حرر في الأربعاء 29-12-2010 10:35 أ£أ“أ‡أپ
الجنس الإشكالي حقاً والذي يجري الحديث عنه من جهة الغرض والتقدير، أي المقاربة والاستنطاق لا سيما في الرواية بوصفها «سيرة ذاتية مقنعة»، ومع مطلع السبعينيات تم الاعتراف بها، إذ انها حسب فيليب لوجون: حكي استرجاعي يقوم به شخص واقعي، عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة. مع ما تتركه السيرة الذاتية من مجال واسع للاستيهام حسب- فابيرو- فقد تفضي معالجتها بوصفها توجهاً عاماً في كل أنواع الكتابة، وليس بوصفها جنساً أدبياً، ربما بدت برأي النقاد غير مرضية لهم، لكنها ذات فوائد جمة لمن يدرس الأدب العربي بطريقة عملية. ولكن ثمة سيرة ذهنية تستدعى كأطروحة معرفية- جمالية، فما علاقتها بالسيرة الذاتية؟ وهل هناك سيرة ذاتية غير أدبية، تعطي الانطباع على أنها شكل انتقالي في الكتابة بين ما هو أدبي وما هو خلاف ذلك؟ وهل الوظيفة الأدبية للسيرة الذاتية، هي وظيفة جزئية وملتبسة، موجودة في عمل ما غائبة في سواه؟!. ولعلّ تلك الأسئلة وغيرها، قد شكلت المجال الجاذب لأطروحات جدّية، ومنها ما لفت الانتباه إلى خصوصية الجنسين «السيرة الذاتية الذهنية والسيرة الذهنية، ومحاولة ملء خانتيهما الفارغتين بوصفهما وجدا قبل أن يتحققا ويعترف بهما. تلك كثافة البحث الطريف والمجتهد للناقد والباحث المغربي د. محمد الداهي، والذي جاء بعنوان شعرية السيرة الذهنية- محاولة تأصيل- إلى جانب مؤلفاته العديدة في مجالات السيميائية والشعرية ومنها كتابه المتميز «سيميائية الكلام الروائي» الذي استحق جائزة المغرب للكتاب لموسم 2006. إن ولوج الناقد- الداهي- فضاءات النصوص القديمة والحديثة العربية والغربية، مكنه من اكتشاف خواص إضافية تميز طبقاتها كما يرى ذلك الناقد د. سعيد يقطين، ليزاوج بين الهمّ النقدي الذي يسعى إلى إبراز ميزات كل أثر فني على حدة، وبين المنحى الشعري الذي يتوخى تحديد خصائص النموذج البنائي، ليقول بالسيرة الذهنية تنويعاً على السيرة الذاتية ومحاولة القبض على المختلف والمؤتلف، ليضيف للنقد الثقافي أبعاداً جديدة، لطالما كان للسيرة، ذلك الشغف والتجربة والمعنى الثقافي بشكل أوسع المركوز في طبقات نصوص دالّة، كما حكاياتها الصغرى، إذ يعرّف الناقد الداهي السيرة الذهنية انطلاقاً من تعريفي زيفاتير وتودوروف أي: «لا يوجود تعريف جامع لمفهوم الجنس الأدبي، فهو بنية تشخص متغيراتها في الأعمال الأدبية، بوصفها أي السيرة جنساً أدبياً يتطلّب اكتشاف قاعدة تشتغل عبر نصوص عديدة، ونراه يثير أسئلة من مثل: أيحق أن نتحدث عن جنس ما دون دراسة بعض العيون الدالة من المؤلفات التي يتشكل منها؟ ومن ثم، ما العلاقة التي تربط النصوص بالأجناس؟ وما العلاقة التي تربط نصّاً بجنس ما، ليواجه إشكالية التصنيف الاستعادي الذي يعالج مفاهيم الانتماء إلى طبقة من النصوص. يستدعي لدى الناقد مفهوم السيرة الذهنية، تمييز الجنس التاريخي من النظري، فالأول لديه يصدر عن ملاحظة الحقيقة الأدبية، وهو يتعلق بما تم تلقينه في المدارس، إذ يتم التعريف مثلآً بالمأساة الكلاسيكية التي تفترض وجود أعمال تنتسب إليها. أما الثاني فهو يستنتج من أعمال شعرية، وهو يحيل عن تودوروف فهمه للأدب الاستيهامي وتادييه للحكي الشعري، وسليمان سوزان للرواية الأطروحة. ليؤكد أن السيرة الذهنية هي صنف من السيرة الذاتية وامتداد مباشر لها، وعليه فإن السيرة الذهنية الموضوعية تتعلق بشخصية فكرية معروفة تستأثر بالاهتمام