دليل العنفوان: استقصاء الذكريات الوهمية-محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=35
الكاتب: mdahi


 حرر في الأربعاء 19-05-2010 05:52 أ£أ“أ‡أپ

ضمن هذا السياق نورد قولتين نقديتين تجنسان النص وفق معايير محددة. يقول محمد برادة:" ليست دليل العنفوان إذن سيرة ذاتية بالمعنى المألوف لأن شكلها وتقنيتها المركبة يكشفان عن علاقة معقدة بين ذاكرة السارد وسجل الأحداث المعيشة التي تعاقبت عليه في فترة من حياته..نعتبر دليل العنفوان سيرة تخييلية تستوحي أحداثا عاشها السارد-الكاتب في مرحلة من عمره. ولكن، وهو يحاورها وينسج منها مناخا وشخوصا وفضاء، يضع مسافة بينه وبينها ويبرز شكوكه في صحة بعض ما رواه، ويقر بالإضافات والحذوفات التي يقتضيها تأليف الكلام وإعادة تكوين التجربة على أساس من وعي التحولات الحاصلة في الذات وداخل المجتمع"([2]). ويؤكد عبد الحميد عقار ما يلي :" دليل العنفوان نص سيرذاتي. شخصية السارد فيه تتماهي كلية مع شخص المؤلف، وضمير المتكلم يهيمن في تصريف الكلام وتوجيهه...وحتى عندما يكون الآخرون هم مصدر التلفظ يظل السارد-المؤلف في موقع البؤرة: إليه يوجه الكلام، وبسببه وعنه يقال، هو ذات الكلام وموضوعه في آن واحد، وهو من يقوم في البدء والمنتهى بوظيفتي التنظيم والتأويل.. والظاهرة اللافتة للنظر في سياق هذا الانزياح لدليل العنفوان عن الميثاق السيرذاتي المألوف هي المتصلة ببناء السرد وبخصائص لغة الخطاب فيه. فالنص يخرق الدقة الكرنولوجية المفترضة في أي سيرة ذاتية ويكسر خطية الزمن تبعا لذلك"([3]). من خلال هاتين القولتين يتضح أن نص دليل العنفوان ينزاح عن المواضعات السيرذاتية المتعارف عليها، ولم يتقيد بالسجل المرجعي لأن الكاتب أضفى طابع التخييل عليه ، واستسلم ل" تداعيات مبتذلة" لتزييف الحقائق، ورتق الذكريات الوهمية، ومعاودة النظر في الماضي الشخصي في ضوء سياقات تداولية جديدة، وتحويل الواقع المستعاد إلى سيرة تخييلية.


فبقدر ما نتوغل في النص تنحل الخيوط التي ينسج بها عبد القادر الشاوي عوالمه التخييلية، ويكون منها فسيفساء تجاربه الذاتية. يعيد الكاتب بناء ما عاشه من أحداث بتلقائية، لكن بتلطف وحذق في انتقاء المشاهد الأكثر دلالة، و اقتناص اللحظات الهاربة التي تكشف عن عنفوان الذات ومرحها من جهة، وعن معاناتها من محن الحياة ودواعي الدهر من جهة أخرى . وبما أن الماضي المفقود والهارب قد استحال إلى ذكريات مفتتة ومتشظية، فإن استحضاره من جديد لا بد أن يتسم بنفحات الحاضر وقبساته، ويتغذى بما طرأ على الواقع من تبدلات جوهرية، ويفضي إلى تعايش وتساكن الأزمنة المختلفة وإقامة علاقات بين الأحلام والهواجس المنفلتة من عقالها و بين الاستيهامات المكبوتة والتطلعات المحبطة. وما زاد من تعتيم الماضي والتشويش عليه، والتشكيك في صدقية أحداث (بالإضافة إلى تعذر استرجاعه على حاله ب"صدق وأمانة")، لجوء عبد القادر الشاوي إلى ممارسة خدع التشخيص الأدبي، وإيجاد المعاذير والتعليلات لأحداث سابقة، وتضعيف البنية السردية على نحو يمكن من تنامي الموضوعات المختلفة ، وزرع مرايا نصية متعددة لمعاينة مختلف حالات الذات و ِوضعاتها، وتنويع ضروب الحذف والنسيان والمراجعة، وتشبيك الفضاءات والأزمنة.


