د. محمد الدغمومي ناقدا للنقد
نظم فرع اتحاد كتاب المغرب بتمارة لقاء ثقافيا يوم الأربعاء 23 أكتوبر 2013 احتفاء بالتجربة الإبداعية والنقدية للناقد والمبدع محمد الدغمومي. شارك فيه سعيد يقطين ومحمد الداهي وعبد اللطيف محفوظ وعبد الرحيم العلام ومحمد غرناط وإدريس الخضراوي.
وفيما يلي العرض الذي ألقاه محمد الداهي في حق جانب( نقد النقد) من الجوانب المتنوعة التي استقطبت باهتمام المحتفى به وعنايته ما يربو على أربعة عقود من العطاء المستمر والحضور المشع ( نشر المقال أسفله في الملحق الثقافي لجريدة العلم يوم الخميس 31 أكتوبر 2013،ص8).
رغم التراكم الذي حققه محمد الدغمومي في مجال النقد، فهو يكثرت أكثر لنقد النقد سعيا إلى تفكيك الحطاب النقدي لتبيان خصوصيته، واستنطاق عناصره ومكوناته البارزة، واستجلاء توجهاته وخلفياته. وهو ما حفزه على التمييز بين ثلاثة مجالات متقاربة فيما بينها لكنها متباينة من حيث اختصاصها ومجالها.
أ- النقد: إنه، في نظر محمد الدغمومي، إشكالي، لا يستقر على حال، و لا يقتنع بمرجعية واحدة. هو خطاب حواري يتفاعل إيجابا مع مختلف الأنساق المعرفية والثقافية والإيديولوجية. ويستمد نسغه من الاختلاف والتنوع الثقافيين.
ب- نقد النقد: ينكب على النقد لاستنتاج مرجعياته وتوجهاته، وينطلق من فرضيات التحقيق لاختبار الموضوع، ثم الكشف عن منطقه، ثم تأويله وإدراجه ضمن دائرة معرفية معينة.
ج- التنظير النقدي: ينكب على النقد بهدف اقتراح بدائل جديدة. وهو، في عمومه، يستند إلى نماذج غربية للاستفادة منها، ويحرص على مواكبة منجزات الثقافة الكونية ومستحدثاتها والإسهام فيها.
قدم محمد الدغمومي تصورا متكاملا عن نقد النقد في كتابه الموسوم ب " نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر"([1]). لكن معالمه التطبيقية تبدو أكثر وضوحا في كتابه المعنون ب" نقد النقد والقصة القصيرة بالمغرب مرحلة التأسيس "([2]). سعى، في هذا الكتاب، إلى تفكيك الخطاب النقدي المغربي ذي صلة بالمجالين القصصي والروائي، وتبيُّن توجهاته وخلفياته. انكب على فترة عرفت بالمخاض الثقافي والسياسي في أفق ترسيخ أسس دولة عصرية تستجيب لتطلعات الجماهير العريضة، وهي الفترة الممتدة من بداية الستينات إلى حدود عام 1985. واضطر، رغم كثرة المصاعب والمثبطات، إلى جمع مفردات المتن المكون أساسا من الصحف والمجلات والأبحاث الجامعية ومقدمات المجاميع القصصية والشعرية.
يتحدث محمد الدغمومي عن المثقف، في هذه الفترة، بصورة مجازية. ما كان يهمه بالدرجة الأولى هو الكاتب الذي يحمل معرفة ويراكم تجربة في الكتابة والإنتاج. ورغم تباين مواقف الكتاب ورؤاهم، فهم، عموما، يشتركون في سمات معينة، نذكر منها : الانتماء إلى المدن العتيقة وإلى الفئات الوسطى، لهم مستوى جامعي، الازدواجية اللغوية، الانخراط في التنظيمات الجماعية.
الاتجاهات النقدية:
ورغم قلة عددهم فهم يشكلون ثلاثة اتجاهات:
أ-الاتجاه الانطباعي: يشترط القاص أن يكون له نصيب من المعرفة العلمية، ويتمتع بهامش من الحرية حتى يستطيع أن يعبر عنها دون عناء، وينتصر لكل ما هو مشبع بالقيم الإنسانية وكلِف بالحقيقة. وهو يجمع بين المجالين القصصي والروائي لكونهما يشتركان في مظاهر السرد، وينظر لهما كموضوع واحد.
