في البدء كانت الكلمة:
يكتب أمين زاوي رواياته باللغتين العربية والفرنسية[1]. ويبين، في أكثر من موضع، أن حركة اليد هي التي تجبره على الانخراط في الكتابة إما من اليمين إلى اليسار أو العكس. هل يده هي المسؤولة على اختياراته أم عقله أم مزاجه أم وضعيته؟ يمكن أن تتناسل أسئلة كثيرة من هذا القبيل لمعرفة ما يحفزه على ركوب صهوة هذه اللغة أو تلك. ولا يتسع المجال هنا لإيجاد أجوبة مناسبة لها ( نشرت هذه الدراسة في مجلة علامات العدد 36 -2011).
في البدء كانت الكلمة:
يكتب أمين زاوي رواياته باللغتين العربية والفرنسية([1]). ويبين، في أكثر من موضع، أن حركة اليد هي التي تجبره على الانخراط في الكتابة إما من اليمين إلى اليسار أو العكس. هل يده هي المسؤولة على اختياراته أم عقله أم مزاجه أم وضعه الاعتباري؟ يمكن أن تتناسل أسئلة كثيرة من هذا القبيل لمعرفة ما يحفزه على ركوب صهوة هذه اللغة أو تلك. ولا يتسع المجال هنا لإيجاد أجوبة مناسبة لها. كما أننا نتجنب الخوض في إثارة أسئلة كانت، في ظرفية خاصة وحساسة، تراهن على إرساء دعائم دولة وطنية مستقلة ( وفي مقدمتها تسريع عملية التعريب ). لقد وضعتنا العولمة أمام اختيارات جديدة، ومن ضمنها إتقان أكثر من لغة ليس للتواصل مع الشعوب الأخرى، وإنما لشغل موقع مناسب في المنظومة العالمية والإسهام في ركبها الحضاري والثقافي، وتقليص الفجوات الرقمية. وهكذا أصبح الأمي، وفق التطورات المعرفية والتكنولوجية الحديثة، هو من يتقن لغة واحدة ولا يحسن استعمال الحاسوب. وهذا المعطى الجديد يحتم العناية باللغة العربية وتحسين أدائها حتى تكون لها المنزلة المستحقة داخل المجرة اللغوية الثرَّة.
وعليه، لسنا ضد أي روائي يكتب بأي لغة يشاء. لكن يجب عليه، فضلا عن إتقان لغته الأصلية، أن يحدد مخاطبه ( لمن يكتب؟) ويعي بالغرض الذي يحضه على التواصل معه ( لأي غرض يكتب؟). فلو كتب أمين زاوي روايته " وليمة الكذب" باللغة العربية لوجد نفسه أمام اختيارات وإكراهات معينة قد تستحثه على تبني إمكانات سردية مغايرة. وبما أنه كتبها باللغة الفرنسية، فقد حتمت عليه أن يسلك مسالك سردية معينه لعلها تسعفه على تحرير جوارحه والإصغاء إلى وجيب حريته الداخلية دون رقابة أو وصاية خارجية.
وما حفزني على إثارة هذه الأسئلة ( التي أتجنب الحسم في أجوبتها لكونها مازالت شائكة ومثار جدال حاد بين المثقفين العرب) هو تنامي أشكال الرقابة ( علاوة على رقابة الدولة، هناك الرقابة الأخلاقية والرقابة الذاتية) التي تعزز مفعول التقليدية الجوهرية في العالم العربي، وتعيق إقلاع قطار التحديث.
تسير رواية أمين زاوي -فضلا عن توافرها على خصائص فنية متميزة- في المسار الذي دشنته الرواية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية لمواجهة الرموز التقليدية المتمثلة أساسا في "الأب الحقيقي"، وتجريد الطابع القدسي من الطابوهات والمحظورات، والإنصات للأصوات المقموعة و الرنات المتغوِّرة في أعماق الذات ( قاع الجَرَّة "الخابية").
1-العنوان.
يبدو العنوان المقترح ( وليمة الكذب)([2]) تحصيل حاصل، بدعوى أن المؤلَّف، أصلا، ضرب من ضروب الخيال، ومرتعا لتوليد أحداث وهمية ومجانبة للحقيقة في كثير من مفاصلها. وقد توخى الروائي أمين الزاوي من الكذب على ذقون الناس الإتيان بأعذب الكلام سعيا إلى إمالتهم وتشويقهم لتتبع الخيط السردي من بدايته إلى نهايته.