2-1-بنية النص : قسم الكاتب النص إلى جزأين: الخلطاء ثم اللغو والتأثيم.


2-1-1-أهدى الجزأ الأول إلى ليلى الشافعي. وتميز هذا السفر باستخدام تقنيات خدع التشخيص التي تجعل المروي ينفلت من الإرغامات المرجعية، و يثير تساؤلات حول جدوى الذاكرة وصدقيتها. وتتجلى بعض مظاهر هذه الخدع في ما يلي:


أ-عملت الآثار المموهة(Effets pervers) على فلسفة الأحداث الماضية والنظر إليها من زوايا أخرى، وأسهمت في تحلي النص بالصور الشعرية والأساليب العتيقة والتعابير المتأنقة والمزدانة بألون التحاسين. جعلت هذه السمة الفنية الشاوي يحدث قطيعة مع الطابع التقريري الذي وسم عمله الأول " كان وأخواتها"، ويقيم مسافة نقدية مع الواقع لنقل تجربته الشخصية من مستوى الشهادة إلى مستوى التخييل.


ب-يتفرع الجزء الأول إلى مقاطع مرقمة ومعنونة تتجمع في مسارين حكائيين متشاكلين: أحدهما يخص التجارب التي عاشها السارد-المؤلف بفضاء تطوان، وثانيهما يهم ما استوحاه من تجارب أخرى في فضاء الرباط. وتتخلل هذين الفضاءين فضاءات عابرة تكشف عن ارتياد آفاق بعيدة (سفر مصطفى الإدريسي إلى ليبيا) ومهبط الوجدان (بياضة وباب تازة) والشطحات الصوفية ( مزار عبد السلام بن مشيش في نواحي العرائش) والنضج الفكري والإيديولوجي للذات ( إلقاء محاضرة في موضوع التخلف والتنمية في شفشاون).


قبل حصول السارد-المؤلِّف على شهادة الباكلوريا، مكث بتطوان، وتردد على ثانوية القاضي عياض ومقري الاتحاد المحمدي للأمداح النبوية وجمعية البعث الإسلامي. تستوعب هذه الفضاءات لحظات استذكارية، وتكشف عن الأهواء والميول المترسبة في أعماق الذات، وترصد تكونها الإيديولوجي ومسارها الفكري، وهي تبحث عن الامتلاء والتوازن. وفي هذا المضمار، تعرف السارد-المؤلِّف على بعض الدعاة الدينيين (الوزاني والكويرة والمفتي) الذين أسهموا في تنوير عقله، وفتح عينيه على تعاليم الدين الإسلامي السمحة. ومما زاد من ترسخها في ذهنه ارتباطه برفاق ( برهوم وبن صالح والورياشي) يقوقرون الشخصيات الدينية البارزة، وينظمون أنشطة ثقافية للتعريف بتعاليم الدين الإسلامي واستقطاب عناصر جديدة، ويبحثون عن كل ما يروي غلتهم من الثقافة الإسلامية ( على نحو مراسلة الشيخ محمد أبي زهرة على عنوانه في الأزهر الشريف لمطالبته ببعث مجلة " منبر الإسلام" إلى الجمعية بصورة منتظمة)، ويتصلون ببعض الوجهاء طالبين التبرعات.


ولما حصل السارد على شهادة الباكلوريا حل بالرباط لإتمام دراساته العليا (التسجيل في شعبة الفلسفة، ثم ولوج المدرسة العليا للأساتذة). وفي هذا الفضاء، أتيحت له الفرصة لتعميق علاقاته مع طلبة قادمين من شمال المغرب،والتشبع بالماركسية-اللينينية والتخلي عن مبادئه القديمة. ويتحمس- من خلال انخراطه في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وحزب التحرر والاشتراكية- لخوض نضالات عاتية في أفق بناء مجتمع خال من الفوارق الطبقية. وبفضل صديقيه مصطفى الإدريسي ومحمد الرطوبي أصبح فاعلا في الحياة السياسية وواثقا من مؤهلاته وإمكاناته الذاتية. فهما اللذان حفزاه على نشر أولى كتاباته في منابر العلم واللقاء والكفاح الوطني، وعملا على توريطه في إدمان القراءة ومداومة النشر بانتظام.


