|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
الاندفاع نحو المجهول في رواية " آفة" لعبد الله العروي
يخرج عبد الله العروي، في روايته الجديدة " الآفة"(المركز الثقافي العربي،2006)، عن التجريب الذي وسم أعماله التخييلية كلها. ففي كل عمل يُقْدم على تجريب تقنية تخييلية جديدة لإعادة تشخيص الواقع من منظورات وزوايا مغايرة، ومعاودة مساءلة الذات والآخر سعيا إلى اقتناص " النغمة المفقودة" ، والالتباس في ظلال مختلفة، وفهم أبعاد الوجود وسبر أغوار الذاكرة . وهو، سيرا على هدى روائيين مغاربة آخرين، لا يمارس التجريب من أجل التجريب، وإنما يستخدمه للإسهام في تطوير الرواية المغربية ونضجها، ونقد الشكل مسبقا ليكون صدى للهموم الذاتية والجماعية، ويحقق المطابقة بين البنيتين الروائية والاجتماعية. من خلال مطلع الرواية ( وهي الكلمة نفسها المثبتة على ظهر الغلاف) يتضح أن عبد الله العروي تقصد استثمار الخيال العلمي لتخيل إن لم نقل توقع ما يمكن أن يحدث مستقبلا من تطورات ومفاجآت على وجه الأرض .
1-تجنيس المؤلف:
يُنعت هذا النوع من الروايات بأسماء مختلفة من قبيل " رواية الفرضيات" أو " رواية العجائبي العلمي" أو " رواية الاستباق" أو" رواية الخوارق". لكن التسمية الرائجة هي "رواية الخيال العلمي". ويعتبر الخيال العلمي جنسا أدبيا ينطلق من فرضيات علمية حول ما يمكن أن يقع مستقبلا أو يحدث في عوالم مجهولة، وهو يستثمر المعارف العلمة ( العلمية، والتكنولوجية، والإثنية) في وضعيات جديدة قد لا تخطر على البال أو يتعذر أن يوجد ما يماثلها في الواقع. فرواية الآفة "هذر في الآتي، والآتي آت لا محالة"، و"لعبة مجانية الغرض منها رياضة العقل وإشغال الذهن" واستبدال " الأوصاف والأسماء بالأرقام". وينطلق الروائي من كون الأحداث المفترضة قد تقع سنة 547319، ومن أجل التبسيط يشير إليها مستقبلا باسم زكي خليفة. وهو الافتراض نفسه تقريبا الذي انطلق منه جورج أرويلG.Orwelle في روايته الموسومة ب 1984، وقد تحقق نسبيا ما أرهص به سنة 1949 من احتمال تمرد وينستون سميت winston Smith على ديكتاوية الحزب الاشتراكي وهيمنته ( العالم المفترض موزع على ثلاث ديكتاوريات " اشتراكية" شرسة: أوسيانا، وأوراسيا، وإستاسيا). وإن انطلقت رواية الخيال العلمي أساسا من تصورات علمية، فهي تعدُّ أداة فنية لإثارة المشاكل الاجتماعية والأخلاقية والحضارية، ولفت الانتباه إلى مخاطر بعض الاختراعات العلمية والتكنولوجية وفوائدها. ورغم المسيرة التي قطعتها رواية الخيال العلمي ( بدءًا من عملي طوماس مور Thoma Mors وفرنسيس كودوين Francis Godwin في القرن الرابع عشر إلى الأعمال المنشورة مؤخرا، وتأتي في مقدمتها رويات أورسان صكوت كارد Orson Scott Card, ودان سيمونس Dan Simmonsوبيتر هاماتون Peter F. Hamilton) ، مازال يُنظر إليها كما لو كانت أدبا مهمشاParalittérature أو أدبا وضيعا Infralittérature وذلك بدعوى افتقارها إلى الأدبية، وعدم شملها بالعناية التي يحظى بها الأدب المعترف به Littérature légitimée . وهذا ما يتطلب جهودا متواصلة لاستنتاج ما يجعلها أدبا، وفهم منزلتها ضمن مجموع الأنساق الثقافية في منأى عن التصور المؤسسي الذي يفصل بين ما هو رسمي أو معترف به وبين ما هو شعبي أو مهمش ( أو ما يعرف بالثقافة الجماهيرية ). 