قضايا منهجية في"دينامية النص الروائي"د.محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=131
الكاتب: mdahi


 حرر في الثلاثاء 06-07-2010 09:50 أ£أ“أ‡أپ

ولهذا المؤلف(1) فتنة خاصة ، تتمثل في كونه صادرا عن ناقد صموت، ومنفتحا على متن ممتد على طول خمسة عقود لبيان ما يستسره ويختزنه من أسئلة وقضايا فكرية وبنائية .


يتكون المؤلف من أربع دراسات تطبيقية يتصدرها تقديم نظري ، ويعقبها تركيب عام. خصصت الدراسة الأولى للتكون النصي في الزاوية للتهامي الوزاني ، والمعلم العلي لعبد الكريم غلاب ، وانكبت الثانية على علاقة المرجعي بالاستطيقي في الغربة لعبدالله العروي ولعبة النسيان لمحمد برادة ، وتمحورت الثالثة حول اشتغال النص في رحم اللاشعور(المرأة والوردة لمحمد زفزاف وبدر زمانه لمبارك ربيع واشتباكات لأمين الخمليشي)، وحللت الرابعة التباس العلامات في الجنازة لأحمد المديني وأحلام بقرة لمحمد الهرادي والمباءة لمحمد عزالدين التازي.


سنسلط الضوء على القضايا المتعلقة بمنزلة الجنس في المتن الروائي ، وتصنيف الأعمال الإحدى عشر إلى أربعة محاور، والثوابت المنهجية المتحكمة في المؤلف برمته؛ وذلك حتى نستخلص ما يحفل به ، ونبين ما ترتب على المجهود الذي بذله صاحبه من نتائج هامة ومفيدة.


1- منزلة الجنس الحكائي:


ترتبط مسألة التجنيس بالتصور الذي نكونه على النص انطلاقا من بنياته ومكوناته الداخلية ، ومن مرتكزات نظرية محددة عبر العصور. وهي مهمة الناقد بامتياز؛ فهو الذي يحدد العلاقة بين الظواهر الاختبارية والمفاهيم، ويعطي لكل نص منزلته الملائمة انطلاقا من استراتيجية خطابية محددة: فإما يبين أن العلاقة بين النص الأدبي والنص النموذجي مبنية على التضعيف ، وإما أن تكون العلاقة مشيدة على قاعدة التحويل. ينتمي أحمد اليبوري إلى هذه الفئة الثانية من النقاد. وهو ما جعله يتبنى التجنيسية (la généricité) بوصفها وظيفة نصية ، ومؤشرا على وجود صيغ خطابية سردية متنوعة ، ومقولة إجرائية لإعادة النظر في التعيينات الجنسية (générique) المقترحة من طرف الكتاب . يند اليبوري عن الخارجية الجنسية (l’extériorité générique) معتبرا أن النموذج هو مجرد مادة من المواد التي يشتغل بها (2) . فالتعيين الجنسي المقترح من طرف أغلب الروائيين لم يجترفه بسحره وجاذبيته ووثوقيته ومناعته ، لأنه استند إلى التصور النقدي الذي ينطلق من الطابع الإجرائي للدينامية التجنيسية ، وتحصن بخبرة نقدية حصيفة جعلته يدقق النظر في المكونات البنائية الداخلية ، ثم يعيد تصنيفها في الخانة الجنسية التي تلائمها.