نعاين في نهاية الجزء الأول أن ثقافة السارد قد نضجت، فبدأت تجد صداها في بعض المدن المغربية. وهكذا استدعته جمعية ثقافية في شفشاون لإلقاء عرض حول التخلف والتنمية. ونتيجة دفاعه عن الطرح الماركسي، أثار حفيظة أحد الحاضرين الذي انتقده مرددا هذه العبارة : " هذا كلام مستورد أيها الإخوان"، وبدأ يشرح معنى كلمة "الاستيراد" بلهجة ساخرة. " وهل يحسب الأخ المحاضر نفسه خطيبا في إذاعة موسكو، حتى أتى على بنات أفكاره بتفصح وخطابة" ص 63.


ج- تتحدد المفارقات الزمنية بموازاة مع السرد الأصلي، وتتنوع بفعل تكسير منطق تتابع الأحداث وإدماج وقائع منزاحة سواء بالإيغال في الاسترجاع أو بالإحالة على أحداث قادمة. وما يلفت النظر أن الأحداث التي وقعت بالرباط تقدم نوعا من التطابق بين السرد والقصة. فلقد تمت رواية المحكيات المتشذرة على نحو متزامن بإيقاف أو تعطيل حدث ،وتحريك وتسريع حدث آخر. وبناء عليه، نهضت المفارقات الزمنية المختلفة بتشذير السرد وإحداث اختلالات تركيبية في سيرورة الأحداث المحينة وإعادة تكوين التجربة المعيشة على أساس الانقطاع والتوازي. تشمل الاسترجاعات المتماثلة حكائيا المقاطع الاستذكارية لتدارك المواقف المحذوفة أو المهملة، وسد الفراغ الذي حصل في المسار العام للقصة، وهي تضطلع في دليل العنفوان بإضاءة الجوانب الداجية من سوابق السارد، وبالانفتاح على بعض التحولات الاجتماعية والسياسية. وهكذا تخبرنا عن الهجرة الاضطرارية لوالد السارد-المؤلف من بياضة إلى تطوان على عهد الحماية، وتستحضر الخطابات الحماسية التي كان يبثها علال الفاسي لإيقاظ همم الوطنيين وحثهم على النضال لفرض مطلب الاستقلال، وتحيل إلى الأجواء الدراسية بثانوية القاضي عياض في تطوان والأنشطة الثقافية والسياسية في رحاب الجمعيات الدينية، وتوقظ الأحاسيس الغرامية الأولى التي كانت تتسم بالصفاء والعفة والأنفة، وتنتشي بأحاسيس طفولة هاربة وعصية." بعيدا بعيدا كنت أعرف أن هناك مهبط الوجدان: باب تازة. إلى الحمام أولا. كان يقول والدي وهو يجرني خلفه كالطفل المشدوه. حمامة المفضل يقع في منتهي الساحة قريبا من الكوميسارية" ص 61.


د- يعطي السارد انطباعا عاما مفاده أن ما يحكيه نابع من ينبوع الصدق. لكنه تعمد توكيد مدى صعوبة فهم الأوهام الإنسانية في نص مواز (ص4)، ووظف عبارات حكائية واصفة ( على نحو " طفولة منتقاة مستعارة"، و" قصة مستعارة"، و" استعادة سائبة") لتقويض قواعد الميثاق السيرذاتي، وتمويه التجربة المعيشة، وإضفاء طابع التخييل على الأحداث والوقائع المسترجعة. وهذا ما دعم خدع التشخيص ومناوراته، ووسع الهوة بين الذات وضعفها، وبين صدقية الأحداث ونزوات الذاكرة.


