|
||||
الكاتب وقضاياه -د. عبد القادر الشاوي
يورد تزفتان تودروف في كتابه (الأدب في خطر)[1]حوار تراسليا لطيفا بين جورج صاند وغوستاف فلوبير حول مكانة الكاتب في أعماله الأدبية وطبيعة الحقيقة التي يتوصل إليها. فيلاحظ، منذ البداية، أن القراءة المتسرعة لهذا الحوار التراسلي الذي جرى، في الحقيقة، بين صديقين بينهما ود واحترام، يمكن أن تحمل على الاقتناع الخاطئ بأن صاند تطالب الأدب بالخضوع للأخلاق بينما يدافع فلوبير عن ارتباطه بالحقيقة. تتأسف صاند لكون فلوبير لا يعبر عن نفسه كما ينبغي في كتاباته، بينما جعل هو، كما يرى، من عدم التدخل في الرواية مبدأ لا يستثني منه شيئا.غير أن صاند ترى في تعقيبها على هذا الرأي شيئا آخر تماما قائلة: إن فلوبير لا يستطيع مهما حاول أن يتجنب البروز في كتاباته لأنه من المستحيل الفصل بين الشيء المنظور والرؤية الذاتية، ولهذا الأمر فإن ما تلاحظه عليه ليس غيابه الكلي أو الجزئي عن أعماله الأدبية، بل طبيعة حضوره بالذات، ولذلك خاطبته في رسالة قائلة: "إن كل حياتك العاطفية... والطيبوبة الرائعة والتلقائية التي تتحلى بها تؤكد لي بأنك أنت الخاص الأكثر اقتناعا بوجودك (في أدبك). غير أنك بمجرد ما أن تشتغل بالأب إلا وتصبح انسانا آخر". غير أن ما يلاحظه تودروف بعد ذلك يبدو في غاية الأهمية، إذ يرى أن الخلاف القائم بين صاند وفلوبير كان، في المقام الأول، خلافا فكريا، إلا أن نظرتيهما إلى مفهوم الأدب كانت، في الغالب، متقاربة، يقصد بالضبط اعتبارهما لقدرة الأدب على فهم أفضل للوجود الإنساني، ودوره في تحويل القارئ من داخل كيانه. ثم ينتهي إلى استخلاص مفيد مبناه أن جميع المنظورات أو المقاربات التي تستخدم في تحليل النصوص متكاملة، لأن الأعمال تنتج المعنى، والكاتب يفكر، ودور الناقد يكمن في صياغة هذا الفكر وذاك المعنى من خلال اللغة المتداولة في عصره. وبما أن موضوع الأدب هو الوجود الإنساني نفسه، فإن الذي يقرأه ويفهمه لا يصبح متخصصا في التحليل الأدبي بل عارفا بالوجود الإنساني. ومن المفارقات التي يتكلم عنها تودروف في كتابه هذا (الأدب في خطر) أن الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورت ميل حكى في سيرته الذاتية قبل وفاته أن الاضطرابات النفسية والذاتية العامة أغرقته في حالة من الكآبة المزمنة دامت سنتين، ولم يشف منها إلا عندما قرأ بالصدفة ديوان شعر للشاعر وودروورث Wordswordth، لأنه وجد في ذلك الشعر، على حد قوله، التعبير الأمثل بواسطة جمال الشعر عن أحاسيسه واستيهاماته. ويعترف تودروف نفسُه أنه لا يستطيع الاستغناء عن كلمات الشعراء وسرود الروائيين، لأنهم يساعدونني, كما يقول، على تنظيم "تدفق الأحداث التي تكوّن حياتي، ويحملونني على الحلم..." الكاتب والحقيبة ومن التأملات التي تذهب في نفس الاتجاه تلك التي عبر عنها الكاتب التركي أورهان باموك[2] من خلال علاقة مفترضة ومثيرة مع حقيبة أبيه، ذاكرا أن أباه قبل وفاته ائتمنه على حقيبة دعاه أن يقرأ محتوياتها بعد وفاته قائلا له: الق نظرة على الحقيبة، فقد تجد فيها شيئا يمكن أن يصلح للنشر. وتتناسل حكاية الحقيبة في علاقة بالأب بصورة تدريجية معترفا، في البداية، أنه بقي أياما، بعد وفاة أبيه، لا يقدر على لمس تلك الحقيبة مع أنها كانت بالنسبة إليه "شيئا معروفا وجذابا يبعث في كثيرا من ذكريات الماضي والطفولة، وذلك بسبب الثقل الذي تخفيه داخلها". ومعنى هذا الثقل بالنسبة إليه هو أن يُقفل الكاتب على نفسه في غرفة، ويجلسَ إلى طاولة أو ينحاز إلى ركن، ثم يشرع من خلال الورق والقلم في التعبير عن المعنى، معنى الأدب... في إشارة إلى أن أباه كان يملك خزانة هامة من الكتب، وقد حاول في الأربعينيات من القرن الماضي قرض الشعر، وترجم بول فاليري إلى التركية، ولكنه