نهاية محتملة لحكاية " عنزة السيد سوغان"-د.محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=424
الكاتب: mdahi


 حرر في الأحد 22-09-2013 10:35 أ£أ“أ‡أپ

 


 


تعتبر حكاية " عنزة السيد سوغان" ([1]) من الحكايات الشيقةوالخالدة التي تحظى بمقروئية واسعة من لدن الأطفال والكبار على حد سواء. ومما ساهم في توسيع دائرة شهرتها وشعبيتها إدراجُها في المقررات التعليمية واستثمارُ حبكتها في كثير من الرسوم المتحركة بلغات متعددة.
اعتدنا على نهايتها التي تفضي بالعنزة السابعة " بلانكيت" إلى المصير نفسه التي تعرضت إليه العناز الست من قبل. حاولتْ، في البداية، أن تتكيف مع وضعها الجديد في الإسطبل وهي مقيدة بحبل. مع مرور الأيام أضحت، مثل سابقاتها، ترنو إلى قمة الجبل الأبيض، وتطمح إلى الوصول إليه غير مكترثة لما يسديه إليها السيد سوغان من نصائح تفاديا لانقضاض الذئب عليها وافتراسها."سأكون في أحسن حال هناك في الأعلى. وأي سعادة تعادل أن أنط في المرعى حرة طليقة بدون هذا الحبل اللعين الذي يذبح الرقبة! قد يليق بالحمار و الثور أن يأكلا الكلأ في الزريبة.. أما فصيلة الماعز فهي تؤثر الأماكن الفسيحة!"ص32.
تخلصت من القيد، ثم وصلت إلى الوجهة التي طالما حلمت بالتجوال في أرجائها الرحبة. اكتسحها حبور غريب، وهي تعاين عن كثب كيف احتفت مكونات الطبيعة بقدومها كما لو كانت ملكة. قضت يوما سعيدا مستمتعة بحريتها، مندفعة في حركاتها وتنقلاتها. وبحلول الليل انتابها خوف رهيب وهي تسمع بين الفينة والأخرى عويل الذئاب.. تناهى إلى سمعها آخر إنذار ببوق السيد سوغان للعودة إلى الإسطبل.. أرادت أن تستجيب لندائه لكنها تراجعت بتذكرها " الوتد و الحبل وسياج الحظيرة المغلقة" ص37. وما هي إلا دقائق معدودات حتى وجدت نفسها أمام ذئب ضخم يتملى النظر إليها منتظرا اللحظة المناسبة للانقضاض عليها وافتراسها. تذكرت لحظتئذ قصة العنزة العجوز " رونود" التي لم تستلم لمصيرها المحتوم إلا بعد أن قضت الليلة بتمامها وهي تعارك ذئبا مفترسا .. فقررت العنزة " بلانكيت" أن تقتفي أثرها بمقاومة الذئب بقرنيها الناعمين إلى أن ينبلج الفجر.
هذه هي النهاية التي تعودنا على حبكتها منذ  حداثة سننا، وترعرعنا على سماعها وحكايتها..لكن توجد نهاية أخرى للحكاية نفسها يزعم الباحث بيير ماريو أنه اكتشفها نهاية يوليوز عام 1970. تفضل مشكورا بإرسال إلي مقالا مطولا يحكي فيه حيثيات وملابسات العثور عليها. فسلمته بدوري إلى الصديق خليل الرايس الذي نشره في الملحق الثقافي الذي يشرف عليه بجريدة " الرأي" ([2]).
تفقد الباحث قريت سانت كلومب (Sainte-Colombe) لما كان مشرفا تربويا استجابة لدعوة تلقاها من العمدة بهدف جرد المعدات والوسائل البيداغوجية وإهدائها إلى مدرسة مكتظة بالمتعلمين في جماعة قروية مجاورة  .. لما كان يجرد الوسائل المعروضة على أنظاره عثر، في درج أحد المكاتب، على مذكرة تحوي بداخلها رسالة في غاية الرثاثة.
قرأها بعناية وحرص شديدن، فتبين له أن كاتبها يشكر الشاعر بول أرين Paul Arène  على التفاتته اللطيفة بتسليمه نسخة ثانية من قصة " عنزة السيد سوغان"  التي تحظى برواج منقطع النظير في منطقة " ميدي". يلح كاتب الرسالة على معاودة كتابة القصة التي سبق له أن نشرها في جريدة " الحدث" سواء باقتراح عقدة مغايرة أو باعتماد خاتمة ذات صبغة مزدوجة يمكن أن تفضي بالقارئ إلى الشك أو تضعه أمام خيارين متناقضين لمصير العنزة عينها.
