القراءة النقدية للسيرة الذاتية- قراءة في كتاب " الحقيقة الملتبسة"-د.إدريس الخضرواي
تعرف الكتابة عن الذات تطورا ملحوظا، كما وكيفا، في المغرب خاصة والعالم العربي عامة، وذلك ارتباطا بسياق اجتماعي وفكري وحضاري يموج بالأسئلة والصراعات والتوترات
تعرف الكتابة عن الذات تطورا ملحوظا، كما وكيفا، في المغرب خاصة والعالم العربي عامة، وذلك ارتباطا بسياق اجتماعي وفكري وحضاري يموج بالأسئلة والصراعات والتوترات. وبالنظر إلى التراكم النصي المتحقق في جنس السيرة الذاتية، سواء تعلق الأمر بما أنتج في الماضي، أو بالنصوص التي لا يكف الكتاب عن إنتاجها في الزمن الراهن بتعدد أشكالها واختلاف أساليبها وتنوع مستويات وعي أصحابها بالمواثيق السيرذاتية، أصبح بدهيا أن يبحث النقد عن أدوات وآليات ملائمة، تمكنه من فهم المشاريع السيرذاتية المتحققة، وتحديد المواثيق التي تصلها بقرائها، خاصة إذا علمنا أن التنظيرات اللجونية (نسبة إلى فيليب لوجون) الأكثر ذيوعا وقوة في هذا المجال، ما فتئت تتعرض للمراجعة والتعديل من قبله. ففي كتابه: "أنا أيضا" وسّع مفهومه للسيرة الذاتية ليستوعب أشكالا أخرى كاليوميات والتخييل الذاتي والمحكي الذاتي والرسائل الحميمية ومحكي الحياة، وغيرها من المغايرات المتحققة ضمن هذا الشكل من الكتابة، والتي يجترحها الكتاب بهدف التعبير عن حيواتهم، وتسليط الضوء على مرحلة من مراحلها في أبعادها الفكرية أو الحياتية الخاصة.
ولم يكن النقد المغربي بعيدا عن هذا التوجه خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العدد الكبير من النصوص التي كتبها المغاربة في الفترة المعاصرة بغية التأريخ لمرحلة معينة عاشوها بكل ما اعتراها من ضروب القمع والاضطهاد وخنق الإرادات، ما أوجب الاقتراب من هذه التجارب المتنوعة في الكتابة عن الذات وفق وعي نقدي له آلياته وضوابطه المميزة القمينة بإرهاف الإنصات إلى موضوعاتها وإضاءة اشتغال الكتابة فيها، وما يتحقق لها بسبب ذلك كله من مواصفات جمالية تجعلها مقبولة لدى القارئ.
بهذا المعنى، يكتسب كتاب "الحقيقة الملتبسة" للدكتور محمد الداهي أهمية خاصة من خلال القراءة الجديدة التي يجتهد في تشييد صروحها، مراهنا من خلالها على تحديث الوعي بالأدب الذاتي، وبمختلف أشكال الكتابة المتحققة فيه. وهو من هذه الناحية يتكامل مع دراستين هامتين صدرتا حديثا: الأولى للناقدة التونسية جليلة طريطر بعنوان: السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث([1]) حيث كرّست جهدها لدراسة النصوص السيرذاتية العربية الحديثة التي كتبها أصحابها في سياق لم تكن تتوافر فيه معرفة قاعدية كافية بهذا الشكل من الكتابة، أما الدراسة الثانية فهي للناقدة السعودية أمل التميمي بعنوان: السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر([2]) حيث صبت اهتمامها على السيرة الذاتية النسائية، وقدمت تحقيبا لما كتبته المرأة العربية منذ فجر النهضة حتى الفترة الراهنة، كما استجلت أهم التيمات المتحققة في النصوص السيرذاتية النسائية، وأضاءت علاقتها بالمشكلات المطروحة في الثقافة العربية المعاصرة كالهوية والانتماء للوطن وسطوة الطابوهات والمحرمات.
