
وهكذا، عوض أن نبحث في الأشياء والوقائع والطقوس، وفي مكونات الجسم الإنساني، في الوجه أو النظرة أو في الإيماءة أو في وضعاته، عن دلالات كونية سابقة في الوجود على الممارسة الإنسانية، ولا تحكمها السياقات ولا الثقافات الخاصة، وهو إجراء لا معنى له ويدخل ضمن العبث التحليلي، علينا أن نبحث عن الشيء والواقعة وعن موقع الوجه والإيماءة داخل الممارسة الإنسانية وعما علمته الثقافة أن يقول عن نفسه خارج جوهره المادي. وبعبارة أخرى، إننا نبحث عن انفعالات تستوطن هذه المناطق، وتحدد حالات النفس البشرية وأهواءها. فالمعنى غاية ومبدأ للتنظيم، فما " يدل" هو ما " ينظم " أيضا، وهو بالإضافة إلى ذلك مبدأ للتمييز والفصل وقياس المسافات والأحجام.
وعلى هذا الأساس، فإن ما تقدمه الطقوس الاجتماعية وما تقوله الأشياء وما تعبر عنه الألوان والخطوط والأشكال، وما يمكن أن تعبر عنه الظاهرة الطبيعية ذاتها وما يقوله الوجه ليس حركات ولا أشياء وليس عضوا ولا حركة ولا شكلا ولا لونا، بل يتعلق الأمر بقيم دلالية تسربت عبر الزمن إلى الطقوس والأشياء والألوان والأشكال والوجه والإيماءة ومجموع مكونات الجسم الإنساني، فنحن لا نبحث عن جواهر مادية مكتفية بذاتها، بل نبحث عن الانفعالات الإنسانية في الوجه والإيماءات وأشكال الجلوس أو الوقوف. وهكذا فـ "اليأس" و"الأمل" و"التشاؤم" و"الشجاعة" و"النبل" مفاهيم مجردة تغادر مواقعها لكي تسكن الأشياء والأشكال والألوان وكل مكونات السلوك الإيمائي الإنساني.
تلك هي المسلمات الأولى التي استندت إليها السميائيات من أجل بناء موضوعها وتمييزه وتحديد تخومه وامتداداته أيضا. وهي المسلمات ذاتها التي ستمكنها من إرساء القواعد التحليلية الضرورية التي ستقود تحديد الإجراءات التي ستعتمدها القراءة من أجل ولوج عالم الوقائع، لا من أجل " وضع اليد" على معنى يختفي في مكان ما داخل الواقعة، بل من أجل تحديد سيرورات ممكنة قد تقود إلى بعض تحققاته الممكنة.
ولقد قامت هذه المسلمات الأولى ( وهي في جميع الأحوال مسلمات نسبية وليست كلية، مؤقتة وليست ثابتة) على أنقاض الأوهام القديمة التي
كانت تزعم أنها قادرة على الإمساك بمعنى جاهز مكتف بذاته، بل ادعت القدرة على رسم خارطة مضمون هو المعادل الكلي لما كان يود المؤلف قوله، أو ما هو موجود في الصورة أو الواقعة.
بطبيعة الحال سيلاحظ القارئ أننا تحاشينا التوقف المفصل عند كل العناصر التي تقدمها اللسانيات السوسيرية التي تصنف عادة في ثنائيات أصبحت الآن مشهورة، وهي الثنائيات التي تشكل، في رأي مجموعة كبيرة من الباحثين في الدلالة، المعرفة الأولى التي انبنت عليها السميائيات، الأمر الذي دفع بارث إلى قلب المعادلة التي جاء بها سوسير ليؤكد أن السميولوجيا كيفما كانت قوتها وشموليتها لا يمكن أن تكون سوى جزء من اللسانيات لا العكس كما تصور سوسير، فالأساس في الوجود هو اللسان، ولن يكون بمقدورنا أن نقوم بأي شيء خارج اللسان.
وهو ما قمنا به ونحن نحاول تحديد الأسس الأولى التي قامت عليها السميولوجيا التي تنسب إلى سوسير. فالتمييز بين الدال والمدلول وبين اللسان والكلام وبين محوري التوزيع والاختيار والدياكرونية والسانكرونية وكذا تصوره الأصيل عن مستويات الوصف هي التي تحكم، من حيث الروح التحليلية، مجمل الخلاصات التي قدمناها عن السميائيات في هذه الفقرة، لا باعتبارها علما للعلامات، أو تدبيرا لشأن خاص لعلامات مفردة، كما شاع ذلك وانتشر، بل باعتبارها دراسة للأنساق الدالة، أو بلغة أخرى، باعتبارها دراسة للتمفصلات الممكنة للمعنى من خلال رصد السيرورات التي تقود، مع كل سياق، إلى الكشف عن صيغة دلالية تمنح الواقعة هوية دلالية هي كذلك فقط ضمن هويات أخرى ممكنة.
وإذا كنا لم نتوقف طويلا عند وصف هذه الثنائيات وشرح نمط اشتغالها، فذلك يعود إلى كوننا أولا لم نكن نرغب في تحويل مقالنا هذا إلى عرض للسانيات سوسير، وثانيا لأن كل ثنائية تحتاج إلى مقال كامل للحديث عن مجمل امتداداتها في حقول غير لسانية ( انظر مثلا أطروحات بارث الخاصة بثنائية اللسان والكلام)، وثالثا لأن غايتنا هي الكشف عن الدور الذي لعبه سوسير في بناء أركان هذا العلم الذي لم يقل عنه إلا جملة اعتراضية ستصبح فيما بعد هي المنطلق في كل تفكير يخص السميولوجيا. فالأساس في التأثير ليس بناء حدود علم قائم بذاته ( وهذا ليس عيبا)، بل اقتراح رؤية جديدة لتصور الوقائع اللسانية وغير اللسانية، وتلك هي قوة سوسير الضاربة في مجال اللسانيات والسميائيات على حد سواء.
2-شارل سندرس بورس والسميائيات
كتب بورس في لحظة من لحظات إشراقه المعرفي القصوى: " لم يكن بوسعي أن أدرس أي شيء سواء تعلق الأمر بالرياضيات أو الأخلاق أو الميتافيزيقا أو الجاذبية أو الديناميكية الحرارية أو علم البصريات أو الكيمياء أو علم التشريح المقارن أو علم الفلك؛ أو علم النفس أو علم الصواتة أو الاقتصاد أو تاريخ العلوم، وكذا الويست ( ضرب من لعب الورق) والرجال والنساء والخمر والميترولوجيا، إلا من زاوية نظر سميائية ".
ولهذا البوح غير العادي أهمية خاصة في المسار المعرفي لهذا الرجل فقد أفنى حياته كلها في نحت مفاهيمه وتشذيبها وتطوير رؤاه من أجل استيعاب أكبر قدر ممكن من المساحات التي يغطيها الوجود الإنساني. فالسميائيات عنده نشاط معرفي شامل، إنها تهتم بكل ما تنتجه التجربة الإنسانية عبر مجمل لغاتها ومن خلال كل أبعادها. فهي رؤيا للعالم تتلخص في النظر إلى الوجود الإنساني من خلال وضعه كعلامة في الكون. بل إن الكون ذاته ليس كذلك إلا في حدود اشتغاله كعلامة، فكل ما فيه من أشياء وكائنات وطقوس وأوهام وحقائق يشتغل كعلامة ويتسلل إلى الوجود الإنساني باعتباره كذلك. " إن الإنسان علامة، إنه علامة خارجية، ويشكل جسده وأفعاله الوسيط المادي للإنسان/علامة"(49).