كانت الرسالة موقعة من لدن ألفونس دودي.." لا أحد يمكن أن يتخيل غبطتي التي حاولت أن أكتمها أمام السيد عمدة سانت كولمب.. تبين لي أن الرسالة مؤرخة في شهر شتنبر عام 1867.. وهي موجهة إلى بول أرين شاعر سيسترون Sisteron [ وهي على بضعة كلمترات من قرية سانت كولمب] الذي التقاه ألفونس دودي فيما بعد بباريس"..
إن الخط، الذي كتبت به الصفحات السبع الأولى من المذكرة، ليس، بالتأكيد، خط أحد الفرسان الثلاثة(ألفونس دودي وزوجته جوليا ألار Julia Allard  وصديقه بول أرين) الذين كان لهم الفضل في تدوين النسخة الأولى من  حكاية " عنزة السيد سوغان" . وما يدل على كون الخطاط يعتمد على نسخة متوفرة لديه حرصُه على إعادة تدوينها بعناية وأناقة فائقتين دون أن يتخللها تشطيب أو تعديل ما . ويظل السؤال المحير ما هوية الخطاط؟
ومن خلال تحري الباحث في محتويات المذكرة تأكد أن بول أرين أرسل نسخة جديدة من الحكاية نفسها إلى ألفونس دودي لكنه لم يكترث لنشرها.
إن النسخة الثانية مشرعة على خاتمة مغايرة تماما لسابقتها. تمكنت " بلانكيت" من الهروب سعيا إلى الاستمتاع بنسائم الحرية وإن كلفها ذلك ثمن مقاومة شراسة الذئب ومكره. حاول الذئب أن يفترسها لكنها تخلصت منه بأعجوبة بعدما تمكنت من القفز إلى الإسطبل المظلم من النافذة. كانت منهكة ومجهدة وهي تتألم من جروح طفيفة. لم يصدق السيد سوغان عينيه وهو يصيح في وجهها مبتهجا " كنت متأكدا أنك ستعودين بدعوى أنك مختلفة تماما عن العنزات الأخريات، وأكثر ذكاء منهن". طربت جوارحها بإغداق السيد سوغان الثناء عليها. لكنها كانت، في قرارة نفسها، متوجسة من كون الطبيعة، التي منحتها قوة لا مثيل لها، قد تعاتبها على تراجعها وخوفها. وهو  شكل غصة في حلقها.
ومع مر الأيام ، أضحت العنزة ضجرة من حياتها في الإسطبل رغم ثقة السيد سوغان بها. هربت من جديد وهي أكثر استعدادا لمواجهة الشدائد التي يمكن أن تعترض سبيلها.
وبعد يوم عن اختفائها، حكى قناص للسيد سوغان حادثة غريبة مفادها عثوره على جثة ذئب تهاوت من عل. لم ير القناص طيلة حياته مثل هذا المشهد. وهو ما جعل أسارير وجه السيد سوغان تنفرج من جديد مطمئنا عن مصير العنزة العنيدة. وفيما يلي ما يمكن أن يُستنتج من هذه الخاتمة:
1-      مما تدل عليه عدم وجود حقيقة واحد وإنما حقائق متعددة. كل حكاية مشرعة على احتمالات وإمكانات سردية متنوعة. وهذا ما  خاض فيه كلود بريمونClaude Bremond  بحثا عن القوانين التي تنظم السرد بالنظر إلى تعاقب متوالياته في اتجاه الانهيار أو التحسن. ويتضح من خلال الحكايتين أن الأحداث تتوالي في اتجاهين مختلفين ومتوازيين. إن انهيار العنزة في الحكاية الأولي (انقضاض الذئب عليها وافتراسها) يوازيه تحسن وضعها في الحكاية الثانية(تخلصها من مخالب الذئب وفرارها حرة طليقة إلى جهة مجهولة).
2-      يبين السارد الحقيقي أو المفترض في ختام كلا الحكايتين أن القصة ليست من صنع خياله، إنما هي من ابتكار العبقرية الشعبية . لكن ما السبب الذي جعل الخاتمة المشؤومة تنتصر على الخاتمة السعيدة وتنسخها إلى حد طمس معالمها وآثارها؟ يقر السارد، في النسخة الثانية، أن القصتين المتضاربتين ينتميان إلى عالمين متناقضين. يؤثر البورجوازيون النسخة الأولى التي تسعفهم على تخويف فلذات أكبادهم من مغبة عدم الامتثال للنصائح الموجهة لهم تحاشيا للمكروه الذي تعرضت له " بلانكيت". في حين أن الفئات الشعبية والفقيرة تنزع أكثر إلى النسخة الثانية التي تزرع في الأطفال روح المغامرة وحب الحياة والتمرد على المواضعات الاجتماعية الصارمة.