2-العنوان : تُعتبر عنونة الكتاب طقسا من طقوس مروره، ومفتاحا لفتق مغالقه. يندرج عنوان رواية عبد الله العروي " الآفة" ضمن خانة العناوين الموضوعاتية التي تلخص مجريات الأحداث أو تختزل المواضيع المتواترة. ويعنى بالآفة لغويا عاهة أو مفسدة تصيب الخلق. وهي تقترن سياقيا بحالتين تتكاملان وتتداخلان في أمور كثيرة. أ-آفة القلاقل : هزت هذه الآفة المعمور كله، وترتب عليها نسيان الأحكام والضوابط، وتفاقم مظاهر الفوضى والتفتت والحقد والكراهية ، وتقلص فترات البرد والشتاء، وتضاعف نوبات الحر والقيظ، واختفاء الخضرة من مشاهد الأرض، وانتشار الألوان الداكنة المنذرة بحلول الظلام." هزت الرجفة المعمورة بكاملها. هوت الإمبراطوريات، تداعت الممالك والجمهوريات، تفتت الأحزاب والفصائل، تنابذت الجمعيات وتفرقت البيوت والأسر. ولما انهد كل صرح مشيد وانحل كل عقد منظوم، عندها همدت الأرض وسكن البشر" ص89.يرى المتفائلون في هذه الحالة مكسبا للحياة التي لا تنتعش إلا بالاختلاف والتنوع والاختلاط ( تُكرَّس التجارب العلمية لإثبات أطروحاتهم ذات المنحي ما بعد الحداثي)، في حين يرى فيها المتشائمون محاولة للتخلص من نفوذ السلطة العليا الموحدة وهيمنتها.( يٌوظَّّف العلم لخدمة مساعيهم إلى توحيد العالم وتماسكه وسكينته). ب-آفة النسيان: آفة العلم النسيان. أصابت هذه الآفة صغار وكبار أرض المغيب على حد سواء. مست الصغار فتقوى لديهم الميل إلى العنف والقيام بالحركات العشوائية. ومست الكبار الذين أصبحوا يتعاملون مع فلذات أكبادهم كما لو كانوا أعداء مسخرين لتفكيك الأسر وتشتيت الجماعات. وفي هذا الصدد لاحظ رجال الأمن تفاقم حالات التشرد والتيه. تكتسي الآفة في ظروف شكل تفتت وذوبان، وتتخذ في ظروف أخرى صور انفلاش وتضخم. ويكمن دور الباحث الإحيائي في الإجابة عن هذا السؤال: " من المرشح ، بين الأجناس، أن تخطئه الآفة الأولى وتصيبه الثانية؟" ص137. انقسم باحثوا الأكاديمية إلى فرقين: فريق المتشائمين الذين يعتبرون آفة النسيان خطرا على تربية الناشئة و على قيام المرء بأعماله المعتادة، وتعطيلا للذاكرة المواكبة بسبب عائق الموروث الثقافي المُبطَّن في اللغة. لم تصب هذه الآفة ثلاث مدارس فئوية خاصة وذلك لكونها اتبعت برنامجا دراسيا خاصا واستعانت بمستشارين وأخصائيين تربويين درءا للأخطار المحتملة وضمانا للفاعلية والنجاعة. في حين يدافع فريق المتفائلين عن منافع النسيان، ويرون أن الذاكرة الآنية تخدم الفصيلة التي ينتمون إليها، وأهلتهم إلى التفوق و الريادة . فهي " لا تنجو من التناثر والذوبان إلا لأنها تملك قدرة على التمييز والفرز، على إفراغ سلة المحظورات وفسح المجال لمعلومات جديدة. المحور لا يناقض الحفظ، بل يحدد ما يلزم لإنجاز " ما هو تحت النظر" استحضار النافع من المخزون وإهمال النافل" ص144. ومن أسباب ذيوع النسيان في أرض المور، اضطرار المشير، إبان تسلمه زمام الأمور ورحيل العدو، استبدال العادات القديمة بالسنن الجديدة." تحققت أمال المشير، فتيقن أن الخلف يجهل كل شيء عن السلف. الجيل الجديد لا يتصور حال القديم فكيف يتشبه به" ص30. ولكن ما إن مل النظام حتى اشتاق من جديد إلى الفوضى، وهو ما أدى إلى وقوع تغيرات في النفوس والآفاق، وانتشار القلاقل في مختلف بقاع المعمور. 