حوار مع د. محمد الداهي عن قضايا سيميائية
أجرى د. عبد القادر فهيم شيباني مدير مجلة أيقونات المحكمة( التي تشرف عليها رابطة " سيما" للبحوث السيمائية بسيدي بلعباس في الجزائر) حوارا مطولا مع د. محمد الداهي(صاحب الصورة) حول القضايا السيميائية المعاصرة، ونشر الحوار في العدد الثاني 2011. وفيما يلي نص الحوار
س: في البداية دعني أعرب لكم عن امتناني الكبير لقبولكم هذه الدعوة.
ج-محمد الداهي: أشكر لكم دعوتكم منوها بالمجهودات التي تضطلعون بها سعيا إلى ترسيخ البحث والممارسة السيميائيين في العالم العربي. وأتمنى أن يجد القارئ، في هذا الحوار، ما يفيده ويحفزه على إثارة أسئلة جديدة.
س: أعتقد أنه لا يمكننا اليوم، أن نتجاهل حالة التضخم التي تعتري اقتصاد المعرفة السيميائية في العالم العربي، بم يوحي بنذر أزمة معرفية تولدت عن تكرارية للمقاربات المتمركزة في مجملها حول السرديات بشكل عام، لذا يبدو محمد الداهي -بالنسبة لي كقارئ عربي-أنموذجا متفردا في الكتابة السيميائية المنشودة ، ودعني أقول من دون مغالاة بأني ألتمس في أعمالكم البحثية ميزتين اثنين: ذكاؤكم المعرفي في اختيار الموضوعات والإشكالات الراهنة من جهة، وقدرتكم على تقديم وجه حسن لما نسميه بالاجتهاد المبدع في البحث من جهة أخرى. كيف يقيم محمد الداهي مساره المعرفي في ظل واقع البحث السيميائي العربي أو حول ما يكتب عن السيميائيات اليوم؟
ج-محمد الداهي: تتنافس السميائيات ( السرديات الدلالية) والسرديات(السرديات اللسانية) فيما بينهما ليس في تحليل البنيات الحكائية من منظورين مختلفين ومسعيين متباينين فحسب، وإنما في إنتاج معرفة جديدة تقدم تصورات وإضاءات مستحدثة حول السرد بصفة عامة. وقد وجد الاتجاهان معا صداهما في العالم العربي بحكم انجذاب الباحثين العرب إلى أحدهما بالنظر إلى ميولهم المنهجية وخلفياتهم المعرفية. وفي ضوء هذا التفاعل الإيجابي مع الغرب، ظهر سيميائيون عرب حاولوا، بما أوتوا من طاقات ومؤهلات، أن يعرفوا بالسميائيات ومدارسها ( خاصة المدرسة الأوروبية المتمثلة في مدرسة باريس والمدرسة الأمريكية التي تستمد نسغها من أعمال شارل.س. بورس)، ويسعوا إلى تجديد بعض جوانبها بالنظر إلى ما عرفته العلوم الإنسانية، عموما، من تطورات وطفرات.
أعتبر اندماجي في خضم هذا التفاعل الثقافي والمعرفي مع الغرب لبنة أساسية للاستفادة من مكاسبه ومنجزاته المعرفية من جهة والسعي إلى المجاوزة والمغايرة وفق خصوصية اللغة العربية وحمولتها الثقافية من جهة ثانية. وفي هذا الصدد أود أن أذكر بأن مشروع سيميائيات الأهواء يهم الإيحاءات الثقافية والاجتماعية المستضمرة في اللغة الفرنسية. وهذا ما يحتم علينا التمييز بين المفاهيم والمناهج ذات طبيعة كونية وبين آليات التطبيق التي تقتضي مراعاة الإرغامات المقامية والشروط الاجتماعية والثقافية. وفي هذا الصدد لاحظت ، على سبيل المثال، أن بعض الطلبة يبحثون عن التمظهرات الدلالية والمعجمية للأهواء العربية اعتمادا على المعاجم الفرنسية على جري عادة السيمائيين الفرنسيين وهو ما يحول دون الوصول إلى ما توحي به من إيحاءات في التربة التي تنتسب إليها وخاصة بالاعتماد على المعجم العربي بوصفه استعمالا وتجليا ثقافيا.
إن مجهوداتي، في مجال البحث السيميائي، متواضعة بالنظر إلى وضع البحث العلمي في المغرب ، الذي يعكس، بدوره، العوائق التي تعترض الممارسة العلمية في العالم العربي برمته. يحتاج البحث العلمي إلى عمل مجموعات ومختبرات مختصة، وشراكة مع جامعات مصنفة، وإعداد مناظرات وندوات وحلقات تكوينية على نحو منتظم، وإصدار مجلات محكمة.. وبما أن أغلب هذه الحاجات غير متوفرة فإن الباحث يضطر إلى العمل بانفراد وبنفس متقطع دون أن يتوصل بردود باحثين آخرين ( أي برسائلهم المسترجعة Messages en retour) لتعزيز مكامن القوة والتفوق وتصحيح مواطن الضعف والقصور. وفي هذا الصدد نلاحظ أن السميائيين العرب على قلتهم، أسوة بزملائهم المختصين في مجال السرديات، قلما يتواصلون فيما بينهم، أو نادرا ما تجمعهم ندوة تهم عن كثب صلب اختصاصهم. فأغلبهم يشتغل في غرف مغلقة تحول دون تواصله مع ذوي الاختصاص لتبادل الخبرات، وتعميق الأبحاث، وتنسيق المصالح المشتركة. كل واحد منهم يشق طريقه بمفرده. في المغرب نلاحظ أن محمد مفتاح ، بحكم نزوعه النسقي، يميل أكثر إلى السيميائية المركبة أو المعاصرة التي تستفيد من مناهج أخرى وتتفاعل معها لمعالجة الظواهر المعتاصة أو غير المتجانسة، متوسلة بمفاهيم من قبيل الاتصال والتدريج والتحركية. في حين تخصص بنكراد في سيميائيات الإشهار التي تستند إلى النظرية التأويلية ، مستفيدا من أبحاث بول ريكور وإمبرتو إيكو. وظل عبد المجيد النوسي وفيا لمدرسة باريس مؤثرا امتحان إجرائية مفاهيمها وتبين مدى ملاءمتها في المتن السردي. قدم الباحث محمد الماكري مشروعا واعدا يهم دراسة المظاهر الكالييغرافية (الاشتغال الفضائي) في الشعر المغربي مستندا أساسا إلى المناهجية السيميائية الأمريكية (أبحاث شارل.س. بورس). ولحد الآن لم يجد هذا العمل من يستثمره في التعامل مع الظواهر البصرية وتشكلاتها المختلفة في مجال الشعر وغيره.