لم يكن يتطلع، كما يقول أورهان، إلى أن يصبح شاعرا في بلد فقير ليس فيه قراء. ولكن ما الذي كان يمنعه من فتح الحقيبة مع علمه بارتباطه العاطفي بها والمسؤولية الملقاة على عاتقه بضرورة قراءة محتوايتها، كما ورد في وصية أبيه؟. لا يبدو السؤال مفتعلا، ولا يبدو الجواب بالمثل بديهيا أو سهلا، لأن الخوف الحقيقي ارتبط بالنسبة إليه بشيئين اثنين يبدوان في منتهى الغرابة: الأول خوفه من أن يقرأ ما قد لا يروقه من محتويات الحقيبة، خصوصا وأنه كان يدرك أن أباه لم يكن يأخذ الأدب على محمل الجد. أما الثاني، وهو الحقيقي، كما يقول أورهان، فخوفه من أن يكون أبوه كاتبا جيدا، ولو تأكد له ذلك لكان عليه أن يقبل بأن شخصية أبيه كانت تتقمص حالة إنسان مختلف تماما عن تصوراته عنه، ثم يعلق على ذلك قائلا: كنت أعتقد، بقطع النظر عن سني، أن أبي يجب أن يكون فقط أبي لا كاتبا. والخلاصة التي يمكن استخلاصها مع الكاتب من هذا هي أن الإنسان لكي يصبح كاتبا، عليه أن يكتشف الشخصية الثانية التي تختفي في أعماقه، والعالم الفذ الذي يجعل منه ما هو عليه. أما الكتابة فلا يمكن أن تكون إلا من خلال تحويل نظرته إلى عالمه الداخلي من خلال الكلمات، والعمل على بناء العالم الجديد الذي يتفاعل في دواخله بكل هدوء وفرح واهتمام وترو، لأن سر الكتابة كامن، حسب أورهان، في "وحي" لا نعرف مطلقا من أين يمكن أن يأتي، أو نعرف بالأحرى أنه صادر بكل تأكيد عن الاهتمام والتروي. سيفتح أورهان باموك حقيبة أبيه، وسيتذكر فورا رائحة السفر التي انبعثت منها، وسيتأكد له أنه يعرف محتوياتها مسبقا لأن أباه أطلعه على شيء كثير منها. ولما تصفح مخزونها دفترا بعد الآخر أدرك أن معظمها ينتمي لسنوات شباب أبيه عندما ترك أسرته وراءه واستقر به الحال في باريز. وبذلك اكتشف، وتلك هي المفارقة، أنه إنما كان يود معرفة طريقة تفكير أبيه، وطريقة كتابته عندما كان في مثل سنه أيضا. أن تكون كاتبا، في هذا السياق، معناه أن "نحتبس" في الجروح الخفية التي نحملها في دواخلنا والتي لا نعرف عن وجودها إلا الشيء اليسير، والعمل على اكتشافها ومعرفتها بصبر وإخراجها إلى الضوء وتحويلها إلى جزء من كياننا وشخصيتنا اللذين نعانقهما بوعي. ولو طرحنا السؤال على هذا الكاتب: لماذا تكتب؟ لأجاب في منتهى التلقائية بجميع الإجابات المفترضة أو الممكنة، ومنها تلك التي قد لا تخطر على بال في بعض الأحيان، كقوله إنني أكتب لأنني عاجز عن القيام بأي عمل مثلما يقوم به الآخرون، ولكي تُكتَب كتبٌ مشابهة لما أكتبه فأتمكن من قراءتها، ولأنني غاضب جدا منكم ومن العالم أجمع، ولأنني أحب أن أُمضي سحابة اليوم في غرفة أكتب، ولأنني لا أستطيع احتمال الواقع إلا إذا تجاوزته، ولأن رائحة الورق تعجبني، وقلم المداد والحبر، ولأنني على اعتقاد كبير في الأدب وفي الرواية، ولأن الكتابة عادة وافتتان، ولأنني أخشى أن أنسى، ولأنني أحب الشهرة والاهتمام اللذين وهبتني إياهما الكتابة، ولكي أكون وحيدا، ولأنني أعتقد اعتقادا طفوليا بخلود المكتبات وكيف أن كتبي موجودة على الرفوف، ولأن الحياة والعالم وكل شيء مدهش ورائع بصورة لا تصدق، ولكي أتحرر من الشعور بأن هناك مكانا يجب أن أذهب إليه ولا أستطيع الوصول إليه كما في الحلم... وهكذا. بعبارة أخرى لأن الكتابة هي التعبير الكلي عن الوجود مهما تعددت الصيغ الحاملة لها والأوضاع القائمة فيه. الكاتب والوطن يفترض ميلان كونديرا أن الإنسان الأوربي وطنيا كان أم أمميا، متجذرا أم مقتلعا، فإنه لا يتحدد إلا في علاقته بوطنه، ومن ثم فإن الإشكالية الوطنية في أوربا، فيما يبدو، أكثر تعقيدا وأكثر خطورة منها في أي مكان آخر، ولعلها في جميع الأحوال مختلفة. يضاف إلى ذلك أن هناك خصوصية أخرى تتمتع بها أوربا ألا وهي وجود أقطار صغرى إلى جانب الكبرى