ولهذا السبب، فإن جذور السميائيات عنده ممتدة بشكل عميق في الإواليات الخاصة بالإدراك الإنساني: كيف ينظم الوجود الإنساني ويخرج من عالم التنافر والتداخل إلى ما يشكل ضربا من الوحدة ؟ وكيف يمكن الربط بين حالات الوجود الإنساني المتنوعة ضمن وجود واحد يشكل الآلة المثلى التي تقود إلى إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها بعيدا عن إكراهات الإحالات المرجعية ؟ يقترح بورس للوصول إلى ذلك سبيلا يتلخص في وجود مقولات أساسية تحدد أنماطا معينة للوجود. ويطلق عليها المقولات الفينومينولوجية أو المقولات الفانوروسكوبية وهي تباعا : الأولانية والثانيانية والثالثانية. إن الأمر عنده يدخل ضمن ما يسميه وصف الظاهر( phaneron)، و" الظاهر هو المجموع الجماعي الحاضر في الذهن بأية صفة وبأية طريقة دونما اهتمام بتطابقه أو عدم تطابقه مع شيء واقعي" (50)، إنه يشكل المعطى المباشر والعفوي وغير الخاضع لأي تسنين مسبق. إنه، بعبارة أخرى، ما ينتمي إلى التجربة شريطة أن تكون هذه التجربة بسيطة وعفوية وعادية وغير متمفصلة ضمن تجربة فكرية مركبة.
وبما أن إدراك الذات للعالم الخارجي ليس إدراكا عفويا وبسيطا يتم دون وسائط، فإن موجودات العالم الخارجي تتسلل إلى الذهن من خلال سيرورة تتضمن، في نظر بورس، لحظات ثلاث : " لحظة أولى خالية من أي قصدية فينومينولوجية، لأن خاصية الشعور أو الإحساس التي يتحقق من خلالها " الشعور البسيط " ليست موضوعية ولا ذاتية، لا فاعلة ولا منفعلة، وبطبيعة الحال فهي ليست قصدية "(51). وبما أن هذه الحالة الأولى هي حالة محتملة فقط ولا يمكن التعامل معها باعتبار وجودها الفعلي، لأن الوجود يقود إلى عالم آخر غير عالم الأحاسيس، فإنها لا يمكن أن تدرك في ذاتها ولذاتها إلا ضمن حالات الاحتمال التي لا تستدعي لا برهنة تثبت ولا حجاجا ينفي. إنها في ارتباطها بفاعل خارجي، " تستجيب لحضورها الخالص ( ما يسميه دان سكوت ب " الهنا والآن " ). وبطبيعة الحال، فإن الأمر لا يتعلق هنا بقصدية ما، فالمحسوس موجود هنا لأنه موجود فقط. إنه موجود في نظر العارف لا أقل ولا أكثر" (52 ).
وعلى هذا الأساس، فإن كل ما ينتجه الإنسان أو يجربه أو يحيط به أو ينبعث منه على شكل انفعالات أو ردود أفعال يجب النظر إليه باعتباره يتمفصل ضمن سيرورة تضع للتداول ثلاثة أنواع من الوجود هو ما تغطيه المقولات السابقة : فالأولانية ترتبط بالوجود النوعي الموضوعي، لذلك فهي :" نمط في الوجود يتحدد في كون شيء ما هو كما هو موضوعيا دون اعتبار لشيء آخر. ولا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا إمكانا "(53)، إنها مقولة الاحتمال والممكن. إنها إحالة على عالم موجود خارج الزمان والمكان. ويصنف بورس ضمنها كل الأحاسيس والمشاعر والنوعيات بعيدا عن تحققاتها، أي تجسدها في واقعة ما تمنحها بعدا وجوديا. ذلك أن " الإحساس هو نوع من الوعي الذي لا يستدعي أي تحليل، كما لا يستدعي أية مقارنة ولا أية سيرورة، كما لا يتجسد لا كليا ولا جزئيا في فعل يتميز من خلاله هذا الحقل من الوعي أو ذاك "(54).
فكيف يمكن النظر إلى شيء ما باعتباره نوعية خالصة ؟ إن ذلك ممكن عندما نقوم بعزل هذا الشيء لكي ننظر إليه في ذاته ولذاته مفصولا عن علاقاته بما يحيط به، حينها سيتبدى العالم كله وكأنه مصنوع من نوعيات ( 55). فماذا يعني الأحمر قبل أن يكون هناك شيء أحمر، وماذا تعني السعادة في انفصال عن حالات إنسانية تجسدها وتمنحها قياسها ومجالاتها ؟، وماذا يعني المر والخشن واللين؟ إنها نوعيات، إنها مجرد احتمال لا أقل ولا أكثر، وستظل كذلك ما لم يتم الانتقال إلى وجود آخر، أي الوجود الفعلي. وهذا ما يطلق عليه بورس الثانيانية وهي المقولة الثانية في التتابع والفعل والتعيين، ويعتبرها بورس" نمط وجود الشيء كما هو في علاقته بثان دونما اعتبار لثالث. إنها تعين وجود الواقعة الفردية" ( 56). إن الوجود الفعلي معناه صب المعطيات الموصوفة في الأول داخل واقعة تمنحه بعدا فعليا. إن الثاني يشير إلى وجود الواقعة الفعلية، وجود هذا الشيء مجسدا في " الهنا " و"الآن". إن الثانيانية خروج من الإمكان إلى التحقق، فلا يمكن للشيء أن يوجد إلا إذا تخلص من عمومية الأول واستقر في خصوصية الثاني. فالنوعيات والأحاسيس التي لم تكن ضمن الأول سوى إمكانات عامة ستصبح في الثاني وقائع فعلية : الثوب الأحمر والعلم الأحمر والسعادة الفعلية والثوب الخشن والطعام المر الخ.... إنها علاقة جديدة بين الأول والثاني، ولكنها علاقة دون توسط، إنها علاقة عرضية وهشة وتشير إلى تجربة صافية دون أمل في الاستمرار أو قدرة على تحديد شيء ثابت. فالمعطيات تتجسد وفق هوى عرضي لا يسنده فكر ولا ضرورة ولا قانون، هذه الأشياء هنا لا أقل ولا أكثر وستختفي كما ظهرت بمجرد اختفاء الشروط التي أنتجتها. فلا شيء في الثاني يطمئن أو يحيل على وجود ثابت. إننا ضمن عالم تجربة تكتفي بوجودها ولا تملك القدرة على إسقاط شيء آخر غير وجودها المباشر، إنها الطبيعة خارج إكراهات الثقافة، والتعيين خارج إكراهات المفهمة والتجريد.
وللخروج من متاهات التعيين العرضي الذي لا يمكن أن يستقر على حالة بعينها، لا بد من تصور مقولة ثالثة تبرر الرابط بين الأول والثاني وتمنحه بعدا قانونيا، أي بعد الضرورة والفكر. إنها الثالثانية، ومهمتها هي الربط بين الأول والثاني استنادا إلى قانون سيتحكم في الوقائع المرتبطة بهما استقبالا. إنها مقولة التوسط الإلزامي الذي يجعل العلاقة بين الأول والثاني علاقة يحكمها قانون لا مجرد رابط عرضي بين وجودين. إنها مقولة الرمزي ومقولة المفاهيم والوجود الاستقبالي، ذلك القانون الذي سيحكم الوقائع استقبالا. فلكي تستمر حالة السعادة المتحققة هنا والآن، يجب تحديد السعادة من خلال شكل كلي ومجرد يستوعب داخله كل حالات السعادة الممكنة. ذلك أن " القانون هو الطريقة التي يستطيع من خلالها المستقبل الذي لا نهاية له الاستمرار في الوجود "( 57). وهو ما يعني، بعبارة أخرى، التخلص من الوجه المتحقق واستبداله بوجه مفهومي لا يتحقق من خلال الحالات الخاصة إلا باعتباره إمكانا ضمن إمكانات أخرى مدرجة ضمن نموذج لا يجب أن يتطابق أبدا مع النسخة.
