أنور المرتجـي: تسخير الكلام من المنظور السيميائي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=9
الكاتب: mdahi


 حرر في الجمعة 18-12-2009 09:13 أ£أ“أ‡أپ

 


فبعد أن  بينت ما تتسم به هذه الطبقة النصية من خصائص بنيوية وتلفظية وتداولية، وما تمده من جسور مع الواقع ( آثر الواقع) خرجت بتصور حول كلام الشخوص قابل للتعميم والتطبيق على أجناس أخرى. ويسعى محمد الداهي في كتابه أن يتخذ موقعا متميزا داخل النظرية السيميائية مبرهنا على استقلالية البعد الكلامي أو التلفظي ومبينا ما يميزه عن البعد المعرفي والبعد التداولي ( سيميائية العمل) والبعد الاستهوائي ( سيميائية الأهواء). ولم يكن غرض محمد الداهي بيان سمات كلام الشخوص ومميزاته وإنما إعادة بناء الكلام ، في مختلف تجلياته سواء أكان سردا أم حوارا، من الزاوية السيميائية. وهكذا، فهو يتعامل مع الكلام بوصفه أثرا تلفظيا وعملا تداوليا يحدد طبيعة العلاقة التي تجمع بين طرفين، ويلعب دورا في تغيير المعتقدات وصنع الحقائق وتلوينها بأصباغ ذاتية. إن الكلام، بمقتضى ذلك، هو فعل سيميائي يكشف عن هوية المتكلم ومقاصده وتطلعاته وأهوائه، ويراهن على إحداث تغييرات جوهرية في التواصلات البشرية وتوجيه الناس وتسخيرهم لتحقيق أهداف محددة سلفا وصرف انتباههم عن القضايا الحيوية.


ب- استند محمد الداهي في كتابه "سيميائية الكلام الروائي" إلى التصور الجديد للخطاب السيميائي الذي بلوه وطوره السيميائيون لمعاودة النظر في ما سبق أن أثبته كريماص وكورتيص في "المعجم المعلقن لنظرية اللغة"(1979)، ونقله من التصور الماقبل خطابيPrédiscursif إلى التصور الخطابي، وتوسيعه ليستوعب جوانب جديدة أملتها المستحدثات المعرفية والمنهجية. وعليه، تخلت السيميائية عن التحليل المقومي ( الإغراق في الجزئيات) واهتمت بالمجموعات الدالةEnsembles signifiants ، وأصبحت تعطي أهمية للعمليات والممارسات التلفظية.


عندما نقرأ كتاب محمد الداهي يتضح أنه استوعب هذا التحول الجوهري الذي مس مفهوم الخطاب السيميائي وأثر في طريقة تحليله وتداوله. لم يصرف محمد الداهي اهتمامه في رصد جزئيات الخطاب ومقوماته، وإنما انكب على مجموعاته الدالة التي تقاربه في شموليته وتماسكه. ومن المجموعات الدالة التي ركز عليها نذكر أساسا: الوحدات الكلامية، التطويع التلفظي، المقاطع التحدثية، الصُّورية. كما دعم محمد الداهي مشروعه حول سيميائية الكلام بتصورات تلفظية وتداولية لحصر حدود ما اصطلح عليه هرمان باريت بالسيميائية الذاتية، التي كان لها دور في مساءلة المسار التوليدي ،ومعاودة النظر في بعض مستوياته، والتعامل مع الخطاب بوصفه كينونة ملموسة وليس حالة  افتراضية.


