x
اخر ألاخبار    الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي : حوار أجراه محمد الداهي       Hommage à Mohammed Berrada : Mhamed Dahi       تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي" ، د.محمد الداهي       النغمة المواكبة .. كتاب جماعي محكم عن المفكر والروائي عبدالله العروي       لكل بداية دهشتها، محمد الداهي       استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء في كتاب " صورة الآنا والأخر في السرد" لمحمد الداهي       مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية- د. محمد الداهي       La fictionnalisation de soi dans le roman arabe Mhamed Dahi       من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات التغيير الثقافي -د.محمد الداهي       تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب. د.محمد الداهي    
الرواية المغربية الجديدة والتراث-الباحث الناقد أحمد اليبوري

من التطورات التي عرفتها الرواية المغربية، منذ الثمانينيات، وفي التسعينيات، توظيفها للتراث الأدبي والفكري والتاريخي والأسطوري بدرجات متفاوتة، باعتباره مكونا أساسيا في النص الروائي

وقد كان حضور التراث في الرواية المغربية على شكل شذرات متناثرة، أو بنيات سردية كاملة تتناوب مع البنيات والمحكيات الواقعية، أو سيرة شخصية تاريخية، أو إشارات سريعة لحقب من التاريخ القديم أو الحديث. بل قد يتم توظيف مفردة لغوية ذات حمولة خاصة دينية أو سياسية أو فلسفية، تساهم في توليد مسار سردي صغير يمكن أن يدخل في صراع مع المسار السردي المهيمن. وفي محاولة تحقيبية أقترح تصنيف طرائق توظيف الرواية المغربية للتراث كما يلي:

1 ـ توظيف معجمي ومقطعي من خلال (ا*لمرأة والوردة)*

2 ـ توظيف سيري بطولي، سنتناول فيه (بدر زمانه) *

3 ـ توظيف أسطوري سيركز على (خميل المضاجع)

4 ـ توظيف تاريخي من خلال (زهرة الجاهلية)* من جهة، و(السيل)* و(غريبة الحسين) من جهة ثانية.

تتميز الرواية المغربية التي تمتح من التراث، وتتناص معه، بصفة عامة، بتحرر نسبي من الأشكال السردية الغربية، وبإتاحة فرصة للبحث عن أصالة محتملة لمجال الإبداع العربي، دون أن يعني ذلك أن الرواية الحداثية العربية لا تسعى إلى تلك الأصالة.

 ومن الملاحظ أن الرواية ذات النزوع التراثي يمتلك مبدعوها وعيين مزدوجين: وعي بالمأزق الذي وصلت إليه تجربة الحداثة ووعي ثان بالإمكانات التي يتيحها توظيف محكم للتراث السردي العربي، والشعبي والعالمي، على مختلف مستويات البناء وطرائق السرد.

نشير إلى أنّنا سنتوسع، في هذه المقاربة، في مفهوم التراث، فقد يكون مفردة أو فقرة، أو أسطورة أو فكرة لها حمولات معينة عبر التاريخ، قوميا أو إنسانياً، يتم ترهينها، ضمن سياق جديد لتصبح لها حمولة جديدة.

1 ـ المرأة والوردة:

في القسم الأول من هذه الرواية يحدثنا السارد، بأسلوب تلقائي بسيط أقرب إلى أسلوب الحكاية الشعبية عن مغامراته الجنسية، بشكل مثير، «صَمَتْنا وأَحْكَمَتْ شد خصري بقوة. وعندما لم أفعل مثلها، انسحبت قليلا، وأمسكت بذراعي، وضَعَتْها خلف خصرها، فهمت إذ ذاك ماذا كانت تعني. تركت يدي راقدة فوق خصرها، ثم أمسكت ثوبها، وشعرت أن تحته جلدا دافئا راغبا في الانتعاش، تركت الثوب ينزلق من بين أصابعي، ارتعشت، ووافقت على الانحدار إلى تحت».(1)

من هناك يوغل السارد المشارك في اختراق المحذور اجتماعيا ودينيا دون تردد، لأنّ ذلك السلوك يساير، في تصوره، قانون الطبيعة.