1-فرضيات القراءة
يضعنا عنوان هذه الدراسة التي قدّم لها الناقد والأديب المغربي الدكتور عبد القادر الشاوي، أمام مسألة بالغة الأهمية تتعلق بهذه الحقيقة الملتبسة، وعلى من هي بهذا الشكل من الاستعصاء والتأبي على الوضوح. و تظهر لنا قراءة الكتاب عن مقصدية الناقد في اختياره لهذا العنوان، فمن خلاله يفصح ضمنيا عن مآزق القراءة في حضرة النصوص التي تندرج ضمن الكتابة عن الذات بأشكالها المتعددة، خاصة تلك القراءة المتدثرة بنزعة استقرائية تجريبية، والتي لا تكلف نفسها عناء إعادة التفكير في مقولات نقدية راجعها من وضعوها، وأقصد هنا مفهوم الميثاق السيرذاتي الذي أعاد فيليب لوجون النظر فيه بشكل يسمح له بفهم مقتضيات الكتابة عن الذات، وهي تتحقق بأشكال أسلوبية واسترتيجيات سردية مختلفة تعكس جنوح الكتاب إلى ابتداع صيغ جديدة وملائمة، تقول ما يعتبرونه هاما وذا علاقة حميمية بما عاشوه في فترة معينة من حيواتهم.
وهذا المعنى هو الذي أفصح عنه الناقد حينما أشار إلى أن أهمية المساهمة النقدية التي يقدمها تكمن في وعي صاحبها بهذا المأزق وسعيه لتجاوزه بشكل يمكنه من فحص مقومات الكتابة عن الذات وتجلياتها المختلفة. فالتأمل في الحقيقة التي يعبر عنها كاتب اليوميات أو السيرة الذاتية أو محكي الحياة أو الاعترافات يفضي إلى أن" الشكل هو الذي يحتم لونا من الحقائق ويعمل على تقطيعها وتشخيصها وتكييفها حسب طبيعته ووظيفته. وإلى جانب اختلاف معالجة الحقيقة من زوايا ومستويات متعددة، فهي تبقى عصية على تشخيصها كما هي في الواقع. ويعلم الكاتب أن ما يقوله ليس كله حقيقيا، وذلك لكونه اضطر، لأسباب ودواع متعددة، إلى اختلاق أحداث معينة أو حذفها أو تمطيطها. ومن هذا المنطلق لا يراهن على قول الحقيقة كما وقعت فعلا، وإنما إلى خلق ذلك الانطباع لدى المتلقي حتى يكسب رضاه وثقته".([3])
استنادا لذلك، تكون الدراسة في منهجها المنفتح مساهمة وجيهة في إعادة طرح مفهوم السيرة الذاتية من جديد على بساط التفكير والبحث، والسعي لتوسيعه حتى ينفتح على النتوءات والاجتراحات التي تحققها بعض النصوص التي يخوض أصحابها في الكتابة عن ماضيهم. وفي هذا الجانب وغيره مما سنضيئه عبر هذه القراءة، تتبدى إضافة الناقد محمد الداهي في حقل الدراسة النقدية للأدب بشكل عام، والسيرة الذاتية بشكل خاص. ومعلوم أن المشاريع السيرذاتية التي يقرأها الناقد، وفق وعي جديد يراعي وضعها الأجناسي المنفتح، تتسم بالتعدد سواء من حيث الانتماء الجغرافي لكتابها أو من حيث طبيعتهم الجنسية. كما أن هذه الدراسة لا تعنى فقط بنصوص تنتمي للفترة الحديثة والمعاصرة حيث ولدت السيرة الذاتية كما يتفق على ذلك أغلب الدارسين، بل نجد الناقد يقرأ نصوصا تراثية يتحقق فيها الوعي بالمشروع السيرذاتي تحققا لافتا.
وإذا كانت غاية محمد الداهي من كل ذلك هي الاقتراب من طبيعة الانشغالات التي حركت لدى الكتاب الرغبة في الكتابة عن ذواتهم، ودفع القارئ إلى رؤية ذلك كله في عين نصوص حديثة ومعاصرة تتسم مواثيقها السيرذاتية بالتعقد والالتباس، كما يتسم وضعها الأجناسي بالمرونة نتيجة المسافة التي يقيمها المبدعون إزاء حيواتهم وهوياتهم، والارتياب الذي يساورهم بصدد قدرة الذاكرة على استعادة الماضي بكل تفاصيله، فإنه يعكس كذلك ما تتمتع به وجهة نظره حول الموضوع المدروس من عناصر الملاءمة والمرونة واتساع أفق التأويل.