وعلى هذا الأساس، فإن الإمساك بالبعد الرمزي للتجربة الإنسانية هو وحده الكفيل بإنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها وإعادة إنتاجها، وذاك هو عالم الثالثانية وتلك دائرة اشتغالها. فالسلسلة تتوقف بالضرورة عند الثاني، لكنها لن تكتسب طابع القانون والضرورة إلا مع دخول الثالث، فالأول يحيل على الثاني عبر الثالث، والثالث هو ما يبرر العلاقة بين الأول والثاني ويمنحه بعدا فكريا. " فالقول بأن سقراط إنسان معناه القول إنه إنسان يمتلك مجموع الخصائص التي تسند عادة إلى الفصيلة البشرية، والقول بأن الماس صلب، معناه القول مثلا إننا لا يمكن أن نحدث فيه خدوشا من خلال آلة مهما تعددت المحاولات من أجل الوصول إلى ذلك "( 58).
وهذه العوالم التي تغطيها المقولات ليست منفصلة عن بعضها البعض، كما قد يبدو ذلك في الظاهر، إن النظر إليها منفصلة عن بعضها البعض لا تمليه سوى الإكراهات التحليلية. فوجود النوعيات هو حالة وجود افتراضي، تماما كما هو وجود التحقق والقانون، فالتداخل بينهما هو الذي يحدد في نهاية المطاف الاشتغال النهائي لميكانيزمات الإدراك الإنساني.
ويمكن أن نقدم مثالا عاما يختصر الروابط الممكنة بين المقولات الثلاث، ويساعدنا على التمييز بين أشكال الوجود التي تحيل عليها كل مقولة. فإذا تصورنا حالة شخص توغل على متن سيارة داخل صحراء مفصولة عن عوالم التمدن والحضارة الآلية المعاصرة، وترك سيارته بعيدا، وتوجه إلى واحة، وبينما كان يتحدث إلى بدوي نطق بكلمة " سيارة " التي لا يعرف عنها هذا الأخير وعن تمفصلها الصوتي أو وجودها الواقعي أي شيء، حينها سنكون أمام الاحتمالات التالية :
قد يتلقى البدوي هذه الأصوات باعتبارها كيانا غريبا، فهي قد تثير عنده أحاسيس من النوع الذي تحدثه أغنية لا يعرف كلماتها، أو سماعه لشخص يتحدث بلغة يجهل عنها أي شيء. فتلك حالة الأولانية حيث الاحتمال والنوعيات والأحاسيس العامة. وقد يتوقف الأمر عند هذا الحد، وستظل هذه الكلمة مجرد احتمال ضمن عدد هائل من الاحتمالات التي مرت بذهن هذا البدوي.
2-قد يسأل: وما السيارة؟ حينها سيأخذ بيده هذا الرجل ويريه سيارة فعلية. وسينظر إليها مليا، يتفحصها ويلمسها ويتعجب من تركيبها وهيأتها، ويعود إلى حال سبيله. وفي هذه الحالة، لم يقم الرجل سوى بربط ما هو مثار من خلال كلمة بشيء
موجود في العالم الواقعي. إننا فعلا أمام تحقق عيني، يمكن التأكد منه. وفي هذه الحالة، قد يعود البدوي أدراجه، وسينسى لاحقا هذه السيارة ولن يتذكرها أبدا، لأنه ببساطة لا يعرف بالضبط فحواها. إنها نسخة لا تندرج ضمن نموذج عام وبالتالي، ستسقط من تلقاء ذاتها لأنها تجربة صافية خالية من الفكر.
3- قد يسأل أيضا وما السيارة؟ سيرد الآخر إنها سيارة، أي وسيلة من وسائل النقل الحديثة تسير على أربع عجلات ولها مقود يحدد اتجاهها وتستعمل البنزين وقودا لمحركها. وفي هذه الحالة، ستتغير الأمور كلية، سيتخلص الرجل من النسخة ليمتلك النموذج، سيتخلص من التجربة الصافية ويعوضها بقانون عام. وهذا يعني أنه لن يحتفظ من السيارة سوى بالخصائص العامة التي تشكل الهوية الفعلية للسيارة، لن يلتفت إلى اللون والحجم وشكل الكراسي ونوع السيارة وطولها وعرضها، وسيحتفظ فقط بمجموعة قليلة من العناصر هي التي تشكل النموذج العام. وبعد ذلك سيطلق كلمة سيارة على كل الآلات التي تشبهها وتقوم بالوظيفة نفسها.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن التمثيل ينطلق من أداة هي ذاتها لا تشكل سوى إمكان لا أقل ولا أكثر ( الأولانية في نظرية المقولات )، إذ لا يمكن للتمثيل أن يتخذ شكلا مرئيا إلا في حدود قدرته على التجسد في واقعة بعينها وهو ما تمثله الثانيانية. إلا أن هذا التجسد ذاته ليس سوى فعل عرضي زائل سينتهي بانتهاء الشروط التي أنتجته ( ما يطلق عليه بورس " التجربة الصافية" ). فلا بد إذن من قاعدة تجعل هذا الربط يتسم بالديمومة والاستمرار، أي يتحول إلى قانون ثابت. فالقاعدة يجب أن تنطبق على مجموعة لا محدودة من الوقائع، أي يجب أن تكون عامة للحديث عن فكر وضرورة وعن قانون يحكم كل الوقائع. فالقاعدة التي تنطبق على حالة واحدة لا يمكن أن تنتج فكرا أو إدراكا، إن هذه القاعدة هي الثالثانية ضمن نظرية المقولات.
وعلى هذا الأساس، فإن الإمساك بالبعد الرمزي في التجربة الإنسانية هو وحده الكفيل بإنتاج المعرفة وتداولها، وتلك هي الوظيفة الأساس التي تقوم بها الثالثانية. إن المفهمة ( التجريد) انفلات من النسخة، أي انفلات من الأبعاد المادية للوجود والاحتفاظ منه بنسخة هي كذلك ضمن تمثيل رمزي. الأول يفتح السلسلة على كل الاحتمالات الممكنة، أما الثاني فيغلقها، في حين يضع الثالث حدا للإحالات من خلال إدراج القانون الذي سيتم بموجبه الانتقال من الأول إلى الثاني وفق قانون محدد.
إن نظرية المقولات هاته تشكل الأساس الذي سينطلق منه بورس من أجل صياغة حدود علمه الجديد الذي سيطلق عليه السميائيات. فكل العناصر المكونة للعلامة وكذا نمط اشتغالها ووظيفتها ليست سوى الوجه المرئي لهذه القاعدة الإدراكية. بل إن الحقل المفضل للمقولات يجد حقل تطبيقه المباشر في ميدان السميائيات، فمنطق الإحالة والتمثيل وانبثاق القانون من سيرورة هذا التمثيل هو نفسه ما يحكم وجود العلامة واشتغالها وأشكال تجلياتها. ولا يشكل التعريف الذي يقدمه بورس للعلامة سوى الحدود المشخصة لقاعدة فلسفية ترى في التجربة الإنسانية كلها كيانا منظما من خلال مقولات ثلاث هي الأصل والمنطلق في إدراك الكون وإدراك الذات وإنتاج المعرفة وتداولها. فلا حدود تفصل في الظواهر بين المرئي والمستتر، بين الممكن والمتحقق، فكل ما يؤثث هذا الكون يشكل وحدة تامة. إلا أن التنظيم المفهومي للتجربة الإنسانية يقتضي منا الفصل بين المستويات والمظاهر والمجالات. وسيكون للعلامة السميائية الدور الرئيس في تنظيم التجربة الإنسانية واستيعاب قوانينها الخاصة والعامة.
فالسميائيات عند بورس، كما هي عند سوسير، تنطلق من تحديد وضع العلامة ومكوناتها ونمط اشتغالها. فكل شيء يبدأ من حالة التمثيل الأولى، وهي حالة الترميز التي تقود إلى الاستعاضة عن الشيء الواقعي بصيغة رمزية تنوب عنه وتحل محله. وكما كانت الحال مع المقولات، فإن العلامة تشتغل هي الأخرى باعتبارها بناء ثلاثيا يشتمل على أول يحيل على ثان عبر ثالث ضمن دورة مستمرة قد لا تتوقف عند حد بعينه. فالأول هو تمثيل عام ومجرد، أما الثاني فهو المعطى الخارجي، في حين يشكل الثالث حالة التوسط الإلزامي الذي يضمن للعلامة صحتها. وبعبارة أخرى، إنه يدرج القانون الذي يجعل الانتقال من الأول إلى الثاني يتم وفق قاعدة قانونية تلغي الصدفة والعبثية والانتقالات غير المبررة.
