قراءة في «ملائكة الجنوب» للروائي نجم والي-د. إدريس الخضراوي
عالم نجم والي حافل بالمشاعر والاختلافات والرؤى والأفكار إلى الحد الذي يعجز القارئ عن حصره في أنساق دلالية بعينها. فمعرفته الواسعة بالأدب العالمي، خاصة الأدب الألماني، وتأثره بالمبدعين الكبار، والبناء المفكر فيه للسرد، يكسب تجربته أفقا خاصا، تنتشي فيه بالانفتاح على ممارسات كتابية متنوعة والمؤاخاة بينها، ( الصورة المرفقة للروائي نجم والي)
لكنها تظل مشدودة إلى حضن الرواية كجنس أدبي، مبحرة في جاذبية المتخيل وعلاماته ورموزه الناضحة بالدلالة، وهذا ما يوفر لها القدرة على التمنع والتأبي على التأويلات النهائية أو الجامعة، أي تلك التي تقدم نفسها كما لو أنها نسق غير قابل للمساءلة. لنقل إنها نصوص مفتوحة لا تكف عن رفع التحدي أمام القارئ، بما تحدثه من أوقاع جمالية واستكشافات فكرية وذهنية قوية في شعور الأبطال وتذكراتهم، وفي جوانب مختلفة من زمن التجربة العراقية بأحلامها وأوجاعها ومفارقاتها.
بهذا المعنى أعتبر أن لرواية «ملائكة الجنوب» مخططها الفلسفي السري والروحي الذي يضفي كثيرا من الكثافة على الحدث المركزي فيها. فكل لقاء أو محادثة بين العوائل العراقية في عماريا بتنوع هوياتها وتداخل نسيجها الإثني يحمل أمدادا مختلفة من العبق والأفكار والمشاعر والإلماعات النفسية والاجتماعية والتاريخية. كل ذلك يلتقطه نجم والي بأسلوبه القوي والعنيف المستند إلى التشذر والتذري، وتنويع الشخصيات والحكايات والمرجعيات الموزعة بين ما هو إنساني وما هو ثقافي بالمعنى الواسع، مازجا بين الواقعية في حسيتها وسحريتها والغنائية الكاشفة لدهاليز الذات ودياجيها الخفية. فالقصص التي يرويها السارد بضمير المتكلم أو عن أبطاله أو تلك التي ترد على ألسنتهم لا تغدو دليلا عن رحلتهم الحياتية بما فيها من ضروب الحب والألم والضياع وحسب، وإنما هي كذلك مرايا صقيلة تنعكس عليها مغامرات وتعثرات بعضهم بعضا. فالحب الذي يمحضه نعيم أو نور لملائكة على سبيل التمثيل يأخذ كثافة شعرية وروحية حينما تتجسد عناصره وعلاماته وأشواقه في تجربة أخرى مماثلة كتلك التي تجمع بين إدوارد ورينا صديقي البحار البرتغالي لويس كورفالهو الذي يروي قصتهما/ قصته لنعيم في طريق عودتهما للبصرة. لكأن نجم والي بهذا التداخل والمزج بين الهويات والتجارب والمصائر الشخصية والجماعية، وبهذا الارتقاء بالشخصيات إلى مدارج التجلي والمكاشفة التي تحررها من إسار كل ما يعتم على مسار الانخطاف بعضها ببعض، يجعل من السرد/ القصص محورا للذات وللوجود، وطنا نصيا فسيحا لاستعادة الجذور الأصلية المقطوعة. وأحسب أن العنصر الأساسي الممكن اشتقاقه من هذا المقترح الفكري والجمالي يكمن في أطروحة شديدة الأهمية، وهي أن البنية السردية ليست هنا بمثابة الرداء الذي يخلعه الكاتب على شيء لا ينتمي إليها، بل هي البنية الواقعة في صلب التجربة الإنسانية. ومعنى هذا أن الرواية عند نجم والي تظهر مدى تورط الإنسان في المحكيات والقصص، لكأنه لا يحيا إلا بها، تماما كتلك الاستعارات التي تحدث عنها جورج لايكوف ومارك جونسن في كتابهما اللافت: «الاستعارات التي نحيا بها».