ترتبط الزاوية بالسيرة الذاتية التي تجد امتدادها في كثير من النصوص التراثية العربية ، وذلك على نحو المنقذ من الضلال للغزالي والتعريف لابن خلدون والفوائد الجمة لعبد الرحمن التنمارتي. وما يميز الزاوية عن الشكل السيرذاتي المتواضع عليه ، هو أن الأنا تندمج في المجتمع بدلا من أن تنشغل بالتفرد والتميز. تندرج رواية المعلم علي لعبد الكريم غلاب ضمن رواية التمرس والتكون ، وهي تنهل موادها التكوينية والتجنيسية من السيرة والسيرة الذاتية. بالإضافة إلى ارتباطها بهذين الجنسين ، فهي تتقاطع ظاهريا مع القصة القصيرة . " إذ من الممكن اعتبار كل مرحلة على حدة من حياة علي في المطحنة ودار الدبغ والخرازة داخل النص قصة قصيرة تقدم شريحة حياتية ذات إيقاع خاص يسودها انسحاق الفرد وغربته داخل الدوائر الاجتماعية المغلقة التي كان يعيش فيها" ص36. وقد أسهم المكون الإيديولوجي في إقامة تفاعل بين مختلف الأصوات واللغات والرؤى ، ولحم المكون القصصي داخل بناء روائي متراص. قبل أن تصبح رواية الغربة في الشكل المعرفة به الآن ، كانت قصة موسومة ب على هامش الأحداث (3). وعندما أعاد المركز الثقافي العربي نشرها مجتمعة مع رواية اليتيم سنة 1980 ، أصبحت مصنفة داخل الخانة الروائية . اعتبر اليبوري لعبة النسيان إبان نشرها سيرة ذاتية تسترجع وقائع صاحبها ، ثم تعامل معها بوصفها عملا متأرجحا بين السيرة الذاتية وبين الرواية ، ثم أصدر حكما نهائيا عليها مفاده أنها لاتختلف عن بقية الروايات الأخرى سواء أكانت محلية أم عالمية في اتخاذ التجربة الشخصية وُصلة إلى معاينة تضاريس الواقع المعيش ،واستمداد قوتها من اقتناص اللحظات الحرجة، والنفاذ إلى أعماق النفس البشرية. إن المكونات السيرذاتية - تلك التي تتعلق بحباة الكاتب والأشخاص والزمن والمكان- جعلت الرواية تنتقل من مستوى التاريخ إلى مستوى الإبداع الروائي. إذا كانت الرواية تقوم من جهة على خاصية عرض الشخصيات وأحداث متعددة ووجهات نظر متباينة ، ومن جهة ثانية على خاصية توفير حد أدنى من الفضاء النصي للتمكن من تصوير الملامح الجزئية والمواقف العامة ومحور الصراع على المستويين الداخلي والخارجي ؛ فإن رواية المرأة والوردة لا تتوفر على الخاصية الأولى لأنها ترتكز بصفة أساسية على نماذج بشرية في خططها وأفكارها ، ولاتتوفر على الخاصية الثانية لأن صغر حجمها جعلها أقرب إلى الرواية القصيرة.


يعتبر اليبوري العنوان الفرعي ل"اشتباكات" عنوانا خادعا لايحيل في الحقيقة إلى جنس أدبي بقدر ما يحدد نوعية البناء الحكائي. وانطلاقا من التحليل الماكرونصي استبعد اليبوري انتماء المؤلف إلى القصص بأسئلتها القطاعية ، وأثبت - بالمقابل - انتسابه إلى مستوى التعبير الروائي بأسئلته الشمولية عن مصير الذات والآخر. وتتحدد رواية الجنازة عند ملتقى السيرة (سيرة علي) والسيرة الذاتية للكاتب داخل السيرة والروائية . تنفتح أحلام بقرة على أجناس سردية صغرى مستمدة من الرواية الشطارية ورواية الخيال العلمي والكتابة العبثية . وما يمثل نقطة الارتكاز في تفاعل هذه النصوص السردية المتباينة ، هو الشكل الروائي الشطاري الذي طبع أحلام بقرة بميسمه الخاص.


لم ينازع اليبوري في التعيين الجنسي الذي يسم بدر زمانه ، و المباءة، وعين الفرس. تقوم رواية بدر زمانه على قاعدة الصنعة المحكمة، والتوتر، والتركيب، والانزياح عن قواعد الكتابة التقليدية بتشغيل محافل سردية متعددة في آن واحد. تنهض رواية المباءة على البعد الدائري الذي يعم المعار (الضريح ، ثم السجن ، ثم الضريح) ، وعلى الزمن الدائر حول نفسه معاقا كئيبا ، وعلى الشخصيات التي تعاني من مصير الاختطاف والاعتقال واليأس، وعلى الأمكنة التي تقترن مواصفاتها وسماتها بموضوعة الموت. لقد أضفى هذا البعد الدائري على العمل صبغة التماسك والتضام. وتتميز عين الفرس بوصفها متتاليات سردية تقوم على التفاعل والتنوع والحوارية ، وعلى التوتر بين مختلف المكونات السردية وبين أسئلة الكتابة التي تنبع من صلب المحتمل وصيرورة الحكي.


انطلاقا من جرد اليبوري لمختلف التعيينات الجنسية ، و استجلاب أعمال إلى الخانة الروائية ، واستدفاع عينة منها ، وتأكيد انتماء عينة أخرى إليها ، نخرج بتصوره للعمل الروائي. فهو يجب أن يتميز بالعناصر الجمالية التالية :


أ-كلية الموضوع : تتميز الرواية بأسئلتها الشمولية عن الذات والآخر والمصير. فهي تتسم بالقدرة على تناول واستيعاب القضايا الكبرى التي يحفل بها عصر ما ، واقتناص الحقيقة الاجتماعية بتمامها. تتناول الكلية بحثا عن قيم أصيلة متمثلة في سعادة منفلتة وتوازن عصي. ويرى جورج لوكاش أن هناك جنسا آخر ينافس الرواية في الشمولية ، وهو المسرح . لكن لكل جنس بنياته ومحتواياته الخاصة (4).