2-1-2-أهدى الشاوي الجزء الثاني إلى سعيد البشري. ويتضمن هذا الجزء عنوانا مركبا من وحدتين دالتين: اللغو والتأثيم. فمن جهة، تقصد القائم بالسرد إعادة أحداث بعينها لتأملها وفحصها وإعادة النظر في محتوياتها ، والتجأ ،من جهة أخرى، إلى التنقيح لتقويم الاختلالات وتقليص التفاوتات والمفارقات، وسد الثغرات والفُرجات، والكف عن ارتكاب المغالطات. وظف اللغو أكثر من مرة لتأكيد مدى عجزه عن قيادة الحكي وفق إرادته وعزيمته، وتنصله من انسيابه في "تداعيات مبتذلة" تفضي إلى حقائق لم تكن في الحسبان. " الحق أقول - وها قد جرنا الحديث إلى واد آخر- لقد ضاق صدري ولم تفض نفسي، ازدحمت الوقائع في ذاكرتي ولم تتنفس لغتي، إن هي إلا اللغة اللاغية. ليس لي عليها حق و ليس لها علي بلاغة، وكان يجب أن أكتب شيئا فخرج هذا الشيء في سطور فاحمة، مسنونا حادا في طور، رخوا لزجا هولاميا في طور آخر. أوحيت بالواقع المكين، ولكنني-كشأن كل كاتب رددت عليك تداعيات مبتذلة. طفولة فيها اعتياد الأيام جريانها السائل، وشباب دون حد الشباب المنطلق" ص 74. وكان يسعى من لعبة التأثيم إلى الكف عن آثامه ( اختلاق وقائع وافتراؤها) وممارسة طقس من طقوس التكفير للتظاهر ، أمام الملأ، بقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.


وهكذا يتضح أن الجزء الثاني ينهض بوظفيتين: إحداهما تتعلق بالتشكيك في صدقية المحتويات المروية، وتنبه القارئ إلى عدم الاعتداد بها، وثانيتهما تهم استدراك الأخطاء التي سقطت سهوا وسجلها القلم في غفلة منه. وكلاهما يؤكد التباس الكتابة وتأرجحها بين المستوى الخيالي( أحداث مفتعلة من ضرب الخيال) والمستوى الواقعي (أحداث يُفترض أنها وقعت فعلا).


قد يتبادر إلى الذهن أن الجزء الأول قد استوعب المادة الحكائية واستوفى خقه من التذكر، وأن الجزء الثاني لا يعدو أن يكون نصا ملحقا أضافه السارد ليعلق على بعض ما ورد في ما قبل. " ولكننا نتبين- بعد قراءة الجزأين والتأمل فيهما-أنهما يكونان نص هذه السيرة الروائية، وأن هذا الشكل وما ينطوي عليه من تقنية إنما هو نتيجة لتلك العملية المعقدة التي تصاحب الكتابة المحفوفة بالأسئلة والاستبطان وإبراز هموم السارد والحرص على إشراك القارئ في التقاط أواليات الحكي ونزوات الذاكرة وتداخل الفضاءات والشخوص"([4]). وفيما يلي بعض المناورات التي اعتمدها السارد-المؤلِّف لنقض الحقيقة المعلنة، ووضع صدقيتها موضع تساؤل واختبار.


أ-يتميز هذا الجزء ،أسوة بسابقه، بتداخل محكيين وتقاطعهما: محكي يضطلع به السارد-الطفل، والآخر يرويه السارد-الراشد. ويختلف عنه في كونه، عموما، عبارة عن نص واصف يعلق على ما سبقه، ويعلل ما تضمنه من هفوات وسقطات وحذوفات، ويزعم تقديم الوقائع " الحقيقية" التي لا تشوبها شائبة ولا ينتابها شك.


ب-يقوم السارد بإعادة أحداث السفر الأول للاضطلاع بما يلي:


-ملء الفراغات والثغرات ( لما وصل إلى الرباط أغفل ذكر إقامته بمنزل خاله وبفندق المحيط، وتولهه بخديجة، وعلاقاته المتينة برشيد الوداني..).


-تصحيح بعض الحقائق ( أقمت في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطل على الجوطية.. تصنع وحذلقة، كأنني كنت أملك حريتي...انتقل بها في الوهم من المستحيل إلى الممكن..إن هي إلا أكذوبة خضراء" ص64.


-تعليل عدم القدرة على إدراج بعض المحكيات في المسار الحكائي العام ( ماذا فعل المأمون بعد رجوعه إلى ملهى صباه بشفشاون؟ ما مصير مصطفى الإدريسي الذي رهن مستقبله كصحافي لولاية السنوسيين بعد الانقلاب؟).