3-      تختلف النسختان أيضا في التقديم, تتصدر النسخة الأولى مقدمة حاول من خلالها السارد معاتبة بيير غَرنْغوار Pierre Gringoire([3]) على إيثاره العيش حرا طليقا . " اسمع قصة " عنزة السيدة سوغان". ستعرف، لا محالة، ما يمكن أن تحصده من رغبتك في العيش حرا". وهي دعوة صريحة إلى حفزه على امتهان الصحافة كسبا للنقود عوض أن يظل هائما غير عابئ بصروف الدهر وتقلباته. ارتأى سارد النسخة الثانية أن يصدرها بتذكير الشاعر غرنغوار  بما دار بينهما من أحاديث في السنة الماضية حول عنزة السيد سوغان، ثم بمطالبته بقراءة النسخة الثانية التي ستمتعه لا محالة لكونها تلائم طبعة المتحرر في الحياة.
4-      أتوجد النسخة الثانية فعلا أم أنها، أيضا، ضرب من خيال الباحث بيير ماريو؟ لما قرأ على ما دونه بصددها في " أمسية شعرية" أقيمت على هامش ندوة " ألبي" حول اللغة والدلالة عام 1982، أكد أنه وضع ما عثر عليه ( المذكرة والرسالة) في متحف بول أرين. كثير من المعجبين ب" عنزة السيد سوغان" ارتادوا المكان فلم يجدوا ما كان متوقعا ومنتظرا. ما سر ضياع وإتلاف الوثيقتين؟ أيتعلق الأمر بخبر زائف أم بحقيقة تحتاج إلى مزيد من الفحص لفهم أبعادها وأسرارها؟
وبما أن الحكاية ذات أصول شعبية، فهي لا تستقر على حال واحد، وذلك من جراء تداولها وترويجها وتحوير مضامينها وفق أغراض ومآرب متباينة.  هو ما يعلل مصداقية وجود متغيرات أخرى للحكاية الأصلية. وما حكاية ألفونس دودي إلا واحدة منها. وقد عمدت الرسوم المتحركة بمختلف اللغات والتقنيات إلى تنويع حبكة الحكاية نفسها بفتح مسارب جديدة واختلاق مفاجآت غير متوقعة، سعيا إلى إمتاع الأطفال ومباغتتهم بوقائع غير مألوفة لديهم.
لا بد من الإشارة في النهاية إلى مسألة أخرى. قد يعتقد أن النسخة الأصلية هي من بنات أفكار ألفونس دودي بحكم أنها مقرونة باسمه. في حين ينفي نفيا قطاعا هذا الزعم في نهاية الحكاية مبينا أنها متداولة بين الناس في منطقة " ميدي". علاوة على ذلك يشهد الباحثون أن ألفونس دودي استعان ببول أرين المختص في الأدب الشعبي لجمع متون حكائية ( بما فيها حكاية عنزة السيد سوغان) وإعادة صياغتها في كتاب واحد ( رسائل مطحنتي). وهو ما يُجلّي أننا لسنا أمام مؤلف واحد يتحمل وحده مشقة سرد الأحداث وإنما أمام مؤلفين على الأقل يتآزران فيما بينهما لإخراج الحكاية في أبهى حللها ( وإن كان أحدهما ينسخ الآخر).
كل نهاية، في آخر المطاف، ليس بنية مغلقة أو حقيقة نهائية، وإنما هي منطلق لاحتمالات سردية تتناسل وفق طبيعة الظروف والإرغامات التي تتحكم فيها.
----------------------
[1] - Alphonse Daudet, Lettres de mon moulin, Hachette, 2000 pp30-39.
[2] -Pierre Marillaud, «  une autre fin à «  la chèvre de Monsieur Seguin » » , Supplément culturel de L'opinion, vendredi 28 décembre 2012, p7.
[3] - عاش ما بين 1475 و1538 ، وهو يرمز إلى الشاعر المتهاون الذي لا يستطيع العيش بقلمه.


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009