لقد تم تلقي هذه الرواية من طرف أغلب النقاد على أنّها وصف بورنوغرافي لتجارب جنسية، وكنت قد أبرزت في دراسة عنها في السبعينيات، وفي تحليل بـ (دينامية النص الروائي) طابعها التركيبي والتعددي على مستوى البناء والدلالة؛ وفي هذه الدراسة سأحاول أن أسير في نفس الاتجاه، موظفا نفس المنهج الانشطاري لتجليه ذلك الطابع التعددي، ولكن، ربما، بتحليل أدق وأشمل، يتناول طرائق اشتغال التراث في المرأة والوردة، على مستوى المعجم والتركيب والصورة.

 

الاشتغال المعجمي:

في (ص. 37) من الرواية المذكورة، يتم التمهيد لتغيير المسار السردي ذي الطابع الجنسي، باستعمال معجم عربي عتيق أو صور ذات طابع ديني أو إنساني عام، يعكس توجهاً يخالف المنحى الذي تم اختياره سابقا.

في الصفحة المذكورة تصف الشخصية الساردة وضعها كما يلي: «عندما استرخيت فوق الكرسي، أمام فنجان القهوة، شعرت بسعادة حقيقية، كانت عَدَن أمامي جاهزة حاضرة، في فنجان قهوة، وفي قطعة السكر المتبقية، ورأيت عدن فوق الورقة التي تلف قطعة السكر المتبقية، قرأت على الورقة: قهوة ديبوا، ثم عدن عدن، ثم عدن».

وردت كلمة (عدن) ثماني مرات في هذه الفقرة، وهي تحيل على مدينة عَدَن، عاصمة اليمن ذات الحضارة العريقة والتي اشتهرت بقهوتها العربية الأصيلة، كما تحيل الكلمة نفسها على (عَدْن) التي ورد ذكرها في القرآن في عدة آيات منها ﴿جناتُ عَدْن يدخلونها ومن صلَح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار﴾، لقد كانت الشخصية تقرأ كلمة (عدن) في كل شيء: في فنجان القهوة، في قطعة السكر، في الورقة التي تلف قطعة السكر، متجاوزة كلمة (ديبوا) المكتوبة فعلا في الأشياء المذكورة، تحت تأثير الرؤيا الفنية، ومرت بعد ذلك عبر مراحل قبل أن تستقر في وضعها النهائي: فمن (ديبوا ـ عدن ) مرتين، وذلك ما يعكس تعايشا قسريا، إلى (عدن ـ عدن)، ثم توحدٌ في (عَدْن) مرة واحدة.

إنّ مفردة لغوية واحدة قد تحمل أحيانا برنامجا سرديا أو تحيل عليه أو تغير اتجاهه في إطار التفاعل، وهنا، في (المرأة والوردة)، تشير (عدن ديبوا) إلى حالة توتر نفسي للبطل، ملمحة بذلك إلى بداية تحوله من سلوك إباحي إلى شعور غامض وعميق، متفتح على قيم تتصل بالذات والهوية.

 

الصورة القرآنية:

بعد الدلالة المعجمية النووية لـ (عدن) يقدم السارد وصفا لمشهد الحشر في صرامة هندسة البناء الهرمي، على شكل حلم كما يلي: لم أستمع إلى الضجيج المتضخم مباشرة حولي، كان يأتيني كما لو كنت أسمعه في حلم، كان ضجيجا صافيا مثل يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، فنأتي أفواجا، ورأيت وأنا بين النوم واليقظة صورا هندسية ليوم القيامة، كانت الأفواج مصطفة هكذا:

فرادى

فرادى

مثنى مثنى

ثلاث ثلاث ثلاث

رباع رباع رباع رباع

ثلاث ثلاث ثلاث

مثنى مثنى

فرادى

فرادى(3)

فأتت الصورة مطابقة في تأثيثها التشكيلي ليوم القيامة في القرآن: ﴿وعرضوا على ربك صفا﴾ الكهف ﴿وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً﴾ مريم، ﴿لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة﴾.

إنّه صوت الدين بعد الانصياع سابقا للعبة الجسد ومغامرات الجنس، يعكسه هذا التداخل بين النص القرآني والنص الروائي.