وعلى هذا الأساس، فإن العلامة تُبنى باعتبارها كيانا ثلاثيا يضع للتداول ثلاثة عناصر هي المكونات الأساس لاشتغال الدلالة وإنتاجها وتداولها واستهلاكها. ويقدم بورس التعريف التالي للعلامة " العلامة أو الماثول شيء يعوض بالنسبة لشخص ما شيئا ما بأية طريقة وبأية صفة. إنه يتوجه إلى شخص لكي يخلق عنده علامة موازية أو علامة أكثر تطورا. إن هذه العلامة التي يخلقها أطلق عليها مؤولا للعلامة الأولى. إن هذه العلامة تحل محل شيء: موضوعها. إنها تحل محله لا من خلال كل مظاهره، بل من خلال فكرة أطلق عليها عماد الماثول..." ( 59). والعماد هو الزاوية التي يتم من خلالها انتقاء موضوع العلامة، فالتمثيل الواحد لا يمكن أبدا أن يستوعب مجمل معطيات الموضوع من خلال إحالة واحدة.
إن هذه العناصر الثلاثة تندرج ضمن ما يطلق عليه بورس السميوز (sémiosis) أو سيرورة التدليل، والسميوز عنده سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما باعتباره علامة. فإذا كانت هناك علامة قادرة على الإحالة على معنى ما، فإن ذلك لا يعود إلى وجود طاقة معنوية مودعة بشكل حدسي داخلها، بل يعود إلى كوننا نستطيع الإمساك داخل هذه العلامة بسلسلة من العلاقات التي تقود وحدها إلى إنتاج دلالة. وهكذا، فإن الماثول يحيل على موضوع من خلال مؤول ضمن ترابط جدلي لا يمكن المساس بعنصر من عناصره دون الإخلال بنظام التدليل كله. إنه بناء ثلاثي لا يمكن أن يختزل في عنصرين، تماما كما هو البناء الخاص بسيرورة الإدراك التي لا يمكن أن تختصر في وجودين.
على أن الثلاثية هنا لا يجب أن ينظر إليها باعتبارها إضافة لعنصر ثالث غائب في نظريات أخرى، كما لا تتعلق بالإحالة الحرفية على مرجع مادي، أي على سلسلة من الموضوعات التي تتمتع بوجود فعلي وتشتغل في استقلال عن الذات المدركة، أي خارج العلامة. إن الأمر على العكس من ذلك؛ فالقضية هنا من طبيعة أخرى وتستند إلى أحكام نظرية تتعلق بطبيعة " الشيء" أو الموضوع. إنها تعود في واقع الأمر إلى تصور نظري يجعل العالم بكافة أبعاده علامة، ويعود من جهة ثانية إلى كون كل عنصر داخل العلامة قادر على الاشتغال كعلامة أي قابلا للتحول إلى ماثول يسقط خارجه موضوعا عبر مؤول، " فالموضوع هو في المقام الأول علامة، لأن الإمساك به يتم دائما من خلال عماد، وكل مرجع لا يشكل، في نهاية المطاف، سوى حالة قصوى لا حالة بعدها "(60). ويمكن تفسير هذا التصور من خلال خاصيتين أساسيتين في تصور بورس لاشتغال ووجود العلامة :
-الخاصية الأولى تعود إلى كون السميائيات عند بورس ليست مرتبطة باللسانيات، وهذا ما يميزها عن سميولوجيا سوسير، فموضوع دراستها لا يختصر في اللسان، ذلك أن التجربة الإنسانية ( واللسان لا يشكل سوى جزء منها ) هي موضوع السميائيات ومهد الدلالات داخلها. فالعالم مكون ضمن حالة ترابط لامتناهي بين عناصر بالغة التنوع، وهو ما يسميه بورس بحالة الامتداد.
- الخاصية الثانية تعود إلى نمط التصور الذي يحكم، في فلسفة بورس، العلاقة الرابطة بين الإنسان ومحيطه. فهذه العلاقة تتميز بكونها غير مباشرة ويحكمها مبدأ التوسط ( ما يطلق عليه كاسيرير الأشكال الرمزية ). فالأشياء لا تدرك إلا من خلال بعدها الرمزي، أي باعتبارها جزءا من نسق من العلامات، فما تدركه الذات ليس أشياء مفصولة عن وعي هذه الذات، حتى وإن كان ما يمثل أمامها هو فعلا شيء. لذلك فالموضوع في تصور بورس لا يحيل على شيء، بل على قسم من الأشياء، والقسم أعم من النسخة المتحققة وأقل من النوع المجرد.
ولن نتوقف طويلا عند مجمل التعريفات التي تعطى لكل عنصر على حدة، يكفي أن نذكر بأن الماثول هو شيء يحل محل شيء آخر، أو هو الأداة التي نستعملها من أجل التمثيل لشيء آخر. إنه لا يقوم سوى بالتمثيل، فهو لا يزيدنا معرفة بالموضوع ولا يمكن أن يكون سوى حاجز عرضي ننتقل من خلاله إلى شيء آخر استنادا إلى قاعدة عامة. وهذا الشيء هو موضوع العلامة، أي ما يحيل عليه الماثول، وبعبارة أخرى،" إن موضوع العلامة هو المعرفة التي تفترضها العلامة لكي تأتي بمعلومات إضافية تخص هذا الموضوع "(61). فالعلامة لا توفر معرفة خاصة بموضوع ما فحسب، بل تضيف معرفة جديدة. لذلك فإن السميائيات عند بورس تستند إلى مبدأ أساس: " إن العلامة شيء تفيد معرفتُه معرفةَ شيء آخر" (62). وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن هذا المبدأ ستكون له تأثيرات كبيرة على عملية التوالد الدلالي ذاته. فالعلامة، كما يتصور ذلك بورس، لا تتوقف عند الإحالة الأولى إلا من أجل إرساء الدعائم الأولى للتواصل، أما ما سيأتي بعد ذلك، فلن تتحكم فيه سوى الغايات النفعية التي يتم وفقها التأويل.
أما العنصر الثالث، وهو القاعدة التي يتم وفقها الانتقال من الأول إلى الثاني، أي من الماثول إلى الموضوع، فهو المؤول، الذي لا يجب خلطه مع الشخص الذي يقوم بالتأويل. إن المؤول هو العنصر الثالث في العلامة التي لا يمكن أن يستقيم وجودها دون وجوده، فهو الذي يمنحها صحتها، إنه عنصر التوسط الإلزامي، أو هو الذي يصدِّق على الوجود الرمزي للعالم الذي تقوم العلامة بتمثيله. إن المعرفة الناتجة عن الإحالة الثنائية من ماثول إلى موضوع معرفة هشة وعرضية، ولا يمكن أن تقدم أساسا صلبا يتم وفقه الإمساك بالعالم في جوانبه العامة، إنها مرتبطة باللحظة، إنها شبيهة بالوعي الحيواني بالمحيط، فهي لا تقود إلى التراكم، لأن ما يعاش لا يعاد إنتاجه مرة ثانية، أو يعاد بنفس الطريقة على امتداد زمن لا ينتهي.
وبناء عليه، فإن المؤول هو" العلامة المنتقاة داخل حقل العلامات / مؤولات ذات الامتداد اللامحدود. ويمكن، داخل هذا الامتداد، التمييز بين الحقل الثقافي ( اللساني، الجمالي، الإيديولوجي ) الذي أنتمي إليه، وبين الحقل الذي أحدده كوجود فضائي وزماني ( هذا الفضاء وهذا الزمان) الذي يوهمني أنني خارج العلامة، في حين أنني أشكل بؤرتها، وأنني أنا أيضا علامة " ( 63).