فيما يخص أعمالي فهي تحاول الاهتمام بمجالات أخرى من حياة الإنسان وخاصة ما يتعلق بقدراته التواصلية أو التطويعية، وبحركاته وأفعاله، وبما يستضمره من مشاعر وأهواء.فكل هذه العناصر تهم ما يصطلح عليه كريماص بالوجود السيميائي المتجانس. فعندما يتحرك المرء أو يفعل ( حالات الأشياء التي تعتبر موضوع سيميائيات الفعل) فهو يستجيب لهوى معين أو عاطفة مسبقة ( هوى التشجيع أو الحفز)، أو يجتر سلسلة من الأفعال السابقة ( هوى الندامة) أو يرهص بما سيأتي ( هوى الثأر) (الحالات النفسية هي موضوع سيميائيات الأهواء). وفي نظري يصعب الفصل بين الحالات التي تكتنف الوجود البشري لكونها تسهم في حفْز الإنسان على الانتقال من وضع إلى آخر. فكلما كانت الظروف مناسبة انتقل إلى وضع ملائم يمكنه من إظهار قدراته والإسهام في تقدم مجتمعه. وإن أحبطت عزائمه وهممه سيكون له دور سلبي قد تتولد عليه ردود وأفعال غير محمودة.
س: يمكن لمتتبع تطورات البحث السيميائي، أن يلحظ الاهتمام الذي يبديه محمد الداهي لقضية التطويع، بالنسبة لي كان ملتقى التداوليات الذي عقد في فبراير 2009 بجامعة ورقلة بالجزائر ، فرصة للتعرف إلى هذه الإشكالية غير المسبوقة حول التطويع من خلالكم، وكنت آنذاك قد لاحظت شغف الحضور من طلبة وأساتذة لفهم الكثير عن هذه الظاهرة اللسانية ضمن أبعادها التداولية. فما هو التطويع؟ وما علاقته بالجهود النظيرية في مجال المحادثة وأقصد هنا جهود غرايس وأو ريكشيوني؟
ج-محمد الداهي: تندرج جهود بول كرايس في إطار المشروع التداولي المشيد على مبدأ التعاون ( أي تعاون المتكلم والمتلقي للوصول إلى أهداف تواصلية محددة سلفا أو أثناء المحادثة باحترام القواعد التخاطبية). ويقوم هذا المبدأ التعاوني التواصلي على أربع مقولات، وهي : الكم والكيف والعلاقة والصيغة. وإن أخل طرف بقواعد التخاطب فإن التواصل يتعطل ويتأزم، ويعيق، بالتالي، تفاهم المتحاورين ويحول دون انخراطهما في مشروع أو عمل مشترك . اهتمت كاترين كربرات أوركشيوني عموما بالتفاعلات اللغوية الحية أي بالمحادثات التي تجري بين الناس في الواقع لأغراض مختلفة. وبلورت، من خلال جهودها العلمية ، جملة من المفاهيم التي تقصي بتحسين العملية التواصلية ( العلامات الجالبة Les captateurs ، وعلامات الضبط Les régulateurs )، و تسعى إلى تعديل الخطاطات التواصلية المتقادمة (على نحو الخطاطة الإعلامية لكلود شانون ووارنر وايفير، والخطاطة اللسانية لرومان جاكسبون، والخطاطة الدعائية لهارولد لاصويل) حتى تستوعب الشروط والإرغمات المقامية والاجتماعية، وتتعامل مع المتلقي بوصفه عنصرا إيجابيا يشارك في بناء الخطاب وملء ثغراته وتأويل محتوياته. إن عمل بول غرايس أضحى كلاسيكيا وتعرض لانتقادات عديدة لتركيزه على الجانب التبليغي وعدم إشارته إلى الجانب التهذيبي ( ما اضطلع به كل من روبين لاكوف Robin Lakoffوحيوفري ليتش Geoffrey Leech وغيرهما) رغم أهمته في تلطيف أجواء التواصل، وتفادي كل ما يمكن أن يستفز المتلقي أو ينتقص من قيمته، وتقويم سلوك المرء وتوجيهه إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها. كما أن عمل كاترين كربرات أوركشيوني ظل مقصورا، في شموليته، على الآثار التلفظية التي تحيل إلى المتكلم من خلال تلفظه وخطابه. في مجال المعرفة العلمية لا نتعامل مع النظريات ومفاهيمها كأشياء معروضة للمزاد العلني. فكلها، وإن تقادمت، تظل محافظة على أصالتها. والمسؤولية، في هذا الصدد، ملقاة على الباحثين لانتقاء منها ما يلائمهم ولمساءلتها وتطويرها. وما أردت أن أقوله من هذا الكلام هو أنني ، شخصيا، استفدت ، في محاضراتي بالجامعة أو في مشروعي حول سيميائية الكلام والتطويع، من أعمال الباحثين المشار إليهما سابقا خاصة فيما يتعلق بإثارة المتلقي وجذب اهتمامه والبحث عن كل ما يسعف على تآزرهما وتعاونهما وتفاهمها حتى يغدو التواصل بينهما سلسا لا تنتابه موجات التشويش (حسب الخطاطة التلغرافية أو الإعلامية لكلود شانون وارنير وفير) ( أي كل ما يؤدي وفق وجهة نظرهما إلى الإسهاب في الكلام ويسهم في ثرائه وغناه).