2- الميثاق السيرذاتي التراثي
يستهل الناقد دراسته لكتاب التعريف بفرضية تقول إن ابن خلدون من المسهمين في ابتداع الكتابة السيرذاتية والانخراط في مشروعها بوعي.([4]) لكن محمد الداهي لا يخفي أثناء القراءة وعيه بالمزالق التي يمكن أن يحدثها الانصياع للأحكام النقدية التي تطلق على السيرة الذاتية العربية القديمة، دون أن تراعي سياقات كتابتها والشرط الاجتماعي والثقافي والعقدي الذي في ضوئه حفر الكتاب في ماضيهم، واستعادوا جزءا من حيواتهم. فإذا كانت الأوتوبيوغرافيا كشكل فني حديث في الكتابة، شديدة الأهمية بالنسبة للقارئ المعاصر في فهم هذه الأعمال التراثية، فإنه مع ذلك لا يمكن أن نسقط بنياتها(أي السيرة الذاتية) على هذه الأعمال، لأن في ذلك ليّا لعنق الكتابة وخنقا لها حتى لا تتنسم عبق الفضاء الذي أطر كتابتها. لذلك يؤكد الناقد محمد الداهي على ضرورة اجتراح أسلوب مختلف في القراءة، قمين بمراعاة فرادة النصوص التي يقرأها واشتراطاتها الخاصة. إذ من شأن هذا الوعي الذي يستحضر التاريخ ويحاور المتحقق أن يرهف الإنصات إلى طبيعة الميثاق السيرذاتي في هذه الأعمال التراثية ومستوى اختلافه عن المواثيق الحديثة، حيث تتبدى السيرة الذاتية مسارا طويلا من الإبداع والمغامرة بحثا عن الاقتراحات الأسلوبية التي تجعلها وفية لرغبة كتابها في محاورة ماضيهم الحياتي.
وتتأكد صحة الفرضية التي انطلق منها الباحث من خلال عناصر متعددة. لعل أقواها دلالة تلك الرحلة التي اتخذها عنوان الكتاب بين نقاد وباحثين ودارسين مختلفين. وإذا كانت صياغته قد عرفت تنوعا واختلافا بين هذا الناقد أوذاك، فإن ما يمثل عنصر اتفاق في هذه الصياغة هو إخبارها عن شخصية ابن خلدون ورحلته شرقا وغربا. وهذا ما يجعل هذا العمل مختلفا عن نصوص أخرى تراثية تشترك معه في التنصيص على الرحلة لكنها تختلف معه في المرمى. ففي حين قصد ابن خلدون من الإشارة إلى الرحلة شرقا وغربا التركيز على ما عاشه وكابده في سبيل البحث عن المعرفة والرغبة في تحصيلها، ذهب الآخرون ومنهم ابن بطوطة إلى وصف ما شاهدوه من أحوال العباد والعادات في الأمصار التي ارتحلوا إليها. غير أننا نجد الناقد لا يقنع بهذا التجنيس، بل يجنح إلى وضع كتاب "التعريف" في سياق جملة من النصوص التي تتقاطع معه في حضور المادة الفكرية في ثنايا الخطاب الاستعادي، وتعطيها موقع الصدارة على ما عداها من مواد أخرى. وفي هذا السياق يخلص الداهي إلى أن كتاب "التعريف" هو سيرة ذهنية تصف الجو الفكري الذي ترعرع فيه ابن خلدون، وأسهم في تنشيطه وإثرائه بوصفه واحدا من أهم علماء عصره.