وتقوم وظيفة الأدب، عند ذوي هذا الاتجاه، على تجسيد مفهوم الالتزام الذي يراهن على تمثل حرية الإنسان، والتعبير عن العاطفة الإنسانية، وتشخيص المشاكل الاجتماعية المعيشة.
وحشر محمد الدغمومي في هذا الاتجاه كل من عبد الجبار السحيمي وعبد الكريم غلاب والمحجوب الصفريوي ومحمد بيدي ومحمد الهرادي. فهم، على اختلاف تكوينهم الثقافي، مارسوا الانطباعية بحكم عملهم الصحفي الذي كان يحتم عليهم متابعة الإصدارات الجديدة، ومواكبة الأنشطة الثقافية والمحاضرات.
ب- الاتجاه الجامعي: يهتم بتوثيق المعرفة والإحالة إلى مراجعها ومصادرها. ورغم ندرة الإصدارات ذات المنحي الجامعي في المتن المعتمد. فهي، في نظر محمد الدغمومي، تتسم ب" نضج استثنائي". ولا تقتصر على الوصف والتفسير والمقارنة وإنما تميل إلى التقويم وإصدار أحكام معززة بالبراهين والأدلة الكافية، وتراهن على إنتاج معرفة علمية.
ج-الاتجاه الواقعي: يستفيد من الخطاب الجامعي، ويستلهم أدواته من مرجعية اشتراكية، ويولي أهمية للمضمون الإيديولوجي على حساب ما ينماز به النص من سمات فنية. وهو يتسم، عموما، بعدم الاستقرار بسبب تقلب المرجعيات النقدية المستند إليها أو نظرا لتفاوت المحصول النقدي للنقاد ودرجة انتقائيتهم.
وصنف محمد الدغمومي نقاد هذا الاتجاه إلى ثلاثة أصناف( ص45):
1- فئة التزمت بهذا الخطاب ولم تتخل عنه، وما فتئت تطوره (محمد برادة، عبد القادر الشاوي).
2- فئة تبدو حائرة بحكم استنفاد إمكاناتها وعدم مواكبتها لإمكانات الاستمرار والتحول( نجيب العوفي).
3- فئة مارست هذا النوع من الخطاب النقدي، ثم عدلت عنه إلى اتجاه آخر (إبراهيم الخطيب، إدريس الناقوري).
وإن اختلف هؤلاء في توجهاتهم النقدية فهم، جميعا، ينزعون أكثر إلى ممارسة الخطاب النقدي في صورته الجامعية.
الإجراءات النقدية:
استند محمد الدغمومي إلى ثلاث خطوات منهجية للتمييز بين الاتجاهات النقدية الثلاث في تعاملها مع النص الأدبي:
أ- يمارس النقد الانطباعي الوصف والتفسير بطريقة يغلب عليها الطابع التوفيقي والانتقائي المتسم عموما بالمرونة والتلقائية والحرية. ويستند إلى الذوق دون الالتزام بإجراء منهجي محدد أو اتباع طريقة منهجية واضحة المعالم. ويقوم أساسا على تلخيص محتويات النص أو التعريف بصاحبه وظرفية إنتاجه على نحو موجز. ويعتمد على الحكم الذوقي مستأنسا بمعايير أخلاقية وجمالية مثالية.
ب- يصرح النقد الجامعي بإجراءاته النقدية اعتمادا على لغة واصفة. ويركز على التصنيف والتحليل والمقارنة لتعرف خصوصيات النص وتبين نوعيته وقيمته. ويستند إلى مرجعية تاريخية أو تاريخية أو إيديولوجية لتحليل النص واستنطاق قضاياه دون فصله عن سياقه التاريخي والثقافي. يحتكم إلى الذوق المعرفي معتمدا على معايير معرفية خاصة ( تاريخية ونفسية واجتماعية) ومعايير أدبية عامة، ومركزا على علاقة النص بالواقع.
ج- ما يهم النقد الواقعي استخلاص ما يحفل به النص من قضايا إيديولوجية موظفا أحكاما نقدية سواء لإطراء النص أو إدانته.
بلاغة الخطاب النقدي
استثمر محمد الدغمومي مكاسب النظرية التلفظية لوضع فروق بين الخطابات النقدية الثلاثة بالنظر إلى سماتها الخطابية وووظيفتها.