ب-التخييل : يتلطف الروائي في تمويه المألوف والمتداول ، وتوسيع دوائر التخييل ، وتنويع الأشكال ، واستيعاب التجارب الذاتية للتعبيرعن كلية الموضوع . فإذا اتسم التخييل بالتماسك ارتقى إلى العمل الروائي ( على نحو اشتاكات) ، أما إذا تخلله التقطع ، فهو ينتكص إلى مستوى القصة القصيرة (المعلم علي).


ج- الإطار الإيديولوجي : رغم تقطع البنيات الحكائية في المعلم علي، فإن العامل الإيدولوجي أسهم في تلاحمها وتماسكها. " ولم يتم تجاوز مستوى علاقة التفاعل إلا عن طريق المكون الإيديولوجي الذي ساعد على نقل الشخصيات من مستوى الانفعال إلى مستوى الفعل ، ومن ردود الفعل الذاتي إلى الوعي الجماعي ، ومن مناجاة الذات إلى محاورة الآخر ، ومن اجترار الأوهام إلى الدخول في حلبة الصراع وما يرافقه على مستوى الأصوات واللغات والرؤى . وهي كلها مكونات تساهم في نحول القصصي القصير إلى الروائي ، واصبح ما كان يعتبر بنيات سرية متجاورة بنيات روائية صغرى داخل النص الروائي الأصل" ص/ص 36/37. ومن خلال هذه القولة ، يتبين أن التصور الذي منحه اليبوري للإطار الإيدولوجي ، يحيل إلى مفهوم "الرؤية الجماعية للعالم" ( لوسيان كولدمان) الذي يختزل النص في نظام موحد من المدلولات ، ولا يكترث بالتشاكلات الدلالية المتنوعة وبحوارية الأصوات المتناقضة ( ميخائيل باختين ، كريماص ، بيير زيما).


د- التوتر: تكرر هذا المفهوم عدة مرات وفي تحاليل مختلفة: " وليس من الغريب ، عندما تقدم هذه اللغات جميعا متجاوزة ينعكس بعضها في مرايا البعض الآخر، أن يسود النص [ لعبة النسيان] إيقاع خاص ناتج عن التوترالذي يسود الأنساق والقيم التي تعبر عنها" ص 61 . " على مستوى البناء السردي تتسم هذه الرواية [ المرأة والوردة] بالعفوية و التوتر وغيرها من الخصائص التي تعطي للأحداث إيقاعا خاصا" ص7." سنحاول تحليل رواية بدر زمانه لا كخطاب تحليل نفسي ولا كخطاب تربوي... بل كنص روائي سنسعى لتفكيك بنياته والكشف عن أسرار الصنعة فيها ، مع إبراز عناصر التوتر التي تخترقه" ص81. " وهذا المزج الدقيق بين هذه العناصر الثلاثة يعطي للكتابة الروائية [عين الفرس] نكهة وإيقاعا خاصين كما يخلق أشكالا من التوتر بين مختلف مكوناتها السردية من جهة وبين أسئلة الكتابة التي تنبع من صلب المتخيل ومن صيرورة الحكي من جهة ثانية" ص109. نكتفي بهذه الأمثلة التي تبين لنا أن اليبوري وظف معجمية التوتر بمعناها الفزيولوجي :" كل قوة تعمل بطريقة ما على إبعاد الأجزاء المكونة لجسم نعين وفصلها" (5). ونستخلص منها مقومات الصراع والشدة والحدة والتفاعل . وهي كلها تدور في فلك الدينامية الذي يطبع بعض الأعمال الروائية التي تعتني بالمعمار الفني والانشطارية وتعدد المحافل السردية وتشعب مستويات الرمز والأسطورة والالتباس ( وخاصة على مستوى الزمن والشخوص والمكان وتوظيف السجلات التعبيرية واللغوية).


هـ التوازن : أشرنا فيما سبق إلى مقولة الكلية التي تفيد قدرة الجنس الروائي على رصد التحولات الاجتماعية والتاريخية بطريقة شاملة ، كما تفيد القدرة على تركيب الأجزاء والبنيات الصغرى في إطار عضوي متماسك. ولما نفحص تحاليل اليبوري نعاين معجميات التنيظم والتوازي والربط والانسجام . وهي كلها تسهم في توازن مكونات التص وبنياته .