ويتضمن العنوان منافرة دلالية تستدعي تعليل إضافة " الكذب" إلى " الوليمة" حتى يستقيم المعنى ويتضح القصد منه. لقد عمد الروائي إلى مجاورة كلمتين متباينتين تركيببيَّا ( الملموس والمجرد) لتوليد منهما معنى يقتضيه السياق ، وهو إمتاع المتلقي وإطرابه . وهكذا يتبين أن الروائي لم يعر اهتماما لطقوس الاحتفال ( الزينة والأكل والشراب ) وإنما ركز على دورها في خلق جو المتعة والمرح بتناوب المدعوين على سرد محكياتهم. وهكذا،فالسارد مضطر إلى امتحان قدراته الحكائية لجلب اهتمام المتلقين وإمتاعهم بأعذب الكلام وأكثره وقعا في نفوسهم. ومن لا يملك هذه القدرات سيحكم على نفسه بالتهميش وبتحمل دور سلبي يكتفي فيه بالإصغاء والتلقي فقط. في حين يتبارى الأكفاء فيما بينهم على تشنيف مسامع متلقيهم بما جادت به قريحتهم وتحويه جعبتهم من قصص في غاية الإثارة والعجب. وهذا ما يقتضي منهم التدرج من المحكيات الممتعة والجذابة إلى مثيلاتها الأكثر جذبا ومتعة. ويندرج ما يحكيه السارد في هذا الإطار، فهو مضطر إلى إعمال قدراته الحكائية ليكون عند حسن ظن متلقيه. ومن خلال القرائن الأولية المثبتة في مناصّات المؤلَّف يتضح مدى مراهنة السارد على السمتين الآتيتين:
أ-اختلاق الحدث: لا يريد السارد مجاراة الناس في حسهم المشترك، وإنما يسعى إلى مفاجأتهم بمدونات جديدة لم تخطر على بالهم قط، وإلى إمتاعهم بأعذب مروياته المختلقة والمغرقة في الخيال. وهكذا يتصادى ما يزعمه السارد بما كان رائجا عند العرب القدامى " إن أعذب الشعر أكذبه". فكلما كان القول موغلا في الخيال المُجنَّح، ومحبوكا من أحداث مفتعلة، كان أكثر عذوبة وروعة.
ب- البعد الشفهي:يؤكد السارد، في أكثر من مفصل حكائي، دور اللسان الأذرب في السرد أو عجزه وتقاعسه عن مواصلته. وهذا ما يبين أنه يركز على الطابع الشفهي الذي تستدعيه أجواء الوليمة. ويتجلى هذا الطابع في الهذر والهذيان اللذين كانا يسعفان السارد على الصدع بسرائره عفو الخاطر. ومما جعل دائرة الشفهي تنحسر وتتضاءل رغم كونها رهانا من رهانات السرد، هو إقدام السارد على إعادة النظر فيما حكاه مدخلا عليه تعديلات وتحسينات تقتضيها صنعة الكتابة.
2-استراتجية الحكي:
يتضح من خلال العنوان والتعيين الجنسي ( رواية) أن أمين زاوي راهن على "الكذب" لتبني استراتجية حكائية قوامها إضفاء التخييل على الذات. فبقدر ما نتوغل في قراءة مؤلفه، تتعزز مواطن التقاطع بين الذاتي (منبت نَبْعة السارد في قرية نائية ومنسية(نواحي تلمسان)، علاقته بأهله وخاصة بأمه، مساره التعليمي، مغامراته الجنسية، موقفه من المستحدثات السياسية داخل الجزائر وخارجها) و التخييلي(مضاجعة خالته، تزوج عمه بأمه، الإغراق في استهاماته ونزواته الجنسية). وعليه يمكن أن نصنف هذا العمل ضمن التخييل الذاتي. ويمكن أن نجمل ما يدعم ذلك في النقاط الآتية:
أ- يحكي السارد تجاربه ومغامراته متصرفا في محتوياتها، ومضفيا عليها معطيات جديدة، ومشككا في صحتها. وهذا ما يسهم في تعمق الهوة بين هوية الكاتب و بين هويتيْ السارد والشخصية الرئيسة، ويعزز مقومات الميثاق التخييلي(contrat fictionnel).
ب- يعتمد الروائي على المراسم الاسمية (استبدال الأسماء الحقيقية بأسماء مستعارة) والتخييلية ( النزوع إلى الخيال) واللغوية ( مطالبة المتلقي بألا يصدقه فيما يحكيه لأنه مجرد كذب وبهتان)([3]).
ج-وإن كان السارد يحيل أحيانا على ذكريات وتجارب من ماضيه الشخصي، فإن القارئ لا يكاد يصدقه من كثرة الافتراء عليه. وهذا ما يجعله حائرا ومترددا بين "هو وليس هو"([4]).
3-البنية الدالة:
يعتبر الحب موضوعة مركزية في الرواية إلى درجة قد تجعل القارئ يتسرع في وضعها ضمن خانة الرواية الشبقية. يفتح السارد قلبه للبوح بمغامراته مع نساء ناضجات أكثر منه سنا وتجربة ( خالته لؤلؤة، جادا ابنة عمه، زوجة أستاذ اللغة الفرنسية بيير لوريو، قيِّمة مكتبة الدير للا روزة ( سسليا)، منظفة الثانوية دجى أو سهى، زوينة ، سيدة ألمانية، سندس، غولد أو جلدا، كارنا أو كاهنا..الخ). وموازاة مع الخيط الناظم الذي يخص التجارب الغرامية للسارد، تتناسل محكيات صغرى تهم تورط الأب متلبسا مع لؤلؤة ، و تُجلّي تولُّه العم حسنين ( الملقب بهو شي منه) ب "سماء" وتزوجه بأمها( زهرة المعروفة باسم هديل، وهي أم الشخصية الرئيسة)، وتكشف عن رغبة جاد في خيانة زوجها بعد إحدى عشرة سنة من العشرة الشرعية.
