حرر في الأحد 01-08-2010 06:24 أ£أ“أ‡أپ
السؤال الأول: ما الإبداع؟ جواب: الإبداع، عموما، هو الخلق والابتكار وإحكام الصنعة. والمبدع هو الصانع(Fabriquant) الذي يحرص على إتقان عمله ليكون في مستوى الانتظارات والتوقعات المنشودة. أضحت كلمة " إبداع" ، من كثرة تردادها في سياقات ومواقع مختلفة، مقترنة بالحذق والمهارة والإتقان. ولا يخرج الإبداع الفني عن هذه القاعدة بدعوى أن الفنان أو الأديب مضطر دوما إلى تحسين أدائه الفني حتى يستجيب لانتظارات متلقيه المفترضين، ويرضي أذواقهم ويمتعهم. اعتاد النقاد التمييز بيبن منحييْ الاتباع أوالثبات والإبداع أوالتحول. ينزع أصحاب المنحى الأول إلى تقليد من سبقهم والضرب على منوالهم مؤمنين بالحكمة التي تقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان. في حين يخرج المبدع، في المنحى الثاني، عن المسكوك والمتداول والمعياري لينخرط في تجربة مغايرة سعيا إلى مفاجأة متلقيه بأشياء جديدة ومبتكرة لم يتعودوا عليها من قبل. أدرجت هذه الثائية القديمة/ الجديدة، التي تكتسي مع مر الزمن نعوتا ومسميات جديدة، لأبين أن الإبداع الفني الأصيل ليس تمردا على القوالب الجامدة والمُتكلِّسة، وإنما هو استمرارية في الزمن للربط بين ما طرف وتلد، ومواكبة المتحول والمتغير والحركي، واختراق آفاق جديدة في أفق صيانة المكاسب وتطويرها وتحديثها، والاستجابة لحاجات الإنسان المتجددة والمتغيرة بالنظر إلى تطور الزمن وتبدل الأحوال. السؤال الثاني: ما علاقة الإبداع بالمجتمع؟ الجواب: لا يمكن أن نربط ربطا ميكانكيا بين الإبداع والمجتمع. فلإبداع طاقة كامنة تسعفه على التوهج والتوقد مهما كانت طبيعة المجتمع ومكانته. فهو، على نحو مستقل عن الواقع، يعكس حركية الناس وتطلعاتهم وأهواءهم. وما يسترعي الانتباه في العقود الأخيرة أن كثيرا من المجتمعات، بحكم وعيها بالأهمية الإستراتجية للفن في المجتمع، أصبحت تولي أهمية كبيرة لمختلف روافد فنونها وإبداعاتها (وخاصة الموسيقي والتشكيل والمسرح ) لكونها تُجلِّي ملامح الأصالة والخصوصية في تفاعلها مع ما يقع على المستوى الكوني، وتستقطب أفواجا جديدة من الزوار والسياح الذين يسهمون في الرواج الاقتصادي والمالي. إن المبدع الأصيل هو من يخلق مسافة نقدية مع الوعي القائم، ويتفادى استنساخ ما يجري في الواقع المبتذل، ويحرص على مسايرة إيقاع المجتمع ونغماته الهاربة، واستجلاء عوائقه وكبواته، وتعرُّف مطامحه وتطلعاته، وتشخيص عقده. فكل شعب له عقده. "فبروست عظيم لأنه ظل وفيا للعقدة التي مافتئ الكتاب الفرنسيون يحومون حولها، كما أن دوستويفسكي عظيم لكونه عمق العبارة عن العقدة التقليدية الروسية ونوعها" ( انظر حوارنا : عبد الله العروي من التاريخ إلى الحب ص 84-85). حاولت بعض الأعمال الفنية العربية ( فيلم " المومياء" للمخرج شادي عبد السلام، و" أديب " لطه حسين، و" قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، " وموسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح") أن تلامس العقدة العربية من مستويات وجوانب متعددة. ويمكن أن نضيف إليها رواية "الفريق" لعبد الله العروي التي شخصت عقدة "الإخفاق الفردي والجماعي" ، وبينت العوامل الاجتماعية والنفسية التي تحول دون نضج المشروعات الجماعية واقتناع الفاعلين بأهمية تنسيق مصالحهم بغية تحقيق غايات مشتركة. من الأمور التي تضيع على النقد فرص البحث في العلاقة التي تربط بين الإبداع والمجتمع هو المغالاة في استقصاء المضامين أو تجريب التقنيات. إن الأمر يستدعي خلق توازن أفضل بين الخارجي والداخلي في أية مقاربة نقدية، والقدرة على الجمع بين الحُسنيْن ( الشكل والمضمون) لإبراز كيف يسعف الفن ،عموما، على فهم ذواتنا والآخرين والعالم، وعلى ضمان التوسع الداخلي لتجاربنا وو جودنا. لا بد أن نولي للفن القيمة المستحقة سواء في الإعلام أو البرامج الدراسية وذلك لأنه يؤدي وظيفة كبيرة تتمثل في تغيير سلوكاتنا والتأثير في أوعائنا . وبالمقابل، ينبغي أن نحفز الناشئة على التعاطي للفن وتداوله وتحليله لما له من أهمية في تطوير ملكاتهم وأذواقهم وصقل مواهبهم، وامتلاك القدرة على التواصل مع غيرهم، واستيعاب الحوار العظيم بين البشر. السؤال الثالث: هل نحن أمة تفتقر إلى الخيال؟ وهل صحيح أن المغاربة يميلون أكثر إلى الفكر والنقد؟ الجواب: إن المتأمل في الحقل الإبداعي المغربي يلاحظ أن أعمالا معينة تلبي حاجاتهم وتستجيب لتوقعاتهم وتؤنسهم في خلواتهم. وهذا المعطى يحتاج إلى دراسات ميدانية للتأكد من صحته واستخلاص العبر والنتائج اللازمة. ما هي الأسباب التي ما فتئت تحفز القراء على قراءة " الخبز الحافي" لمحمد شكري؟ ولماذا ترتفع نسبة المشاهدة في تتبع بعض الأفلام أو المسلسلات المتلفزة على نحو "حديدان" و" رمان وبرطال"؟ ما علة إقبال الشباب المغربي على قراءة واستنساخ رواية " Amandeَ" المنشورة عام 2004 باسم مستعار لمؤلفتها" نجمة"؟ ولم نفدت الطبعة المترجمة من رواية " شفرة دافنشي" للكاتب الأمريكي دان براون ؟ ولماذا يقبل القراء ، من مختلف الشرائح والأعمار والمستويات التعليمية، على تحميلها من الانترنيت بغية قراءتها؟ على أي هناك عوامل كثيرة تحفز المغاربة على اقتناء نوع أو صنف من الكتب والحرص على اقتنائها وتداولها في أحاديثهم. وبالمقابل، هناك كتب لا تجد طريقها إلى قلوبهم رغم قيمتها التخييلة والإبداعية. ولا تستقطب ، في الغالب، إلا قراء يعدون على رؤوس الأصابع. وبالجملة حقق الإبداع المغربي تراكمات هامة، وأصبح يشغل مكانة متميزة في المشهد الثقافي العربي. والإبداع الأصيل ليس مرهونا بالآن-هنا وإنما بما سيأتي. وكثير من الإعمال لم ينتبه النقاد إلى قيمتها الفنية إلا بعد مضي أعوام إن لم نقل قرونا. ورغم ما يقدمه الإبداع المغربي من اجتهادات منتظمة ( خاصة في مجال الرواية والحكاية الشعبية ) فإن صداه لا يتعدى نطاقا محدودا. وهذا ما يقتضي التفكير في صيغ وتدابير عملية للتعريف بالأعمال المتميزة، وضمان تسويقها على نطاق واسع. السؤال الرابع: لماذا أصبح الإبداع في حالة شرود؟ الجواب: الأعمال التي تقصد بكونها شاردة هي التي تكون غير ناضجة أو خلوا من المتعة الفنية. أما الأعمال الجيدة فتجد مكانها في أفئدة القراء.لقد استأثرت أعمال بعينها باهتمام النقاد والقراء على حد سواء لما تتوفر عليه من جرأة في مساءلة الواقع وإعادة تشخيصه، ولما تتسم به من سمات فنية متميزة. وما يغيظني أحيانا هو أنني عندما أكون في مكتبة أو خزانة ويأتي باحث قاطعا مسافة طويلة بحثا عن رواية أو ديوان مغربي نفدت طبعته فلا يجده ثم يعود خاوي الوفاض. وهذا ما يستدعي توفير كل الأعمال الإبداعية في الخزانات المعتمدة والمكتبة الوطنية حرصا على تقديم خدمات ثقافية منتظمة للباحثين والقراء على مر الأزمنة، وحفاظا على الذاكرة الثقافية المغربية وصونها من الضياع والإتلاف السؤال الخامس: ماذا يمكن للمبدع أن يقوم به في مجتمع مثل المجتمع المغربي؟ إن ما يتلقاه الناس بكلف وشغف من إبداع يعتبر عنصرا أساسيا في حياتهم، ويعمل ، أسوة بالمدرسة والتلفاز، على تغيير سلوكاتهم ويؤثر في وجدانهم واختياراتهم. وهذا ما يدل على أن رسالة المبدع لا تقل أهمية عن رسالة المربي والمصلح والسياسي. بل أكثر من ذلك هي أكثر وقعا في نفوس الناس وأفئدتهم بحكم أنها لا تراهن على الآني والنفعي والعابر وإنما تستهدف كل ما هو دائم ومفيد وأصيل في الحياة البشرية، وتنمي في متخيل البشر كل ما يسعفهم على تهذيب نفوسهم والرقي بأذواقهم وتربيتهم على القيم النبيلة والسمحة. وفي السياق نفسه يؤدي الفن ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، دورا هاما في حفز الناس على التواصل والتحاور فيما بينهم، وتوسيع تجاربهم ومداركهم ليؤدوا مهماتهم في المجتمع على الوجه المطلوب. وفي هذا السياق وجب التنويه بدور بعض الجمعيات الثقافية والتربوية وجهودها لتربية الناشئة على الفن وتعويدهم على الرسم والكتابة والغرس، أي التعود على كل ما ينمي في نفوسهم حب الجمال بمختلف مظاهرة وتجلياته. ويمكن لهذه التظاهرات، رغم طابعها الموسمي، أن تؤثر في الناس وتفعل في أفئدتهم ووجدانهم أكثر مما يتعلمونه في المدرسة أو يتلقونه يوميا من التلفاز والأنترنيت. السؤال السادس: ماذا عن الأجناس الأدبية التالية: الرواية.. الشعر..