وبناء عليه، يمكن تحديد المؤول بأنه مجموع الدلالات المسننة من خلال سيرورات سميائية سابقة ومثبتة داخل هذا النسق أو ذاك. وبعبارة أخرى، إنه تكثيف للممارسات الإنسانية في أشكال سميائية يتم تحيينها من خلال فعل العلامة ( أي لحظة تصور إحالة تشترط وجود قانون )، سواء كانت هذه العلامة لسانية أو طبيعية أو اجتماعية.
وقد لا يسمح الحيز المخصص لنا في المجلة بالإحالة على كل التصنيفات الفرعية المنبثقة من كل عنصر من عناصر العلامة. فالتوزيع الثلاثي الشهير الذي يقدمه بورس للعلامة، يجعل من كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة بؤرة لتفريعات ثانوية الغاية منها الإحالة على ممكنات التدليل استنادا إلى طبيعة كل قسم من أقسام هذا التوزيع، لا إعطاء جرد تصنيفي لكل العلامات الممكنة في الوجود الإنساني فقط. فقد تضمنت سميائيات بورس مجموعة كبيرة من التصنيفات التي شملت مجمل مناحي الوجود الإنساني، بدءا من النوعيات المجردة مرورا بالمعتقدات الكبيرة وانتهاء بالأشياء المعزولة.
وعلى الرغم من أهمية هذه التصنيفات وقيمتها على مستوى رصد جزئيات الوجود الإنساني في كل ما يحيط به، فإنها لم تجد صدى في الأبحاث السميائية المعاصرة. إنها مجموعة من الوحدات التي تكتفي بتسمية الظواهر وتحديد وجودها في مناطق بعينها. عدا الثنائية الثانية التي ألهمت الكثير من الأبحاث في ميدان الصورة، فقد سمحت لمجموعة من الباحثين بتطوير مفهوم الأيقونية من أجل دراسة الممكنات التدليلية التي تشتمل عليها الصورة، ونذكر بالأساس أمبيرتو إيكو في تأملاته حول الأيقون وجماعة مو البلجيكية groupe µ في كتابها الشهير " دراسة في العلامة البصرية " Traité du signe visuel.
إن المهم في سميائيات بورس ليس هو التصنيفات، ولا سجلات العلامات المتنوعة، إن المهم فيها هي تلك الروح التحليلية الجديدة التي تضمنتها من خلال تصورها لعمليات التمثيل وسيرورات التأويل
التي تطلقها. فمن خلال هذه الروح فتحت المجال واسعا أمام تطوير توجه سميائي جديد أعاد النظر في تركيبة الظواهر الإنسانية، وأعاد لها القدرة في مد شبكة من الارتباطات فيما بينها، مما حول التحليل من مجرد بحث مضن عن معنى مودع خلسة في النص كما تصورت ذلك البنيوية، في مراحلها الأولى على الأقل، إلى استكشاف لحالات التدليل التي لا ترتبط بمعنى، بل تكشف عن السيرورات المنتجة للمعاني.
ولقد كان أمبيرتو إيكو من السميائيين الأوائل الذين نبهوا على وجود أبعاد أخرى في تصورات بورس السميائية غير ما تحيل عليه التصنيفات المجردة للعلامات، ودعا إلى استثمار هذه الجوانب التحليلية الجديدة من خلال تحديد آفاق أخرى للسميائيات سيطلق عليها لاحقا " السميائيات التأويلية " في مقابل ما قدمته التفكيكية في مجال التأويل ( انظر ترجمتنا العربية لكتابه " التأويل بين السميائيات والتفكيكية") (64). ولقد قدم في هذا المجال دراسات ذات قيمة نظرية وتطبيقية خاصة في كتبه الأخيرة : " حدود التأويل " (1992) و" التأويل والتأويل المضاعف ( 1996) و" كانط وخلد الماء" (1999). وقد تضمنت هذه الكتب سجالا كبيرا مع دعاة ما يسميه " التأويل المضاعف "، ويقصد به مقترحات دريدا وأتباعه في أمريكا خاصة ( انظر في هذا المجال كتاب عبد العزيز حمودة " الخروج من التيه " (65). وهي كتب خصصها جميعها تقريبا للتأمل في العملية التأويلية كما يمكن استنباطها من مقترحات بورس. وهذا ما سنحاول توضيحه الآن.
لقد ارتبطت العلامة في سميائيات بورس بالسميوز، والسيموز في تصوره هو سلسلة من الإحالات المتتالية التي لا يمكن أن تنتهي، نظريا على الأقل، عند نقطة بعينها. وبعبارة أخرى، فإن الواقعة تشتمل بشكل ضمني على سلسلة من السياقات الداخلية التي تشير إلى سيرورات دلالية لا عد لها ولا حصر. فبالإمكان تصور كل المعاني الممكنة، ويمكن بالمثل إسقاط كل الإحالات الممكنة أو التي يمكن تصورها. فالثابت في العلامة أنها ماثول يحيل على موضوع عبر مؤول، ويمكن لهذا المؤول أن يصبح ماثولا جديدا يحيل على موضوع عبر مؤول هو الآخر يمكن أن يصبح ماثولا يحيل على موضوع عبر مؤول، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وترتكز هذه الإحالات الدلالية المتتالية على مبدأين أساسيين :
1-إن الموضوع في تصور بورس لا يمكن أن يحيل على معرفة وحيدة ثابتة وقارة. فهو أولا ليس مرتبطا بالوقائع الفعلية، كما يتوهم القارئ العادي، بل قد يكون واقعيا أو متخيلا أو قابلا للتخيل أو غير قابل للتخيل على الإطلاق. وهو بذلك وحدة ثقافية متحركة، لا إحالة على كم معرفي تصنيفي سابق على التجربة الدلالية. وهو لذلك موزع على بعدين : بعد ظاهر، وهو ما تقوله العلامة بشكل مباشر، أي ما هو متضمن لحظة التمثيل لواقعة ما. فكل علامة تتضمن معرفة يدرك بفضلها الباث والمتلقي شيئا ما، وهو ما نطلق عليه المعرفة المباشرة، كتلك التي يلتقطها شخص ما وهو يسمع كلمة شجرة، دون أن يكلف نفسه عناء البحث في ذاكرته عن إحالات أخرى غير ما تقوله الكلمة بشكل مباشر، والأمر يتعلق في تصوره بنبات كبير له جذور ممتدة في الأرض وأغصان وأوراق. ولكن الكلمة تنتضمن معرفة أخرى أكثر حيوية من الأولى. وهذه المعرفة الثانية موجودة بشكل غير مباشر في العلامة. إنها حصيلة معرفة ضمنية، أو هي، في تصور بورس، حصيلة تجربة سميائية سابقة تحولت، مع الزمن، إلى ذاكرة متوارية في ثنايا العلامة، وقابلة للتحقق مع أدنى تنشيط لذاكرتها. والتنشيط معناه هنا خلق سياقات جديدة تسقط سيرورات تدليلية تقود إلى تحديد بؤر هذه المعارف وفق غايات أخرى غير ما تضمنته الواقعة في بعدها المباشر.
وسيكون لهذا الفصل أهمية كبرى في التعاطي مع النصوص الأدبية وكل الأشكال التعبيرية التي يعتمدها الإنسان في تنويع حالات وجوده. فهي تفترض منذ البداية أن العلامة ليست أحادية الإحالة، وأن المعرفة الأولى ليست سوى مظهر أولي لا يشكل، ضمن سيرورات التدليل، سوى نقطة بدئية تقود إلى استشراف آفاق متنوعة للتأويل. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن ما يتحكم في إنتاج الدلالات ليس الإحالة في ذاتها، بل إمكانية إسقاط سلسلة من السياقات هي الذاكرة الأصلية لكل الوقائع، فأي تغيير لزاوية النظر سيقود حتما إلى تنويع على مستوى الدلالة. وهو ما سيبدو بوضوح أكبر من خلال المبدأ الثاني الذي يتحكم في إنتاج الدلالات.