بهذا المعنى يمكن للقراءة شق مساراتها في هذا النص واقتفاء آثار الدلالة فيه. وثمة عناصر متعددة تتحكم في التأويل وتفصح عن وظائفها وأبعادها في تجاوب مع الأفق المتحكم في توليد السرد وتشييد عوالمه. يتعلق الأمر بعودة الراوي هارون والي من المنفى إلى العراق بعد أشهر من سنة 2003 التي خضع فيها للاحتلال الأميركي، وبالتحديد لمدينة عماريا في الجنوب بعد غيبة طويلة ناهزت ثلاثة عقود. يدخل السارد فجرا للمقبرة الإنجليزية والهندية التي دفن فيها الكركة، وهو الاسم الذي أطلق على الموتى من جنود المستعمرات البريطانية في شرق آسيا، كعادة جده الذي عمل «بستنجيا» بالمقبرتين، فتبرز أمامه تلك الجملة التي خطها باللون الأزرق بعد قرابة نصف قرن. باستثناء هذه الجملة: «ملائكة الجنوب» و«ماركة دبس العروس» القديمة التي حملت الصورة الأصلية للملائكة، الصورة التي نقشها بيده نور أو الملاك كما أطلق عليه سكان المدينة، لم يعد ثمة شيء يذكره بالمكان. وإذا كانت الرواية تغري بقراءتها بوصفها تقريرا يضطلع السارد بإنجازه قصد الإمساك بالوعي الطفولي بالعالم وبدايات التعرف عليه كما يستوطن الذاكرة، وتمثيل التحولات والمحن الرهيبة التي كابدها العراق في تاريخه الحديث، مستندا في ذلك إلى متن سردي يمتزج فيه الشفوي بالكتابي والصورة، فإن اللعب بالحرية، على طريقة النصوص التجريبية الكبيرة، يجعلها حافلة بالومضات والتذكرات وتعدد الأقنعة. ومن ثم فالعناصر الموضوعية التي تشدنا إلى الواقعي بتنويعاته المختلفة التاريخية والشعورية سرعان ما تتوارى أمام قوة الومض والكشف والمصادفات والإشارات الدالة على تجربة الكاتب. وعلى هذا الأساس فإن أحداث الرواية التي يتكفل هارون والي بتقديمها لا توفر مساحة واسعة لاستبطان الذات واستدعاء الذاكرة بهدف التجذر في المكان فحسب، علما بأن المكان هنا لا يكتسب دلالاته من تأطيره للأحداث وحسب، وإنما مما يجري فيه من قيم ورموز وأساطير وحوارات وصراعات وحراك وحب وصداقات وانتكاسات وأحزان، بل تفتح أفقا واسعا لتمثيل التعددية الثقافية في المجتمع العراقي، وتشخيص مكابدات قومياته وطوائفه المختلفة خلال النصف الثاني من القرن الماضي خاصة الطائفة اليهودية التي يفتتن الراوي بالتقاط حضورها في المجتمع من خلال أسرة الطبيب اليهودي داوود كباي المصر على وطنيته وانتمائه للعراق على الرغم من التهجير القسري لطائفته، وابنته ملائكة التي يضفي عليها الكاتب رمزية عميقة ليس فقط لكونها محور ارتكاز القصص كلها وحسب، بل لأنها كذلك تختزن كل عناوين الزمن الوردي لمدينته عماريا. لكن عنوان الرواية يمتلك من الكثافة الدلالية ما يغدو معها عنوانا مضللا يخترق اللغة والخطاب والرؤية حول جدل الأنا والآخر والمجتمع والذاكرة والتاريخ والهوية ليتعين أفقا رحبا لأولئك الاستثنائيين الذين لا يصنعون القصص وحسب، وإنما لأنهم كما وصفهم جد الراوي الذي عمل «بستنجيا» في المقبرة الإنجليزية: «ملائكة الجنوب». (الرواية، ص90).