3-بنية الرواية: الرواية عبارة عن بورتريها لشخصيات علمية مرموقة تتخللها ، بين الفينة والأخرى، مناصات مستقلة تضيء بعض القضايا المثارة ( تعليل الظلام والسهو والنسيان، و إثبات التمايز العرقي، وانعكاس الزمن، واستفحال الأمية بين السود في أمريكا، وقدرة المشير على استتباب الأمن والاستقرار، ..) . فكل فصل مخصوص للتعريف بنسب شخصية ما وصفاتها ومنجزاتها العلمية. ولما يضطلع السارد باسترجاع أطوار من حياتها يعرف أيضا بالأحداث التي تقاسمتها مع شخصيات أخرى، ويبين طبيعة العلاقة التي نسجتها معها. و في كل بورتري على حدة تنضاف أحداث جديدة لإضاءة ما سبق سرده وملء ثغراته وبياضاته من منظورات وزوايا مغايرة. وهكذا يمكن أن نشبه الرواية بقطع من "مربكة شاسعة" Immense puzzle لا يستقيم تركيبها إلا بعد إعادة توزيعها ووضعها في أمكنتها المناسبة، و تعليل ما يجعلها منسجمة ومتسقة مع مثيلاتها. وهذا يتطلب من القارئ مجهودا مضاعفا لإيجاد الأعذار لأحداث مُقدَّمة أو مُؤخَّرة أو متداخلة، والبحث عن المنطق الذي يلحم سدى الرواية برمتها. لعب الفضاء دورا كبيرا في تمييز الشخوص ومواقفها من الوجود. وإن تبانيت سحنتها وصفاتها ووظائفها، فهي تتعاون فيما بينها كما لو كانت تنتسب إلى قطر واحد أو معولم ( العالم قرية صغيرة تسيرها، ظاهريا، ثلة من العلماء). أ- شخصيات أرض المور: يؤدي المندوب ( فراد بالمر الثالث) دور الوساطة بين أرض المور ذات الطابع الشرقي وبين أرض المغيب ذات الميسم الغرب.رأى النور بعد ثلاثة أجيال، وتحول، باعتباره سليل أسرة سردينية، إلى مواطن أمريكي عادي. تعرف على الفنانة أدريانا فنيش فازداد انزواؤه وتعاظم ترددها. خاض مع زوجته تجربة ثرة في مختلف بقاع العالم، فأدرك لغز القبيلة وسر البقاء. وبعد أن همدت الرجة ( ما سمي في كتب الحدثان بالرجفة) أصبح يدعو، أسوة بأمثاله، إلى التوكل والسكينية، وعاد إلى الأكاديمة محملا بالأعشاب والعقاقير، فجاء الرد في شكل ترقية إذ عين مندوبا في البلد الذي يدعي بأنه ينتمي إليه. تكمن مهنته الرسمية في مواصلة أبحاثه عن الشرق ، ومراقبة الأوضاع عن كثب، وإرسال تقارير إلى أستاذه رودني كوون أحد أعضاء الأكاديمية لفحصها واتخاذ القرارات المناسبة. أما مهنته الأكاديمية فتجبره على متابعة التنقيب عن سر القبيلة وقدرتها على قهر المفازات. حاول المشير أن يدشن عهدا جديدا قوامه النظام والاتساق والاستقرار، , وأسس في قاعدة الشاطئ معهدا نموذجيا لتدريب الناشئة على الحرف الجديد واللسان الجديد والمنطق الجديد. ارتاب من تصرفات وضاح الصابونجي ( معلم الطرب والموسيقى) الذي تجاوز الحدود المسموح بها. وفي هذا الصدد بعث رسالة إلى كوون يحذره من فشل مشروعه الإصلاحي إذا لم يوضع