أ- خطاب الاستمالة: يبث الخطاب الانطباعي مواقف انفعالية وذاتية، ويتبنى أحكاما ضد من يخالفه الرأي، ويبحث عن قارئ متواطئ يستسيغ قناعاته ومزاعمه. وللحصول على الأثر المرغوب فيه يدعم الناقد الانطباعي كل ما يبهر ويمتع ويستميل مخاطبه ( مشاعر جياشة، أساليب مؤثرة، ألفاظ منتقاة بعناية ومكرورة، المقابلة..). ومن بين الأطروحات التي يرتكز عليها الخطاب الانطباعي نذكر أساسا : أن يكون الأدب إنسانيا وساميا من جهة، ممتعا بفنه وواضحا من جهة ثانية.
ب- خطاب التحقيق: بما أن النقد الجامعي يراهن على الموضوعية والعلمية، فهو يهمش الذات ويقلل من استعمال ضمير المتكلم. يستعين بجملة من الإجراءات النقدية( التحليل والمقارنة والحجاج) سعيا إلى إصدار أحكام معللة ومبرهنة قوامها التأكد من مدى مطابقة النص للقوانين المعتمدة. " في ظاهره هو بحث عن تطابق النص بتلك القوانين أو عدم تطابقه، وفي عمقه هو محاكمة تستضمر نصا نموذجيا يقاس به النص المعالج". ص303. إن النص الموفق هو ما يحترم القوانين المسننة ( المبادئ الروائية والقصصية)؛ مما يؤهله بأن يحظى بالمقروئية والمتابعة. ولما تنتفي هذه القوانين في النص يستبعد من اهتمام النقاد. وهي مبادئ نسبية وغير قارة بالنظر إلى تطور النظرية الأدبية وتغير الأحكام والتصورات النقدية. وهذا ما يجعل بعض النصوص التي أقصيت، في مرحلة تاريخية معينة، من اهتمام النقاد، تحظى، فيما بعد، بالتقدير والعناية من لدنهم لاستجابتها للمعايير الفنية المنشودة.
ويراهن هذا النقد على قارئ رقيب يتمتع بالقدرة على فحص الخطاب النقدي، والتثبت ما إن توافرت فيه الخصائص النقدية المنشودة. ويستعين الناقد الجامعي بأساليب البرهنة والحجاج والاستدلال للتمييز بين مكونات الخطابين القصصي والنقدي، والتحقيق في تلاوينها الفنية ومحتوياتها الاجتماعية.
ح- خطاب السجال: يتظاهر الناقد الواقعي بالموضوعية والحياد، في حين يبدو مدافعا عن سلطته كصاحب عقيدة أو موقف إيديولوجي. ومن صفاته السجال والحجاج البرغماتي والانتقائية. " إذا كان الناقد الجامعي يتحرك ضمن حدود المطابق وغير المطابق، ويحتكم إلى قواعد متعددة فإن الناقد الواقعي مثله مثل الناقد الانطباعي يتحرك بين حدود ثنائية متعارضة هي حدود المقبول وغير المقبول" ص321.
لا يستند الناقد الواقعي إلى أطروحات أو قناعات ثابتة فقط بل ينضبط إليها أيضا لمحاكمة النص بغية إثبات ما إن كان إيجابيا (مدى دفاع الناقد عن القيم الثورية والبديل الاشتراكي)أو سلبيا(مناصرته للقيم الرجعية ).
يستثني محمد الدغمومي من ركب النقاد السجاليين الناقدين محمد برادة وإبراهيم الخطيب بحكم عدم احتكامهما إلى التوجه الإيديولوجي الصارم، وبالنظر إلى استئناسهما بعدة مفاهيمية جديدة لاستجلاء ما يتميز به النص الأدبي من خصائص ومميزات فنية.
إن الخطاب السجالي يدافع عن إستراتجية مفادها استبدال النص والواقع المحال إليه بواقع ممكن. إنها إستراتجية تراهن على تغيير العالم احتكاما للنص الممكن. وهو ما يجعل النص، احتكاما لمعايير إيديولوجية، لا يعير أدنى أهمية للصنعة الفنية، بل يغدو ذريعة للتعبير عن مواقف تنادي بالتغيير وتدغدغ مشاعر الجماهير المقهورة.
