النظر في "نافذة على الداخل" لأحمد بوزفور/د. محمد غرناط
سبق لي أن قدمت قراءة في الأعمال القصصية لأحمد بوزفور بكلية الآداب عين الشق في ندوة تكريمية للكاتب بتاريخ 19-20 ماي 2006، تحت عنوان : "ديوان السندباد بين الواقعية والتجريب" وأحب هنا، قبل أن أتناول مجموعته القصصية الجديدة "نافذة على الداخل" أن أقدم باختصار شديد نتائج هذه القراءة التي أجملها في كون تجربة أحمد بوزفور القصصية تتميز بالتنوع على مستويات مختلفة، ويمكن حصر هذا التنوع في شكلين أساسيين :
سبق لي أن قدمت قراءة في الأعمال القصصية لأحمد بوزفور بكلية الآداب عين الشق في ندوة تكريمية للكاتب بتاريخ 19-20 ماي 2006، تحت عنوان : "ديوان السندباد بين الواقعية والتجريب" (1) وأحب هنا، قبل أن أتناول مجموعته القصصية الجديدة "نافذة على الداخل" (2) أن أقدم باختصار شديد نتائج هذه القراءة التي أجملها في كون تجربة أحمد بوزفور القصصية تتميز بالتنوع على مستويات مختلفة، ويمكن حصر هذا التنوع في شكلين أساسيين :
الشكل الأول : هو الشكل الذي تتجلى فيه مظاهر الكتابة الواقعية على نحو ما نجد عند عدد من كتاب القصة في فترة السبعينيات على وجه الخصوص، بل يمكن التأكيد على أن هذا الاتجاه هو الذي هيمن خلال هذه الفترة، إذ إن الكتابة القصصية تأثرت بالمدرسة الواقعية واستلهمت تقنياتها الفنية.
ففي قصص مثل : ماذا يشرب الأطفال، سبعة رجال، الأحد، الكأس المكعبة.. نلاحظ أنها تتميز بخصائص ترتبط بأسلوب الكتابة القصصية الواقعية، من أبرزها ما يتعلق بالكيفية التي ينهجها السارد في إبلاغ المحكي من حيث أن بناء القصة من كل جوانبه يخضع لرؤيته الأحادية. يضاف إلى ذلك خاصية أخرى مهيمنة في هذه النصوص وتتعلق بنمط السرد القصصي الذي يغلب فيه أسلوب الحكي المستوحى من أجواء القصص التاريخي والسيري على غيره من الأساليب السردية الأخرى .
هذا فضلا عن كون هذه النصوص على مستوى التيمات التي عالجتها مرتبطة بقضايا الواقع الاجتماعي والحياة اليومية من خلال شخوص حكائية تعاني من الفقر والقهر والاضطهاد والجوع والحرمان.. وتعيش في محيط يعتبر مرجعيا بالنظر إلى أسماء الأمكنة وطريقة تقديم هذه الأمكنة ووصفها.
الشكل الثاني : هو الشكل التجريبي، وهو الذي حاول فيه الكاتب استعمال طرائق مختلفة في السرد وبناء النص الحكائي، وهو التوجه الذي غلب في الكتابة القصصية أثناء فترة الثمانينيات، ومن مظاهره الأساسية في قصص "ديوان السندباد" استغلال أدب الرسائل، والأدب المسرحي، والتراث الديني، والموروث الحكائي القديم، على نحو ما نجد في قصة "الهندي" التي توظف حكاية السندباد، وكما نجد أيضا في قصة "الغابر الظاهر". ومن مظاهر هذا الشكل تنوع أصناف الرواة بصورة أبعدت نمط السرد الواقعي التقليدي، مثلما في قصة "آخر أيام سقراط"، وقصة "حصان الساعة اليابانية"، حيث تم بناء الرؤية الفنية بالاعتماد على نمط الراوي الذي يتخذ موقفا حياديا مما يرويه، وفي الثانية، تم بناء النص سرديا على شكل مشاهد حكائية، فيما نصوص أخرى ضمن هذه التجربة تتعدد فيها طرائق التعبير وألوان البحث عن أساليب جديدة في الكتابة القصصية.
وفي ما يخص الإصدار الجديد "نافذة على الداخل" فإن أول ما يمكن أن نلاحظه هو أن الكاتب أعلن بداية من خلال العنوان، وتحديدا من خلال لفظ "النافذة" عن موقعه ومشروعه. لقد حدد بكيفية واضحة الأسلوب الذي اختاره لإبلاغ المحكي، وهو الأسلوب الذي يقوم على سرد الوقائع بطريقة موضوعية.. بمعنى أنه، باختياره النافذة بؤرة للحكي، أقام بيته وبين ما يحكي مسافة تقيه من أي تدخل خارج عن نطاق (أو نظام) العملية السردية، لذلك، فإن عنوان المجموعة يبدو أشبه ما يكون بالتزام مبدئي، أو ميثاق تعهد الكاتب بموجبه على أن يترك للسارد إنجاز عملية الحكي من غير أن يتدخل في وظيفته.