حد لنشاط الصابونجي ومن يحميه ( إشارة إلى حاشية الخليفة التي لم تستجب لطلب المشير في إبعاد منافسه). ولما وقعت رجة القلاقل لم يستطع المشير التخلص منها، فكانت بداية تعثر مشروعه الإصلاحي، وفشل تجربته وانهيارها. وما فتئ أتباع الصابونجي أن تناسلوا وتكاثروا كالفطر. كان من ثمرة إصلاحات المشير نبوغ طالبين في الرياضيات وهما زكي خليفة وهلال كروم. لما تخرج زكي خليفة، عين في مصلحة الأرصاد التي تعرف فيها على الموظفة سلطانة بناصر وتزوجها واعتبر ابنتها نورا- التي أنجبتها من غيره- كما لو كانت نسلا من صلبه. استدعاه يوما ما المندوب ليقترح عليه إما مراسلة الأكاديمية عبر الأثير، وإما الذهاب إليها. فضل الحل الثاني الذي سيسعفه على الالتقاء بابنته نورا بعد أن اختفت هي وأمها عن أنظاره منذ وقوع القلاقل. استدعاه كوون ، في ضوء التقارير المنتظمة التي كان يتوصل بها، لكونه يتعاطف مع أبناء بلدته. في حين يتضايق منهم أغلب أعضاء الأكاديمية لكونهم لا يستسيغون رأيا يخالف سننهم. قدم زكي أمام المؤتمرين عرضا مركزا عن وصف آلات الرصد والمراقبة. وبما أن التجربة الأولية التي أجريت عليه وصفت من طرف خبراء الأكاديمية بأنها فاشلة، فقد ألحق بالمندوبية، ثم عين ، بعد أعوام، في مرقب ضخم يوجد في أعلى نقطة من السلسلة الجبلية التي تخترق البلد. تتلمذ هلال كروم في المعهد نفسه، ولم يتنافس مع زميله زكي خليفة على إحراز النتائج الرياضية الباهرة فقط، وإنما أيضا على الظفر بود زميلتهما في الدراسة زينب سعدان التي لا تقل عنهما نباهة وذكاء. كان الجميع يتوقع أنها من نصيب زكي خليفة، في حين انجذبت، لبواعث متعددة، انجذابا مغناطسيا إلى هلال كروم، وأصبحت، بالتالي، شريكة لحياته. لما تخرج هلال من المعهد، عين، بالنظر إلى مؤهلاته وميوله، في محطة لتحليل التربة. شارك هلال في الرجة متزعما أحد فيالق الثورة، ومستحضرا صورة والده الشهيد، ومتمردا على تقاليد المشير، ومنحازا إلى المعلم الصابونجي. ولما تبين لأعضاء الأكاديمية أن أعراض هلال كروم ( مواهبه ومؤهلاته) وتحركاته مفيدة لمخططاتهم، استدعوه، بعد التخلي عن زكي خلفية، لاستنطاقه وفحصه وإجراء التجارب عليه. يمكن أن توزع شخصيات أرض المور إلى فئتين: فئة المشير التي أسند إليه الخليفة مقاليد الأمور لتنفيذ فلسفة الحكم الجديد ( تحويل البشر من وحوش ضارية إلى عقلاء)، وهو ما أحدث تغيرات على مستوى البنيات الاجتماعية والذهنية البشرية. " ذاعت بين الخلق عبارة: نارت ونورت. بعد قرون من الظلماء شع النور واختلفت نوازع الحيوانية حتى عاد مسلما لدى الجميع أن ما كان لا يعود وإن حفظ أخبار من غبر ضرب من العبث" ص30. ثم فئة الصابونجي التي ملت، مع مر الأيام، آيات النظام، فتاقت مجددا إلى الطرق الملتوية والأساليب المعقدة، ونشر أوهامها وأحلامها بالترنم والشطح ( ما يصطلح عليه بترنم الملائكة).. ويؤاخذ المصلح الصابونجي على صنوه المشير أنه لم يقلبِ المقلوب، و يعاكسِ المد، و يدركْ لغة الغايات " من لا يستطيع أن يعكس ما يتلقى، أن يقلب المقلوب، لا يستطيع أن يطرب أو يُطرب" ص56. نجم عن تغيير المشير