2- تصنيف الأعمال:


قام اليبوري بتصنيف الروايات الإحدى عشرة إلى أربع فئات: التكون النصي، والمرجعي والاستيطيقي ، ولاشعور النص ، والتباس العلامات. وبما أن عملية التصنيف ارتكزت على ما يمتاز به كل عمل من مميزات بنائية ، فإننا سنحاول تبريزها حتى نستشف فرادة كل عمل في الخانة التي أدرج فيها، ونتوقف عند الجوانب المنهجية التي تحكمت في التصنيف.


2-1- يرتبط التكون في الزاوية ببداية تجنس العمل الروائي ، فهي تمثل المرحلة التأسيسية على مستوى النص والجنس في آن واحد ، وتتضمن أبعادا تاريخية وسيرية وسيرذاتية وبذورالكتابة الروائية. انطلق اليبوري في تحديد التكون من تلاقح الأجناس ( باخيتين) ، ومن الإطار العام للبنيوية التكوينية ليموضع الزاوية في عالم الكتابة ، وفي خضم التحولات السوسيوثقافية.


موضع اليبوري الزاوية في سيرورة من الإنتاجات التخييلية ( على نحو الجاسوسة السمراء ، وشقراء الريف ، وغادة أصيلا لعبد العزيز بنعبدالله ، ووزير غرناطة لعبدالهادي بوطالب) والمترجمة ( ترجم عبدالكبير الفاسي قصص الحمراء لواشنطن أورينغ ، وترجم قاسم الزهيري ذهب بسوس لرولان لوبيل) ، ومن الأجناس الأدبية ( الرحلة ، والقصة القصيرة التاريخية ، والروايات القصيرة التاريخية..). فكل هذه العناصر تضافرت فيما بينها للخروج من شرنقة المقالة واحتفار مداميك كتابة جديدة في طرائقها وبنياتها وأساليبها. ارتبطت الزاوية بتحولات اجتماعية وثقافية ، وبظهور و تشكل وعي إيديولوجي / استطيقي متأرجح بين قيم الماضي ومستلزمات الحاضر، ومتردد في مباشرة الحوار مع الغرب.


لقد ظهرت المعلم علي في بداية السبعينات . ويرتبط هذا العمل بتكون الجنس الأدبي من حيث تأرجحه بين السيرذاتي والقصصي وبين الروائي. وهكذا فهو يعتبر من الأعمال التي لم تحسم تناقضاتها الداخلية على نحو يمكنها من الارتقاء إلى المنزلة الروائية. وينتمي إلى رواية التمرس أو التكون، وما يتصل بها من تمرن وتمهن وتعلم.


2-2 - نستشف من المقطع الموجز الذي صدر به اليبوري محور "المرجعي والاستطيقي" أن التقنيات الجمالية الموظفة في روايتي الغربة و لعبة النسيان تسهم في دعم التشخيص المضاد الذي جعلهما يرفضان " استخدامهما كوساطة بين القارئ والحياة الواقعية" (6)، وأصبح المرجعي بمقتضاها مكونا من المكونات الضرورية والمنطقية للأدلة .


وظف عبدالله العروي في الغربة تقنيات متنوعة تشخص العمل ذاتيا ، وتموه المرجع المركزي (الغرب). ومن بين التقنيات التي تحفل بها الرواية نجد في مقدمتها الانشطار، والتنسيب على مستوى الأصوات السردية والتعدد اللغوي والجنس والزمن والفضاء.


ومن بين التقنيات الجمالية المستخلصة من رواية لعبة النسيان ، نعاين سجلات الكلام ، والتشخيص الأدبي للغات الاجتماعية ، والمحافل السردية ، ورمزية الأم بوصفها علامة إنسانية مشرقة ودافئة وسط عالم الأشياء والأشكال ، ولعبة العنوان ، و النسبية الملازمة للأفكار والمواقف.


2-3 - ركز اليبوري في المحور الثالث على بنيات اللاشعور. حلل في المرأة والوردة رمزية الشكل الهرمي ، وفسحة الحلم ، ومنزلة شخصية سوز داخل المجتمع . وبين في بدر زمانه ما تحفل به الأحلام من دلالات. يعتمد الحلم الأول على التكثيف الرمزي ، ويوظف الحلم الثاني النقل ، ويتمحور الحلم الثالث حول تصارع الشخوص من أجل اكتساب الموضوع القيمي (الأم) ، ويتداخل في الحلم الرابع (حلم اليقظة) رموز الصراع، وعناصر مستلهمة من المتخيل الديني والأسطوري. ويضطلع الحلم والصورة الشعرية في اشتباكات بتفجير الرغبات المكبوتة ، وتحيين الاستهامات ، والكشف عن تضاريس اللاشعور الخفية.