خاتمة:
من بين الخلاصات التي توقف عندها محمد الدغمومي نذكر ما يلي:
أ- صب اهتمامه جله على مرحلة التأسيس التي عرفت مخاضا ثقافيا عسيرا بحكم مراهنته على صقل تصورات وأدوات مناسبة إسهاما في النهوض الثقافي والإقلاع الأدبي. ويندرج النقد ضمن هذا الخضم الثقافي العارم سعيا إلى تأسيس خطاب نقدي قادر على مواكبة الإبداع المغربي بمختلف أجناسه وأصنافه.
وقد اتسمت مرحلة الـتأسيس عموما بضعف التراكم النقدي، وقلة عدد النقاد، وانقطاع كثير منهم عن ممارسة النقد، وتعاملهم التجزيئي والانتقائي مع النص.
ومع ذلك أدى النقاد، على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم، دورا كبيرا في الاستفادة من المرجعية الغربية، والتحرر من الأحكام الانطباعية. واستطاعت ثلة منهم (على نحو محمد برادة وإبراهيم الخطيب وأحمد المديني) أن تتفاعل إيجابا مع النقد الغربي، وتستعين بعدة مفاهمية ومنهاجية مناسبة لتحليل النص الحكائي، وإثارة أسئلة جديدة تهم كينونته وطبيعته، وتستجلي آفاق تطويره ودرجة استفادته من النظريات النقدية الحديثة.
ب- لم تستجب معظم نصوص هذه المرحلة لطموح النقاد بالنظر إلى مواصفاتها الفنية. وهو ما كان يسبب لهم حرجا، لا يتغلبون عليه إلا بالانفتاح على النصوص القادمة من المشرق العربي.
ج- بين محمد الدغمومي الدور الذي أداه النقد الجامعي في بناء خطاب نقدي مُؤسَّس نظريا ومنهجيا. وبفضل انخراط كثير من النقاد الجامعيين في العمل الثقافي ( أنشطة ثقافية وندوات ومتابعات نقدية في الملحقين الثقافيين لجريدتي العلم والمحرر)، استطاعوا أن يقاوموا الممارسة النقدية التوفيقية والانطباعية، ويبلوروا خطابا نقديا جديدا يحرص على التمييز بين الأجناس الأدبية، وعلى استجلاء محتوياتها وسماتها الفنية.
د- كان النقد المغربي يستمد نسغه من الصراع السياسي والإيديولوجي الذي كان محتمدا بين أنصار التغيير( الحركة التقدمية ) ودعاة التكريس (الاتجاه المحافظ ). ولم ينزح النقد، عموما، عن هذا الخضم، وهو ما كان يستحث الناقد أن على التموقع والتخندق في هذا المعترك أو ذلك، ويحفزه على اتخاذ النص مطية لتمرير مواقفه السياسية، ومحاسبة خصومه الطبقيين وتقريعهم. جنى هذا المنحى البروكستي ( نسبة إلى أسطور بروكست) على عينة من النصوص وجردها من أدبيتها بسبب الانتماءات السياسية لأصحابها.
هـ - يعلن محمد الدغموي عن مواقفه النقدية صراحة مما يجعله طرفا في المعادلة النقدية. هناك من يرى أننا في حاجة إلى نقد من هذا النوع
لتفادي أساليب المجاملة والمحاباة. وهذا ما يحتم على الناقد أن يكون متمتعا بسلطة القاضي عبد العزيز الجرجاني للتحلي بالإنصاف والعدل. وهناك من يحبذ تمثله لنظرية التأدب في اللغة على نحو يسعفه على تعداد المثالب والنقائص بلباقة وكياسة . وللناس فيما يعشقون مذاهب؟
وفي الختام لا يسعني إلا أن أجدد الثناء والتقدير للمحتفي به أخي محمد الدغمومي على إسهاماته القيمة في الثقافة المغربية وخاصة في مجال نقد النقد. فما أحوج الدارسين إلى الاقتداء به والسير على خطاه لترسيخ دعامات هذا التخصص وتطويره، والعناية بأعلامنا الذين يشكو أغلبهم إن لم نقل معظمهم من الإهمال. فله مني خالص التهنئة بما قدمه من إنجازات قيمة اتسمت، في عمومها، بواسع ثقافته، وفصيح لسانه، ووافر عنايته.[3]
[1] - محمد الدغمومي، نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط،، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 44، 1999.
[2] - محمد الدغمومي/ نقد النقد والقصة القصيرة بالمغرب مرحلة التأسيس، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء،ط1، 2006.