للحرف انقطاع السلسلة، وزرع حبة السهو والغفلة التي بعثت، من حيت لا يعلم، الماضي لينتقم ويؤكد أن أطواره تتوالى وتتنادى (حنين الإنسان إلى الفوضى بعد أن استطاب النظام ثم مله) . انخرط الصابونجي وأتباعه في الرجة التي عمت المعمور، ولم يستطع أحد تطويقها، فعم اليأس أرض المور عكس ما توقعه خبراء الشط الآخر، الذين كانوا يرهصون بتحسن عام يعيد شؤون الدنيا إلى مجراها السابق. ويعد هلال كروم وزكي خليفة من أتباع الصابونجي على درجات مختلفة. الأول صرح بأنه شارك في أحد فيالق الثورة قبل أن تهدأ الأوضاع و يتراضى الناس فيما بينهم. والثاني لم يند عن مسايرة عموم المواطنين الذين تعودوا على الوضع الجديد كما لو كانوا ينتظرونه ويحنون إليه ( نزاعات بين الأفراد، تشتت الأسر، تفاقم ظاهرة السطو والخطف والتنكيل). وما يبين أن أرض المور ملغومة بقنابل موقوتة، رغم ما توحي به التقارير المنتظمة من خضوع وطاعة، هو توصل رودني كوون بمسودة جمعية أو ناد يطلق على نفسه أولياء الحرية. ب- شخصيات أرض المغيب: رودني كون سليل أسرة أميرية في إيطاليا نزحت إلى أمريكا، مكلف منذ عقود بحفظ سجل الأجناس البائدة بمتحف بيبودي التابع للأكاديمية. يبحث في سر البقاء منكبا على المقارنة والوزن والترتيب والحفظ وترميم العظام وتنضيدها. أقنعه عنان رستم بالانضمام إلى فريق روس للبحث في آفة النسيان، فانتقل من متحف بيبودي إلى مجمع الأكاديمية حيث يجتمع كثير من الباحثين الموهوبين لإنجاز المباحث الخمسة تحت إمرة منسق ورقيب وهو القيم الأعظم.
ينقسم خبراء أرض المغيب إلى صنفين: صنف المتفائلين الذين أوشكوا على إنتاج الحبة السحرية، واستقدموا إيطاكا لمساعدتهم بخبراته ومؤهلاته. و فضلوا الاستغناء عن المشروع برمته لعدم توفر الشروط المناسبة والاكتفاء بما لديهم فقط. وهم يؤمنون بالاختلاف بعدما أصبح التمايز العرقي حقيقة علمية، ويرون أن المنطق لا يستقيم باستخدام المحترس منه في القيام بالمغامرة العظمى. ثم صنف المتشائمين الذين لا يرون فائدة من إنتاج الحبة في الظروف الحالية ( التهدئة والتدجين)، ويدافعون، بعد أن أصبحت لهم الغلبة داخل السلطة العليا، عن مبدأ الاحتراس من الغير تحسبا لوقوع رجة أكثر حدة من سابقاتها، وسعيا إلى مقاومة أي اندفاع نحو المجهول قبل فوات الأوان. ولذلك فهم " يبحثون عن إنهاء الترتيبات بسرعة والتأهب للمغادرة" ص223. 4-الخلفية الإيديولوجية: تشخص الرواية ثنائية الغرب ( أرض المغيب) والشرق ( أرض المور) تحت إمرة السلطة العليا الموحدة التي أنشأت الأكاديمية لإنجاز المباحث الخمسة، والاحتراس من كل الطوارئ التي تنذر بالاضطراب والخلل والنسيان. ولما اشتعل فتيل الرجفة في أرض المور، أرسل المندوب للتحكم في كل شاذة وفادة ، ومتابعة مجريات الحياة عن كثب، وطمأنة مرؤوسيه بسريان الأمور على الوجه المطلوب ." الكل طائع خانع. الكل راض بعد أن احترق بنار الرجفة" ص 48. ويسعى فضلاء الأكاديمية ، كل واحد من وجهته الخاصة، إلى إدراك نتائج ترضي القيم الأعظم الذي تبنى المبادرة وحرص على متابعتها وتقويمها وإنجاحها. وبعد أن ضجر من أبحاث