قد نتوهم ظاهريا بأن السارد قد ارتكب " زنا المحارم"، لكنه ،عمقيا، يعالج قضية ذات أبعاد استعارية ورمزية. لقد حاول تأمل ذاته في المرآة. " لكن قد تتعرض علاقة الإنسان بصورته لألوان شتى من الخلل والاضطراب، فيفقد بذلك وعيه الجدلي، فلا يتمكن من إدراك ذاتيته وهويته أو وحدة شخصيته، وهو ما لا يتم إلا من خلال إحساسه بالاختلاف والتمايز مع الآخر أو الأنا الآخر المنعكس أمامه في المرآة"([5]). وبما أن المرآة التي يقف أمامها السارد متصدعة، فهي لا تسعفه بتاتا على تفحص ملامحه و تبيُّن قسماته كما هي. وتتميز مرآة الكتابة عن غيرها بقدرتها على تجسيد ما يدمدم في الأعماق من مشاعر وأحاسيس. وهذا ما يصرح به السارد في هذا المقطع الحكائي. " أقف أمام المرآة و أنغمر في الحكي. أبوح بما يجول في أعماقي" ص11. فهو يتوخى، من انخراطه في مشروع الكتابة عن الذات، إيقاظ السرائر المغفية في لا شعوره ووجدانه بسبب القمع والخوف. ومن بين المحظورات التي انكب على فتل خيوطها رغبته في ممارسة الجنس مع نساء أكبر منه سنا. فلقد توسل بالحكي التحرر من جحيم الطابوهات وكوابيسها، والتخلص من عبء حياة ثقيلة أنهكته وأتعبته، وذلك حتى يتمكن من نقل ما تراه عيناه من ثقب الباب. واضطر إلى إعادة بناء شخصيته وتشخيص تجاربه قطعة قطعة حتى يتسنى له وضع ما وقع ولم يقع أمام احتمالات حكائية متعددة، ونسج قصص متداخلة ومتراكبة تستمد نسغها من جغرافية الذات السرية واستيهاماتها المتضاربة وأحلامها المحبطة.
لقد دخل السارد الطفل في صراع مع الأب " الصعلوك" لكونه يمثل بالنسبة له منافسا لحب الأم أو أختها التي هي أكثر جمالا منها ( العلاقة الثلاثية بين الطفل والأم والقضيب: عقدة أوديب). ولما افتقد السارد أباه ( الأب الحقيقي أو البيولوجي) أصبح العم يحمل " اسم الأب "، وهذا ما جعل السارد يكرهه ويمقته لأنه سجنه ليتفرد وحده بممارسة الجنس مع أمه." ولأول مرة تراودني فكرة الهروب من سجن الداخلية لأعود إلى أهلي، ومنزلي الكبير مسرح دسائس وأحقاد ومناورات. أريد أن أعود لأنغص على العم طمأنينته، إذ يستغل ربما غيابي لينعم في أيام وليالي العسل بممارسة الجنس مع أمي " ص134.
ونستنتج ،من مختلف الوشائج التي أحاطت بموضوعة الحب، ما يلي:
أ-يمثل الأب والعم رمزين لتجسيد السلطة، وبعث تقاليد بالية من مرقدها. ولهذا يدخل السارد في صراع معهما ( على نحو صراع إدريس فردي مع أبيه/السيد في رواية "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي 1954) لمواجهة أساليب التفكير التي تكرس النمطية والامتثالية والنموذجية وتعيق تحرر الذات والوطن من براثن الجهالة والجمود، وتحول دون تدشين عهد جديد قوامه التسامح الديني ،والتفتح الإيجابي على ثقافة الآخر، والتحرر الجنسي.
ب-إن ممارسة السارد للجنس علامة على نضج شخصيته، ووعيه برجولته وفحولته في عالم ينزع إلى إخصائه وتدميره. وبقدر ما تتأجج رغبته الجنسية وتشتعل في دواخله ، تتأزم علاقته بالمؤسسات التقليدية. ولهذا يتخذ الجنس أداة رمزية للتحرر من كل أشكال الوصاية والحجر، والسخرية من القوالب الجاهزة واللغة المتخشبة.
ج- لقد حتم عليه الصراع مع الرموز التقليدية الاحتماء بحضن أمه لكونه يوفر لدية الطمأنينة و الأمان، و يقيه من الإخصاء الذي يتخذ أشكالا متعددة، ويتجلى في مظاهر متباينة ( تواتر لفظ القضيبPhallus، التقزز من تذكر شعائرية الختان، والامتعاض من استحضار موت أخيه عبده، ممارسة الجنس بشراهة فائقة، الانهيار النفسي من جراء حالات البرود الجنسي الطارئة، كره الدم والتقزز منه). وقد سعى السارد -من تشخيص المظاهر الإخصائية- أن يثبت رجولته وفحولته في مواجهة من يتجسد خياليا في صورة القضيب (أي من لهم سلطة).
د-ما حفز السارد على مضاجعة النساء الناضجات والإعراض عن الفتيات اليافعات، هو كرهه لدم الحيض ودم العذرية. ويتخذ الدم أبعادا استعارية. فهو ، من جهة، يرمز إلى افتضاض بكارة الجزائر على إثر الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب أحمد بن بلا." بسبب هذا الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب فقدت الجزائر المستقلة عذريتها" ص89. وهو ، من جهة ثانية، يحيل إلى كل أشكال الكراهية(الحرب والإخصاء و العنف والاستعمار والظلم والهيمنة والإقصاء)([6]) التي تجتث المحبة الإنسانية من منابتها، وتجهز على قاعدة التفاهم التي تفضي إلى التعايش وتنسيق المصالح المشتركة. وهذا ما جعل السارد يمتعض في كل لحظة من الدم لكونه لا يتماشى مع طبعه التواق إلى الخلاص و الحرية والسلم. وبما أنه مسالم فهو يؤثر الانسحاب من معركة الاقتتال والتناحر ليكرس وقته لقراءة الأدبين العربي والفرنسي فحسب.