ج-لقد أُهمل الكلام من الدرس اللساني رغم أهميته. ولم يقع إنصافه إلا مع أبحاث إميل بنفنيست التي أحدثت ثورة في لسانيات التلفظ ( وخاصة في دراستيه القيمتين: الجهاز الشكلي للتلفظ والإنسان في اللغة)، ومع صدور ترجمات لميخائيل باختين باللغة الفرنسية. فإليه يعود الفضل في إثارة قضايا تلفظية وتداولية كان لها تأثير ملموس في المجال اللساني والنقدي على حد سواء. ومن بين القضايا التي طرحها نذكر أساساً: الحوارية والتوجيه الاجتماعي للغة والتشخيص الأدبي للغة وتعدد الأصوات..الخ. وتكمن أهمية كتاب محمد الداهي في كونه أعاد الاعتبار لهذا المكون الحيوي من اللسانيات مستفيدا من مختلف المقاربات التلفظية والتداولية، ومراهنا على إعادة بناء الكلام سيميائيا. ونلاحظ في الآونة الأخيرة أن السيميائيين -إلى جانب اهتمامهم بالعمل والهوى- أصبحوا يعتنون بسيميائية التطويع(Sémiotique de la manipulation) التي انتبه إليها كريماص وكورتيص في المعجم المعقلن، وأصبحت الحاجة إليها ملحة أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى  صعود ثقافة الصورة التي تراهن على تطويع الإنسان( أي جعله أداة طيعة) ليستسيغ محتوياتها المبثوثة دون أي رد فعل أو مقاومة. ويعتبر الكلام من بين التقنيات التطويعية التي يعتمد عليها  لتجريد المواطن من إنسانيته وتحويله إلى "ألعوبة" بين أيدي الآخرين. كما يعد من بين عناصر الضغط الاجتماعي الذي يُنمذج الإنسان الحداثي على الامتثالية والنمطية. وهذا ما عزز لديه الإحساس بالفردانية والعزلة. وهذا ما حتم على النظرية السيميائية العدول عن النزعة المحايثة، والاهتمام بإنتاج الخطاب وتلقيه، والكشف عن إيحاءاته الثقافية والاجتماعية، وتوسيع مفهوم الخطاب ليشمل مختلف الظواهر المكتوبة أو الشفاهية ( وهذا ما نجد مجلاه في كتاب محمد الداهي فهو إن حصر دراسته على المتن الروائي فقد تجاوز ذلك إلى خطابات أخرى ( القرآن، المقامة، قصاصات الأخبار، الإشهار) للبرهنة على سداد منطلقاته النظرية).


3-يضع محمد الداهي في كتاب " سيميائية الكلام الروائي" معالم مشروع سيميائي متميز عن سيميائية العمل وسيميائية الهوى رغم تكامل السيمائيات الثلاث وتعضادها في إطار ما اصطلح عليه كريماص وفونتاني ( سيمائية الأهواء1991) بالبعد السيميائي للوجود المتجانس. وما أثارني أنه يشدد على كلمة مشروع لتأكيد بأنه لا يقدم معطيات يقينية أو نظرية جامعة مانعة. ويعلل مسعاه في مقدمة الكتاب قائلا." نعرف مسبقا أن أي مشروع-من هذا القبيل- يحتاج إلى مجهودات جماعية، وتحقق التراكمات الكافية، والاستفادة من ردود فعل الباحثين وانتقاداتهم ونصائحهم. وفي هذا الصدد بعثت تقريرا عن المشروع لجاك فونتاني، وطلبت منه إبداء بعض ملاحظاته، فتوصلت منه بجواب بتاريخ 17-04-2001... ثم أرشدني إلى بعض المصادر للاعتماد عليها في إرساء دعامات الباحثين النيرة لتبيان مواطن قصوره، والحفز على تعميق نتائجه حتى تكتمل حلقات مدرسة باريس ( العمل، الهوى، الكلام)" ص5.إن أي مشروع طموح ،من النوع الذي انخرط فيه محمد الداهي، إلا ويتطلب مجهودا جماعيا لإرساء بنيانه وتوطيد أركانه. وما قدمه محمد الداهي هو نهر زاخر يصب في يم مترامي الأطراف. وإن حرص على تسميته بمشروع فهو قد بذل قصارى جهوده لتحديد أهدافه، والكشف عن خلفياته ومراميه، وتمييزه بعدة مفاهيمية أو لغة واصفة تسعف ليس فقط على مقاربة النص الروائي وإنما أيضا نصوص أخرى قوامها الكلام .( على نحو موضوعاتية الكلام، الوحدات الكلامية، الجهة، البعد الاستيثاقي، الأدوار التحدثية، الخطاطة التحدثية المقننة).


ارتكز محمد الداهي على عينات من الروايات العربية التي ظهرت في مطلع التسعينات من الألفية الثانية . وهي تتنوع جغرافيا بين المغرب ( برج السعود لمبارك ربيع، الضوء الهارب لمحمد برادة) ومصر( ذات لصنع الله إبراهيم وشطح المدينة لجمال الغيطاني). ومن الفينة إلى الأخرى كان يضطر لتوسيع المتن ليشمل خطابات أخرى ( القرآن الكريم، الأحاديث النبوية، الشعر، قصاصات الأخبار..)؛ وذلك لبيان مدى قدرة مشروعه على اقتحام فضاءات خطابية متباينة في طبيعتها ووظيفتها، والتدليل على ما يتمتع به بعض الكتاب من ملكات لغوية تسعفهم على إغناء الخطاطات التحدثية المقننة.