-إدماج مقاطع حكائية غير معروفة ( زيارة السارد- برفقة والدته وأخته والسي محمد الناية وأخته المترملة وبنتيها ربيعة وخديجة- لضريح مولاي عبد السلام، ووقوعه في شرك حب أمينة، والكشف عن علاقته الحميمة بالحاج الطيب.


-دعم الجانب التخييلي باعتبار الشخوص مبتدعة ووهمية، وتعديل التواريخ، واستحضار الأحلام والاستيهامات، ومساءلة أحداث توارت ثم انقشعت بعد أن تحررت من قبضة النسيان.


ج-تكثر في السفر الثاني مقاطع استرجاعية تروم إعطاء نظرة شاملة عن سوابق السارد. وتطال هذه المقاطع مدى المفارقة ( المسافة الزمنية) الذي يستغرق أعواما متعددة من سنة 1953 ( معلمة زمنية قريبة من ولادة السارد-المؤلف) إلى سنة 1969 ( تأزم القضية الفلسطينية، واشتداد حدة الصراع بين بعض مكونات الحركة الطلابية بجامعة محمد الخامس في الرباط، ووقوع الانقلاب في ليبيا). وتتفرع عن السرد الأصلي بنيات زمنية استشرافية تثير أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها. وتتشخص في دليل العنفوان من خلال تمهيد عديم الدلالة يستدعي مشاركة القارئ ويستحثه على الترقب والتنظُّر. لكن سرعان ما يتحول هذا التمهيد إلى مؤشر زمني يسهم في تحديد مدى المفارقة ( من لحظة الاعتقال إلى لحظة التلفظ). وإن كانت هذه المدة الزمنية غير معلومة وتحتاج إلى تأويل لقياسها، فهي تبين أن عبد القادر الشاوي قضى مدة طويلة في السجن استغلها -من بين أشياء أخرى- لاستحضار تجربته في الحياة.


2-2- معضلة صورة اللغة: استثمر السارد-المؤلِّف إمكانات الكلام المهجور بالمتح من النصوص التقليدية، وأسلبة النصوص المقدسة والخطابات الترسلية بطريقة ساخرة. إن هذا النوع من الأسلوب واللغة يحققان تباعدا عن الأحداث، ويتيحان الحديث عن فترة زمنية قريبة وكأنها تنتمي إلى ماض موغل في القدم. لقد جعلت طرائق الأسلبة الواعية السارد-المؤلِّف يختبر إمكانات اللغة المؤسلبة، ويغربل مفرداتها لكي تصبح مدرجة ضمن مواقف جديدة، ومسربلة بصورة شعرية باذخة. وظل وفيا لمقصدية التأنق اللغوي وللغة الواحدة والوحيدة التي تنهض على رؤية جماعية للعالم. وعلى الرغم من إدماج بعض الملفوظات الهجينة (كلمات من العامية المغربية) والأجناس المتخللة( الرسائل والتقارير والمحاضرة والشعر..)، فإننا لانحس بكلام الغير بوصفه ظاهرة كاشفة عن " معضلة صورة اللغة" ومدخلا للالتقاط بعض العينات الإيديولوجية. وهذا ما جعل اللغة الأحادية تبلور رؤية جماعية متدرجة من السلفية ( الشبت بالعقيدة الإسلامية) إلى التغريب (الانجذاب إلى المذهب الماركسي-اللينيني). وهي رؤية تستجيب لتطلعات السارد نحو التغيير وإقامة مجتمع لا طبقي. وإن كان السارد يوهمنا بأنه وضع أفكاره " السالفة" موضع تساؤل، فإنها تظل منغرسة ومتغوِّرة في لا شعوره، وفاعلة في توجيهه وتحسيسه بانشطار هويته وضياعه واستلابه.


