لوحظ في السنوات الأخيرة انحسار دور المثقف بسبب عزلته واهتمامه بقضايا علمية وثقافية صرفة أو بحثه عن مواقع اجتماعية وحزبية تضمن له الترقي والأبهة الاجتماعيين(الصورة المرفقة من التظاهرات التي دعت إليها حركة 20 فبراير في جميع ربوع المملكة المغربية، وهي صورة ملتقطة من تظاهرة الرباط التي شاركت فيها مع زمرة من المثقفين المغاربة) نشر هذا المقال في الملحق الثقافي " ملتقى الفكر" جريدة الأحداث المغربية، ع 4285، 25 فبراير 2011.
وهو ما جعله ينأى عن النقاشات الساخنة والقضايا الجوهرية، ويتخلى عن سلطته النقدية لترسيخ ثقافة مضادة ، ولا يعير اهتماما كبيرا للتحولات الاجتماعية والثقافية المباغتة التي لا تستجيب لتوقعاته وتحليلاته. إن أغلب المثقفين يتبنون الدورية الخطية الصارمة والحتمية التقنية (مستوحاتان ، على التوالي من التاريخانية و الفلسفة الوضعية) ولا يكترثون بالتطورية الفوضوية التي تفضي إلى الفوضى الخلاقة، والانشطار الثنائي، وكارثة التشعب العادي، وكارثة التشعب الكارثي الفراشي أي كل ما تنتج عنه صيرورة غير منتظمة، وما تترتب عليه تحولات مفاجئة لم تكن متوقعة أو في الحسبان.
ومن بين هذه التحولات ندرج ثورة الشباب العربي التي انطلقت شرارتها الأولى من سيدي بوزيد بتونس، التي بينت أن انسحابهم من المعترك السياسي كان مبررا بحثا عن أشكال جديدة للتواصل والتفاعل وسعيا إلى إيجاد بدائل مغايرة تعيد الاعتبار إلى دوره في المجتمع، وتضمن له العيش الكريم، وحرصا على تفادي أشكال التعتيم والوصاية والحجر التي تكبل حريتهم وتعمق لديهم الإحساس بالنقص والتهميش والحقرة. لم يكن أحد يتوقع أن هذا الشباب "المدلع" و"الغفل" و"غير المسيس" سيهتدي، بحكم الثورة المعلوماتية والرقمية، إلى فضاءات رحبة تتيح له هامشا أوسع للتعبير عن أفكاره ومشاعره بحرية وجرأة ودون خوف وتردد، ومناهضة كل أشكال الرقابة والتلصص، ومواجهة النخب السياسية والثقافية التي تبحث عن " توفقات" إرضاء لمصالحها الشخصية دون الالتفات إلى تطلعات الشعب وإرادته. إن امتعاضه من الخطابات الطنانة واللغة المتخشبة والوجوه المكرورة وتفاقم المشاكل الاجتماعية ( وفي مقدمتها مشكل البطالة والصحة وتكلفة التعلم) استحثه على البحث عن بدائل جديدة يمكن أن تنعش أماله، وتنهض عزائمه، وتعيد الاعتبار إليه. وهكذا اهتدى إلى الشبكة العنكبوتية التي وفرت له، مع مر السنين، إمكانات هائلة في التواصل افتراضيا مع غيره، واسترجاع كينونته المفتقدة، والمشاركة في النقاشات والدردشات، والتعبير عن مشاعره وهواجسه ومخاوفه دون قيد أو شرط رغم أنه يعلم بوجود " عيون متلصصة" تلاحقه وتترصده، لكنها غير قادرة على صد أنشطته وإعاقتها. واكتشف تدريجيا أن هناك مواطنة افتراضية عابرة للأوطان والقارات لا تمت بصلة إلى ما يعاينه في محيطه الاجتماعي. وأضحت مواصفات هذه المواطنة تفعل في نفسه ووجدانه، وتؤثر في فلسفته في الحياة، وتحرضه على الثورة بحثا عن استنبات ما يلائمها في واقعه المعيشي حتى يكون له الدور والمنزلة عينهما اللذين يتمتع بها أنداده في الدول المتقدمة.