فعلاوة على تصارع السارد مع رموز
التقليدية لقتلها رمزيا بهدف تدشين عهد جديد، تتجابه في الرواية عينات إيديولوجية متضاربة. نذكر منها :
-تصارع أعضاء جبهة التحرير و الحزب الشعبي ( الإخوة الأعداء) لانتزاع الشرعية التاريخية التي تثبت دورهم في تحرير الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي، وتكرس تحكمهم في زمام تسيير دولة الجزائر المستقلة.
- احتدام النزاع بين أعضاء جبهة التحرير الجزائرية لطي صفحة حكم أحمد بن بلا، والتطلع إلى " التصحيح الثوري" بقيادة الهواري بومدين. وإن اعتبر أنصار الجبهة يوم الانقلاب (19 يونيو 1965) حدثا أساسيا، مازالت كثير من الشخصيات ( وفي مقدمتها حسنين الملقب ب"هو شي منه") تتعاطف مع أحمد بن بلا لأنه يمثل بالنسبة لها شخصية كريزماتية.
-اضطلاع الأساتذة المصريين المعارين للجزائر بنشر أفكار إخوان المسلمين في الفصول الدراسية. لقد كانت دروسهم حمالة للوعظ والإرشاد، وتوجيه السباب والشتائم لأمريكا.
4-التشعُّب الحكائي:
يضطلع السارد بسرد أحداث المحكي الإطار الذي يتعلق أساسا بمغامراته الغرامية ومساره التعليمي. وهو، في هذا الصدد، يؤدي دور الناظم الخارجي الذي يسرد قصة خارجية(extradiégétique) ويشارك في الأحداث المروي (سارد متماثل حكائياNarrateur homodiégétique) بوصفه شخصية رئيسة. وأحيانا، يتنازل عن سلطته السردية، ليتيح للشخوص الأخرى إمكانية التعبير عن تجاربها من تلقاء ذاتها. وهو ما يسهم في تشعب السرد إلى محكيات صغرى ( محكيات داخليةintradiégétiques )، تضطلع فيها الفواعل الداخلية بسرد تجاربها الشخصية. وبما أنها فاعلة ومشاركة في الأحداث التي ترويها، فهي تنهض بالدور نفسه الذي يؤديه الناظم الخارجي. وهذا ما يبين أن الساردين ( فواعل داخلية) يتناوبون فيما بينهم لإضاءة سوابقهم، وملء الثغرات التي تخللت المحكي الإطار. ومن ضمن محكياتهم نذكر:
-ما حكته "جاد" للمسرود له ( الشخصية الرئيسة) عن رغبتها في ممارسة الجنس مع أمين مكتبة بباريس، لكنه لما أراد تقبيلها صدته عنها.
- ما سردته منظفة الثانوية للشخصية نفسها عن الانتهاكات الجسدية والنفسية التي تعرضت لها إثر تزوجها بموريس.
ما استرجعته المومس "زوينة" ( وهي تخاطب الشخصية عينها قبل أن تلفظه لتتفرغ لزبون جديد) من معلومات تاريخية تهم مختلف الأدوار التي أسندت إلى البيت التركي الكبير الذي اشتراه أحد أجدادها (إقامة رسمية للحاكم العثماني بوعلام باي، إدارة استعمارية، ماخور عكسري، سجن عسكري..).
-ما حكاه الناظم الخارجي بضمير الغائب عن سوابق عمه حسنين . فهو أخ أبيه من الرضاعة. أمه يهودية " زوينة" أسلمت للتناغم مع جده الذي أفتى بالصلاة السادسة ( صلاة القيلولة). لم تستسغ ضرتها المسلمة أن تتواجد معها تحت سقف واحد، فعملت على إبعادها حتى تربي الطفل حسنين على المبادئ الإسلامية السمحة. وبعد حرب 1948 وإقامة دويلة إسرائيل هاجرت "زوينة" إلى فلسطين واستقرت بحيفا.
ويتميز محكي منظفة الداخلية عن باقي المحكيات المؤطَّرة بكونه يشتغل كمرآة بنيوية تعكس على نحو مصغر ما يجري من أحداث ووقائع. وهو، في هذا الصدد، يتسم بخاصيتين جوهريتين([7]) تسمان السرد المرآوي، وهما:
أ-التضمين: يتفرع المحكي المصغر عن المحكي الإطار لإتاحة الفرصة لدجى حتى تعبر بتلقائية عن سوابقها وتجاربها. فلو استرسل السارد في تقديمها لاكتفى بعرض أمورها الظاهرة ومواصفاتها الجلية، وأغفل ذكر تفاصيل حياتها لأنه يجهلها.
ب- الانعكاس: لا يعكس المحكي ما يجري في المحكي الإطار فقط، وإنما يجلي معانيه المغفية، ويبين أبعاده الرمزية أيضا، ويؤدي وظيفة ارتدادية واستشرافية(rétro-prospective) تكشف عما وقع وترهص بما سيحدث([8]). نستعين بالجدول أسفله لبيان كيف يتداخل المحكيان ويتقاسمان بعض المقومات المشتركة.