المتفائلين التي تحتاج إلى المساعدة والوقت اللازم والمهادنة، مال إلى أفكار روس الطائشة ومقترحاته الغريبة التي تستند إلى مبدأ الاحتراس لمواجهة أية رجة مفترضة كما لو كانت وشيكة الوقوع. وما يسترعي الانتباه أن التجربة الأولية لما أخفقت في حال رستم عنان، تعززت مكانته في أرجاء الأكاديمية لكونه أقرب إلى مختبريه، وازدادت حظوته داخلها." بسبب تلك التجربة الفاشلة تعززت مكانة عنان عند كوون داخل الأكاديمية. عاد يتجول في أركانها كلها دون أن يعترضه أحد كما لو ارتقى بغتة إلى مرتبة وكيل القيم الأعظم" ص174. ولما أجريت التجربة على هلال كروم، وتبين أنها ناجحة لقي حتفه في ظروف غامضة. وهو المصير نفسه الذي أودى بحياة زكي خليفة الذي استدعي ثانية إلى أرض المغيب، وبحياة جورج وليمز الذي انتقل من الخلاء إلى ضواحي قاعدة الغرب الوسيط. ويتضح من هذه الحالات الثلاث أن عملية القتل مدروسة يتحكم في خيوطها عن بعد متشائمو السلطة العليا الموحدة لخدمة أغراضهم السياسية وتوجهاتهم الإيديولوجية، وإخماد أي صوت يمكن أن يكون سببا أو طرفا في وقوع رجفة أخرى. فهم يحتكمون، عكس المتفائلين، إلى الحذر والحيطة من أي رأي مخالف ينذر بالرجة المحتملة. ويتضح من مجريات الأحداث أن الخلفية الإيديولوجية هي التي تتحكم في إنجاز المباحث الخمسة وإجراء الفحوص والتجارب العلمية على ذوي أعراض معينة لمعرفة ما يجري في دم شرايينهم وعروقهم وما يدب في خلايا دماغهم، وضبط أسباب الرجة الحقيقية والمحتملة. وإن اختلفت مرجعيات الخبراء ومنهجيتهم ( أكانت فزيائية أم كيميائية أم كهربائية) فهم يسعون إلى الوصول إلى النتائج نفسها، التي تصبح بدورها مثار تأويلات مختلفة ومتضاربة. يبحثون في الآفة من منطلقات وفرضيات علمية في ضوء أهداف برنامج دقيق وشامل يشرف عليه باحث متمرس هو القيم الأعظم. ولا تتحاشى منجزاتهم الكبيرة ما حل بأرض المغيب. أصبح السؤال المتداول ( ما ذا طرأ أرض المغيب؟) يؤرق الجميع ولا أحد يستطيع أن يغفله أو يستبعده من اهتماماته. انصب كل باحث أو مهتم، من وجهة نظره الخاصة وانسجاما مع طبيعة تخصصه، على شرح الظروف أو وصفها أو تحليلها أو تضخيمها. و يكشف هذا السؤال عن تعمق المفارقة بين تطلعات خبراء أرض المغيب وواقعهم اليومي. فمن جهة، تزايد الإحساس لديهم بفقدان السيطرة على الأحداث، وتضاعف لديهم هاجس الحيطة من الغير والنزوع إلى وضع أسوأ السيناريوهات التي مكنتهم دوما من السيطرة على الأرض، وضمان مستقبل فصيلتهم وتقويتها لما يخدم الإنسانية جمعاء. ومن جهة أخرى،استفحلت ظواهر مضايقة الحرية الفردية ( في أرض تنعت بإمبراطورية الفرد الحر المستقل) والعزلة والإهمال والأمية ( ربع الساكنة لا يستطيعون ملء استمارة شغل، ولا يفهمون إشارات المرور، ولا يقومون بواجبهم الانتخابي، ولا يطالعون الصحف. والأدهى في الأمر أن هناك فئة عريضة جدا لا يفهمون التعليمات الاحتراسية المثبتة على مبيد الحشرات).
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأحد 06-06-2010 08:35 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 2576 التعليقات: 0
|