وتجنبا للخوض في تفاصيل الكتاب وجزئياته، سنركز على الغاية من توظيف هذه المجموعة الدالة أو تلك.


ا-خصص محمد الداهي جانبا لاستجلاء التمظهرات المعجمية-الدلالية المتواترة في المتن الروائي. أبرز معانيها المعجمية وما تستتبعه من جهات و ِِوجهات وبرامج ومسارات تلفظية وعلائق تركيبية، وبين مدى امتثالها أو عدم امتثالها للخطاطة التحدثية المقننة. وفي هذا الجانب بالذات تنحرف المقاصد عن وجهتها فتنحو مناحي أخرى مما يؤدي إلى التأثير السلبي أو الإيجابي على طبيعة العلاقات البشرية والتواصلات الاجتماعية.


ب- أفرد محمد الداهي حيزا للتطويع لما له من أهمية في تغيير معتقدات المتلقي، وسلب إراداته على المقاومة أو إبداء رأي مخالف ( أي القيام بالتطويع المضاد). لقد أشار كريماص وكورتيص في " المعجم المعقلن"  إلى أهمية بناء صرح سيمائية التطويع، وذلك لوعيهما بدورها في النظرية السيمائية العامة. ومنذ تلك الفترة صار التطويع التلفظي من المفاهيم السيميائية الأساسية لفهم آليات المراقبة الاجتماعية، وتجهيل الشعوب، وحروب الإقصاء، وصناعة الخبر. فمن الأمور التي تراهن عليها الليبرالية الجديدة ليس الدخول مع الأخر في محاورة أو تعاقد استيثاقيContrat fiduciaire من أجل كسب ثقته ومودته،  بل إجباره بواسطة ألاعيب (Games)([3]) على تبني الموقف المبثوث له وقبوله كحقيقة لا تقبل التقويم أو الدحض. وفي هذا الصدد يمكن أن نتوقف أمام التحليل الذي أنجزه محمد الداهي على الرسالة الإشهارية التي وظفها النظام المصري قصد تهيئ الجماهير لسوغ سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي والانخراط في مسلسل الخصخصة. لقد اضطلعت الوصلة الإشهارية في رواية" ذات" لصنع الله إبراهيم بوظيفة تطويعية لحمل الشخوص على تغيير سلوكهم، واتباع برامج الهدم والبناء لمواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية الجديدة ." وبما أن الدولة تراهن على إحداث قطيعة مع العقود السالفة، فقد وظفت كل أشكال الإقناع ( الصورة الإشهارية، الخطب، قصاصات الأخبار) لحفز المواطنين على الانخراط في مسيرة الهدم والبناء. وما يدل على اقتناع سكان العمارة بها ، حرصهم ،ما أمكن ،على احترام برمجتها الزمنية. وإن تأخرت ذات عن ركب أغلب سكان العمارة، فهي قد تداركته نسبيا لما بدأت تعتمد على نفسها، وعندما اقتنع زوجها بمتطلبات المرحلة الجديدة"ص123.أغلب


 


د-ظلت خانة فارغة تتخلل الصوغ الفاعلي، وتنتظر أن يشغلها مالكها الحقيقي. وهي تتعلق بالمقاطع التحدثية التي تسعف على تفريد الفاعل اجتماعيا ونفسيا وفزيولوجيا، والكشف عن هويته وموقفه من الوجود. وهذا ما استدعى من الباحث محمد الداهي التعريف بهذه المقاطع ( الكلام النمطي، اللغة الفردية، اللغة الاجتماعية)، وإبراز تجلياتها وتضاريسها في المتن الروائي، وبيان ما يميز الدور التحدثي ( يندرج في إطار مشروع سيميائية الكلام) عن الدور الموضوعاتي ( يتعلق بسييمائية العمل) والدور الانفعالي ( يهم سييمائية الأهواء).  كما حرص محمد الداهي ، عند مقاربته للمقاطع التلفظية، على إبراز مكانتها السيميائية، وبيان دورها في إغناء الفضاء الروائي بالعينات الإيديولوجية، واستحضار النزوع الديمقراطي الذي فرضته التقلبات العالمية بعد انهيار جدار برلين، والتدليل على الأهمية التي يحظى بها الدور التحدثي لتغيير  معتقدات المتلقي، وتحريك البرامج الحكائية.