المحكي المؤطر
|
المحكي الإطار
|
أوجه التشابه
|
تزوجت دجى أو سهى بمواطن فرنسي ( موريس)، انخرط مع المقاومين في تحرير الجزائر وساند الوطنيين لإجلاء المعمر الفرنسي. اعترض أخ دجى على زواجها بدعوى أنها تزوجت من غير ملتها، وبرجل غير مختون. ولما تناهى إلى سمع أخيها بأنه ختين أصبح يحاربه بدعوى أنه كافر ويهودي. ولما قتل قبل سنة من توقف الحرب قام ثلاثة من أصدقائه باغتصابها، فحكمت عليهم المحكمة بالإعدام. تتوجس دجى من أخيها بحجة أنه يتحين الفرصة المناسبة لقتلها ثأرا لشرف العائلة.
|
يرفض السارد كراهية الآخر ونبذه بدعوى انتمائه الديني. و يتعجب من إقدام جمال عبد الناصر على "تصدير" المتطرفين إلى الجزائر للتدريس بها والتخفيف من سوْرة معارضتهم له في مصر.
ينسحب السارد من معمعان المعارك السياسية ، ويؤثر الانسحاب إلى عالمه الخاص والحميمي لاستمتاع بمفاتن المرأة الناضجة وقراءة روائع الأدب العالمي، قديمه وحديثه.
|
[+ التحرر]: يتحرر الساردان من النظرة الضيقة والمتزمتة التي تقصي الآخر بحجة أحكام وهمية وواهية لا علاقة لها بالدين الإسلامي الحنيف.
[+التعايش]: تعزز رؤية الساردين تعايش الأديان السماوية، ونبذ أساليب العنف والكراهية لضمان الوئام والسلم بين المواطنين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم ومذاهبهم.
[+التوجس]: يفزع الساردان من وجود قوة تهددهما وتسعى إلى تنحيتهما. فهي في حالة السارد ذات طبيعة رمزية (رمزا الأب البيولوجي واسم الأب) أما في حالة دجى فهي مشخصة في شبح أخيها الذي يترصد خطاها رغم فرارها إلى غابة موحشة.
|
5-دلالة اسم العلم:
لم يُسم الروائي الشخصيات بأسماء اعتباطية، وإنما وسمها بأسماء معللة ومبنية على أسس جمالية وإيديولوجية ومنطقية([9]). وهذا ما يحتم علينا بيان طبيعة العلاقة التي تجمع طرفي الدليل (ما يوحي به اسم العلم من مدلولات)، واستجلاء ما يترتب عليهما من إيحاءات رمزية.
يحمل السرد ا اسم كسيلة، ويلقب بالكوشي لكونه يكتب باليد اليُسرى، وبشاعر المدرسة وسقراط لنباهته وتفوقه الدراسييْن، وبالنمس لتحايله ومكره. ويحيل اسم كسيلة على القائد البربري وزعيم قبائل أوربة ، الذي قتل في معركة قرب وادي الأبيوض سنة 65 هـ وهو يصد جيوش عقبة بن نافع. ولم يطلق هذا الاسم على السارد اعتباطا وإنما لبيان أصوله البربرية، وتأكيد مواجهته لرموز التقليدية الذين يمتحون أفكارهم من السلف الصالح. و يعتبر السارد طفلا وسيما ضمن ست فتيات، يشبه أباه في زرقة العينين والنظرة. وهذا ما نمى لديه الإحساس بالنرجسية والمبالغة في أَمْثَلة الذات.
و يُسمى أبوه ب"المسافر" و"الغريب" لكثرة أسفاره وهيامه في ربوع الأرض شهورا عديدة، وعيشه، بعد عودته الأخيرة، في الكنيسة كما لو كان غريبا يقصده الناس لاستشارته في أمورهم وأحوالهم ( استحضار رمز طوطم). كما يَسِمُه السارد ب"الصعلوك" لأنه وجده متلبسا مع "لؤلؤة"، التي تبادله الحب وإن كانت ظاهريا تحقد عليه. وما جعلها تحنق عليه، هو أنه غدر بها في ليلة الزفاف، إذ تآمر مع أمها للزواج بأختها زهرة.
وتعتبر خالة السارد " لؤلؤة" ذات جمال أخاذ ومبسم فتان. وهي أكثر جمالا وحسنا من أختها زهرة ( جميلة ورائحتها طيبة) الملقبة بهديل ( نظرا لحسن صوتها). استطاعت " لؤلؤة" بما تتوفر عليه من جمال أن تخدع الابن ( لا تحبه وإنما تشم فيه رائحة أبيه وتتذكر نظرته ) وتنتقم من أبيه (تمارس الحب مع الابن للثأر من والده الذي غدر بها، ومن والدته التي تصفها بأنها سارقة الرجال). ولما شعرت بأن حسنين ( ابن عمها) قد تهالكت صحته أصبحت هي المسؤولة على تدبير شؤون البيت، والعناية بسريره ورشه بأطيب الروائح. فهي الأخرى كانت تستفيد منه. " كانت تفعل ذلك من أجلها كذلك. كانت ، وأمي على علم بما يجري، تنام عليه أيضا" ص179. تزوجت لؤلؤة من أول رجل ركب الدراجة العادية في القرية. و اسمه ميمون ( اسم مفعول من فعل " منَّ". فقد أنعم الله عليه بجمال مكنه من التزوج بامرأة يتنافس الرجال في حبها واللهج باسمها (لؤلؤة)، وإيقاع أخت السارد "سماء" في حبه والتردد على بيته ليلا. ونظرا لجماله أشاع الناس كذبة مفاده أنه شاذ جنسيا.