استفدنا، فيما يخص تشييد سيميائية التطويع، من كل ما يمت بالتواصل ( ما يعضده أو يعيقه). وما أثار انتباهي ، خلال العقود الأخيرة، هو كثرة المصادر والمراجع التي تعنى بالتطويع من زوايا وجوانب مختلفة( سياسية ونفسية واجتماعية وتواصلية) وذلك بما له من آثار وخيمة على التواصل البشري. غالبا ما نعير اهتماما في أبحاثنا للأمور الجدية والصارمة التي تضبط العلاقات البشرية عموما، في حين نغفل أساليب المغالطة والتحايل والخداع رغم كثرتها في المجتمع، ودورها السلبي في تدمير الأشخاص وتغيير صفوة العلاقات البشرية. وفي هذا الصدد وجب التمييز بين الفعلين التواصلي والتطويعي، وبين الإقناع والتطويع.
يراهن الفعل التواصلي (Agir communicationnel )- حسب يورغن هابرماص- على تفاهم الناس وتنسيق مصالحهم للوصول إلى مشروعات مشتركة ومتوافق عليها. يعتمد المتحاورون في هذا الإطار على الحوار السليم والبرهان الحجاجي، ويصلون إلى الأهداف المشتركة بالتفاوض والتوافق سعيا إلى تفادي كل ما يعكر سلامتهم وطمأنينتهم واستقرارهم من جهة، وتعزيز كل ما يسهم في تنمية المجتمع ورقيه وازدهاره من جهة ثانية.
ومن بين الأسس التي يقوم عليها النشاط التواصلي نذكر ما يلي:
أ-التفاهم: إن سيرورة التفاهم تدعم توافق الفاعلين، وتوحد خطط عملهم سعيا إلى تحقيق أهداف ومشاريع مشتركة ( توجيه العمل المشترك نحو النجاح).
ب- أخلاقية المناقشة: يحتكم المتحاورون إلى أساليب الإقناع والاقتناع بهدف تذويب خلافاتهم، والوصول إلى نتائج مرضية وغايات مشتركة.
ج-وضعيتا العمل والكلام: يقدم المشاركون تأويلا لوضعية معيشة (التوافق). وفي هذه الحالة تبدو وضعية العمل كما لو كانت وضعية كلامية تحتم على المتكلمين أداء أدوار تواصلية مختلفة (متكلم ومتلق وملاحظ وشاهد).
ما يهم الفعل التطويعي هو الضرب بقوة على الوتر الحساس لدى الآخر، وسلبه القدرة على الرد والمحاجَّة. إن المطوِّع يستغفل الآخر و يستبلده، ويستغل سذاجته أو لطفه أو قلة تجربته لمغالطته وإيهامه بصدقية ما يبثه إليه. ما يهمه ، في المقام الأول، هو التلاعب بأحاسيس المتلقي ومشاعره بهدف تحقيق مآربه الشخصية ذات طبيعة آنية وذرائعية. وبالمقابل، يُتخذ الفعل التواصلي كإستراتجية لمخاطبة عقل الآخر، وحفزه على تبادل الردود والحجج سعيا إلى الوصول إلى توافقات مرضية للطرفين معا، ومفضية إلى عمل مشترك.
ويقوم التطويع على العناصر الآتية:
- تمويه الخبر (désinformation): يُضلل الرأي العام بتوظيف أخبار مغلوطة أو تضخيمها لأهداف محددة سلفا.
- الدعاية: ترسخ مبادئ معينة في ذهن العامة بحثهم على ترداد محاسنها ونشرها على نطاق واسع قصد الحصول على إجماع حولها. وبالمقابل، تدحض مزاعم الخصوم وتبين مساوئها وسلبياتها.
- الضرب على الوتر الحساس: تُستغل مواطن ضعف المتلقي أو قابليته للتصديق أو سذاجته للتأثير عليه وتدجينه والتلاعب به.
-الشعور بالذنب (Culpabilité): يحس الفرد أنه المسؤول وحده عن إخفاقاته وإحباطاته (يرجع ذلك إلى ضعف ذكائه، وافتقاره للمؤهلات المناسبة).
- الألاعيب (Games): يستخدم المطوع ألاعيب وسلوكات تطويعية لإيقاع الآخر في فخه، وكسب مودته وثقته وعطفه (على نحو البكاء والشكوى والظهور بمظهر الضحية والإغراء).
- إطار الافتراء (Le cadrage menteur): يشغل الكذب بوصفه سلاحا حربيا وعنفا نفسيا، وذلك لترسيخ فكرة معينة ودحض غيرها.
- إطار المغالاة: يتلاعب المطوِّع بالألفاظ لإيهام المتلقي وتغليطه. وفي هذا الصدد يستعمل الألفاظ المفخخة (على نحو إلصاق تهمة "الإرهابي" بالعربي)، والأكاذيب المضللة (استخدام الرصاص الفولاذي المغطى بالمطاط عوض الرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين)، والعبارات الملتبسة (يعطي مسحوق "التيد" لونا أكثر بياضا / لقضاء فصل الشتاء دون زكام عليكم باستعمال أقراص من نوع كذا)، وينشر إشاعات لإحباط عزيمة الخصم وإرباك خططه.