وسينعكس هذا التوجه الجديد الذي أشرنا إلى بعض مقوماته، على المسار السردي الرئيس في الرواية، منها، مثلا، وضعية المرأة التي كانت في المرحلة الأولى، تمثل الجنس والغريزة، وأصبحت، بعد التحولات التي ألمحنا إليها آنفا، كائنا آخر في نظر الشخصية الساردة: (شعرت أن "سوز" لا كأي امرأة أخرى، تساهم في إعطاء العالم الحنان والعذوبة والتناغم) وبفضل "سوز" لم يبق الجنس كابوسا ولا هاجسا مُمضاً، بل إشراقة أمل، (شعرنا بالأمن في العالم، كان العالم كبيرا لكنّه صغير تحت ملكنا.. هذه إحدى اللحظات التي أشعر فيها بالرهبة.. أفقد التوتر واعترف لنفسي أنها صارت حرة تعيش حرية مطلقة عفوية).(4)

فالصورة النووية لهذا المشهد تنزع عن المرأة القناع الشيطاني، وتدثرها بقناع ملائكي، وكل ذلك في انسجام مع التحوّل الذي شهدته الشخصية الساردة التي أصبحت تعيش طقوس عبادة تغشاها الحرية، والحنان.

هكذا، أصبحت (المرأة والوردة) في ضوء هذه القراءة التي أولت اهتماما خاصا للعناصر التراثية المنبثة فيها، رواية تجربة وتحولات على مستوى اللاشعور، وليست مجرد سرد أفقي لمغامرات جنسية، وتقلّصت الأحادية ليحل محلها التعدد على مستوى اللغات والأساليب، والتوتر على مستوى المحافل السردية.

 

2 ـ بدر زمانه:

 انطلاقا من عنوان الرواية (بدر زمانه) يضعنا السارد في جو السرد التراثي لألف ليلة وليلة والسير الشعبية، وتتأكد هذه الآصرة، في العتبة التالية من الرواية من خلال نص زجلي يتحدّث عن عوالم ملحمية، تختفي فيها ملامح الزمن المحدد (قصة البارح واليوم) وتبرز (قصة مروية في الأجفار). إنّه نسق سردي تراثي يؤكد: «السيف وحده البتار، يردّ الظلمة نهار»،(5) ويقوى الترابط بين الروائي والملحمي كلما تقدمنا في الرواية: من أحداث واقعية إلى أخرى أسطورية، متسلسلة عن طريق التناوب السردي والتماهي الفكري، رغم بعض التفاصيل الخاصة، بحيث يمكن أن نقول: إن الحكي الأسطوري استعارة سردية للحكي الواقعي. كما تنقلنا الرواية عبر شذرات وأهازيج من التراث الشعري الشعبي، تحكي، بطريقتها العفوية والبسيطة، تجارب في الحب والأمل واليأس والموت وغيرها من شؤون الحياة.

في مجال تطابق المحكيين الواقعي والأسطوري، يحكي السارد، في الصنف الأول عن حلم مُلغِز للبطل أحمد كما يلي: بعد مضاجعة أحمد لفطومة زوجة أبيه الثانية وبديلة أمه، يتصور نفسه في مشهد يضم الثلاثي المذكور: «فطومة الآن واقفة تشرح بعبارات واضحة للحاج المهدي وقاحة فلذة كبده أحمد عليها، تروي قصة يوسف وزليخة فريدة في بابها. أحمد يقف جامدا، أمام الحاج مهدي المتأبط سكين عيد الأضحى، ينظر حواليه؛ فجأة ينزل السكين على نحر أحمد، يغرزه إلى الأعماق حتى يطل رأسه من الظهر... الحاج مهدي يستل سكينه من النحر، يرفع كيان أحمد الدامي من شعر الرأس بيسراه كأنّه يقيمه، ثم يضرب العنق بحد السكين من اليسار إلى اليمين، ضربة بتار تفصل الرأس عن الجسد».(6)