2-3- تم تكديس النص بشخصيات مرجعية تنتمي إلى الحقل الأدبي ( جبران خليل جبران، محمد الطبال، ميخائيل نعيمة) أو السياسي ( علال الفاسي، التهامي الخياري، عمر بنجلون، ليفي شمعون) أو الفلسفي ( ماركس، لينين، نجيب بلدي، رشدي فكار) أو الديني ( التهامي الوزاني، عمر مفتي، والشيخ محمد أبي زهرة، ومولاي عبد السلام..) أو الغرامي ( فاطمة السلامي، زكية العمراني، خديجة ابنة عم السارد-المؤلف). " وباندماج هذه الأعلام في النص، فهي تشتغل كإرساء مرجعي يحيل إلى النص الكبير للإيديولوجيا أو للرواسم الثقافية"([5]). ووتضمن ما يسميه رولاند بارث بأثر الواقع. وترد أحيانا مقرونة بألقاب دينية أو اجتماعية، مما يبين مدى حرص السارد على جعل السياق الاجتماعي ملازما لبنية النص، وعلى توظيف كل ما يمكن أن يدعم المعطيات القيمية والتثمينات الاجتماعية. ولم يتوقف هذا الصنيع على الشخوص بل تعداه إلى استحضار أحداث اجتماعية وسياسية ساحنة ( هزيمة العرب سنة 1967، حدوث الانقلاب في ليبيا، استفحال ظاهرة الاعتقالات السياسية بالمغرب في منتصف السبعينات)، وإلى عقد الصلة مع فضاءات أيقونية ( الرباط، باب تازة، سفشاون، العرائش، طرابلس)، وإلى ذكر بعض الكتب والصحف ( المكتبة النصية Bibliotexte) التي أسهمت في رسم المسار الفكري للسارد-المؤلف. لقد موهت هذه لآثار الواقعية نتيجة توظيف خدع التشخيص التي سبق ذكرها، وتبديد الوهم المرجعي، وإعطاء الأسبقية للتقنيات الآتية:


ا-لا يتعامل التزمين(Temporalisation ) الكتابي مع المرجع في تزامنيته بل بطريقة تجزيئية وتتابعية. وهذا ما جعله يدخل في علائق سطرية ( أثر الترتيب) وفي علائق عبر سطرية (الترابطات المتباعدة). وبقدر ما يحصل تباعد زمني معه تتلاشى بعض ملامحه، ويتعذر استعادة المشاعر المرتبطة به.مما يتيح فور استحضاره إضفاء أبعاد تخييلية عليه، ومساءلته انطلاقا من وعي وطموح جديدين.


ب- يتجلى التنشخيص الذاتي (Auto-représentation) في دخول النص في صراع مع ذاته ليدحض فكرة الحقيقة المطلقة والنهائية، ويفرض إيقاع التحول عبر آليات الارتداد والتصحيح والإضافة والحذف، ويأخذ منحى معاكسا للإطار الإيديولوجي الجاهز، ويتمرد على التصنيفات المتعسفة والمطابقات المختزلة، و يجعل النص يحيل على ذاته عوض أن يحيل إلى خارجه.


ج-تعمل الكتابة الجياشة(Ecriture effervescente) على تحطيم المعرفة المطابقة للواقع، و توليد الصور الشعرية المنزاحة عن اللغة المتداولة، و توسيع مجال الحرية لمزج الحقيقة بالخيال وإضفاء تلوينات من السخرية اللاذعة على كل ما هو جدي ومقدس، و الارتقاء بالكتابة الشاهدة على التمزق والعذاب والانبهار إلى مستوى تجديد الأشياء والمخلوقات وابتداع شخصيات ومحكيات وتخييلات ،واستجلاء ملامح المسكوت عنه، واستكناه الحقيقة الراسخة في ثنايا الخيال وتضاريسه الملتبسة.


 


--------------------------------------------------------------------------------


 


[1] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، منشورات الفنك، البيضاء، ط1، 1989.


[2] - محمد برادة، " دليل العنفوان: تحويل السيرة إلى تخييل والتذكر إلى تجربة"، في : فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة ، المغرب، ط1، 2003، ص/ص 266-267.


[3] - عبدالحميد عقار، " الكتابة وسؤال الكينونة قراءة في دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي"، مجلة المساءلة، العدد2-3، 1992،ص-ص13-16.


[4] -محمد برادة، " دليل العنفوان: تحويل السيرة إلى تخييل..."، م,سا، ص266.


[5] - فليب هامون،" المنزلة السيميولوجية للشخوص"، شعرية السرد، 1977، ص122


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009