وجب التنبيه إلى أن سيميائيات باريس منحت للتطويع قوة إقناعية (اضطلاع المرسل بالفعل الإقناعيFaire persuasif) وذلك لأن المطوِّع ، بحكم سلطته ونفوذه، يجبر المتلقي على القيام بفعل ما (جهة فعل الفعل) ( وبالمقابل يضطلع المتلقي بفعل تأويلي(faire interprétatif) لفهم ما يتلقاه واستيعابه). واستند أتباع كريماص في تحاليلهم على أمثلة ذات صبغة جدية مستندة إلى تراتبية اجتماعية أو إدارية ( علاقة الآمر بالمأمور). يمكن للمرسل إليه أن يقوم بفعل غير مقتنع به. لكن وضعيته تحتم عليه تنفيذ ما طلب منه إما إرضاء لمن هو أعلى منه مرتبة ومقاما ( الطاعة) وإما استجابة لواجب يحدده القانون المتعاقد والمتوافق عليه
لما يلجأ المطوِّع إلى أساليب الخداع و الغش والتدليس والمغالطة فهو يفرغ الفعل الإقناعي من حجيته وشرعيته ، ويحل محلة التقنيات التطويعية(techniques manipulatoires) ( بما فيها الأدلة المزيفة والمعطيات المغلوطة) لحمل الآخر على تصديق ما يتلقاه. وفي هذا الصدد يتعزز البعدان الاستيثاقي dimension fiduciaire (كسب مودة الآخر وثقته) والتحقُّقي dimension véridictoire ( إيهام الآخر بصدقية الرسالة، وإخفاء الحقيقة عنه) لتيسير وصول الرسالة إلى مبتغاها، وسلب إرادة المتلقي، وتحويله إلى أداة طيعة يفعل بها المطوع ما يشاء.
س: إذا ما سلمنا بأن التطويع يقوم في الأساس على مبدأ سلب القدرة، في سبيل تحقيق غاية، من خلال جملة من الأساليب الكلامية. فهل يمكننا أن نتحدث في المقابل عن معان إيجابية للتطويع، أم أن فعل التطويع لا يكاد ينفصل عن الفعل اللغوي للإكراه، والعنف والكذب والخداع؟ (يمكنكم هنا تقديم أمثلة للشرح)
ج-محمد الداهي:التطويع ، حسب فليب بروتون Philippe Breton، كذب منظم لمغالطة الآخر. والتطويع هو عمل سلبي يجرد الآخر من إنسانيته، ويحوله إلى أداة طيعة ومنصاعة لا حول و لا قوة لها. والتطويع أشكال وأصناف. يبدأ من ممارسات بسيطة يتعود عليها المرء لإبعاد تهمة موجهة إليه أو صفة ينعت بها. لما يحتاج إلى من يقرضه مالا قد يصطنع سيناريوهات لحمل الآخر على تلبية دعوته. وأحيانا تُبنى هذه السيناريوهات على مزاعم ودعاوى باطلة بسبب مجانبتها للواقع وعدم مطابقتها له. يستخدمها المطوع لمخاطبة وجدان المتلقي، والتأثير عليه، وحفزه على التعاطف معه والحدب عليه. ونجد حالات معقدة من التطويع قد تمس أقطارا مختلفة، و تسبب في تعكير صفو العلاقات الدولية. ولعل أهم مثال يمكن أن نستدل به ، هو غزو أمريكا للعراق بدعوى امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل وارتباطه بتنظيم القاعدة. ووقع العالم بأسره، بحكم الدعاية الإعلامية الأمريكية، ضحية هذه المؤامرة. اعتمدت أمريكا على هذه " الكذبة النبيلة" (noble lie) ، بتعبير المحافظين الجدد، لتبرير تدخلها العسكري في العراق وإعطاء الشرعية الدولية لمناوراتها بهدف إقرار نظام ديمقراطي. وهكذا يتضح أنها كانت تظهر أشياء في حين تخفي نواياها الحقيقية التي تتجسد في السيطرة على منابع البترول والتحكم في منطقة إستراتجية لضمان استمرارية دويلة إسرائيل وطمأنينتها. ومن بين أصناف التطويع نذكر ما يلي:
- التطويع الذهني: (Manipulation mentale): يؤثر هذا التطويع في ذهن المتلقي ويجعله يتلقى ما يبث إليه دون رفض أو إصدار حكم. وهو نوع من "برمجة" ذهن المتلقي بسلوكيات معينة بعد تدريبه على القيام بها في ظروف ومقامات مختلفة. ويعتمد هذا النوع من التطويع على العاطفة (الترهيب والترغيب والوعد والوعيد) والتكرار والضغط والمكافأة أو العقاب.
-التطويع المهني: (M.professionnelle): يُراهن من خلاله إما على التعريف بالمنتج أو على الرفع من مبيعات بضاعة ما أو على التصويت على مرشح ما.وفي هذا الصدد أحيل إلى كتاب ظهر(parler pour gagner) متزامنا مع الحملة الانتخابية الرئاسية 2007 في فرنسا. ركز فيه الباحثون (دوني برتراند وألكسندر ديزي وجون لوي ميسيكا) على دور الكلام للظفر بمقعد الرئاسة. ويتقوى دور الكلام بدعامات أخرى ذات طبيعة أيقونية وعاطفية وإعلامية ورمزية وإشارية حتى يكون وقعه في النفوس أقوى، ويحظى بثقة الناخبين.
-التطويع العلائقي: (M.relationnelle): يتظاهر المطوع بالكياسة واللطف واللباقة، ويستثمر ما أوتي من ذكاء وحيوية وفاعلية ومرونة لنيل مراده. ومن بين الأمور التي يعتمد عليها نذكر على سبيل المثال ما يلي: عدم الوضوح، والتشكيك في قدرات الآخر، و الظهور بمظهر الضحية، وتغيير الأفكار والأحاسيس حسب الظروف، واستعمال خطاب منطقي ومنسجم، وعدم تحمل النقد. ويمكن لهذه التصرفات أن تؤثر سلبا في نفسية من يتعامل معهم، بل قد تسبب لهم اضطرابات نفسية فيضطرون إلى عرض أنفسهم على الأطباء النفسانيين. وقد عرضت الباحثة Isabelle Nazare-Aga في كتابها" المطوعون موجودون بين ظهرانينا" Les manipulateurs sont parmi nous حالات ممن تعرضوا لصدمات نفسية متفاوتة بسبب مفعول التطويع ووقعه السلبيين.