إن لفظ "نافذة" يختزل هذا الاختيار، خصوصا وأنه تكرر بشكل متواتر في النصوص الحكائية وفي عدة سياقات، لكنها كلها توحي بأن النافذة هي البؤرة المركزية في بناء الحكاية، ومن هذا المنطلق سنعالج بصورة مختصرة مجموعة من القضايا من خلال المحاور التالية: الذات، الذاكرة، الطبيعة، والمرأة.
• الذات :
يبدأ هذا المحور أيضا من عنوان المجموعة، بحيث أن عين السارد موجهة نحو الداخل، وبالأساس داخل الشخصية بما يحتويه من أسرار وعلاقات وتجارب عاطفية ونفسية، ولذلك استعمل(السارد) ضمير المتكلم كصيغة نحوية في كل قصص المجموعة تقريبا، وهذه الصيغة من الناحية الفنية هي الأكثر فاعلية في تجسيد عوالم الشخصية الداخلية بكل ما فيها من غموض وتعقيدات.
في قصة "الفرح" التي تتألف من ثلاثة مشاهد حكائية أساسية حاول السارد تجسيد معنى الفرح من خلال الحركات والأفعال وردود الأفعال المختلفة، فالإحساس بالفرح الذي غمره أثناء النهار كان إحساسا عابرا، بينما في المساء غمره الإحساس بفرح حقيقي، وهو يستعيد تجارب ولحظات زمنية طبعت حياته، وتركت لديه إحساسا بسعادة دائمة. ففي المشهد الأول نجد حالة أشبه ما تكون بحالة المتصوف الذي انقطع عن العالم الخارجي، وانصرف إلى داخله لسماع الموسيقى، يقول : "خلفت ورائي وأنا أدخلها ضوء الشمس، وصخب الناس وتعقيدات الحياة الاجتماعية، واستقبلت الظلام والصمت والغموض والمغامرة والخوف والدهشة والفرح" (3)
وعلى هذا النحو يرصد الراوي/ الشخصية في المقطع الثاني علاقته بالشعر، وفي المقطع الثالث علاقته بالمرأة، ثم تتسع هذه النافذة لتشمل عناصر أخرى (أو شظايا أخرى من قبيل الكتب، الحيوانات، البحر، وغيرها، لتصير كلها من مكونات العالم الداخلي للشخصية ومنها يستمد معنى وعمق الأشياء كما يتصورها.
• الذاكرة :
تحيل نصوص المجموعة على فترات زمنية بعيدة من حياة الشخوص القصصية، تمتد صعدا من الراهن إلى نقط زمنية ترتبط بسنوات الطفولة الأولى، وغالبا ما تشكل هذه اللحظات عوامل مؤثرة وفارقة في حياة الشخصية إلى حد يمكن معه القول إنها هي التي وجهت أعمالها وأقوالها في فترات لاحقة. ففي قصة "المكتبة" يحكي المتكلم عن أحداث عاشها في مرحلة طفولته، وهو تلميذ بالمدرسة الثانوية يخوض تجربة القراءة التي انخرط فيها بالرغم من العراقيل والعوائق التي اعترضته من قبل محافظ المكتبة وأعوانه، وانتهت باتهامه (عن باطل) بسرقة الكتب والتحرش بالتلميذات، ثم أخيرا بتوقيفه عن الدراسة.
والملاحظ أن حديث المتكلمين بصيغة المذكر أو المؤنث، والذي يرتكز على الذاكرة، بالإضافة إلى كونه بحثا في الماضي، فإنه ساعد في رسم مشاعر الشخصيات وميولها وأفكارها، وشكل إلى جانب ذلك دعامة أساسية في بناء الرِؤية الفنية والفكرية في قصص المجموعة.
ولهذا فإن اللحظات الزمنية المستعادة، تتوالى باستمرار بالنظر إلى قيمتها وتتراكم، فتجد الشخصية نفسها تحت ثقل عامل الزمن، الأمر الذي يعطيها إحساسا عميقا بالتعب، نقرأ في قصة "التعب" ما يلي :
«ماذا يسمون ذلك السكر الذي تحركه بالملعقة في كأس حياتك قبل أن ترتشفها منتشيا على مهل؟ أنا أسميه المعنى، وإنما عنه كنت أبحث في الحب والسياسة، والصداقة والكتابة... وعدت من الغنيمة في آخر العمر بالتعب، هل ذلك ما عناه الشاعر بقوله (تعب كلها الحياة)؟ ومع ذلك فإني أرغب في الازدياد... من التعب؟ فليكن من التعب" (4)
هذا كله يدل بوضوح على امتداد التجربة وعمقها، كما يدل على اتساع الحيز الزمني الذي يؤطر أفعال الشخوص وأدوارها التي لم تتوقف بالرغم من التعب والعوائق المختلفة، بل إنها تستشرف المستقبل وتصر على البقاء والاستمرار.