تتكون الرواية من خمسة كتب، ثلاثة منها من اختلاق الراوي هارون والي الذي ينهض بالسرد بضمير المتكلم والغائب، أما الكتابان الثاني والثالث فهما من إبداع نعيم عباس على نحو ما يفيد السارد - الذي ينوب عن المؤلف - قراءه في مستهل الرواية. وعلى الرغم من أن الكاتب يتطلع عبر هذه التقنية إلى التغطية على العينات «السيرذاتية» المتعددة التي تتخلل الرواية إلى قراءتها باعتبارها عملا تخييليا، فإن الإصغاء للمحكيات المختلفة التي يتم استحضارها عن طريق الانشطار السردي، تفيد بوجود أكثر من علاقة بين الراوي والشخصيات الأخرى التي تتقاسم معه مسؤولية تركيب القصة والانتماء لمناخاتها المختلفة. فنعيم أصغر صحافي وشاعر عرفته مدينة عماريا يأخذ في مواجهة القدر المأساوي، بعد التدهور المريع لمدينته، هويات متعددة وأسماء مختلفة ليس أكثرها دلالة في التلميح إلى التكنيك السردي المعتمد في الرواية سوى اسم هارون والي الذي اتخذه خلال عودته للبصرة، وهو الاسم ذاته الذي نتعرف من خلاله على هوية السارد في الرواية، مما يضعنا جماليا في سياق لعبة الأنداد لدى الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا، لكنها عند نجم والي لا تؤدي إلى توسيع المحكي المركزي وتحريك مسارات سردية جديدة تسهم في تعقيده وإخصابه وحسب، وإنما تفصح بقوة عن التغريبة العراقية في فصولها الأكثر قتامة وهشاشة وانكسارا.
وإذا كانت الفصول التي ينسبها الراوي لنفسه تشد الرواية إلى زمن العودة إلى العراق بعد تجربة منفى ممزوجة بوهم الانتماء إلى هويات مختلفة، فإن القصص المنسوبة إلى ملائكة (يهودية) ونعيم (مسلم) ونور/ الملاك (صابئي) تضطلع بالتشريح العميق للفضاء الذي عاش فيه هؤلاء الرواة الأربعة ورصد علائق الحب التي نسجت بينهم وتشخيص مواجهتهم لمصائرهم التي انفلتت من أيديهم لتغدو رهينة ذهنية منغلقة ومتسلطة. وهذا السياق الروائي الكارثي والملتبس والمستعصي على الفهم يستلهمه السارد لتعميق مأساة عماريا، والتعبير عن تاريخها المكتوب بمداد الطوائف والأعراق والإثنيات والديانات المختلفة التي استقرت فيها. وبما أن المنفى تجربة قاسية وفظيعة لأنها محصلة انشطار بين الانشداد إلى المكان الأصلي وتعذر العودة إليه لأسباب قد تكون سياسية أو دينية أو عرقية، فإن منجزه الكتابي غالبا ما يتسم بانجذاب قوي نحو كل ما يصهر ويجمع ويلملم مكونات الهوية في تنوعها وتعددها حد أن يغدو ذلك التمازج بمثابة البوصلة الموجهة. وبهذا المعنى يمكن تلقي الرحلة الاستكشافية التي ينجزها نجم والي في تاريخ عماريا بقومياتها ومعابدها ودياناتها والبوشيه الذي تحمله نساؤها على مدى حقب سحيقة، بحثا عما يوفر للرواية فطنة التعبير التي تستحقها. إنها لطريقة مبتكرة في البناء السردي وفي التداخل بين الأزمنة والتوحيد بين القارئ والأبطال، تنعطف بالرواية نحو تمجيد الحكي، وتحرير الراوي/ الرواة من مضايق التصنع والتجريب المتكلف
في هذا الجانب الذي تتقاطع فيه الرواية مع تجارب أخرى كثيرة جعلت من السرد أفقا لتشييد الوعي وتأسيس المتخيل الجماعي الذي يحفظ للذات تماسكها، يبدو نص نجم والي في تخطيطاته التي لا تظهر خلفيتها للقارئ لأول وهلة.