- التطويع المعرفي(M.cognitif): تستثمر المعارف ويعاد تأطيرها لأغراض محددة. يلجأ حزب ما، خلال حملته الانتخابية، بالتركيز على هفوات الحزب المنافس لدحره وهزمه.
س: لكن دعنا ننقاش الآن، حيثيات التأطير النظري الذي اعتمدتموه في سبيل تقديم هذا المفهوم ضمن منظور سيميائي. بالعودة إلى بحثكم النشور في آخر عدد من مجلة عالم الفكر (سبتمبر2011 ) ، حول سيميائية التطويع، لاحظت أنكم انطلقتم من مفهوم البرامج السردية كمرجعية تأطيرية للتصور السيميائي لمفهوم التطويع، في ظل المفهوم العام لما يصطلح عليه سرديا بالتحريك ذي الصلة بأفعال العوامل والفاعلين والممثلين داخل البنية السردية. ولكن ألا ترى معي أن التأسيس السيميائي للقواعد الأولية للتطويع يستطيع أن يجد أرضية مثلى في منطق الجهات (القدرة، الإرادة، الوجوب، المعرفة) ؟
ج-محمد الداهي: بطبيعة الحال يعتمد المطوع على الجهات التي توجه تلفظه وكلامه إلى وجهة معينة. وما يهمني في هذا الصدد هو الإشارة إلى أن سيميائيات العمل اعتمدت أساسا على جهة الفعل. وفي هذا الإطار يعتبر التطويع أو ما سميته بالتحريك أو ما يسميه باحثون آخرون بالتسخير (مما يبين صعوبة ترجمة دقيقة للمفهوم) عاملا على فعل الفعل(faire faire). وتقوم سيميائيات الأهواء على جهة الكينونة (être) ( وهناك من فضل جهة الإحساس(sentir) على نحو بول ريكور) لكونها تبين ما ينتاب الإنسان من حالات نفسية متضاربة. وارتأينا ، اعتمادا على المرجعية السيميائية نفسها، أن نشيد سيميائيات التطويع على وجه الخصوص وسيميائيات الكلام على وجه العموم على جهة الحمل على الاعتقاد(faire croire). وهي ، في هذا السياق، بمثابة بؤرة يتجاذبها البعدان الاستيثاقي والتحققي لكسب ثقة المتلقي من جهة، وجعله يصدق ما يتلقاه. وفي هذا الصدد وجب الإشارة إلى أن الحقيقة السردية ( أي الحقيقة التي تُشخص بالكلام) تتخذ أبعادا كثيرة أجملها الباحث ميشيل ماتيو كولا Michel Mathieu-Colas فيما يلي ( وهي مضمنة في دراسته عن " الحقيقة والسرد" في أحد أعداد مجلة الشعرية):
1-القصة المحكية: مدى مطابقة الوقائع المحكية للواقع.
2-اعتقادات السارد: يمكن للمتكلم أن يكون ضحية وهم ( أن يعتقد بأن ما يحكيه خيالي في حين أنه واقعي والعكس صحيح).
3-مزاعم السارد: يثير جملة من التساؤلات التي تهم مشروعه السردي: ماذا يريد الآخر من قصتي؟ كيف يمكن له أن يصدقني؟ ألا يمن أن نتقاسم جملة من الاعتقادات؟ يتعلق الأمر هنا بوضع مقابلة بين الصدق والمطابقة، وبين الكذب والزيف.
4-اعتقادات المسرود له: يتوجب معرفة موقف المتلقي: يمكن أن أصدقه وأجاريه في كل ما يتلفظ به، ويمكن أن أرفضها بدعوى مجانبتها للواقع
س: أستسمحك لتركيزي حول قضية التأطير السيميائي، أستاذ محمد يمكننا أن نعد بشكل مبدئي التطويع ظاهرة لسانية لها تطبيقاتها السيميائية في مجالات عدة ( المعرفة، السياسة، الإعلام الإشهار، العمل النقابي)، ولكن هل تمارس في المقابل الأنساق السيميائية كالصورة والأسطورة، والعمارة والألعاب، والسينما وغيرها مثلا علينا فعل التطويع، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد أدوات تخدم العملية التطويعية؟ بمعنى آخر هل التطويع هو ظاهرة تذاوتية خالصة؟ أم أن هذه الظاهرة تستطيع أن تتعدى ببعدها التذاوتي إلى استعمال الأنساق الدالة ضمن غائيتها التواصلية؟
ج-محمد الداهي: يُمارس التطويع باللغة . فهي تعد دعامة ذات جدين. إما لتعزيز الفعل التواصلي ( تفاهم الناس بواسطة اللغة) أو لدعم الفعل التطويعي ( مغالطة الناس بواسطة اللغة). وكل الأشكال الخطابية المتداولة ( الصورة والإشهار والسينما والأسطورة والأمثال) تعتمد على المكون اللغوي أساسا لحصر المقومات الدلالية المتناسلة حتى ترتبط بموضوع معين، والتأثير على لا شعور المتلقي. يمكن أن يعتمد أحيانا على الصورة لوحدها للتأثير على المتلقي. لكن لما تتعاضد باللغة يكون مفعولها أقوى. إبان الحرب الباردة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي تقوى مفعول الدعاية بما لها من تأثير قوي على شريحة كبيرة من الناس، ودور في تغيير معتقداتهم وقناعاتهم. كانت المراهنة، وقتئذ، على ما اصطلح عليه ب" الدبلوماسية العمومية" (diplomatie publique) لإقناع المتلقين ً بمحاسن نظام وبمساوئ النظام المناوئ. وحرصًا على وصول الخطاب إلى جماهير عريضة أنشئت محطات إذاعية بجميع اللغات بما فيها اللغة العربية. لما كنا أطفالا كنا نلتقط " صوت موسكو" و" وصوت واشنطن" لاستيعاب ما يجري في العالم وخاصة في العالم العربي. وكان كل طرف، دون أن نعي بذلك لحداثة سننا، يعيد تأطير(recadrage) الأحداث والأخبار وفق منظوره الخاص، ويقدم مزاياه ومنجزاته في مجاليْ التنمية والتصنيع، ويستعرض مساعيه لإقامة السلم على وجه البسيطة. واستُثمرت ، في السياق نفسه، أموال طائلة لصناعة أفلام تدعم الوظيفة الإيديولوجية للنظام. على سبيل المثال، اعتمدت الدعاية السوفيتية على فيلم " أكتوبر" 1928 لسرجي إيزنشتاين لبيان منجزات الثورة البلشفية وحفْز المشاهدين على الإعجاب بالنظام الشيوعي. وبالمقابل، روجت الدعاية الأمريكية، ما بين عامي 1982 و1988، لأفلام "رامبو" ( 1 و2 و3) لكونها تعكس القوة الأمريكية وعظمتها، وترسخ أسطورة الرجل الأمريكي الذي لا يقهر. ويمكن أن نحيل أيضا على كتاب 1984 ورواية " حديقة الحيوان" لجورج أور ويل . فهما يبينان مساوئ النظام الشيوعي واستبداده.وقد أرهص العمل الأول بالهزة القوية التي سيتعرض لها النظام نفسه عام 1987 ( أي سنوات معدودات بعد 1984)..