• الطبيعة :
إن اهتمام السارد بالزمن يكاد يوازيه في المجموعة الاهتمام بالطبيعة، فعناصر الطبيعة على اختلافها لها حضور مكثف وواسع في المساحة النصية. وهذا الحضور لم يكن لغرض بلاغي تزييني، بل يشكل جزءا أساسيا من العملية السردية، وذلك بالنظر إلى الوظائف الجمالية والتعبيرية التي ساهمت بها المكونات الطبيعية في تكوين الشخصيات العاطفي والنفسي وتجسيد أبعاد الفضاءات والأمكنة التي تتحرك فيها.
في قصة "الكهف" يطالعنا اللون الأخضر منذ بداية القصة " عيناها خضراوان، الخضرة فيهما صافية ندية كأنهما من عشب ممطور" (5) وبالصورة نفسها تنتهي هذه القصة : "الأخضر لا يحزن والخضرة صافية ندية كأنها عشب ربيعي ممطور"(6)
وعلى هذا النحو يتكرر هذا اللون في عدد من النصوص، وعلى غراره تشغل عناصر الطبيعة الأخرى من ألوان، وأصوات، وروائح، وأشياء مساحات هامة في قصص المجموعة. وفي هذا السياق أشير إلى أمر في غاية الأهمية حسب اعتقادي، وهو أن عناصر الطبيعة على اختلافها تتجاوز أحيانا مدلولها المادي وتتحول إلى كيانات رمزية وذلك بما يضفيه عليها السارد من أحاسيس ترفع من القيمة اللفظية لكل مكونات النص الحكائي، وبالأخص الأمكنة بما لها من تأثير في أفعال الشخوص ومواقفهم وسلوكاتهم العاطفية والاجتماعية، وما لها أيضا من تأثير في صياغة المحكي فنيا ودلاليا.
• المرأة :
إلى جانب العناصر التي تحدثنا عنها نلاحظ أن المرأة في هذه المجموعة تشكل عنصرا بنائيا هاما، وذلك بالنظر إلى أهمية الأعمال التي أسندت إليها، ويمكن تحديد هذه الأعمال من خلال صورتين تتكاملان في ما بينهما بالرغم من تعارضهما الواضح :
الصورة الأولى : تتمثل في كونها (المرأة) موضوعا لرغبة الرجل ضمن علاقة تجمع بين طرفين تمثل فيها المرأة الطرف المرغوب والمشتهى. في قصة "التعب" نقرأ عن الحب الذي يكنه المرسل للمرأة : "كان حبا مفارقا أشبه بحب الحلاج لرابعة... طاهر ... حلولي.. ومخيف" (7) وهذه هي الخصائص العامة التي تميز هذه الرغبة، وهي أيضا أشبه بحالة صوفية لحب ممتد في الزمن، لكن من غير أن يتحقق له شرط التواصل بين الذات المرسلة والعامل الموضوع، الأمر الذي خلق حالة من التوتر على مستوى اللغة اتسعت معها الأفعال الدالة على التدمر والعجز والحرمان، وأحيانا العبث واللاجدوى..
الصورة الثانية : تتمثل في الأعمال التي تجعل من المرأة ذاتا وصوتا مهيمنا وموجها لحركة السرد، لذلك يبدو خطابها في حالات معينة أقرب إلى أدب الاعتراف فتتجاوز العوائق ليتسع دورها في النص الحكائي بالكامل، وهذا الحضور يرتكز على ما تنفرد به من مقومات مثل الجمال والجرأة والحيلة والابتكار في مقابل الرجل الذي يقيده الخوف والتردد والوهم.
نقرأ في قصة "الحب" "أين الفتى الجميل الذي عرفته وأحببته؟ لم يبق منه إلا صورة عجوز تبهت ملامحها وتتجعد كل يوم، أنا كنت أحبك أنت لا هذه الصورة العجوز. كنت أحب إنسانا من لحم ودم، لا شخصية متخيلة باردة في قصة إنجليزية"(8)
لكن ما تبديه المرأة من تفوق على الرجل يتلاشى في نهاية هذا النص حينما أخبرته بحقيقة مصيرها، وفي نظري لا يمكن فهم هذا المصير إلا ضمن العلاقة التي تربط بينهما والتي تؤدي فيها المرأة دورين مختلفين، لكنهما - كما قلت- متكاملان ويمنحان النص الحكائي دينامية عل مستوى السرد واللغة والحوار إلى جانب العناصر الأخرى التي تحدثنا عنها وكلها ساهمت في بناء قصص هذه المجموعة التي قدمنا، ولاشك أنها تحتاج إلى مزيد من التفكير والتحليل بالنظر إلى غناها وتنوعها.
________________
هوامش:
1- محمد غرناط، ديوان السندباد بين الواقعية والتجريب، ضمن كتاب أحمد بوزفور: مسار، منشورات كلية الآداب عين الشق الدارالبيضاء،ط1،2006
2- أحمد بوزفور، نافذة على الداخل، منشورات طارق، الدار البيضاء،ط1،2013
3- نفسه، ص43
4- نفسه، ص19-20
5- نفسه، ص69
6- نفسه، ص75
7- نفسه، ص16
8- نفسه، ص40