يحمل عم السارد اسما مستمدا من التراث " حسنين" ( تصغير حسين للتحبيب). وهو يلائم توجهه الإسلامي ( حفظ القرآن الكريم وممارسة الشعائر الدينية) ونزوعه التقليدي المبالغ فيه ( كرهه للغة النصارى بدعوى أنها لا تنفع المؤمن يوم القيامة). ويلقب ب"هوشي منه" لأنه يتلفظ بعبارات من اللغة الفيتامية. وهو ما يبين ، رغم عدم التصريح به، أنه كان يحارب في صفوف الجنود الفرنسيين في الفيتنام. لما تغيب أخوه مدة طويلة اعتقد أنه لقي حتفه ، فعقد القران بزوجته ( توأم لؤلؤة) في الذكرى الأربعينية. وعندما عاد أخوه وعاين الواقعة فضل الانعزال في كنيسة والانغماس في قراءة القرآن الكريم. ومن غرائب الأمور، أن قوة حسنين خارت يوم الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم أحمد بن بلا. ومن ثم فقد حسنين السيطرة على بيته، وأصيب بالرُّهاب من الظلام، لذا أصبح مضطرا إلى الانسحاب من العالم الخارجي والاسترخاء على سريره قبل غروب الشمس.
أحب السارد ابنة عمه "جاد" (حجر كريم يسمى باليَشْب). ويعتبر اسمها الفرنسي معللا لكونه يلائم خضرة عينيها وندرة جمالها ( طائر نادر وجمال ملائكي). وكانت هي الأخرى تبادله الإحساس نفسه إلى درجة أنها وعدته بالانتحار إن فضل الابتعاد عنها لمواصلة دراسته في تلمسان. وحققت الصفعة ،التي وجهتها له لما عجز عن ممارسة الجنس معها، تحولا حاسما في حياته، إذ أصبح يعرض عن الفتيات اليافعات ويلهث وراء النساء الناضجات. تزوجت "جاد" بطبيب بيطري ( يحمل اسما دلا: أمير) وأنجبت منه ثلاثة أطفال. وأصبحت موظفة في الخزانة البلدية. راودتها فكرة الخيانة بعد تصرم إحدى عشرة سنة على زواجها ولكن لما أراد مرافقها تقبيلها واجهته بالرفض.
وفي السياق نفسه تحمل شخوص أخرى أسماء معللة : يوحي اسم للا روزة (سسليا) بالوردة، و يفيد اسم دجى ظلمة داخلية . أما اسمها سهى فيعنى به كوكب صغير وخفي. وفي كلا الحالين ، يفيد الاسمان تمتع منظفة الثانوية بالجمال، وممارستها الجنس مع السارد في جنح الظلام، وحرصها على التخفي حتى لا ينكشف أمرهما. ويحمل زوجها المغتال اسما دالا " موريس" يوحي بحبه للجزائر وسمرته من كثرة مكوثه في الجبال لمحاربة المعمر الفرنسي([10]). ويحيل اسم المرأة الفرنسية المُسنة والفاتنة ، التي تعرف بها السارد في مقبرة الحاج زادك، إلى الملكة والقائدة الأمازيغية ( الكاهنة) التي واجهت الفاتح عقبة بن نافع. وما حفز السارد على تغليب هذا الاسم على اسمين آخرين (كارينا وكاترينا) هو أنها نسيت، مع مر الأيام، اسمها الحقيقي من كثرة مناداتها باسم كاهنا، وتتحدث بطلاقة لغة أمازيغ منطقة "مسيدرة".
6-الزمن النفسي:
وإن حكى السارد عن شخصيات أخرى قاسمته تجاربه، فهو يركز على ما تحويه سريرته. " اصْغُوا إلي جيدا حتى النهاية، اتبعوا لساني ويدي إلى قاع الخابية" ص41. ولا يمكن أن نصل إلى كنه ذاته وسبر أعماقه ( قاع الجرة) إلا بعد الفراغ من قراءة الرواية بطريقة فاحصة ومتأنية. و رغم أن السارد يقر بكذبه منذ البداية، فهذا لا يمنع من تلفظه بحقائق معينة. و هو، بهذا الصنيع، يختلف عن كاتب السيرة الذاتية الذي يوهم قراءه بأن سرده يمثل الحقيقة بعينها. وفي كلا الحالين تضعنا الكتابة التخييلية أمام مأزق ومفارقة: قد نصدق ما هو كذب ونكذب ما هو حقيقي.
يشرع السارد ذاته على احتمالات حكائية عديدة، ويشق أخاديد مختلفة لعلها تسعفه على فهم ذاته " الله وحده يملك الحقيقة، إنه وحده يمثل حقيقتي" ص 11 ، وإعادة تركيب ذاته إربا إربا. وهكذا يتوطد الزمن النفسي في السرد متخذا مظاهر متعددة يمكن أن نذكر بعضها على النحو الآتي:
أ-الغنى والكثافة: يؤثر السارد كثافة اللحظة وغناها على حساب مدتها. وتستجمع هذا اللحظة في طياتها استهامات ونزوات مختلفة، وضروب الحرمان والكبت، ورموز المتخيل الجمعي ومفارقاته الاجتماعية والتاريخية. يتوخى السارد من تشخيص لحظاته النفسية المتشظية بيان الجراح النرجسية التي ما فتئت، مع مر الأيام، تتعمق وتُذر بالملح.