وبقطب من أقطاب التأليف والفكر ومن أمثلتها: ليليا لجورج صائد، وبناة العالم تولوستوي كازنوفا ستندال، لمحات من حياة العقاد المجهولة لعامر العقاد. ولعلنا نرى مع الكاتب الداهي، أن الكاتب في سيرته الذهنية يسترجع أطوار حياته الفكرية والثقافية، مبيّناً ما قطعه من مراحل وما اعترضته من عراقيل ومصاعب، وما عاشه من ترددات وتقلبات واضطرابات، وما متحه من الروافد الثقافية والتيارات الفكرية والايدلوجية المتباينة. واللافت في أطروحة الكاتب والناقد -الداهي- دقة اختياره للأمثلة والنماذج المختارة لمقاربة السيرة الذهنية، وتقريبها من ذهن المتلقي الضمني، وربما المحتمل، والتي تفصح عن منهج متوازن حصيف في استجلاء وتأصيل جنس أدبي بالنفاذ إلى أعماق طبقاته النصّية، يشي بخصوصية المغامرة، في جانبها المعرفي- الطريف- إذ يتوقف بعد موضعته للسيرة الذهنية في الفضاء السيري عند رحلة الغزالي في البحث عن الحقيقة الباطنية، وحي بن يقظان سيرة التوحيد والتوفيق، والتوابع والزوابع، وصدمة الممتنع ولذة الاخفاق في أوراق عبد الله العروي، وآبار الحياة وملاذات أيام العطش في شارع الأميرات لجبرا ابرهيم جبرا، وجنة بغير كتب في أنا للعقاد نماذج دالة تستقصي السيرة الذهنية في منجزات أدبية معروفة، لكن الطريقة التي تتم بها معاينة النصوص، قد تدفع لاثارة أسئلة جدية تمس الأبعاد التربوية والتعليمية التي تنطوي عليها نصوص بعينها، فضلاً عن الأبعاد الأخرى، الاخبارية أو التحليلية، وما يرشح مما يكتبه النقاد أو المفكرون عن أفكارهم وخواطرهم وتجاربهم بحلة قشيبة، وبطريقة فنية تتناوب فيها المداخل النقدية والنفحات الخيالية حيث تتضح مسافة بين الكتاب وكاتبه الغائب، والمثال من الناقد الفرنسي رولان بارث في كتابه «رولان بارت من لدن رولان بارث» فعملية التجنيس كما يراها الناقد محمد الداهي تقوم على آليات إنسانية كونية، فكل أمة تخرج أجناساً معينة من القوة إلى الفعل وتتداولها بحسب حاجاتها ومحفزاتها. وهكذا ترتقي السيرة الذهنية بشقيها الذاتي والموضوعي إلى جامع الأجناس، لنراها تتعدد إلى أنواع، كالتربوي والديني والفهرسي والمعجمي والاخباري، بل إن جمالية التشخيص تكمن في ما تشيده السيرة الذهنية على أعمال واقعية مألوفة أو غير مألوفة، لتولي السيرة الذهنية أهمية كبرى للذات المبدعة والمفكرة على حساب الذات الاجتماعية والحياة الخاصة. شعرية السيرة الذهنية شغف ناقد بتاكشف، وبردم هوة نصوص يعيد قراءتها تالياً في ضوء منهج مضبوط، لا يدعي كماله أو إحاطته بكل ما يتعلق بموضعة مفهومه للسيرة الذهنية واستخلاص كل مواصفاتها، في أطروحة بنائية تقرأ آثاراً أدبية بعتباتها وشذراتها وبمدى إجرائي يوائم بين الفرضية والتطبيق، يمنح فرضية ما حقها من السجال والجدل فيما تحرزه من علامات نقدية تجريبية قائمة على نبش الموروث الأدبي وإحالاته المعاصرة، ولعل معنى الكشف الذي أراده الناقد - الداهي- سيتجلى في تعاضد الشعرية مع السيرة، في الخلاصة والطريقة ، التي تثير تنبهاً جمالياً يجعل معالم السيرة الذهنية واضحة للقارىء المطّلع، وبمحاججة الكاتب في نزوعه الفكري والموضوعي، بصدد «تصنيف مؤقت» أو إشكالي تجلوه الذائقة كما الخبرة، سعياً لتلك الدلالة المنتظرة لما يعني مستقبلاً إبداعياً لسيرة ذهنية ذاتية أو موضوعية يملأ كل فراغاتها المحتملة (الشعريون) في سبرهم الواعي لطبقات النصوص و أقنعتها الأخرى. عن جريدة البعث العدد: 13669 - تاريخ11 -05-2009
|