وبالمقابل، وجد كثير من المثقفين في الرواية متنفسا للتعبير عن المشاكل الاجتماعية والسياسية بطريقة فنية، وتشخيص معالم" مواطنة تخييلية" تتحقق فيها مطالب الذات (الحنين الملحمي)، وتتقلص فيها الفوارق الاجتماعية والطبقية. وتقوم هذه "المواطنة" أساسا على نقد الإيديولوجية السائدة، وبيان هشاشة اللغة الواحدة الآمرة، وإفساح المجال للشخوص للتعبير عن آرائها ومواقفها ومطالبها على نحو تتفاعل أو تتصارع فيه الأصوات والعينات الإيديولوجية واللغات الفردية والجماعية على قدم وساق سعيا إلى توطين القيم الكونية التي تضمن حقوق المواطن وتسعفه على أداء وجباته بعدالة وإنصاف.
يمكن، من باب التمثيل، أن نورد بعض العينات الروائية العربية التي تستحضر جوانب من هذه المواطنة المغيبة في أرض الواقع لانهيار كثير من القيم العليا، وانسداد الآفاق أمام الجماهير العريضة، وتضييق الخناق على الحريات العامة.
يتسم عنوان رواية " ذات"(1992) لصنع الله إبراهيم بالصبغة الإيحائية. فهو اسم امرأة موظفة في أرشيف صحيفة عانت الأمرين من انتقال مصر من النظام الاشتراكي إلى النظام الليبرالي لعدم قدرتها على مواكبة مسيرة الهدم والبناء (توفير مصروف يلبي حاجات الأسرة بسبب غلاء المعيشة ). تتباهى أمام زميلاتها في العمل بقدراتها الفائقة على تدبير شؤون بيتها وتأثيثه بمعدات ولوازم فاخرة ، لكنها لما تعود إليه تدخل في مواجهة عنيفة مع زوجها عبد المجيد لعدم استجابته لطلباتها الملحة لقلة موارده المالية. وذات، من جهة أخرى، هي مصر التي دخلت عهد الخصخصة التي أسهمت في تعميق الفجوات بين الطبقات الاجتماعية وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتبذير المال العام، وانتشار برامج البث المعتادة (الشائعات-الطرائف- الفوازير-الاغتياب). أجبرت سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي مختلف الفئات على الانخراط في مسيرة "الهدم والبناء"، والبحث عن المال للتغلب على صروف الدهر. ونتيجة تعمق الهوة بين الواقع والأماني (وخاصة بين ما يزعمه الخطاب الرسمي وبين ما يعاينه الفرد في حياته اليومية) تقوى خطاب الجماعات الإسلامية في أفئدة الناس لأنه أضحى يدغدغ مشاعرهم واعدا إياهم ببدائل مثلى ووعود براقة. ونتيجة معاناة ذات من أزمة نفسية حادة ( دخول زوجها إلى السجن بعد تشاجره مع الشنقيطي وكثرة المصاريف وارتفاع الأسعار) أصبحت مفعمة بالخطاب الديني لطرد العفاريت التي أصبحت تقلقل راحتها وتقض مضجعها.
يحتمل عنوان رواية " الفريق"(1986) لبعد الله العروي معنيين. أحدهما تقريري، يفيد الفريق الرياضي الذي شكله شعيب لإعادة الثقة إلى الجمهور الصديقي (نسبة إلى بلدة الصديقية) ورفع اسم مدينتهم في المحافل الرياضية. وثانيهما إيحائي يخص " جماعة وسيطية" لا تؤدي دورها الاجتماعي على ما يرام لاشتداد الرقابة على أنشطتها من لدن السلطات المحلية من جهة، وتضارب المصالح الذاتية والجماعية، والقيم الحداثية والسلفية من جهة ثانية. وهو ما يؤثر سلبا في دورها التأطيري، وينجم عنه " فراغ" اجتماعي وثقافي داخل المدينة. ونتيجة هذه الهوة بين النخب، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، وبين الجماهير التواقة للنصر والتغيير تحدث بين الفينة والأخرى مظاهرة/ بركان ( لوجود تشابه بين البركان الذي حدث في مسيور والمظاهرة الاجتماعية التي حدثت في الدار البيضاء) لم يتمكن الأخصائيون والباحثون من معرفة أسبابها الحقيقية. واندلعت المظاهرة بعد العرض الباهت الذي قدمه فريق شعيب ( لم يقدر على بلورة ما تلقاه من تعليمات متضاربة ( دينية وصوفية وخرافية وحداثية) على أرض الواقع)، إذ عمد الجمهور على إضرام النيران وتخريب المنشآت احتجاجا على الهزيمة التي مني بها الفريق الذي لم يكن في مستوى التوقعات المنتظرة منه.