ب-ديمومة الطفولة: يؤكد السارد حقيقة مفادها أن " زمن الطفولة خالد"([11]). فمنذ بداية الرواية إلى نهاتها لا نعاين إلا زمنا طفوليا مسترسلا في بهائه وبراءته ونبضه. وقلما يتم القفز عنه لاستشراف أحداث مستقبلية تبين ما طرأ على السارد من تغيرات فزيولوجية وفكرية ( المشاركة في ندوة دولية حول " جودة الرمال وخصوصيتها في صحراء الجزائر"، وتقديم عرض مصور عن طائر نادر يغير تغريده حسب الفصول الأربعة) .فمعظم الأحداث المروية تحيل إلى مغامرات السارد الطفل كسيلة مع الأنثى التي حلبت من الدهر أشطره. وفي إطار هذه العلاقة سيكتشف جغرافية الجسد الأنثوي، و يبوح بالمخاوف والهواجس التي جعلته يتطير من اليافعات ويعشق النساء المسنات، ويدخل في صراع مع الرموز التقليدية التي تمثل بالنسبة له سلطة عمياء وحاجزا يحول دون تحرير الذات، والصدع بمكبوتاته واستهاماته.
ج-التذرية: ما يصطلح عليه ب"البعثرة المنهجية" في تنسيق المادة القصصية، وفي رسم الشخصيات، وفي السرد ومفردات الأسلوب([12]). وهذا ما نجم عنه توظيف تقنيات تيار الوعي المتمثلة في غلبة التفتيت على الاتساق، والميل إلى نقل الاضطرابات النفسية، والوثب السريع من فكرة إلى أخرى،والانسياق وراء الرموز والتشعبات، والإصغاء إلى ما يدمدم في العقل الباطن، والاستسلام لموجة التداعيات الحرة والاستبطانات وجريان الأفكار وسيولتها. وتختلف رواية تيار الوعي عن الرواية النفسية في " عنايتها بالمستويات التي تقع على هامش الانتباه، لأنها نوع من القصص ، يركز فيه أساسا على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي، بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات"([13]).
د-النرجسية: وإن تعذر على السارد رؤية ذاته في المرآة المتصدعة، فقد أسعفته مرآة الكتابة على استعادة طفولته الهاربة، والإصغاء إلى ما يضج به عقله الباطني، والإكبار من شأن ذاته. ومن خلال تجواله في ربوع ذاته ومساربها التَّيْهاء ، تكون لديه الإحساس بأهمية الأنا وتميزها وقيمتها على المستوى الرمزي. وهذا ما جعله يتباهي بإثارة نساء جميلات وإمالتهن، وحفزهن على الإغداق عليه بالقبل الحارة والهدايا والأموال. وما توجسه من أبيه وعمه إلا علامة على تشبثه بنرجسيته للتربع على عرش ممكلته، وتعزيز سلطته الرمزية، والاستمتاع بما طاب له من الملذات.
وإن أشرع السارد نوافذ لمعاينة ما يقع خارج ذاته في قريته وتلمسان والجزائر ومصر وفلسطين وسوريا، فهو يركز أساسا على تجسيد انعكاساتها على حريته الداخلية وموقفه من الوجود. ويمكن أن نقسم الأزمنة الخارجية إلى فئتين:
أ-أزمنة تاريخية محددة: يحيل السارد إلى أحداث جسام كان لها تأثير كبير على مسار الأمة العربية ( احتلال فلسطين عام 1948، وهزمية حزيران عام 1967) وعلى توجهات الجزائر وتطلعاتها ( الإطاحة بنظام أحمد بن بلا في 19 جوان عام 1965).
ب-أزمنة تاريخية غير محددة: يتعذر على شخصيات الرواية تحديد تواريخ سابقة. لأنه لم يكن هناك الحساب الذي يعد" السمة الأولى لوجود إرادة تسعف على الإمساك بالزمن. وبقدر ما يتم العمل على إعداد هذا الحساب تصبح الإرادة قوية"([14]). وغالبا ما كان يُلجأ في المجتمعات التقليدية " إلى تنظيم متفق ومتواضع عليه بالنظر إلى الروابط بالله وبالآخرة والتنظيم المستلهم من تجربة الماضي مع الطبيعة"([15]). وفي هذا الصدد نلاحظ تعذر على الأب تحديد العام الذي ولد فيه كسيلة" أكد لي أبي قبل أن يوافيه الأجل أنني ولدت عام21 دجنبر"ص 115 " لقد ولدت يا بني يومه 21 دجنبر..." ص119. كما تضطر الشخصيات إلى الارتكاز على عوامل طبيعية أو اجتماعية حاسمة ( جائحة أو كارثة أو غلة أو نزاع أو شعائر دينية) لموضْعة حدث ما في مجرى التاريخ العام. " في دوارنا الفقير والمنسي، لا يُعار اهتمام كبير لتواريخ الميلاد. لا يحظى الشهر أو السنة بأي قيمة تُذكر. يضطر سكان الدوار، لتعيين تواريخ أقربائهم أو تذكرها، إلى القول بأن فلانا ولد يوم فيضان الوادي على إثر سقوط أمطار خريفية غزيرة، فحملت مياهه المضطربة والمحمرة عنزتي العم "هو شي منه". وفلان ولد في أول يوم من أيام غلة الصبّارة. أما فلان فولد في أول يوم من أيام جني الزيتون. وولد فلان بن فلان يوم الرعد حيث صعد تسعة وتسعون كلبا إلى مصطبة مزروعة بالقنب الهندي " الحشيش"، وبدأوا ينهقون كالأُتُن في همة ونشاط" ص25
وبالجملة، ركز التحليل على عناصر معينة دون غيرها لكونها، في نظرنا، أعمدة الرواية وركائزها. لقد سعى السارد إلى الغوص في أعماقه الداخلية، واستجلاء امتداداتها في الزمان والمكان لعله يفلح في تعليل اختياراته في الحياة واستشفاف آفاق حريته الداخلية. وهذا ما جعله يركز على ما يلي:
أ-يمعن النظر في زمنه الخاص ( الهذيان، والتأملات والتحاليل الداخلية، والاستبطانات، والحوار الداخلي، والتذريatomisation ) مستوحيا وقائع ومشاهد تاريخية، ومسائلا الواقع المعيش، ومستحضرا رموز المتخيل الجمعي ( تشبيه انقلاب الهواري بومدين على أحمد بن بلا بمقتل هابل لقابل).
