شعرية السيرة الذهنية-محاولة تأصيل د. محمد الداهي
فيما يلي المقدمة التي صدر بها الباحث الدكتور سعيد يقطين الكتاب الذي صدر بداية في المغرب(منشورات فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء 2000) ثم صدرت طبعة ثانية في القاهرة ( در نشر رؤيا، 2008).
ا . محاولة تأصيل :
1 . 1 . إن محاولة " تأصيل " جنس أو نوع ما ، أو البحث في تشكله ، هي من الأعمال التي لا يمكن أن يُقدِم عليها إلا من يروم النظر في الظاهرة بعيدا عن تجلياتها العادية أو الملموسة . وهو بذلك يرمي إلى النفاذ إلى أعماقها التي تصلها بغيرها ، وتنظمها جميعا في نسق شامل وجامع.
1 . 2 . يدخل عمل الباحث والناقد محمد الداهي في هذا النطاق . فهو يسعى إلى اقتحام مجال " نظرية الأجناس " بوعي الباحث ، وحس الناقد . يركز على نوع محدد هو " السيرة الذهنية "، وينطلق في البحث عن تجلياته في نصوص عربية قديمة وحديثة . ولا ينسى الاستئناس بنصوص أجنبية في المضمار نفسه . وهنا مكمن خصوصية هذا الكتاب الذي يتجاور فيه "المنقذ من الضلال " للغزالي مع " أوراق " العروي ، وتتوطد الصلات فيه بين " حي بن يقظان" بن طفيل ، و"أنا " العقاد...
ألفنا قراءة أعمال عن هذه النصوص وغيرها من الأعمال المتناولة في هذا الكتاب ، وهي تعالجها من زوايا تختلف عن تلك التي وقف عليها الداهي متسائلا ومنقبا عن الجامع بينها، وما تأتلف فيه وأين تختلف .
1 . 3. من السهولة بمكان قراءة أي مصنف أو مؤلف قراءة تعزله عن غيره ، وتكتفي بمعالجته في ذاته . لكن ما أصعب هذه القراءة حين تستهدف الوقوف على الأبعاد الجنسية أو النوعية للنص . وتزداد هذه الصعوبة عندما يكون " الجنس " أو " النوع " المبحوث فيه ذا ملامح خاصة ، ولم يعالج ( في أدبيات سابقة ) بصورة تقرب أبعاد تلك الملامح ، وتيسر للمجتهد أن يضيف أو يعدل ،،، وهذا شأن " السيرة الذهنية " . ومن هنا تأتي أهمية هذه "المحاولة التأصيلية " . وتلك خصوصيتها المغامرة . إنها اقتحام لمجال ما يزال يستدعي الكثير من العمل والجهد .
2 . البويطيقي والنقدي :
2. 1. يغامر الباحث ، ويسمي " النوع " ( السيرة الذهنية ) . ويبحث عن تجلياته في نصوص قديمة وحديثة :
أ ـ المنقذ من الضلال : الغزالي .
ـ التوابع والزوابع : ابن شهيد .
ـ حي بن يقظان : ابن طفيل .
ب ـ أنا : العقاد .
ـ أوراق : العروي .
ـ شارع الأميرات : جبرا إبراهيم جبرا .
وهو إلى جانب هذه النصوص يعالج غيرها بصورة أو بأخرى . يقارن أو يوازي ، يستشهد أحيانا بالنظير، وأخرى بالمفارق ، بغية الإمساك بالعلاقات والتشابهات والتقاطعات . وتظل "السيرة الذهنية " عصية ومستعصية ، تختلط بالسيرة الذاتية أحيانا . وتحاول الاستقلال عنها أخرى . وبين الاتصال والانفصال تبتعد السيرة الذهنية حتى نعتبرها تنويعا على لسيرة الذاتية، وتقترب منها إلى درجة التماهي . أوليست هذه هي طبيعة الأجناس والأنواع . تتداخل وتتقاطع، وتتصل بعضها وتنفصل عنه في الآن ذاته . ولذلك يسهل إنكار التمايز ، ولكن يصعب إثباته . وهذا جوهر التفكير الأدبي ، لأن اي تفكير فيه هو تفكير في أجناسه وأنواعه .
2 . 2. ينبري الباحث محمد الداهي لهذه المعضلات بجرأة وحذاقة . ولابد ، في هذه الحال ، من الاصطدام بالصعوبات . يحاول المزاوجة بين عمل البويطيقي وعمل الناقد . فيتوارى الأول وراء الثاني .
2 . 2. 1 . يسعى البويطيقي / العالم إلى معاينة البنيات المجردة ، ورسم الخطوط الكبرى لمعالم المشروع الجنسي وما يتفرع عنه من أنواع وأنواع فرعية ،،، فيضع الثوابت العامة بناء على معايير كلية وجوهرية . وهو لايحقق هذا العمل إلا بعض إنجاز أعمال امبريقية على تجليات عديدة تتصل بالجنس موضوع البحث .
2 .2. 2 . يأتي عمل الناقد ليشتغل بالتجليات وفق التصورات والإطارات التي وضعها البويطيقي . فيقارب الموضوع من زاويته الخاصة ، فيضيف ويعدل ويدقق وفق ما يقدمه له المتن المشتغل به . وكما يستفيد الناقد من عمل العالم ، يستفيد هذا منه في دورة مستمرة ودائمة من البحث المتواتر .
2 . 2 . 3. يمكن أن يجتمع الناقد والعالم في شخص فيتكامل عملهما ، ويحقق أحدهما للآخر ما يحتاج إليه . وهذا الرهان الأصعب هو ما رام الباحث الداهي ركوبه . وإذا كان عمله النقدي بارزا في هذا العمل من خلال انكبابه على نصوص بعينها ومعالجتها في ضوء الأسئلة العلمية التي طرح ، فإن هذا النمط من الاشتغال لا يمكن أن يؤدي به إلا إلى الكشف عن خصوصيات النصوص التي عمل على تحليلها من حيث بعدها النوعي الجامع ( السيرة الذهنية) . ولقد وفق فعلا في إضاءة العديد من الجوانب ، والوقوف على العديد من المميزات والتجليات المتصلة بالنصوص التي عمل على تحليلها .
2 . 3 . ليس من السهولة بمكان ، الاضطلاع بعمل العالم في الفكر الأدبي العربي بوجه عام. وما يزال أمامنا الكثير من الجهد لنبذله لنصل إلى هذا العمل . ولعل أهم نقطة انطلاق في هذا السبيل هي أولا الإيمان بجدوى ذلك وضرورته . وقد تحقق هذا في هذه الدراسة التي تسعى فعلا لتكون " محاولة للتأصيل " ومنطلقا للبحث والتحليل ، ومدخلا لابد من أن تتلوه مداخل أخرى لترجمة جزء من إشكالات الدرس الأدبي العربي ، وتطوير قضاياه ، وتفجير أسئلته العديدة : المعلقة والمؤجلة.
شعرية السيرة الذهنية لمحمد الداهي خطوة أولى في رحلة الألف ميل . ولتكون فعلا تلك الخطوة ، فهي تستدعي الحوار والنقاش ، بل إنها تدفع إليهما دفعا . وذاك هو ما يبرر حضورها وجدواها