هـ لقد حظيت الصورية-إلى جانب الأهواء والتلفظ- باهتمام السيميائيين في السنوات الأخيرة. ومنح لها محمد الداهي منزلة خاصة في مشروع سيميائية الكلام. في البداية أبرز مكانتها في بعض المصادر السيميائية، ثم بين ما يميز الصوري من الموضوعاتي، ثم استشف تجليات الصورية في المتن الروائي من خلال قطبي الأيقوني والمجرد، والبعد الأكسيولوجي. وتتمثل المنزلة التي أعطيت لها في تبيان آثار التلفظ والإيحاءات القيمية، ,وإظهار الدلالة التي تستمدها الصور من طبيعة الطقوس الاجتماعية والإبدالات السياسية وجدلية الجنس الروائي.


فيما يلي أجمل القضايا التي  أثارها هذا الكتاب، وأشرعها على أبواب مختلفة لتأملها واستخلاص العبر منها.


ا-وإن كان الأمر يتعلق بمشروع للدراسة والبحث فإن راهنيته لا تخفى على أحد؛ وذلك بالنظر إلى احتدام الحرب التلفظية بين مختلف وسائل الإعلام والتنافس فيما بينها بهدف امتلاك أساليب التحكم  وبناء صورة الواقع كما لو كانت هي الواقع ( الواقع المتعالي Hyper-réel)، والتسابق ليس لنقل الحقيقة وإنما لصناعتها وتسخيرها لخدمة أغراض إستراتجية. ويعد الكلام من بين العناصر التطويعية الأساسية التي يعتمد عليها في شن هذه الحرب الإعلامية على الجماهير العريضة في مختلف بقاع المعمور. ويعزز الكلام بالتطويع الانفعالي أو العاطفي ليكون وقعه في أنفسهم قويا، ويحثهم على التعاطف مع المواضيع المطروحة عليهم والتسليم بها كما لو كانت حقائق يقينية.


ب-لقد أوحى لي هذا المشروع بإمكانية الاشتغال على الخطابات المتداولة بكثرة في حضن المجتمع؛ وذلك للكشف عن مختلف" ألاعيبها" في تطويع المواطنين أو" تضبيعهم" ( بلغة الأستاذ محمد جسوس) أو غسل أدمغتهم (التطويع الذهنيManipulation mentale) أو الضرب على الوتر الحساس كما يقال عادة. كما أثار انتباهي إلى ضرورة الدفاع عن حرية التلقي حتى لا تستغل الديمقراطية لتدنيس كرامة المواطن في الفضاءات العمومية. فإلى جانب حق التعبير بحرية عن الآراء والأفكار، نجد حق حرية تلقي الرسائل المبثوثة في ذلك الفضاء الذي يتقاسمه الناس سواسية. إن الديمقراطية التي منحت للكلام مكانة لائقة في الحياة العمومية أضحت مهددة من طرف التقنيات التطويعية التي تسعى إلى إخضاع الفرد وتدجينه. لذا ينبغي أن نفسح له هامشا من حرية الاختيار والتلقي حتى يشعر بكرامته ومواطنته، ويستطيع أن يواجه أساليب الدعاية التي تؤثر سلبا في اختياراته ومواقفه من الوجود.ومن ثمة تكمن ملاءمة سيميائية الكلام  في تمكينه من الأدوات التي تساعده على إبطال مفعول التقنيات التطويعية والوعي بخطورتها على حياته وحياة الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها.


 


[1] - نظمت نيابة وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي بتنسيق مع الفعاليات الثقافية بسيدي قاسم ندوة عن كتاب سيميائية الكلام الروائي لمحمد الداهي (السبت 13 ماي 2006). وخلالها ألقيت هذه المداخلة.


[2] -كان الكتاب في الأصل عبارة عن أطروحة أنجزها الباحث تحت إشراف الدكتور محمد مفتاح والدكتور المصطفى شادلي. لكن الباحث حذف الفصول النظرية، وخفف من الحمولة الأكاديمية حتى تصبح قراءة الكتاب متيسرة لدى  شريحة واسعة من القراء.


[3] - هي ألاعيب متحكم فيها ومدروسة، وتسمى كذلك بالسلوكات التطويعية (Comportements manipulatoires). قد يستخدمها إنسان عادي لاستجلاب عطف الآخرين أو التحايل عليهم. وقد توظفها الدولة لصرف انتباه الشعب عن قصية مصيرية وإجباره على تبني مواقف مفتعلة كما لو كانت متسمة بطابع إنساني. يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى التوظيف الإعلامي الغربي لجنازة ديانا أو لتلميع " الديمقراطية" في العراق، أو للتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان الأسيوية..الخ.


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009