2-إن المؤول في تصور بورس منفتح على آفاق متعددة ولا يكتفي بحالة الربط الأولى بين أول وثاني ضمن بناء ثلاثي قار ومكتف بذاته. إن الأمر على خلاف ذلك، فالعلامة تنمو على شكل لولب متصاعد يحيل فيه الأول على الثاني عبر ثالث هو الآخر قادر على التحول إلى أول يحيل على ثان عبر ثالث وهكذا إلى ما لا نهاية. وهو ما دفع دريدا في مرحلة ما إلى القول إن بورس أرسى في واقع الأمر الأسس الأولى التي قامت عليها التفكيكية. ففكرة " الحضور" و"التأجيل" التي بنى دريدا كل تصوراته للتأويل استنادا إليها مستوحاة من هذا الترابط الذي يميز اشتغال العلامة عند بورس. وهو الأمر الذي بسطه بتفصيل في كتابه " de la grammatologie" (66).
إلا أن الأمر ليس كذلك، فالتمثيل يتخذ عند بورس شكل توزيع ثلاثي لآليات التأويل ينطلق من لحظة التعيين الدلالي المباشر الذي لا يقوم سوى بوصف ما سميناه أعلاه بالمعرفة المباشرة المعطاة مع الشكل الظاهري للعلامة، لكي يدشن حالة الانتشار التأويلي المنفلت من أية رقابة، وينتهي إلى إمكانية التوقف في لحظة ما استنادا إلى فكرة بورس ذاتها القائلة إننا " نؤول وفق غايات نفعية". وبعبارة أخرى، فالمؤول لا يؤول ما بنفسه، بل يؤول استنادا إلى معطيات أولية تشتغل باعتبارها ضوابط غير مرئية تتحكم في سيرورة التأويل.
ويقسم بورس حالات التأويل هاته على الشكل التالي :
1-مؤول أول تكمن مهمته في تحديد العناصر الدلالية المرئية من خلال تحقق العلامة. ومهمته هي تحديد نقطة أولية للدلالة، ويتوقف دوره عند هذا الحد." فالمؤول المباشر هو المؤول الذي يتم الكشف عنه من خلال إدراك العلامة نفسها. وهو ما نسميه عادة بمعنى العلامة (...) إنه يتحدد باعتباره مُمَثلا ومُعبرا عنه داخل العلامة ( 67). إنه المرادف البسيط للتقرير أو المعنى المباشر الذي لا يستدعي سوى عناصر التجربة المشتركة لكي يُدرك فحوى الإحالة الأولى.
2-هناك مؤول ثان، وتكمن مهمته في فتح الدلالة على آفاق متنوعة، إنه يشير إلى حالة " التسيب " التي تعقب دخول المؤول الثاني إلى ميدان التدليل وتحرره من قيود المؤول الأول، وتدفعه في اتجاهات متعددة. ويصف بورس هذا المؤول ب" الديناميكي "، لأن السيرورة التي يشير إليها متحركة ولا تعتمد على الثابت والمعطى، بل تقوم ببناء الدلالات من خلال استحضار سياقات قديمة، أو خلقها استنادا إلى علاقات ممكنة بين وحدات الواقعة. لذلك فهو" الأثر الفعلي الذي تحدده العلامة " أو هو " الأثر الذي تولده العلامة بشكل فعلي في الذهن"(68 ).
وهذا المؤول مرتبط في الوجود بالمؤول الأول، إلا أنه يختلف عنه من حيث الطبيعة ( فهو متجدد باستمرار ) ومن حيث الاشتغال ( فهو قراءة في السياق الذي يوجد خارج العلامة، أي مجمل المضامين الثقافية التي تشير إليها العلامة ). وبعبارة أخرى، إنه العنصر الذي يدل على أن معنى العلامة ليس "استجابة لحاجات أولية ومباشرة"، بل هو نقش في ذاكرة غير مرئية من خلال الفعل التمثيلي الأول.
وإذا كان المؤول الديناميكي هو المسؤول عن الدلالة لأنه هو الذي يوفر المعلومات الضرورية لعملية التأويل بمعناه الحقيقي، فإنه يقوم في الوقت نفسه بإدراج الدلالة داخل سيرورة تطور لا متناهي، فهو بلا حدود ولا نهايات مرئية. ذلك أن السيرورة السميائية ستتحول في هذه الحالة إلى سلسلة من الإحالات اللامتناهية التي لا يمكن - نظريا على الأقل - أن تتوقف عند نقطة بعينها. ذلك أن كل تعيين هو في الوقت نفسه تكثيف للمعطى الدلالي في أشكال جديدة تحيل على سيرورة تدليلية جديدة تتحقق جزئيا أو كليا من خلال واقعة بعينها. ومع ذلك لابد من إيقاف هذه الحركة والتوقف عند نقطة ما من خلال ربطها بغايات" فعلية"، أو ربطها برغبة الذات المؤولة في الاستقرار على مدلول بعينه يوفر لها الاطمئنان ويهدئ من روعها ويقيها شر التيه في غيابات الدلالة التي لا تنتهي أبدا.
3-وتلك هي مهمة المؤول الثالث، إنه يوقف " الفوضى" و" التسيب" ويضع حدا للإحالات ويوجهه نحو نقطة إرساء تشكل ما يمكن تسميته بالمدلول النهائي لسيرورات التأويل. إن المؤول النهائي هو تعبير عن الغاية النفعية التي تحدثنا عنها سابقا، وهو أيضا الوجه الآخر للتعدد والمحدودية في الوقت ذاته. إنه يشير إلى إمكانية التنويع، ولكنه يتحكم في هذا التنويع من خلال ضبط حدود التأويل وقياس حجمه.
فإذا كانت السميوز كما يشير بورس نفسه إلى ذلك لا متناهية نظريا، " فإنها تعد في الممارسة سيرورة محدودة ونهائية. إنها تختصر داخل العادة، العادة التي نملكها في إسناد هذه الدلالة إلى تلك العلامة داخل سياق مألوف لدينا "(69). وعلى هذا الأساس، فإن " المؤول النهائي هو " الأثر الذي تولده هذه العلامة في الذهن بعد تطور كاف للفكر "(70). على أن التعيين النهائي لا يمكن النظر إليه باعتباره يقينا مطلقا، ولا كما دلاليا منتهيا من حيث الشكل والمادة. إن النهائية في تصور بورس، أو على الأقل كما يفهم من سياقات كتاباته، ليست من طبيعة كرونولوجية، إنه نهائي ضمن سيرورة، لا ضمن كم زمني منته. فالفرضية التي يتم وفقها تنظيم فعل القراءة (71) تفرض سلسلة من الاختيارات التي تقصي بالضرورة اختيارات أخرى. وما يتم إقصاؤه لا يموت، بل قد يصبح عنصرا أساسيا في فرضية أخرى للقراءة. إن المدلول الذي تستقر عليه القراءة ضمن هذه السيرورة أو تلك، ليس كذلك إلا ضمن فرضية مسبقة للقراءة.
وهو افتراض يسقط، كما سنرى في الفقرة الموالية، تصورا خاصا للتأويل، بل أكثر من ذلك، فهو الذي يمكن الاستناد إليه من أجل الحديث عن الطابع الخاص لسميائيات بورس، وانزياحها من جهة عن فكرة المحايثة التي ارتبطت بتاريخ البنيوية في كل توجهاتها، حيث الواقعة منغلقة على نفسها وتنتج معناها استنادا إلى ما يوفره محيط مباشر مفصول عن كل شيء، عن القارئ والمؤلف والسياقات الخارجية، وانزياحها، من جهة ثانية، عن التأويل اللامتناهي كما تصورت ذلك التفكيكية، وكما روج لها النقد الجديد في أمريكا ( بول دو مان، جاناتان كالر، هارتمان، وغيرهم ).