من خلال هذه الأمثلة يتضح أن التطويع ظاهرة بين-ذاتية ( تواصلية) تستخدم فيها أنساق دلالية واستهوائية وأيقونية وإشارية وإيمائية بهدف التأثير على الآخر ومغالطته وتدميره نفسيا ومعرفيا إن اقتضى الأمر ذلك. ويلاحظ أن كثيرا من المحطات التلفزية لا تحترم الشروط المهنية وأخلاقية العمل الصحفي النبيل لتزويد المتلقي بالأخبار والمعطيات الحقيقية
وتنوير الرأي العام المحلي والدولي. فهي تنزع أكثر إلى أسلوب الإثارة والتهييج بهدف تعبئة الجماهير العريضة لإدانة نظام والإعلاء من شأن نظام آخر. في حين أن المتلقي محتاج إلى " أخلاقية المناقشة" لمعرفة الرأي والرأي المعاكس . كيف يمكن له أن يفهم ما يجري في البحرين. هناك محطات تسكت عما يحدث فيها من مظاهرات واحتجاجات. وهناك محطات أخرى تصب الزيت في النار ، وتضخم الأحداث بحكم تعاطفها مع طائفة معينة. أصبحت الصورة الآن تؤدي دورا هاما في التطويعيْن المعرفي والنفسي. يمكن لصورة اعتقال معمر القذاني من لدن مناصري المجلس الوطني الانتقالي أن تعطي صورة سيئة عنهم بحكم ضربه وجذب شعره وإهانته. فلو أعيد تأطير الصورة إعلاميا فإنها ستصيب الرأي العام بالدهشة والاستغراب، وتجعله غير مطمئن على المستقبل الديمقراطي لليبيا. كان حري بهم أن يستثمروا صورة اعتقاله بطمأنة الرأي العام الدولي على مستقبل ليبيا وإعطاء المثال بأنهم يحترمون حقوق الإنسان ويمتثلون للعدالة الانتقالية. لم يفطنوا إلى دور الصورة في إحداث قطيعة مع نظام القذافي وإعطاء إشارات قوية لميلاد نظام جديد. وفي هذا الصدد أحيل إلى تعامل الأمريكيين مع نظام صدام حسين ( لاحظ كيف اختاروا الوقت المناسب لإزالة نصبه من ساحة عمومية) ومع أسامة بلادن ( عدم إظهار جثمانه وإتلافه في مكان مجهول ). فهم يحسنون استعمال الصورة لأهداف تطويعية ولخدمة أجندات محددة سلفا.
س: تترجم سيميائيات الأهواء، في الأصل، نزوع غريماس في سبيل فهم أعمق للكينونة في ضوء نظريته السردية،هذا النزوع الذي رسم المعالم المستقبلية لاهتمامات مدرسة باريس مع جهود كل من هرمان برايت وفونتنيي وإينو. لذلك يبدو من الجلي أن التطويع، بوصفه موضوعا سيميائيا، يمكنه أن يجد في سيميائيات الأهواء، أرضية صلبة لإرساء مرجعية له داخل المعرفة السيميائية، وهو ما يجعله أداة مفهومية من أدوات التحليل السيميائي للنصوص السردية بشكل خاص والخطابات الحجاجية بشكل عام. فكيف تؤدي المعرفة بسيميائيات الأهواء إلى تفكيك وتحليل المظاهر التطويعية في النصوص والخطابات؟
ج-محمد الداهي: تكمن ملاءمة كتاب سيميائيات الأهواء لكريماص وفونتاني فيما يلي:
- إن المؤلفين انتبها إلى العلاقة المحسوسة والانفعالية التي تقيمها الذات مع نفسها ومع العالم الخارجي. وانبرا إلى دراسة الأهواء ، بعدة مفاهيمية سيميائية، لاستيعاب تنظيمها التركيبي والدلالي من جهة، وبيان شحنتها الانفعالية ودرجة كثافتها إبان تجسدها في شكل برامج مفترضة أو محققة من جهة ثانية. وعندما تتحقق في الخطاب، تصبح حمالة لدلالات معينة. ولا تكون لها دلالة إلا عندما تضطلع بها ذات تشعر بهوى ما. ويمكن، في هذا الصدد، أن يكون فردا ( تتمثل في لغة فردية) أو جماعة (تتشخص في لغة جماعية).