2-4-أدرج اليبوري أربعة أعمال روائية في محور "التباس العلامات". حدد في المقطع الذي صدر به هذا الفصل الإطار العبرلساني للعلامة الدينامية ، وأبرز الالتباس الذي تخلفه هذه الخاصية البنائية على مستوى الشخوص والأحداث والزمن والمكان . وهو ما نجم عنه بتوظيف السجلات التعبيرية ، وطرائق التنسيب والمفارقة ، وتشعب مستويات الرمز والأسطورة. تتميز الجنازة بتعدد مكوناتها وتشابكها، ولا يمكن أن يكون تحليلها ملائما إلا في إطار دينامية العلامات ممثلة خاصة في الكارثية والجنون، وفي إطار دينامية الأشكال التي تجلي تداخل السردي والشعري ، واندساس التراثي بينهما بوصفه محكيا ، وتنكب على ضبط التشابكات والتشعبات والتوترات والاختلافات والتشابهات. ويتسم هذا النوع من الكتابة بالعنف، وتعدد الأجناس واللغات والأصوات، والإحالة على "جنون الكتابة". وتعتبر روايات شغموم ذات طابع دينامي ، لأنها تنتعش وسط النسبية التي تعم الزمن والمكان والشخصيات والأحداث والأحكام. فمثل هذه الخصائص البنائية جعلتها تتوسم بالاضطراب والالتباس ، و" تعيش في فضاء الممكن والنسبي، وتنتعش بالسؤال والتحول وامتدادا تهما وتشعباتهما" ص15. وتتجلى دينامية العلامة في أحلام بقرة من خلال تقنيتي التحول والمفارقة. أما في المباءة ، فتتجلى من خلال رمزية الدائرة ، وشعرية السرد ، وتوظيف صور دينامية(السلطة/النشر) ، وكشف التقنية.


3- ثوابت التحليل :


يقوم التحليل على كثير من الثوابت نذكر منها على وجه الخصوص:


أ- المحايثة : يستنطق اليبوري النص دون إسقاط معطيات متعسفة وتأويلات بركستية عليه . فهو يصيخ إلى نبضاته ، ويسبر أغواره ، ويحلله بالأدوات الملائمة. وفي هذا الصدد يستبعد الكاتب/الإنسان ويحل محله النص الذي أنتجه.وبما أنه ينطلق من كون النص لا يحيل إلى معطيات خارجية ، فهو يحرص على تفكيك بنياته الداخلية ، ومكوناته السردية والبلاغية والشعرية.


ب- المهيمينة : يستند كل تحليل على مهيمنة مركزية . فبعد إبرازها وتفكيكها ، تدرس بإمعان لأنها تسعف على بيان خصوصية العمل وفردته ، وقدرته على مضاهاة أعمال مماثلة . ويتوقف التحليل على ما يتميز به كل عمل من خصوصية.


ج-الإضاءة : قارن اليبوري بين الزاوية و بين نصوص قديمة ( المنقذ من الضلال ، والفوائد الجمة ، والتعريف) لبيان أن جنس السيرة الذاتية متجذر في التراث العربي . ووازن بين الغربة و نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم لإبراز أن العمل الأول غير متكلف في اهتمامه وعنايته بالمعمار والسرد والصيغ والشخوص كما هو الشأن في العمل الثاني. وقارن بين أحلام بقرة ونصوص روائية ومسرحية ؛ وتأتي في مقدمتها رواية التحول لكافكا ومسرحيتي الكراسي ووحيد القرن ليونسكو ومسرحيات بكيت لاستخلاص ما بعض القواسم المشتركة المتمثلة في تشخيص روح العصر وما يستتبعه من قلق وعبث ولا جدوى . وقارن بين بدر زمانه وبين الأعمال الروائية الأخرى لمبارك ربيع لاستخلاص خضوع العمل الأول إلى قواعد التحليل النفسي وإحالة الأعمال الثانية إلى مرجعها بوضوح. وحدد منزلة المعلم علي ضمن رواية التمرس والتكون نظرا لارتكازها على العمل والتأمل . إن إضاءة النص بصنوه المحلي والعربي والعالمي لاتهدف في نظر الناقد والباحث اليبوري إلى بيان لعبة التأثر والـتأثير في إطار الأدب المقارن بقدر ما تسعى إلى إثارة الانتباه إلى مسألة التكون النصي ، وإظهار ما يجمع نصا بنص آخر يتقاسم معه جملة من السمات.