إن هذا التحديد يفترض أن وجود المؤول رهين بالسياق الخاص. والسياق الخاص هو وحده الكفيل بتحديد " تأويل نهائي" إذا أمكن الحديث عن تأويل نهائي. وبعبارة أخرى، فإن السيرورة التأويلية تقلص من إمكاناتها عندما تحدد لنفسها اختيارا يعتبر مسارا تأويليا يقود إلى تحديد شكل تستقر عليه الدلالة "النهائية". فكل السيرورات التأويلية تنطلق، من أجل بناء كونها الدلالي، من أساس مرئي هو ما تقدمه الواقعة في مظهرها المباشر. فإذا كان التأويل ممكنا، فإن ذلك يعود إلى قدرتنا على إسقاط مبادئ جديدة لتنظيم هذه التجربة المعطاة من خلال الحدود الظاهرة للعلامة وفق أنماط متنوعة للتدليل.
وعلى هذا الأساس، فإن ما يطلق العنان لهذه الحركة وما يمدها بعناصر التأويل هو هذا المؤول الذي يمتح عناصر تأويله من مصادر متعددة : ما يعود إلى الإيديولوجيا وما يعود إلى الخرافات والأساطير والدين، وكل ما يمكن أن يسهم في إغناء التأويل وتنويعه. ويُدرج السميوز، من خلال هذا الانفتاح، - وتلك وظيفته- ضمن دائرة اللامتناهي، أي ضمن دائرة تأويلية يفترض بورس أنها غير محكومة بنهاية أو غاية بعينها.
إلا أن هذه الدائرة تعد في الممارسة سيرورة محدودة ونهائية. إنها تقع تحت طائلة " العادة التي نملكها في إسناد هذه الدلالة إلى تلك العلامة داخل سياق مألوف لدينا " (72). إنها كذلك لأن أي تدليل إنما يستند إلى سياق خاص يحدد للدلالات حجمها ومصدرها وامتداداتها. وفي كل الأحوال، فإن السياق ليس سوى محاولة لعزل واقعة ما، وإدراجها ضمن منطق خاص للتدليل. وهذا معناه تخليص الواقعة من كل ما لا يستقيم داخل هذا السياق. والخلاصة " إذا كانت سلسلة التأويلات غير محدودة، كما يبين ذلك بورس، فإن الكون الخطابي يتدخل من أجل تقليص حجم الموسوعة "(73).
فماذا يعني هذا القول؟
رغم إقرارنا المبدئي بأن السميوز لامتناهية في الزمان وفي المكان، فإن ثقل الحاجات الإنسانية الدائمة - التواصلية منها أساسا- يقود إلى تحجيم هذه الطاقة الجبارة وتسييجها ضمن سياقات تمكن الذات من الاستقرار على دلالة بعينها. وبناء على ذلك، فإن " غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غير المحددة من الإمكانات. فمع السيرورة التدليلية ينصب اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون خطابي محدد" (74). وهذا يعني أن السيرورة التأويلية - رغم كل ما قلناه- متناهية من حيث التجسيد الفعلي، أي من حيث ارتباطها في التحقق بسياقات خاصة تمنح وحداتها هوية خاصة.
وهذا ما يشكل الحد الفاصل بين ما اصطلح عليه " المتاهة التأويلية "، وبين السميوزيس في التصور الذي يقترحه بورس (75). ففي المتاهة التأويلية تنبعث الدلالة من فعل العلامة كسيرورة بلا رادع ولا ضفاف ولا حدود. فما نحصل عليه من معرفة، بعد أن يستنفد الفعل التأويلي طاقاته لا علاقة له بالنقطة التي شكلت بداية التأويل (76)، فبإمكان أية علامة أن تحيل على علامة أخرى، كما بإمكان أي شيء أن يحيل على شيء آخر.
وعلى النقيض من ذلك، فإن مفهوم السميوزيس - في تصور بورس على الأقل- يشير إلى شيء مخالف تماما لهذا. فعلى عكس المتاهة التأويلية، فإن الإحالات المتتالية لا تقطع صلة اللاحق بالسابق، كما أنها لا تلغي الروابط بين عناصر الشبكة التأويلية الواحدة. فالعلامة تكتسب مزيدا من التحديدات كلما أوغلت في الإحالات والانتقال من مؤول إلى آخر. من هنا، فإن الحلقات المشكلة لأية سيرورة تأويلية تقود إلى إنتاج معرفة أعمق وأوسع من تلك التي تقدمها العلامة في بداية هذه السيرورة.
وهكذا، فإن ما نحصل عليه من معرفة في نهاية السلسلة هو تعميق للمعرفة التي تضعها العلامة في حدها البدئي(77 ). فما تقوم به الإحالات هو تعميق للمعرفة السابقة لا نفي لوجهها البدئي.
إن النص ( الواقعة كيفما كان نوعها ) لا يشتمل، من هذه الزاوية، على معنى، ولا حتى على معاني، ولا يضم بين دفتيه دلالة نهائية كلية أو جزئية، بل هو خزان كبير لسياقات بالغة التنوع والتعدد والتجدد، وللذات المتلقية ( القارئ) وحدها القدرة على تحيين هذه الدلالة أو تلك داخل هذه السيرورة التأويلية أو تلك ضمن شروط " الانتقاء السياقي"، و" الظروف المقامية" الخاصة بكل فعل قراءة. وبعبارة أخرى، فإن التأويل ينطلق من منبعين : هناك من جهة المعطيات الأولى التي يوفرها النص، وهو ما يسميه إيكو بالتوجيهات الأولية التي لا يمكن في أية قراءة تجاهلها أو إلغاؤها (78). وكل ما يقوله بورس عن الموضوع ونمطيه في الوجود يندرج ضمن هذه المعطيات، فالقراءة محاصرة بمعطيات أولية هي الأساس الذي يجب الانطلاق منه من أجل إسقاط حالات السميوز المتعددة. إلا أن القراءة حرة أيضا في التصرف في هذه المعرفة وفق افتراض سياقات هي من ابتكارها من خلال العلاقات الجديدة التي تقيمها بين العناصر المكونة للواقعة. وهو ما يشكل المنبع الثاني
وكما يبدو من خلال كل التحديدات السابقة الخاصة بوجود العلامة وطبيعتها ومكوناتها ونمط اشتغالها، فإن حالات التدليل تتجاذبها قوتان اثنتان : قوة تجعل منها منبعا للإحالات المتتالية التي تعبر في العمق عن طبيعة الفكر ذاته الذي يرى فيه بورس " كيانا ناقصا، يحتوي على الضمني والمحتمل الذي يفترض فكرا آخر " (79). فإمكانية الربط بين كل الأفكار أمر وارد، وذلك ضمن تتابع يلغي داخله اللاحق السابق ويغطيه. وهناك قوة ثانية تدفع في اتجاه إيقاف سيرورات التأويل من أجل إقامة صرح معنى كان بنفنيست ذات يوم يرى فيه الشرط الضروري لاستقامة المعنى وتحوله إلى كيان مستقل(80)." فالغاية من سيرورة المؤولات هي إقامة معنى، أي إسناد موضوع إلى الماثول" (81) يمكن معه القول إن الرحلة انتهت.
ويبدو أن هذا البعد التأويلي في سميائيات بورس هو الذي يجب تتبع نتائجه واختبار مردوديته من خلال التطبيقات المتنوعة، فهو قادر على مدنا بروح تحليلية تمكننا من فهم أفضل للنصوص، وتشتغل داخله العناصر النظرية باعتبارها مجرد موجهات، لا كيانات مستقلة تغطي على النص وتقلص من غناه وحيويته وديناميته.
خلاصة
إن استناد الحركة التدليلية في السميائيات إلى شبكة مركبة من العلامات معناه أن ما يحدد السيرورات التأويلية ليس مادة أصلية مكتفية بذاتها، فالمادة خارج حالات التشخيص صماء بكماء لا تحيل سوى على نفسها، بل سلسلة العلاقات الممكنة التي تنبثق من التشخيص. فالعلامة تشتمل على تمثيل اعتباطي يتم وفق علاقة عرفية ( اعتباطية )، وتقوم هذه العلاقة، من خلال اعتباطيتها تلك، بإنتاج المعاني وتداولها وفق قواعد خاصة هي ما يأتي به الترميز لا ما يقوله الفعل المفرد. فالوظيفة الأصلية في كل التصورات التي تنسب إلى السميائيات الحديثة منها والقديمة هي وظيفة خلافية، فهي، وهذا هو الأساس، نتاج علاقة وليست حصيلة لمادة دالة بذاتها.