لما كان علي نور في الملعب صحبة خميطة سمع صياح الجمهور وهتافه، وتناهي إلى سمعه الموضوع المنفلت الذي كان يبحث عنه منذ سنين. هو ما يتلفظ به الجمهور الغاضب ( النار في الحطب) الذي يحتج بطريقته الخاصة على نحو يمكنه من فرض إيقاع غير متوقع في الحياة ( المظاهرة/ البركان) تنفيسا عن مكروباته، وتعبيرا عن مشاغله وأهوائه وهواجسه، وسعيا إلى انتصارات تنسيه غُمم الهزائم المتتالية والمتراكمة.
ارتقى "لخضر"( الشخصية الرئيسة في رواية ياسمينة صالح المعنونة بالاسم نفسه(2010)) من حمال في الميناء إلى جنرال بسبب تفانيه في العمل،والتستر عن مظاهر الفساد والتهريب، وتلفيق التهم للأبرياء، وكتابة تقارير عنهم وتصفيتهم جسديا. ولقد انتابه، مع مر الأيام، تمزق بين انتمائه لأسرة كادحة و تطلعه إلى السلطة المستبدة ، وبين ما يعاينه في الواقع وما يضفى عليه هالة من التضخيم استجلابا لاحترام رؤسائه وتقديرا لمؤهلاته الاستخباراتية، وبين حنينه إلى الفتاة ( اسمها نجاة) ألتي لفظته لتتزوج بضابط وطلب يد فتاة عرجاء ومريضة بالقلب ( اسمها أيضا نجاة) إرضاء لرؤسائه في العمل ( قبول الصفقة لتفقد أحوال أسرتها وممارسة عمله الاستخباري لجمع معلومات عن والدها مدير الجامعة). ومن حسن الصدف أن حسين (ابن لخضر) أحب " حياة" وهي بنت نجاة التي لم تسغ الزواج بلخضر لكونه حمالا ابن حمال. وهكذا نلاحظ، من بين أشياء أخرى، تقاطعات مفاجئة ينسجها الحب ويخلق منها معادلات غريبة تكشف عن تناقضات ومفارقات بين فئات اجتماعية، وتبين ما حصدته الآلة الإرهابية من أبرياء، وما خلفته من آثار وجراح في جسم المجتمع الجزائري ( قتل ، جراء عمل إرهابي،أب حياة الضابط الذي انتزع عشيقته ( فيما بعد أم حياة) من مخالب حب لخضر، وتعرض أيضا حسين ابن لخضر لعمل إرهابي أدخله في غيبوبة..). بالجملة تحكي الرواية عن فترة عصيبة من تاريخ الجزائر تميزت بتنامي العمليات الإرهابية واشتداد عضد الحركات الإسلاموية. وتعلل الروائية ذلك بطغيان الهاجس الأمني، وتفاقم المشاكل الاجتماعية، وانسداد الآفاق، واستفحال ظاهرة الاحتقان الاجتماعي، واغتناء قادة الجيش من تهريب المواد الغذائية والأسلحة وتصارعهم سعيا إلى كسب مواقع نافذة استجلابا للمنافع الشخصية.
ركزنا، فيما تقدم، على نمطين من المواطنة (الافتراضية والتخييلية) لبيان المفارقة بين الواقع والطوبى، وبين المعيشي والافتراضي، وإبراز الإمكانات التي تتيحها الفضاءات الرحبة والمفتوحة لفرز نخب جديدة من رحم الثورة الرقمية، والتعبير عن الهواجس المغفية، والتطلع نحو آفاق جديدة، والتحرر من أشكال التلصص والرقابة والوصاية المفروضة من عل. مكنت الفضاءات الافتراضية الشباب، على اختلاف مستوياتهم التعليمية والثقافية وتباين أقطارهم، من التواصل فيما بينهم، وتبادل الخبرات والآراء والمواقف، وتوحيد الخطط والرغبات والمشاريع المشتركة. وهكذا أصبحوا يشكلون قوة ضاغطة ومنتجة وعبر قارية لتغيير الأوضاع الاجتماعية المزرية، ومناشدة مجتمع بديل يضمن كرامة المواطن، ويعترف بالحقوق الإنسانية والكونية ( الحق في التنمية، والحق في التعليم، والحق في الشغل، الحق في الاختلاف، الحق في المشاركة الثقافية والسياسية، الحق في الهوية الثقافية) . اكتشفوا ضالتهم بعيدا عن الأشكال الثقافية والإعلامية السائدة التي لا يجدون فيها ما يشفي غليلهم، وما يعبر عن همومهم ومشاغلهم. اهتدوا، بفضل الثورة التكنولوجية، إلى فضاءات افتراضية ( اليوتوب Youtube، الفايسبوك Facebook، توتيرTwitter، المدونات الشخصيةBlogs ، ما سبيس My