د- تفاعل الماكرونصي والميكرونصي:


يتأرجح التحليل بين المستوى الماكرونصي وبين المستوى الميكرونصي. وهذا ما جعل اليبوري ينظر إلى النص بوصفه بنية شاملة متراصة الأطراف ، وباعتباره أجزاء ومقاطع دالة تكون المعمارية النصية. ويعلل اعتماده على التحليلين في القولة التالية . "حاولنا في هذا البحث إعطاء صورة جزئية وأولية عن الرواية المغربية من خلال تحليل نماذج منها على المستوى الميكرونصي والماكرونصي عبر بنياتها السردية العميقة وبنياتها الخطابية السطحية إلى إبراز مختلف العناصر البنائية التي تساهم في تحديد ديناميتها" ص5. يستقطب المستوى الماكرونصي كل القضايا المتعلقة بالموضوعات والمعمار الفني والبناء الخطابي ( المعمار العام للنص ، النصوص المتداخلة، المحكي الإطار، الاستعارة السردية ، الدوائر المتداخلة، الأطروحة المركزية، الانشطارية، الإطار العام، الإطار الإيديولوجي ، رمزية الفضاءات والشخوص والزمن، الموضوعات الأساسية) ، ويستجلب المستوى الميكرونصي كل القضايا المتعلقة بتشذير وتقطيع النص إلى أجزاء ومقاطع وفصول( الصور النووية، المحكيات الصغرى والمؤطرة ، الوحدات المعجمية الدالة، كشف التقنية، الدائرة الصغرى، العنوان، العتبات والتصديرات والاستهلالات).


4-الطابع الإجرائي للدينامية:


شغل اليبوري الدينامية بوصفها سيرورة تاريخية philogenetic ، وهو ما جعله يترصد تطور الرواية المغربية من بدايتها الخجولة إلى مرحلة الاختمار والنضج. وبما أنه يتبنى التحليل المحايث ، فقد تعامل مع المتن في تزامنيته حتى يدرك ما يتميز به من خصوصية وفرادة. ويلجأ في أحايين كثيرة إلى الربط بين مكونات المتن ، وبينها وبين مكونات مماثلة له خارجه؛ وذلك بغية التوقف عند الثوابت والمتغيرات ، واستخلاص مقومات الدينامية ، واستجلاء مختلف العناصر التي تسهم في أجرأتها على قاعدة التجاوز والتفاعل والتعصب والتوتر.


وإذا كان محمد مفتاح قد حدد مقولة الدينامية في سياقاتها التاريخية والابستمولوجية والعلمية التي ولدت فيها وصارت تنتمي إليها؛ وذلك انطلاقا من نظريات محددة ( السيميائية ، والكارثية، والشكل الهندسي، والحرمان، والذكاء الاصطناعي، والتواصل والعمل) (7)، فإن أحمد اليبوري استوحاها من تصور جورج ماي. فرغم تأكيد هذا الأخير قدرة سيميائية باريس على إنجاز لغة واصفة ومتماسكة ومعقلنة ، فهو يؤاخذ عليها أنها ظلت مجرد دراسة سكونية للأدلة. ومن خلال التحليل الذي أنجزه على Sylvie لجيرار دي نرفال و التحويل لميشيل بوتور، تتضح الأهمية التي أعطاها لهذه العناصر الثلاثة : تداخل الأصعدة ، والتشعب ، والكارثية. سنحاول بيان كيف شغلت هذه العناصر في دينامية النص الروائي.


أ- تداخل الأصعدة : يركز اليبوري على مهيمنة مركزية ، ثم يربطها بطريقة جدلية مع أصعدة ومستويات أخرى . وبما أنه تعامل مع المستويات البارزة ، فإن ذلك اقتضي منه تقاطع مناهج عديدة والانفتاح على آليات التأويل المناسبة . إن تحليلا من هذا القبيل يتسم بالثخونة لكونه مكونا من مستويات متعددة ، وبالحركية لارتكاز عناصره على التوازن والتوتر والتوزيع والهدم والبناء والتفاعل. فاليبوري لم يتعامل مع المتن على أنه فضاء منضدد تتخلله المسالك ، وإنما "بوصفه فضاء للتوتر حيث تحدث الانحرافات والاتصالات والعراقيل والتطفلات التي تخاطر- من مستوى إلى آخر- بإحداث اللاستقرار التام ، مع احتمال إحداث بعد ذلك تنضيدات وتموضعات محلية جديدة"(8).