وينبه الناقد إلى أن قراءة غياب الإشارة إلى الحياة الخاصة في هذا الكتاب على أنه التزام للصمت أو تهرب، هو مسلك خاطئ لا يفهم الدواعي والأسباب الكامنة وراء اختيار هذا الشكل من الكتابة من قبل ابن خلدون. فهو لم يكن شخصية مغمورة حتى يحتاج إلى التعريف بشخصه، وإنما كان يخوض في مجال فكري اشتد فيه الخصوم، ولذلك كرّس سيرته لتسليط الضوء على مراحل تعلمه والمصادر التي نهل منها والسنوات التي أمضاها في خدمة العلم. بهذا المعنى يظهر ابن خلدون في قراءة محمد الداهي واعيا بالمشروع السيرذاتي، ومدركا لطبيعة الميثاق الذي يشده إلى قرائه المفترضين، لذلك اختار مقوما أسلوبيا يبتعد عن الصنعة اللفظية ويشخص مساره الحياتي الفكري بطريقة كرونولوجية ويحتمي بأجناس مختلفة للتعبير عن الصورة التي يرتضيها لنفسه أمام من أرادوا الاستخفاف بمكانته العلمية في عصره.
3- المواثيق السيرذاتية الحديثة
يقرأ الناقد محمد الداهي مجموعة من النصوص العربية المعاصرة المندرجة ضمن الكتابة عن الذات، سواء عَبّرَ مؤلفوها عن ذلك مباشرة أم من خلال حيل تجنيسية أخرى. ومن هذه النصوص "أوراق" لعبد الله العروي و"حياتي" لعباس محمود العقاد ورولان "بارت بقلم رولان بارت" وثلاثية محمد شكري ونصوص نسائية لفاطنة لبيه وليلى لحلو ورشيدة اليعقوبي، فضلا عن أعمال لعبد القادر الشاوي ومحمد برادة.
وإذا كانت هذه التجارب لا تظهر على نفس المستوى من الوعي بمواضعات الكتابة عن الذات، فإنها تُحدِّثُ في مجملها عن أمر بالغ الدلالة مفاده أن كتاب الأدب الذاتي لا يعتمدون على الذاكرة وحدها في استعادة الوقائع والأحداث التي مضت، بل ينوعون مصادرهم حيث ينفتحون على السندات السيرذاتية كالأوراق والسجلات والصور الشمسية والرسوم وغيرها من الوثائق التي تمثل سندا للكاتب في استعادة الماضي، والقبض على لحظاته الأساسية. وهذه السندات تلقي بظلالها على النصوص وعلى تركيبها السردي بما يجعلها تبتعد عن السيرة الذاتية بمعناها الاستعادي لتحاور اليوميات أو التخييل الذاتي أو محكي الحياة.
وضمن التوجه ذاته الرامي إلى اجتراح وسائل مغايرة للتعبير عن الذات نجد الناقد محمد الداهي من خلال استقرائه لنصوص نسائية يخلص إلى أن المرأة واجهت معظلة الكتابة عن ذاتها في سياق اجتماعي كان يعتبر ذلك خروجا عن المحضور، وشغلا لمجال لم يكن مسموحا للمرأة أن تشغله. وهذا ما انعكس على وعيها بالكتابة، حيث واجهت كل ذلك بأساليب متعددة تمس اللغة والأسلوب ومستويات الإفصاح عن الهوية. ولا يعني هذا أن المرأة الكاتبة تميل إلى التمويه عن حياتها الخاصة، بل إنها تشيد هوية جديدة من خلال المكتوب تشكل نمطا من الرد الجمالي والثقافي على التحديات التي واجهتها وتحملت وزرها، سواء تعلق الأمر بالسجن أو
المرض أو الطلاق، أوغيرها من التيمات التي تمحور عليها السرد الاستعادي النسائي.