القصة القصيرة؟ هل حققت دورها داخل المجتمع المغربي؟ الجواب: من الأمور الإيجابية في العقود الأخيرة تكون مجموعات تعنى بأجناس أدبية معينة. وهو ما أسهم في توحيد جهود مبدعين في مجال اختصاصهم واهتمامهم، وأعطى دينامية خاصة فيما يخص النشر والترجمة والإشعاع والتنقيب عن مواهب جديدة. وفي هذا السياق أذكر تجربة "مجموعة البحث في القصة بالمغرب" التي استطاعت، بفضل جهود المنتمين إليها وتضحيات عميد القصة القصيرة أحمد بوزفور وتوجيهاته النيرة، أن تعيد الاعتبار إلى هذا الجنس، وتبوئه المكانة المستحقة في المشهد الثقافي المغربي، وتسهم في طبع مجاميع قصصية رغم الإمكانات المتواضعة. وفي السياق نفسه، أذكر أيضا تجربة " بيت الشعر في المغرب" التي أعطت دينامية جديدة للشعر بتنظيم تظاهرات منتظمة، والاحتفاء بيوم الشعر سنويا، وطبع الدواوين، ومنح جائزة "أركانة" لشاعر عربي متميز. أقتصرعلى هذين المثالين لأشير إلى ما يبذله المثقف المغربي من جهود مضنية لتأصيل أجناس أدبية، والحفاظ على دورها في إشاعة القيم الجمالية النبيلة. ورغم هذه التضحيات الجسام فإن تأثير الرسالة الثقافية مازال محدودا بالنظر إلى مشاكل المقروئية والنشر والتوزيع، وعدم انخراط المجتمع في سياسة الولوج إلى الثقافة حتى لا تظل المعرفة حكرا على فئات معينة ومظهرا من مظاهر التميز والأبهة. وبما أن تأثير الرسالة الثقافية مازال محصورا في أوساط محدودة جدا، فهو لا يمس الجماهير العريضة بهدف تغيير سلوكاتها وتعويدها على عادات جديدة ( التعود على القراءة وحضور اللقاءات الثقافية والذهاب إلى المسرح والسينما). وهذا ما يترك هامشا واسعا لتحرك الجماعات المتطرفة قصد إشاعة أساليب العنف والكراهية والإقصاء في أوساط الشباب. السؤال السابع: وماذا عن قارئ الإبداع في المغرب؟ وأي دور تلعبه اليوم وسائل الاتصال الحديث؟ هناك رغبة لدى الشباب في التكوين والتعلم. لكن هذه الرغبة لا تصاحبها إجراءات ومتابعات عملية. تتوارد على المدارس كثير من المذكرات التي تلح على تكوين أندية للشعر والمسرح والرواية والسينما. لكن عدد هذه الأندية قليل وفاعليتها محدودة جدا بالنظر إلى الغايات المتوخاة منها لتأطير المتعلمين وتربيتهم على القيم الجمالية وحفزهم على القراءة والمناقشة والنقد. ويمكن أن أقول الملاحظة نفسها عن تعاطي الشباب للانترنيت، فهو يبحر في عوالمه وطرقه السيارة دون تمكينه من المناعة الثقافية اللازمة، وتحسين أدائه التقني، وتوجيهه إلى المواقع التي يمكن أن تنمي قدراته التواصلية والثقافية. فهو، علاوة على قلة تجربته وضعف مناعته، لا يستغل إلا حيزا ضئيلا في الحاسوب، ولا يستثمره جيدا لتطوير مؤهلاته وصقل مواهبه. وفي هذا السياق ينبغي للإعلام والمدرسة أن ينخرطا في استراتجيات ثقافية وتربوية جديدة ويعتمدا على وسائل متطورة لنشر المعرفة على نطاق واسع، وحفز الشباب على القراءة الجادة وإثارة مناقشات بناءة. ومما يعاب على قناة الرابعة أنها- علاوة على تكريس العامية المغربية - تتبنى الفضاء المدرسي التقليدي بذريعة الدعم والتقوية عوض أن تنخرض في استراتجية لنشر المعرفة وتعميمها بوسائل بيداغوجية متطورة تجمع بين الوظيفتين اللعبية(ludique) والمعرفية(cognitive)، وتسهم في إمتاع المتلقي وتكوينه والارتقاء بذوقه وسلوكه ، وتراهن على تكوين مواطن مؤهل للإسهام في تنمية مجتمعه وتقدمه.
|