ب-يزرع بين الثنايا السرد محكيات صغرى لتأمل ذاته من زوايا متعددة، واستقبال رجع الصدى برنات متضاربة، والتقاط وقائع ومشاعر يجهلها أو لم يتوقعها أو لم تخطر على باله من قبل. فهذه المحكيات-على تفاوت طولها وتباين مواضيعها- تساعده على إضاءة جوانب داجية من مساره أو من حياة الآخرين، وفهم أبعادها ومغازيها.
ج-ينغمر في السرد الشعري الذي يزاوج بين السمات الشعرية ( توظيف المجازات والاستعارات والرموز) والروائية (
التفاعل الحكائي والإرصاد المرآوي و الزمن والشخصيات والأحداث)، وينخرط في مشروع التخييل الذاتي الذي يشكك في صدقية العينات السيرذاتية(autobiographèmes) وصحتها، ويشرع الكتابة عن الذات على آفاق رحبة ومتضاربة.
د-يسترسل السارد في تفتيت المحكي/ الإطار وتَشظيه وهو ما نجم عنه تكاثر الأصداء وتفاعلها وتداخلها. وتتجلى بعض تجلياتها من خلال: توظيف تقنيات تيار الوعي التي تكشف عن طوايا السارد الغامضة والمُلتبسة، أو تفريع المحكيات التي لا تسهم في تناسل المعاني فقط وإنما تضفي عليها أبعاد استعارية ورمزية أيضا، أو استجلاء امتدادات المُتخيل الجمعي في الزمان والمكان ( تَحيينُ العنف الأصلي في مواجهة ظواهر سياسية مُستحدثة، ومساءلة شعائر ذات بعد قدسي).
-----------
[1] -من رواياته باللغة العربية: صهيل الجسد والسماء الثامنة و رائحة الأنثى و ويصحو الحرير و الرعشة. ومن رواياته باللغة الفرنسية: الخضوع(La soumission) وغزوة(La razzia) وحارة النساء(Haras de femmes)) والمُعطَّرون (les gens de parfum)، وغفوة ميموزا(Sommeil du mimosa).
[2] -Amin Zaoui : Festin de Mensonge, éd Barzakh, Alger, Mars, 2007.
[3] -Vincent Colonna : L'autofiction (essai sur la fictionnalisation de soi en littérature) , Doctorat de l'E.H.S.S , 1989. Directeur : Monsieur Gérard Genette, Ecole des Hautes Etudes en Sciences socailes, pp42-52.
[4] -- صيغة معدلة ل " أنا ولست أنا" انظر :
Jacques Lecarme Eliane Lecarme -Tabone : L'autobiographie , Armand Colin ,1997, p271
[5] -محمود رجب: فلسفة المرآة، دار المعارف،ط1، 1994، ص206.
[6] -انظر في هذا الصدد:
Amin Zaoui : « La culture du sang : le cri du sang » in La culture du sang , Le serpent à plumes ,2003 ,pp59-69.
[7]
[8] -ibid p83.
[9] - لسانية ( مرتبطة باختيار السند اللساني) ومنطقية ( كل حكاية تتميز بتحقيق توقع ومقبولية)وجمالية ( تقترن باختيار النوع)، وإيديولوجية( تتعلق بالشفرات الثقافية).انظر في هذا الصدد : فليب هامون : سميولوجية الشخصيات، ترجمة سعيد بنكراد، دار الكلام،1990، ص57.
[10] - استوحينا هذا التأويل من لفظة "موريس" المشتقة من Mauricus. و هي تقترن بشعوب المور ( المغاربة) سكان بعض المناطق في شمال أفريقيا. ويعنى بالصفة Maurus الأسمر.
[11] -ف. هلينس F.Hellens انظر:
Jean Yves Tadié : Le récit poétique PUF, 1976, p 89.
[12] -انظر: يحيى عبد الدائم :" تيار الوعي والرواية اللبنانية المعاصرة" ، مجلة فصول المجلد الثاني، العدد الثاني، يناير/ فبراير/ مارس، 1982، ص155 ع1.
[13] ررت همفري انظر المرجع نفسه ص155 ع2.
[14] -ر.ريزوهازي: " الزمن والمجتمع" ، ترجمة محمد الداهي، مجلة عيون المقالات، العدد 12، 1989، ص45
[15] -المرجع نفسه ص45.