وتحدثنا الأسطورة من ناحية أخرى عن كراهية شهراموش للنساء التي تعود «إلى فترة قاسية مر بها في صغره... فتح شهراموش عينيه على أبوين شابين جميلين.. حتى أفاق مذعورا من نومه ذات يوم، على أصوات مزعجة، وأفاق ليرى والده، بلباسه الرسمي، شاهراً سيفه، مضرجا بدماء شبحين عاريين، أحدهما كان رجلا لا يعرفه، والثاني كان أمه، واختفى الأب دون أن يغمد سيفه الدامي، اختفى وغاب إلى الأبد، لا يعرف عنه أحد شيئا».(7)

فموقف شهراموش يطابق موقف الحاج مهدي: الأول قتل زوجته بسبب الخيانة واختفى، والثاني نحر ولده، في الحلم، بسبب الخيانة أيضا، وبقي يعيش منهارا إلى الموت بسبب هروب زوجته فطومة.

تحكي الرواية بصيغتين سرديتين مختلفتين فشل تجربة شهراموش في (كغاشي) وفشل تجربة الطلاب في أرض الواقع، وبذلك سقطت التجربتان الأسطورية والأيديولوجية لسبب جوهري يكمن في حقيقة مركزية: (السيف وحده البتار، يرد الظلمة نهار) ويأتي موقف سارد المحكي الواقعي مؤكدا ومطابقا للرأي السابق في صيغة تساؤل: (فينك يا الحق؟ اخرج للزنقة وسوّل)، وينتهي التساؤل بنبرة يأس مشوبة بالسخرية: «كل شيء مكتوب ـ مهزلة».(8)

يستنتج من كل ذلك أن التراث السردي ورد في هذه الرواية متجانساً، على مستوى الدلالة المركزية، مع السرد الواقعي، مؤكدا هيمنة إيديولوجية القوة.

 

3 ـ خميل المضاجع:

تدمغ الأسطورة القديمة، منذ الفصول الأولى، الرواية بطابعها الخاص، وتحدد قالبها التكويني وتحدد مسارها، إلى حد يمكن القول إنّها هي التي أنتجتها، منذ إعلان سارد المحكي الأسطوري عن العلاقات المتوترة بين (غاية) وابنها (نور) وابنهما (قرونة) الذي (أخذ ينمو مثل أبيه ذكرا تام الذكورة. هذه المرة أدركت الأم أنّها لا تستطيع أن تظل ملتصقة بذكرين، انفصلت الأنثى عن الذكرين، وانفصل الابن عن أبيه ومع هذا الانفصال بدأت العداوة بين الذكرين) وأدى ذلك إلى مبارزة بين الأب والابن نتج عنها بتر ليدَيْ ورجلي الأب الذي أخذ يردّد (لا أحد في البيت يحبني يريدني: (غاية) مشغولة بقرونة، والولد مشغول بأمه، لا أحد في البيت يجني).(9)

وإذا كانت العلاقات بين الثلاثي الأب والأم والأبناء تبدو واضحة، مباشرة، في الأسطورة القديمة، فإنّها تتعقد وتتوغل في أعماق اللاشعور، في ظل علاقات اجتماعية ملتبسة، في الرواية التي تؤكد حينا: (لا يشعر الأولاد أبدا في مراحل معينة من عمرهم، بأنّهم يغتالون آباءهم، أنهم يدفنونهم أحياء)، وحينا آخر تصوغ شبه قانون عام للعلاقات الاجتماعية «عندما ننهي مهامنا البيولوجية والاجتماعية، علينا أن نرحل»،(10) وعلى امتداد الرواية لا يفتأ علي الرماني يردد (لا أحد في البيت يحبني يريدني...) ، وتتماهى الرواية مع الأسطورة ليس فقط في مستوى التلفظ وفي رسم العلاقات المعقدة والمصائر المتشابكة، بل في تقديمها للشخصيات الأسطورية والروائية في حالة تطابق «واضح أن غاية التي خلقت السماء وأن وهمية التي تغدق المحبة والوئام، هي، بمعنى ما، سيدة جميلة، كما أن (نور) الذي ولد وربى الفيليوس الذي حارب إلى أن فقد بصره، فأصبح يعاني من الوحدانية، وتعلق بوهمية، هو علي الرماني، أو على الأصح علاّل المختار».(11)

إن الهوية في الرواية تقوم، بصفة عامة، على تسمية الشخصيات والأماكن والأشياء، بطريقة معينة، تختلف، حسب أساليب الكتابة السردية؛ وعندما تُلغَم تلك الهوية ويصبح الاسم دالا على عدة مسميات وتتداخل الأشكال السردية، تبرز قيمة الوهم مهيمنة على مختلف العلاقات في عالمي الأسطورة والرواية.

