حرر في السبت 25-12-2010 10:13 أ•أˆأ‡أچأ‡
... وكانت مفارقـة جميلة أن يستقبل مسرح أوديون هذا التكريم المتـميـز للكاتب المنشــقّ الذي قوبلتْ مسرحيته " الســواتــر " سنة 1966 ، في نفس المسرح باحتجاجات عاصفة نظمها اليمين الفرنسي الذي اعتــبـر المسرحية انتقادا لتجربة الاستعمار الفرنسي في الجزائــر ! الآن ، وبعد مرور 25 سنة على وفاة جونيه ، ها هي اللقاءات والندوات والقراءات تمتــدّ طوال السنة تقديرا لإنتاج شاعر وكاتبٍ تـرك بصمات عميقة على صفحات الأدب الفرنسي المعاصـر، بل في سجــلّ الأدب العالمي . ما الذي يستوقف القارئ في كتابات ومواقف جونيه ؟ هناك ، أولا ، مسار حياته المليء بالألم والعنف والتهميش . فهو لقيط لم يعرف أبويه وأحس باليتم والوحدة منذ الطفولة ، ومارس السرقة في سن مبكرة ، وارتاد السجن والإصلاحيات التربوية ، واكتشف مثـليـتـَـه الجنسية فتحملها بشجاعة،واهتم بالقراءة وتطلع إلى الكتابة في سـن السادسة عشر حين تـبــيـّـن أنه لن يستطيع تغـيـيـر العالم على حــدّ قوله . لكن حياة الهامش ما كانت لتـؤتيَ أكــلـها لولا أن جونيه كان يتوفــر على ذكاء خارق ، وحساسية رقيقة وموهبة أدبية فائقة . أدرك منذ البدء أن إسماع صوته عبر الكتابة يقتضي أن يتقــن اللغة ويتفوّق في استعمالها لكي يضــطـر خصومه ، أي مجتمع المؤسسات ، إلى قراءة ما يكتبه . ومن ثـمّ حفظ قصائد عديدة لرامبو ومالارميه وكلوديل ونرفال ، وتزود بروائع الرواية ، وطاف تائها بوهيميا عبر أقطار أوروبا . ومن داخل السجن ، في أربعينات القرن الماضي ، كتب نصوصه اللافتة : " المحكوم بالإعدام "، " نوتردام دي فلور" ، "موكب الدّفــن " ؛ فلفـَت نــظر كبار الكتاب آنذاك وفي طليعتهم جان كوكتو وسارتــر اللذان عملا على إخراجه من السجن . غير أن جونيه لم يـُـغـره النجاح ، ولم ينجذب إلى الأجواء المخمـليـة ، وإنما ظل متعلــقا بالرؤية التي بلــوَرها وهو يواجه الوحدة وظلم المجتمع . لم يقبل أن يندمج في مناخ الحلقات الأدبية ولم يستسلم إلى لألاء الشهرة وإغراء المال . أصــرّ على أن يتابع حياته على الهامش وأن يواصل الكتابة ضد مجتمعه ، فرنسا ، التي يكرهها ، بل وضد العالم المصــاب باختلالات ظالمة . منذ البدء ، أعلن انشقاقه وقطيعته مع القيـم السائدة المتـحـدّرة من الديانة المسيحية ، يقول في هذا الصدد : " ..أدبكم وفنونكم الجميلة، وتسلياتكم بعد العشاء ، كل ذلك يحتفل بالجريمة . إن موهبة شعرائكم قد مجدت المجرم الذي تكرهــونه في الحياة . اسمحوا لنــا بدورنا أن نحتــقـر شعراءكم وفنانيكم " . ولم يكن هذا الانشقاق يقوم على الزعم بالقدرة على تقديم البديل ، وإنما كان موقف رفض جذري لا ينطوي على أوهام ، إذ يقول : ليس لي صورة عن مجتمع أعارض به مجتمعكم ، فهذه مسألة لا تهمني ..." . ويضيف في مكان آخــر : " أتمنى ألا يتغـير العالم لكي أسمح لنفسي بأن أكون ضــدّه " . هذه الجذرية في رفض أوهام العالم ورفض تصريحات النوايا الإيديولوجية ، هي التي ستوجهـّــه في تحديد موقفه من الكتابة والسياسة . لقد أدرك أن الكتابة لا يمكن أن تغــيـر العالم ، ولكنها تصبح مؤثرة ومحركة للوعي عندما تقوم على أسس جمالية ورؤية تتخطى ما هو ظرفي وعابــر . والبـُـعد الجمالي هو ما يتيح الاقتراب من مكونات الحياة وتجلياتها التي تلامس الوحدة والحب والعنف والموت والغربة ، أي العناصر التي تجعل الإنسان يستبطـن الألم ويجسُـر على التحدي . إلا أن الكتابة لا تكون مبررة إلا عندما تكون مصحوبة برؤية تتخذ من " الخيانة " مطية لاكتشاف ما تخبئه المظاهـر ويحجبــه الكسل . الخيانة وسيلة للتخلي عن المألوف ومساءلة ما وراء المظاهــر . أما الوفاء فهو استكانة إلى المألوف واستسلام لرتابة التفكير والعواطف المستقــرة ... لا يريد جونيه أن تغدو الكتابة اجترارا أو تكرارا لما قيل ، بل هي لديه توغـُّل في مجاهيل الذات ، واستنطاق للمسكوت عنــه ، وتظــهــيـر لما يـُـراد إخفاؤه . وهذا ما نجده في مسرحياته التي تدثــرتْ بالطقوس والسخرية والتنــكــّر لقلب المواقف وتعديد الدلالة ، وبث الحركة في كلام الشخوص . وإلى جانب هذا التصور الذي استوحاه في كتاباته الأدبية ، نجد أن جونيه حرص على أن يـُـسمع صوته في ساحة السياسة ، لكن من منطلق " شعـري " لا يهتم بالتفاصيل الظرفية بقدر ما يهتم بالرفض الثوري ، المبدئي ، لكل ما يمثل الظلم والاستعمار والاستغلال . ما كان يهمه بالدرجة الأولى ، هو أن يناصـر المستضعفين ضد من يمتلكون السلطة والقوة . يقول في هذا الصدد : " في النهاية ،أنا مع الفرد المتوحــد الذي ينتصـب ضد مجتمع على درجة عالية من التقنـيـن مثلما هي المجتمعات الأمريكية والغربية أو أي مجتمع آخــر في العالم يـزعـمُ أنه يـُـبيـد الشــرّ . إنني أقف إلى جانبه مثلما أساند الفنان الكبير الذي يتصدى لمعارضة المجتمع بأكمــله ، لا أقلّ ولا أكثــر. إنني مع الإنسان المتوحـد كيفما كان . غير أنه بالرغم من كوني " أخلاقــيـا ً" مع مـَـنْ هو وحيد ، فإن الأفراد المتوحدين يظلون دائما في قبضة وحدتهم ..." . وقد توقف كثير من المتدخلين ، في ندوة باريس ، عند كتاب جونيه الأخيـر " أســير عاشق " (1986) ، لأنه يقدم نموذجا غير مسبوق ، شكلا ومضمونا ، ويعلن عن عودة جــانْ إلى الكتابة الأدبية بعد انقطاع دام عشرين سنة ! فعلا، لم ينشر شيئا منذ ستينيات القرن الماضي إلى أن شاءت الصدفة أن يكون موجودا في بيروت سنة مذبحة صبرا وشاتيلا (1982) ، وزار ا لمخيم المنكوب وعاين الجثث المبقورة والرؤوس المقطوعة ، فكتب نصه القصير " أربع ساعات في شاتيلا " الذي سيصبح هو نواة كتاب " أسيـر عاشق " . وما يستحق التأمل في هذا الكتاب الرائع ، هو أنه جمع بين الشكل المتميز واللغة الواصفة الدقيقة ، واستعادة ذكرياته مع الفلسطيـنيــيـن عندما أقام معهم في مخيماتهم بالأردن . حقق جونيه في هذا الكتاب إنجازا مزدوجــا ً : كتابة الذاكرة عبر السرد والتأمل والاستطراد وتـجـاوُر الفضاءات واللغة الشعرية النابضة ، ثم ابتعاث الحياة في نساء ورجال وفدائيين فلسطينيـيـن يمثلون الثورة في بهائها وعنفوانها وتلقائيتها . وعلى هذا النحو ، تجاورت الكتابة بالمطلق مع " الشهادة " على مرحلة من الثورة الواعدة ، وأيضا على البحث المضني الذي كان جونيه يقوم به ليصــل إلى صورة أمه المجهولة لديه ، من خلال استحضار صورة أمّ الفدائي حــمـزة التي حملت إليه الشاي ذات فــجـر من رمضان ، في الأردن ... على رغم أن جونيه كان يكره الاحتفالات ومظاهـر التكريم ، فقد كانت ندوة مسرح أوديون عـُــرسا يـُـتـوّج كاتبا نادرا ، تـنـفتح نصوصه ومواقفه على أسئلة المستقبل وتقدم نموذجا عميقا للكتابة عندما تغدو عزاء وسط الغربة ، ورفضا للظلم والعنصرية والاحتلال .
|