- إن إعادة بناء الأهواء من المنظور السيميائي أفضت إلى صياغة نظرية دلالية منسجمة ، تتميز باستقلالية البعد الانفعالي (dimension thymique) (يُضاف إلى البعدين المعرفي والتداولي)، وبصوغ خطاطة استهوائية معيارية ( أسوة بالخطاطة السردية المعيارية). ومع ذلك حرص كريماص وفونتاني على " الوجود السيميائي المتجانس" حتى تندمج نظرية الأهواء داخل النظرية السيميائية العامة، ويحصل التفاعل و التكامل فيما بينهما.
- إن كان الكتاب، في عمومه، محافظا على المكاسب البنيوية، فهو يفتح آفاقا واعدة نحو الانفتاح على الإيحاءات الثقافية والاجتماعية للأهواء ( ما يصطلح عليه بالممارسة التلفظيةpraxis énonciative ). وهذا ما جعل المؤلفان يعتبران القواميس استعمالات ثقافية تجسد موقف جماعة ما من الوجود، وتعلل تباين الأهواء واختلافها بالنظر إلى طبيعة الثقافات التي تؤطرها، وتصدر أحكاما أخلاقيها عليها. وفي هذا الصدد اعتمدا على مدونة استهوائية (تعريفات تهم مختلف تجليات الهوى في القاموس الفرنسي. وهي، في مجملها، تحدد الأقسام الكبرى للحياة العاطفية ) لبيان المفاصل الكبرى لصنافة ممتدة في ثقافة برمتها ( المدونة الثقافية الفرنسية)، وتمييز الكون الاستهوائي الخاص بها ( الخطابات الاجتماعية). استند صاحبا الكتاب إلى مرجعيات مختلفة(الظاهراتية، الكيمياء، الفيزياء، الرياضيات..) لفهم الإحساس بصفته طاقة (الفضاء التوتري) تدفع إلى العمل، فإما تؤدي إلى ما هو إيجابي في الوجود البشري (ما هو صالح) أو على العكس قد تفضي إلى ما هو سلبي ( ما هو طالح). إن صهر المرجعيات المختلفة في بوتقة واحدة جعل الكتاب ذا حدين متباينين: يكمن أحدهما في صعوبة الغوص في يمِّ الكتاب، الذي يتطلب إلماما بالسباحة، وجهدا لتحمل الأمواج المتلاطمة، ووقتا كافيا لسبر أغواره سعيا إلى الانتفاع من درره ولآلئه. ويتمثل ثانيهما في الاستمتاع بما يستعرضه الكتاب عن معلومات ثرّة ودقيقة تهم الحالة النفسية التي شغلت الكتاب والأدباء وعلماء النفس والأخلاق قرونا مضت. وحان الوقت لينكب عليها السيميائيون قصد الإلمام بحالة الذات المؤهلة لإنجاز فعل ما ( ما يقابله في سيميائية العمل : حالة العالم الذي تضطلع الذات بتغييره)، وبيان المعادلة الصورية بين حالتي الأشياء والنفس (خلق نوع من الانسجام بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي).
لقد طبقت في كتابي " سميائية السرد" سيميائيات الأهواء على عينة من النصوص السردية. ومن خلالها يتضح أن التطويع النفسي يؤدي دورا كبيرا في إثارة المتلقي، وسلب إرادته على الرد والمقاومة. في رواية ذات لصنع الله إبراهيم حفزت صورة إشهارية (امرأة تهدم بيتها المتقادم و تعيد بناءه وتأثيثه) ملايين من المصريين على الانخراط في مسيرة الهدم والبناء، وإحداث قطيعة من النظام الاشتراكي الناصري، والانخراط في النظام الليبرالي الجديد. يراهن المطوع على ترك اثر محمود أو مذموم في نفسية المتلقي بالنظر إلى طبيعة مراده ومبتغاه. فهو قد يستدرجه بالكلام المعسول والمنمق (boniment) لكسب مودته ونيل مراده. وقد يلجأ إلى التشكيك في قدرات مخاطبه والسخرية من طريقة أكله وكلامه ولباسه سعيا إلى إثارة القلق والبلبلة في نفسيته. وغالبا ما يتعرض الموظفون، في مقرات عملهم، إلى أساليب التطويع من بعض زملائهم بسبب الحسد أو احتدام المنافسة. فالمطوع لا يتخذ قرارا حاسما، ويتهرب من تحمل المسؤولية، ويكثر من انتقاد غيره، ولا يعترف بمجهودات زملائه، ويتقن فن التشكيك في قدراتهم وتحميلهم مسؤولية ما ينجم عن أفعالهم من إخفاقات وسوء التقدير، ويغير مواقفه ومشاعره حسب طبيعة الظرف. وغالبا ما نسمع فلانا يشتكي أو فلانة تشتكي " لقد مرضني هذا الشخص أو مرضتني هذه السيدة". ويقول : لما أصادفه أصاب بقشعريرة قوية. مثل هذه العبارات تبين قوة تأثير التطويع العلائقي في نفسية بعض الضحايا. ولا يتوقف التأثير على نفسيتهم وإنما يصيب أجسادهم بأضرار متفاوتة الخطورة بسبب عدم انتظام الأكل والنوم والإرهاق والقلق.