في هذا الموقف الملتبس، تتموقع جميلة التي هي فريدة بطيط، بل يتجاوز الأمر ذلك، فتصبح جميلة، الشخصية الروائية، أسطورة، بل تتحوّل الرواية إلى أسطورة معاصرة، في تصويرها لنهاية هذه الشخصية المتعددة الملامح: «تلك الليلة، رأيت نجما في بركة، شاهدت سقوط أسطورة، إلهٌ من آلهة اليونان أو بابل أو مصر القديمة أو الأطلس، تفقد جناحيها، تتخبط في الوحل. تلك الليلة عرفت أنه لا أفظع من سقوط أسطورة».(12)

 

توظيف التراث التاريخي:

سنركز في هذه المقاربة باختصار على تجربتي بنسالم حميش وأحمد التوفيق اللذين حظيت رواياتهما بتقييم إيجابي من طرف النقد العربي، منذ (صدور مجنون الحكم) 1990، و(العلامة) 1997، و(زهرة الجاهلية) 2003، للأول. و(جارات أبي موسى) 1997، و(شجرة حناء وقمر) 1997، و(السيل) 1998، و(غريبة الحسِين) 2000، للثاني.

وإذا ما اعتبرنا (زهرة الجاهلية) نموذجا للرواية التاريخية عند حميش، فإنّنا نلاحظ، من حيث بنيتها حضورا قويا للتاريخ الجاهلي من خلال توظيف اللغة، معجما وتركيبا، كما تحضر الجاهلية عبر أسماء الشعراء الذين تناوبوا على حب زهرة: المهلهل، امرؤ القيس، طرفة، عنترة.

هذا للتوظيف للغة الجاهلية ولأسماء أعلام، يعطي إيهاما بالتاريخ، الذي تتحدث عنه الرواية، باقتضاب وإشارات سريعة، إذ كان هدفها الرئيس هو وصف لحظات العشق والمتعة والحب والرُّواء والماء، في حياة الإنسان، كما وصفت الرواية الحالة المتردية التي وصلتها الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية والسياسية في الجاهلية، وحاجتها إلى التغيير الذي أتى به الإسلام، وانخرطت زهرة تحت رايته بعد تجارب غرامية مريرة.

ما يثير اهتمام المتلقي، في هذه الرواية، ومثيلاتها عند بنسالم حميش، هو الترهين الإيديولوجي على شكل نقد مباشر قوي لحاضر الأمة العربية: «لا يا عرب الكر والفر، والفروسية الهوجاء، ليس تاريخا هذا الذي تخطونه بتناحركم، بل خردلة على طرة التاريخ».(13)

تتم اللعبة السردية في هذه الرواية على الانشطار، فتقديم الأحداث يقوم على التناوب، في ارتباط بالبؤرة السردية، وتتفرع عن تيمة (المرأة) وقائع وخرافات وأساطير وأحكام وتصوّرات تخترقها إرساءات إيديولوجية.

هناك أصالة وجمال في ذلك الأريج الجاهلي، متمثلا في (زهرة) التي تلخص تقلباتُ حياتها ومصائر الشعراء الذين ارتبطوا بها مأساوية، الوجود الإنساني، وهناك من جهة ثانية حالة السارد التي لا تقل مأساوية، كما يتجلى ذلك من خلال الأوصاف والمواقف التي يجهر بها في تماهٍ بين فحولة جاهلية مفتقده، وفتوة حديثة متوهمة.

بالنسبة لأحمد التوفيق، نلاحظ أن رواياته تستجيب، في بنيتها العامة للإطار التراثي في السرد العربي، القائم على الانشطار الذي يعمل على تشظية النص، مع الاحتفاظ على روابط فنية وفكرية بين المحكيات المؤطرة والمحكي الإطار الذي يعتبر البؤرة، في مثل الكتابات الروائية. ففي رواية (شجرة حناء وقمر) نجد صورا من التاريخ: أحداث، مأثورات، تجارة، أنواع من الحلي بأسمائها الأصلية عربية أو دارجة أو أمازيغية ورصدا للتقاليد الاجتماعية، كل ذلك يجعل بعض الفصول تاريخا داخل النص الروائي، وذلك ما نسميه (إحماضا سردياً) على نهج البلاغة القديمة.