والكتابة عن الذات كما أظهرها الناقد محمد الداهي في العمل النقدي الهام تُبرِزُ من خلال تنويعاتها المختلفة أن السرد والذاكرة يلعبان دورا أساسيا ومحوريا في إعادة تمثيل الماضي وتشخيص حقائقه على نحو مغاير، كما أن الكتابة تعبق بالإحالة على المرجعي رغم ما يقوم به الكاتب أحيانا من كسر متعمد للميثاق السيرذاتي بهدف خلق الانطباع بوجود مسافة بينه وبين السارد. وهذا المسلك هو الذي تحقق في نصوص محمد شكري كـ "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" و"وجوه"، حيث جرب استراتيجية المعيش ثم تمرد عليها بكتابة ملتبسة يراهن من خلالها على ابتداع اللغة التي تسعفه على تشخيص تجاربه الشخصية واكتشاف مجاهيل ذاته ومعاودة النظر في الذكريات المسترجعة.([5]) كما يتحقق في نصوص عبد القادر الشاوي ومحمد برادة بأشكال مختلفة، حيث يطرح تجنيسها أكثر من إشكال على مستوى التلقي. فالحياة الماضية تصعب استعادتها بكل تفاصيلها الأمر الذي يشرع الباب واسعا أمام التخييل لتقويض قواعد الميثاق السيرذاتي وتمويه التجربة المعيشة وإضفاء طابع التمثيل على الأحداث والوقائع المسترجعة. ([6])
خاتمة
لقد أشار بول ريكور في أبحاثه التي كرّسها لإضاءة العلاقة المعقدة بين السرد والوجود والزمان إلى أن الأعمال الأدبية والسردية تحديدا تنطوي على أهمية بالغة خاصة وأنها تمكننا من فهم الإنسان والاقتراب من هواجسه وانشغالاته من خلال الحبكات القصصية التي تعيد بناء الأحداث والوقائع وتنقلها من الوجود المتنافر إلى الوجود المتجانس الدال على المعنى المتعلق بالوجود الأرضي في تجلياته ومستوياته المختلفة. وفي حالة النصوص التي تكتب عن الذات، خاصة تلك التي تبلغ فيها الاشتغالات الخيالية الحالات المحيرة كالتخييل الذاتي والسيرة الروائية، فإن ذلك كله لا يلغي الإحالة على هذه الذات وما عاشته من أحداث ووقائع في فترة زمنية ما، بل إن هذه الإحالة تصير بمثابة الشرط الثابت في تأويل هذه الأعمال تأويلا لا يسيء فهم مقاصدها أو يغطي على امتداداتها الدنيوية. والأصح أن هذه التنويعات الخيالية ضمن الأدب الذاتي تكشف وعي الكاتب العربي بصعوبة القبض على الماضي، لأن الذاكرة التي هي سبيله في ذلك ذات طبيعة انتقائية، ومهما بلغت حدتها وقوتها فهي لا يمكن إلا أن تفلت من قبضتها أحداثا ووقائع أخرى مما يفرض عليه الاستعانة بوسائل مغايرة بقصد تعميق التشخيص وتقوية الإسناد المرجعي.
وهذه القضايا مجتمعة هي التي كشف عنها الدكتور محمد الداهي وسلط الضوء على مظاهرها وتجلياتها في نصوص متنوعة وتجارب مختلفة، وبوعي نقدي مرهف يدرك الانعطافات المتحققة في مجال الأدب وما تتطلبه من الناقد من وعي وبصيرة وانفتاح على الأدوات والإجراءات النقدية الملائمة. وقد انفتح الداهي في هذا السياق على السرديات، بوصفها نظرية داخلية، في تحققاتها الراهنة الموسّعة لفضاء العمل الأدبي والمستحضرة للقضايا الكبرى ذات العلاقة بدراسته كالعلاقة بين المتكلم والمخاطب والتذويت وتفاعل الذوات واللجوء إلى إعطاء الأهمية لعملية إنتاج الخطاب ووصف مراحلها والتركيز على ملامحها، وتداخلات المرجعي والجمالي فيه، فكان كتابه "الحقيقة الملتبسة" محاولة متميزة للتفكير في الكتابة عن الذات بالمعنى الأنتروبولوجي الواسع، حيث الاهتمام لم ينصب فقط على الأسماء المكرّسة في الحقل الأدبي كابن خلدون والعروي ومحمد برادة وشكري.. بل توقف كذلك عند أسماء غير معروفة أو على هامش الحقل الأدبي، ولكنها كتبت عن ذاتها من منطلق يعطي المشروعية للتفكير في خطابها الاستعادي.
الهوامــش:
[1] - د. جليلة طريطر: مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث( بحث في المرجيعيات )، مركز النشر الجامعي - مؤسسة سعيدان للنشر، تونس 2004.
[2] - أمل التميمي: السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت - الدار البيضاء 2005.
[3] - محمد الداهي: الحقيقة الملتبسة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات، دار المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 2007، ص: 15.
[4] - المرجع نفســه، ص: 19.
[5] - المرجع نفســه، ص: 117.
[6] - المرجع نفســه، ص: 170.