ب - التشعبات : تمثل هذه التشعبات الدينامية الداخلية للنص ، وتتجلى أساسا في الاتصالات والانقطاعات وسرعة العمليات والتشوهات والاستئصالات. وبدلا من أن تحدث في ماهية المحتوى الحكائي وشكله ظاهرة التضعيف ، تزحزجه بموجة التسويات. إن البحر بأكمله يتغير بسبب حجرة(9). يهتم التحليل بسلسلة من التغيرات والتبدلات التي تحدث في مستوى من المستويات ، وتؤثر فيه . وهي بمثابة الإيقاع الداخلي الذي يمنح النص سيولة وسرعة خاصتين. ولا تعني التشعبات " القضاء المطلق على النواة (أو مركز الجذب) التي وقع البناء بسببها وعليها ، وإنما يعني التفرع والتنوع والتفرش (شكل الفراشة) ، وهذا يتلاءم مع طبيعة الأشياء إذ لا تحصل كارثة مطلقة إلا في حالات نادرة"(10). اشتغل اليبوري على التشعب ، فبين أن انشطار السرد في الغربة وبدر زمانه ينهض على الرؤية والتصور نفسه ، وحلل العلاقة الاستعارية الموجودة بين موضوعات المحكيات المتداخلة ، وأبرز حفول الروايات المغربية برموز وصور ممتوحة من المتخيل الشعبي والقدسي. ورغم ما تتسم به بعض هذه الروايات من تصدعات وتشعبات وكوراث بسبب انجذابها وراء هاجس التجريب ، يوجد مركز جذب يؤمن الاستقرار، ويوحد العناصر المتنافرة لخدمة قضية موحدة.


ج- الكوارث : يرجع هذا المفهوم إلى طوم الذي استلهمه من طروح زيمان ، وهو ذو اصل فيزيائي. وبمجرد دخوله إلى الحقل الأدبي أصبحت له منزلة خاصة تفيد كل شيء مبني على قوانين مضبوطة ومتطورة في شكل متسلسل وسببي لا تتسرب إليه المصادفات والطفرات. تسهم الكوارث في نمو النص وتناسله وتشعب عناصره ، وتعيد موضعة الصور، وتدعم التوالي الضروري للأحداث والمستويات على أساس النفي الحرماني. فرغم أن دينامية الأشكال في الجنازة تولد عنها تداخل السردي بالشعري ، واندساس التراثي بينهما كحكي داخل حكي ، فإن السياسة تمثل الموضوعة الرئيسية لنقد الرئاسة وفضح الواقع . يعمل المستوى الشعري في الرواية نفسها على إثارة التصدعات والتشعبات ، وخلق فضاء متأرحج بين النظام والفوضى. وتسهم الصور النووية والتشكلات المتولدة على فرز أصناف التنويع والاختراق والتجاوز. ورغم كل ذلك يوجد مركز جذب يوطد بنيان الرواية ، وهو المتمثل في الحديث عن الجائرين المفسدين ونهاية سلالتهم . وهي موضوعة متشعبة عن العنوان ، وتصاحب القارئ من بداية الرواية إلى نهايتها.


5-دينامية الأدلة والصور:


في الختام سأبدي ثلاث ملاحظات متعلقة بدينامية الأدلة والصور. أولاها متعلقة بكتاب أحمد اليبوري ، وثانيتها وثالثتها منصبة على مبحث جورج ماري.


أ-تخضع لعبة الصور إلى موجات وقوى ترغمها على التنوع والتغير المتتاليين ، وتشحنها بإيحاءات رمزية كثيفة وثخنة. لا تهم التشوشات والانقطاعات والاتصالات والتشعبات والكوارث والتنقلات إلا بالقدر الذي تتقاطع فيه مع القصة المحكية ، وتحيل إلى الممارسة praxis عوض الجمالية. ورغم ما حققته الرواية المغربية من تطورات وتراكمات ، فهي مازالت في مجملها تفتقر إلى إلى الغنى الصوري richesse figurative . وهذا راجع إلى اعتنائها بالتحديث المعماري ، وتجريبها لتقنيات مختلفة. هناك روايات - بهذا الشكل أوذلك- تلامس الغنى الصوري على النحو الذي بينه اليبوري في الجنازة و المباءة والغربة. وهناك رواية لم يشملها التحليل تتأنق في هذا الجانب ، ويهيمن الهاجس الجمالي عليها ، ونخص بالذكر اليتيم لعبدالله العروي. ويحوي المتن رواية لعبة النسيان التي تحتفي بالهاجس الجمالي لغة ووصفا وسردا ، لكن اليبوري لم يفصل ويبرز مكامن وتجليات دينامية الصور فيها.