إلا أن الوقوف عند العلامة باعتبارها حدا للتمثيل لا يمكن أن يقود إلى أي شيء، فالعلامة في هذه الحالة لا يمكن أن تكون منطلقا لدراسة وجود إنساني برع في تنويع التأليفات وتجديدها. ولهذا السبب " لا يمكن أبدا أن يكون هناك تواصل استنادا إلى علامات معزولة، وحتى في الحالة التي نستعمل فيها علامة معزولة- كلمة، إشارة طرقية، إيماءة يدوية - فإننا نستند إلى سياق (...). إن العلامات تنتظم داخل أكوان السميوز في ملفوظات وإثباتات وأوامر وتساؤلات. وتنتظم الملفوظات في نصوص أي في خطاب. ويمكن التأكيد حينها أن لا وجود لسميائيات للعلامة دون سميائيات للخطاب. إن نظرية للعلامة كوحدة معزولة ستكون عاجزة على شرح الاستعمال الجمالي للعلامات، ولهذا فإن سميائيات للفن يجب أن تكون بالضرورة سميائيات للخطاب والنص" (82). ومن هذا التصور استمدت السميائيات طاقتها التحليلية الجبارة، وبه عُدت إسهاما حقيقيا في تجديد الفكر النقدي الذي يحافظ على المعنى باعتباره أساس الوجود الإنساني، لكنه لا يقف عند حالات التعيين، بل تستهويه السيرورات، فالإنسان لا يتحدد من خلال ما ينتجه من فكر فقط، بل يتحدد، وربما أساسا، من خلال الطريقة التي ينتج بها هذا الفكر.
www.saidbengrad.com
---------
هوامش
1- انظر E Cassirer : Philosophie des formes symboliques , éd minuit, trois tomes, 1972
2- Molino ( Jean) : Interpréter , in l'interprétation des textes , éd minuit , 1989 , p 32
3- Umberto Eco : Le signe, éd Labor, 1988, p151
4- A. J. Greimas, J. Fontanille : Sémiotique des passions , éd Seuil, 1991, p22
5- Umberto Eco : Le signe, éd Labor, 1988, p152
6- نفسه ص 156
7- A K Varga : Discours, récit, image, éd Pierre Mardaga éditeur, 1989, p 7
8- Umberto Eco : Le signe,153
9- Georges Kalinovski : Sémiotique et philosophie, éd Hardes-Benjamins,1985,p23
10- ابن رشد: تلخيص كتبا العبارة، حققه محمود قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981ن ص 57
11- Georges Kalinovski : Sémiotique et philosophie, éd Hardes-Benjamins,1985,p23
12- نفسه ص32
13- نفسه ص34
14- نفسه ص34
15- Tzvetan Todorov : Théorie du symbole, éd Seuil 1977, p42
16- انظر الكتاب الذي أصدره الأستاذ حنون مبارك عن السميائيات العربية. فقد جمع نصوصا قيمة من التراث العربي الإسلامي، وشرحه وعالق عليها في محاولة لربطها بمجمل الإسهامات الإنسانية في هذا المجال ، السميائيات العربية ، السلكي إخوان، طنجة 2001.
17- انظر على سبيل المثال : الغزالي : معيار العلم في المنطق، شرحه أحمد شمس الدين دار الكتب العلمية، بيروت، 1990، ص 47
18-الجرجاني ( علي بن محمد بن علي ) : كتاب التعريفات، تحقيق ابراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي،، 1992، ص 139
19-خضر بن علي الرازي، شرح الغرة، ص 29، ذكره محمد غاليم : المعنى والتوافق، مبادئ في تأصيل البحث الدلالي العربي، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط، 1999، ص27
20-ابن رشد: تلخيص كتاب العبارة، لأرسطو، ص 57
21-ابن جني. الخصائص، دار الكتاب العربي، الجزء الأول، ص 40
22-ابن سينا : الشفاء، المنطق، 3 - العبارة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، تحقيق محمود الخضري ص 4.
23- Ferdinand De Saussure : Cours de linguistique générale , éd Payot ,
1972 , p 33
24- C S Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil ? 1979 , p.120
25- ِClaude Lévy Strauss : Anthropologie structurale, 1958 et 1974
26- انظر Joel Dor : Introduction à la lecture de Lacan, éd denoel,1985 , p 48 et suiv
27- La philosophie, éd Hatier , 1998, article fait
28- La philosophie, éd Hatier , 1998, article fait
29-p10 : Les règles de la méthode sociologiques Emile Durkheim
30- نفسه ص 19
31- نفسه ص 19
32- نفسه 19
33- نفسه ص 61
34- نفسه ص 64
35- نفسه ص65
36- Ernest Cassirer : La philosophie des formes symboliques , I - le langage , éd Minuit 1272, p 27
37- سوسير نفسه ص 98
38- انظر في هذا المجال E Sapir , le langage
39- سوسير نفسه ص 100
40- نفسه ص 101
41- نفسه ص 100
42- Umberto Eco : Le signe,p95
43- Groupe µ : Traité du signe visuel , éd Seuil , 1992, p136
44- La structure Absente , éd Mercure de France , 1972,p178et suiv,
45- Groupe µ : Traité du signe visuel , éd Seuil , 1992
46- : Kant et l'ornithorynque, éd Grasset Umberto Eco
47-p95 Umberto Eco : Le signe,
48-5Sémantique structurale, éd Larousse , 1966, p A J Greimas :
49- David Savan : La sémiotique de C S Peirce, in Langages 58, p 10
50- C S Peirce : Ecrits sur le signe, éd seuil, p 67
51- Deledalle ( Gérard ) : La philosophie Américaine , éd, Nouveaux horizons, 1978 p 38
52- نفسه ص 38
53-, p70 C S Peirce : Ecrits sur le signe
54-, p 80 C S Peirce : Ecrits sur le signe
55-, p 91 C S Peirce : Ecrits sur le signe
56- Carontini ( Enrico) : Action du signe Ed Louvain-La-Neuve 1984 p 17
57-, p 98 C S Peirce : Ecrits sur le signe
58- Peirce : Textes anticartesiens , présentation et traduction Joseph Chenu , éd Aubier, 1984 , p 79 - 80
59-, p 121 C S Peirce : Ecrits sur le signe
60- Claudine Tiercelin : Peirce et la Pragmatique, éd P U F , 1993 , p. 66
61- بورس ص 123
62- Umberto Eco : Les limites de l'interprétation, ed Grasset, 1990, p371
63- Deledalle, "Avertissement aux lecteurs de Peirce" , in Langages n 58 , p.26
64- أمبيرتو إيكو : التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة، سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربي، 2000
65- عبد العزيز حمودة : الخروج من التيه، عالم المعرفة، 298 ، 2003
66- J Derida : De la grammatologie, ed minuit,1967,p 71 et suiv
67- C S Peirce : Ecrits sur le signe, 189
68-, 189 C S Peirce : Ecrits sur le signe
69- Everert-Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif, éd Mardaga, 1990 , p42
70 -, 189 C S Peirce : Ecrits sur le signe
71- 114Umberto Eco : Lector in Fabula , éd Grasset , 1985 , p
72- Everert-Desmedt ( Nicole ) : Le processus interprétatif, éd Mardaga, 1990 , p42
73-77 Umberto Eco : Lector in Fabula , éd Grasset , 1985 , p
74- أمبيرتو إيكو : المرجع السابق، ص121
75 - نفسه ص 119 وما يليها
76- نفسه ص 123
77- نفسه ص 121
78- Eco : Lector in fabula , p.
79- Joseph Chenu : Peirce, Textes Anticartésiens, éd Aubier, 1984, p 92
80- Emile Benveniste : Problèmes de linguistique générale, 2, p.45
81- Marty ( Robert ) : La théorie des interprétants; Langages 58 p 39
82- - Umberto Eco : Le signe, p.25