س: مع التمركز الذي أسست له نظرية أوستين حول الفعل الكلامي كخطوة لبناء النظرية التداولية. ألا ترى معي أن سيميائيات الأهواء جاءت لتعيد الاعتبار لفعل الكينونة في الكلام، بخاصة إذا ما تبنينا الرؤية الشمولية التي استطاع أن يضيفها مفهوم التلفظ في سبيل فهم أعمق للظاهرة الكلامية؟. وعليه يبدو الانتقال من لسانيات الكلام إلى سيميائيات الكلام، تحولا نظريا عابرا للحدود الإبستيمية على الرغم من أن موضوع لسانيات الكلام لم ينتظم بعد بالشكل المنشود، إذا ما استثنينا طبعا، تلك الإضافات المحتشمة لقضايا الاتساق والانسجام في لسانيات النص وبعض الإسهامات في مجال المحادثة. أم أن سيميائيات الأهواء استطاعت أن تؤمن جسرا نظريا لسيميائيات الكلام من دون الحاجة لأي دعم مباشر من لسانيات الكلام؟
ج-محمد الداهي : إن مختلف النظريات، عموما، تتفاعل فيما بينها، ويستفيد بعضها من البعض الآخر. وهذا هو السر في تطورها من جهة، واتسامها بالطابع الكوني من جهة ثانية. ومع ذلك ينبغي أن نضع كل نظرية في إطارها الحقيقي لفهم أصولها وامتداداتها، وتبيُّن مواطن استقلاليتها وأصالتها ومكامن تقاطعها مع نظريات أخرى. ما قلته صحيح من ناحية اعتبار السيميائية نظرية مدمجة(Sémiotique intégrée) في نظريات أخرى على نحو الحجاج أو التداولية أو المحادثة. في حين تعتبر السيمائيات نظرية عامة ومستقلة تتفرع عنها سيميائيات أخرى، على نحو سيميائيات العمل وسيميائيات الأهواء. وكل سيميائية على حدة لها موضوعها المحدد وتتميز بترسانتها المفاهيمية الخاصة. إن موضوع سيميائيات العمل هو حالات الأشياء ( الذات منفصلة عن الموضوع) في حين أن موضوع سيمائيات الأهواء هو الحالة النفسية (الذات متصلة بالموضوع)، و هي تدافع عن استقلالية البعد الانفعالي رغم تكامله وتفاعله مع البعدين المعرفي والتداولي. ركزت النظرية السيميائية على العمل والهوى ولم تعر كبير اهتمام للكلام. ولم تستثمر المكاسب التداولية والتلفظية إلا في العقود الأخيرة إثر انفتاح السيميائيات على المستحدثات المعرفية والمنهجية. وما جعلها تتغافل عن هذه المكاسب (وهو ما جسده حوار الصم والبكم الذي جمع السيميائيين والتداوليين في مناظرة برحاب جامعة بربنيان Perpignan ، ولقد سبق لي أن ترجمت الأعمال الخاصة بهذه الندوة "السيميائية والتدولية" في أحد أعداد مجلة علامات في النقد ) هو أن كل العمليات السيميائية تتدرج من المستوى العميق إلى السطح دون أن تتشخص في شكل آثار ملموسة ( أي ما سماه هرمان باريت بالسيميائيات الذاتية (sémiotique subjective) أي ما يدل على حضور الذات ووجودها خطابيا). ظلت النظرية السيميائية، في عمومها، ما قبل خطابية (prédiscursive) أي أنها لا تعير اهتماما يذكر للتجليات الخطابية وخاصة الجوانب التي تهم الذاتية في اللغة. ولم يفطن إلى أهميتها إلا في العقود الأخيرة وخاصة بعد جني كثير من الثمار التي زرعها إميل بنفنست Emile Benveniste( يرجع إليه الفضل في تشييد النظرية التلفظية بالتركيز في أبحاثه على "الجهاز الصوري للتلفظية" وعلى " الإنسان في اللغة". وهي مضمنة في الجزء الثاني من كتابه الشهير "قضايا اللسانيات العامة"(كالميار 1974) .من خلال كتاب سيميائيات الأهواء يتضح أن صاحباها اهتما بالإيحاءات الاجتماعية والخطابية التي تتجلي على مستوى خطاب الأهواء.وهو ما اصطلحا عليه بالممارسة التلفظية. وفي هذا الإطار حاولنا في كتابنا "سيميائية الكلام الروائي" أن نبين مدى أهمية الكلام في التواصل أو في التطويع، وفي تحريك البرامج والمشروعات الحكائية، ونقل المشاعر والأحاسيس ، والحفز على الحركة والعمل. ومن ثمة وجب تعزيز ما سماه كريماص وفوقتاني بالوجود السيميائي المتجانس أي يجب النظر إلى الإنسان في شموليته نظرا لاتساق ما يصدر عنه وتماسكه . فهو يعمل ويحس ويتكلم. إن مختلف هذه الخاصيات تتفاعل فيما بينها، وتتبادل التأثير، وتفضي إما لعمل محمود أو مذموم. ولما يتأتي الفعل يتم تقويمه أخلاقيا ( على المستوى الفردي أو الجماعي) لبيان إيجابيته وسلبياته.
س.في الأخير تجدد لكم مجلة أيقونات شكرها على هذه المحاورة العلمية القيمة.
ج-محمد الداهي: شكرا لكم مجددا، وأتمنى أن يجد القارئ في هذا الحوار ليس ما شفي غليله معرفيا وإنما ما يحفزه على إثارة أسئلة جديدة ويحضه على ركوب غوارب البحث العلمي. تحدثنا كثيرا عن التطويع ولم نتطرق إلى كيفية التخلص منه وحماية الناس من أخطاره. وفي هذا الصدد وجب التنبيه إلى ضرورة تخصيص حصص أو مجزوءات تعليمية حول الصورة وقصاصات الأخبار والأخبار المتلفزة أو المذاعة حتى نوعي المتعلم بأخطار التطويع على نفسيته وجسده، ونزوده بالأدوات المناسبة لإحباط المناورات التطويعية (الاضطلاع بالتطويع المضاد Antimanipulation)، والتمييز بين المشروعات المشيدة على أساس الفعل التواصلي والمشروعات المزعومة لمغالطة الآخرين وخدعهم.