ب- ظل مبحث جورج ماري محصورا في جانب واحد من مستويات الدلالة ، وهو المتعلق بدينامية الصور. ولم يرق إلى مستويات أخرى لملامسة الجانب الموضوعاتي الذي يرتبط بالعالم الطبيعي الموسوم بطبيعة مفاهيمية خاصة. وإن حلل العلاقة الجدلية والاستبدالية للصور وإيحاءاتها الرمزية ، لم يتعمق في توزيعها السيميائي لبيان علاقة الأدوار الموضوعاتية والصور بالأشكال الموضوعاتية والسردية formes thématico-narratives (11).


ج-رغم صرامة المنهج السيميائي لكريماص وتماسك عناصره ومستوياته ، فإنه يطرح مشاكل معرفية كبيرة لايتسع المجال لحصرها. وهي تهم بالخصوص تحويل (conversion) مستوى إلى آخر، وإدماج عناصر أو مستويات جديدة في المسار التوليدي . وتتضاعف هذه المشاكل لما يتعلق الأمر بسيميائية مدمجة sémiotique intégrée أو بمباحث تسعى إلى المغايرة. لم يبرر جورج ماري موقع تصوره الدينامي داخل المسار التوليدي ، ولم يبين كيف تتعالق صوره مع مستوياته المورقة feuilletés .


خاتمة :


يبرز مؤلف أحمد اليبوري مدى تأزم مدرسة باريس في إضفاء الحركية على الظاهرة النصية وتجديد مفاهيمها لمواكبة المستحدتاث المعرفية والمنهجية . ولهذا وجد ضالته في السيميائية الدينامية التي تنصب على التفاعلات وموجات التشويش والكوارث التي تحدث داخل النص ، وينجم عنها تجاوز الصيغ والأشكال الجاهزة. وينتعش مفهوم الدينامية على النحو الذي وظفه أحمد اليبوري داخل تعددية منهجية فرضتها خصوصية النص وطبيعته المعقدة. وهكذا تقاطعت في مؤلفه المناهج التالية : سيميائية مدرسة باريس ، والسيميائية الدينامية ، وسوسيو نقد ، والتحليل النصي ونظرية التلقي والتحليل النفسي النصي ( أو ما يسمى بلا شعور النص). وتتفاعل هذه المناهج في إطار "تكامل معرفي" للنظر إلى النص من زوايا متعددة ، وللتخلص من استبدادية الدال signifiant despotique.


ويسهم هذا المؤلف إلى جانب الأبحاث الجامعية والترجمات والدراسات النقدية في التعريف بالاتجاهات النقدية. ورغم المجهودات المبذولة يظل السؤالان التاليان مقلقين:


أ- إن النقد المغربي على وجه الخصوص يستند إلى تصورات نقدية مستخلصة من نماذج عالمية نضجت بعد تجربة ومخاض طويلين. أتليق مثلا بتحليل روايات توجد في أطراف " المركز الروائي الحقيقي"؟(بتعبير عبدالله العروي).


ب-ألا نلاحظ أن النقد المغربي يتوفر على تصورات حداثية متقدمة في حين لازالت الرواية المغربية مشدودة إلى التجريب ولم تحقق بعد التراكمات المطلوبة؟


*********


الهوامش:


1-أحمد اليبوري ، دينامية النص الروائي، منشورات إتحاد كتاب المغرب، 1993.


2-Jean Marie Schaeffer , « Du texte au genre » in Théorie des genres, Seuil, 1976,


p186.


3- مازال الأستاذ عبدالله العروي يتساءل عما هو الشيء الروائي في مجتمعنا الذي هو دون وعي جماعي ، والذي يلائمه الفن القصصي . فما يسمى رواية في العالم العربي هو في نظره مجرد مجموعة من القصص. فهذا الوعي بسوسيولوجية الشكل التعبيري يجعل عبدالله العروي يدقق النظر في التعيين الجنسي لإنتاجلاته التخييلية


-4 G.Lukacs , Solejenistyne , Gallimard , 1970,pp1/15.


5-Petit Robert ,p 1764.


6-J.P.Goldenstein , Pour lire le roman , Duclot, 6éme édition ,1975 ,18.


7-محمد مفتاح ، دينامية النص ، المركز الثقافي العربي ، ط1 ، 1987.


8-G.Mary , « Des figures aux structures un passage mal frayé », in Poétique ,n°51,1982,


p261.


9-Ibid ,p263.


10-محمد مفتاح ، دينامية النص ، م.سا ص14.


11-أنظر في هذا الصدد :


J.Courtés , Le conte populaire : poétique et mythologie , PUF, 1986.-


Sémantique de l’énoncé : applications pratiques , Hachette ,1989 J.Courtés,-


 


           


 


 


 


 


 


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009