Sapace، وركوتOrkut ...) تحولت ، مع مر السنين، من قنوات للتسلية والاسترواح والتعارف إلى منابر لانتقاد الأساليب الاستبدادية في الحكم والشطط في استعمال السلطة، و تعبئة الرأي العام وحفزه على الثورة ، والسعي إلى تغيير العقليات والرؤى للوجود، والإرهاص بقيم كونية يتمتع بها المواطن في كل بقعة من ربوع الكون. وهكذا تجاوزوا، في ظرف وجيز، الوظيفة التقليدية للفئة المثقفة والنخبة السياسية، وأصبحوا صناع القرار السياسي في منأى عن أشكال الاحتواء والالتفاف والتوافق المعتادة التي غالبا ما ترضي حفنة صغيرة على حساب الجماهير العريضة، وتحرف النقاش عن أداء وظيفته الحقيقية لتفادي تراكم المشاكل واستفحالها عوض تقديم حلول سطحية ومؤقتة ( ما يصطلح عليه بالحلول الترقيعية). وجد المثقف أو السياسي نفسه - في خضم هذه التحولات والثورات المفاجئة- خارج اللعبة الجديدة، وغير مؤثر في دواليبها، وغير متحكم في زمامها ونتائجها. فما عليه إلا أن يترقب الوقت المناسب ليتلون بألوانها، ويتكيف مع آلياتها محاولا استكشاف خلفياتها ومغازيها، وبيان تأثيرها في زحزحة موازين القوى وعلائقها.
وبالمقابل، أسهمت المواطنة التخييلية ( وإن كانت محدودة التأثير) في تشخيص المشاكل الاجتماعية والسياسية بطريقة فنية، و نقد الإيديولوجية السائدة واللغة المتخشبة، و المطالبة باستنبات القيم الأصيلة في المجتمع، والحنين إلى كلية خفية (التناسب والتناغم بين الذات ومطالبها) . أثارت الروايات الثلاث، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، بعض المشاكل التي تحول دون تقدم المجتمع وازدهاره وضمنها غياب التأطير الاجتماعي السياسي، واستشراء الليبرالية المتوحشة، وغلبة السلطة على المجتمع. ونظرا لغياب البدائل الممكنة أو التباسها، نتيجة انتفاء أخلاقية النقاش والتدبير الديمقراطي، ينساق المواطن أمام التحاليل المبسطة والشعارات الإسلاموية . في ضوء ما سبق نقترح، من بين اقتراحات كثيرة، ما يلي:
- أن تسهم الدولة في دمقرطة الإعلام والثقافة، وتقليص الفجوات الرقيمية بين مختلف الشرائح والجهات والمناطق، وتوطين مجتمع المعرفة ( توفير البنيات الأساسية للتكيف مع الآليات الجديدة لإنتاج المعرفة وتلقيها)، واستنبات البيئات التمكينية (توسيع مجال الحريات العامة، استحداث المؤسسات الحاضنة، القيام بإصلاحات دستورية وتشريعية تضمن الوصول إلى السلطة بانتخابات نزيهة وبنخب تحظى بثقة القوى المُتخِبة ، خلق حوافز للابتكار والإبداع)، وصياغة مشروع تنموي متكامل لتوفير العدالة الاجتماعية والحكامة الجيدة، وتحسين شروط التنمية المستدامة ومستلزماتها، وتحيين جيل جديد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وتأهيل الشباب وإدماجه في الحياة العملية وحفزه على إبداء قوته الاقتراحية في الفضاءات العمومية.
- أن يجدد المثقف أدوات وطرق عمله حتى يغدو عنصرا فاعلا في الحياة العمومية والفضاءات الافتراضية، ويحسن أداء العمل الجمعوي والسياسي، ويحفزه على الانخراط في النقاشات الحيوية التي تمت بصلة إلى تنمية المجتمع ومجالات إنتاج المعرفة ومرتكزاتها، وتسجيب لتطلعات الشباب وتوقعاته ، وتسعفهم على تطوير قدراتهم على الإنتاج والإبداع المعرفيين. وفي هذا الصدد، ينبغي لبصيرته أن تظل وقادة حرصا على بقاء جذوة الأمل والتغيير مشتعلة في قلوب الشباب ، بوصفهم عماد الأمة العربية ومستقبلها،إلى أن تتحقق مطالبهم الاجتماعية والسياسية وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية بما تحمل هذه العبارة من معان وإيحاءات كونية.