وفي رواية (السيل) تهيمن نفس التقنية ويتم الانتقال من محكي محمد بزين العطار الذي رسمت ملامحه بشكل مقتضب، من خلال حديثه مع النساء، ثم زواجه بشابة مليحة وأخيرا فراره؛ إلى محكي يزين الذي تميز بقدرته على العمل؛ كل ذلك وسط وصف دقيق للمعتقدات والتقاليد التي تقدِّم، كما هو الشأن في روايات التوفيق، (معرفة) بالتاريخ. ويؤطر الأحداث الروائية والمعرفة التاريخية، تأملات، والتماعات تخترق، النصوص، مؤكدة هيمنة أجواء (لا مجاملة فيها ولا شفقة، بل كل ما فيها المكر المتوقع من الآخر).

وفي (غريبة الحسِين) تتناوب ثلاثة أصوات: صوت مؤرخ التراث الموسيقي المغربي الأندلسي بنضارته وعذوبة حنانه، وصوت الراوي الذي نسج، في تضاعيف تواشي الاستهلال ونوبة غريبة الحسين، أشجان حب تائه بين جمال الجسد وجمال الروح، وصوت ثالث موزع بين عدة شخصيات، وخاصة الشيخ والمعلم، يأتي من أعماق التجربة الإنسانية، حاملاً، من حين لآخر، حكمة التاريخ وكأنّه صوت "إله مختف" في عباءة كاتب، يصدر أحكاماً على الأخلاق والقيم الحضارات والمواقف.

بهذه الأساليب والطرائق السردية الموظفة من طرف محمد زفزاف، مبارك ربيع والميلودي شغموم وبنسالم حميش وأحمد التوفيق، تُمنَح الأصوات حقها في التعبير عن الحالات والمواقف المتعارضة، عن طريق الشذرات التراثية بحيث: (لا شيءَ كبيرٌ لدرجة يصبح معها شيء آخر صغيراً جداً، ولا شيءَ صغيرٌ لدرجة يصبح معها شيء آخر كبيراً جدا)، وبذلك تستعيد الرواية إحدى ركائزها بفتح المجال أمام المكوّن التراثي.

الهوامش:

* محمد زفزاف، "المرأة والوردة"، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط 2 ص. 198، ط 1، 1972.

* مبارك ربيع، "بدر زمانه"، المؤسسة العربية، بيروت 1983.

* الميلودي شغموم، "خميل المضاجع"، مطبعة فضالة 1977.

* سالم حميش، "زهرة الجاهلية"، دار الآداب، بيروت 2003.

* أحمد التوفيق، "غريبة الحسين"، مطبعة النجاح الجديدة، 2000، السيل، القبة الزرقاء، دار النشر المغربية، 2001.

(1) "المرأة والوردة"، ص. 73.

(2) "المرأة والوردة"، ص. 37.

(3) "المرأة والوردة"، ص. 61.

(4) "المرأة والوردة"، ص. 61.

(5) نفسه، ص. 78.

(6) "بدر زمانه"، ص. 45.

(7) نفسه، ص. 131.

(8) "بدر زمانه"، ص. 9.

(9) "خميل المضاجع"، ص. 41.

(10) نفسه، ص. 138.

(11) "خميل المضاجع"، ص. 50.

(12) نفسه، ص. 37.

(13) "زهرة الجاهلية"، ص. 89.

الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأحد 11-07-2010 10:37 أ£أ“أ‡أپ  الزوار: 4526    التعليقات: 0

العناوين المشابهة
الموضوع القسم الكاتب الردود اخر مشاركة
تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأربعاء 25-02-2015
لكل بداية دهشتها، محمد الداهي مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 19-01-2015
استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 24-11-2014
مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الثلاثاء 18-11-2014
من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأحد 09-11-2014