حازت معظمها في القرنين الأخيرين على استقلالها السياسي، وربما كان وجودها هو الذي جعل ميلان كونديرا يدرك، كما يقول عن نفسه، بأن التنوع الثقافي هو القيمة الأوربية الكبرى. وفي الوقت الذي كان العالم الروسي، كمت يؤكد، يريد قولبة بلاده على شاكلته أمكنه أن يبلور فكرة أساسية عن أوربا صاغها بقوله: هي، أي أوربا، أكبر عدد ممكن من التنوع في أقل فضاء ممكن. زمع أنه يسلم بأن الروس لا يحكمون بلده، إلا أن الفكرة ما زالت عرضة للخطر. والحقيقة أن جميع الأقطار الأوربية تعيش نفس المصير المشترك، بيد أن كل قطر يعيشه بطريقة مختلفة انطلاقا من تجاربه الخاصة. على أن ما يميز الأقطار الصغيرة عن الكبيرة ليس هو العامل الكمي المتعلق بعدد السكان، بل هو شيء أكثر عمقا من ذلك، أي أن وجودها ليس بالنسبة إليها حقيقة بديهية، بل هي باستمرار سؤال، مغامرة، إنها أقطار في موقف دفاع في مواجهة التاريخ، في مواجهة قوة لا قبل لها بها، لا تأخذها في الحسبان، بل ولا تراها أبدا [3]. هناك سياقان أوليان في نظر كونديرا يؤطران كل عمل فني: السياق الصغير أو تاريخ وطنه، والسياق الكبير أو التاريخ الذي يتجاوز الوطن. ومن المعتاد أن نتصور الموسيقى ضمن السياق الكبير لأن الاهتمام بمعرفة لغة رولان أو لاسوس أو باخ لا أهمية لها بالنسبة لعالم الموسيقى، وبالمقابل فإن تدريس الرواية في مختلف جامعات العالم لا يتم لارتباطها باللغة إلا في السياق الوطني الصغير. ولا يستخلص كونديرا من ذلك إلا أن أوربا لم تنجح في التفكير في الأدب كوحدة تاريخية، الأمر الذي يعتبره فشلها الثقافي الذي لا يمكن أن يصلح، وفي تاريخ الرواية ما يدل على ذلك، إذ أن ستيرن تفاعل مع رابلي وهو الذي ألهم ديدرو، وينتسب فيلدينك بدون كلل إلى سرفانتيس، ويتلاقى فيلدينك مع ستاندال، والتقليد الأدبي الفلوبيري يمتد في أعمال جويس، ولم يطور بلوك شعرية الرواية إلا من خلال تأملاته حول جويس، وكافكا هو الذي أفهم ماركيز بأنه من الممكن الخروج عن التقاليد والكتابة بطريقة مختلفة. ويؤكد كونديرا بأن جوته هو أول من اهتم بهذا الموضوع كما لو كان وصية من وصياه عندما قال بأن الأدب الوطني لم يعد يمثل اليوم شيئا ذال بال، لأننا ندخل إلى عالم الأدب العالمي، ومن واجب كل واحد منا أن يعمل على تسريع وتيرة هذا الدخول. ويلاحظ كونديرا أن الأمم الصغرى تعاني من ترددات كثيرة في علاقتها بالدول الكبرى لأسباب مختلفة، فهي تولي الاعتبار الكبير للثقافة العالمية ولكنها تعتبرها شيئا غريبا عنها، مثل سماء فوقها، بعيدة، لا يمكن تملكها، حقيقة مثالية لا علاقة لأدبها الوطني بها. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الأمة الصغيرة قد أقنعت الكاتب بأنه لا ينتمي إلا إليها حصرا، وبما أن الأمم الصغيرة، كما يقول كونديرا، تجتاز في الغالب أوضاعا يكون وجودها فيها نفسه في خطر، فإنها تنجح، بطبيعة الحال، في تبرير موقفها بسهولة. وينتهي من ذلك كله إلى القول إن التملك الذي تبديه الأمة إزاء فنانيها يتجلى حقا فيما يمكن تسميته ب (إرهاب السياق الصغير) الذي يقلص البعد الحقيقي للعمل إلى مجرد الدور الذي يلعبه ذاك السياق في وطنه الأصلي. الكاتب والوجود لا نعرف على وجه التحديد أيا من العوامل المؤكدة أو الحاسمة التي تقف وراء ظهور كاتب ما في المجتمع، وانتشاره (أو انحساره) في المجال الثقافي العام. مثلما لا نستطيع الجزم بأن هذا الظهور، عندما يتحقق تحققا فعليا، يرتبط بسن معينة أو بفترة خاصة من فترات الوجود في حياة الفرد. كما لا يتأكد وجود كاتب ما إلا من خلال إنتاجه العام، وتواتر هذا الانتاج في الزمن وخضوعه بالمثل لجملة من "القوانين" الناظمة للكتابة وللفعل الثقافي، علما بأن السياقات الثقافية والعوامل المؤثرة فيها في كل مرحلة غالبا ما يكون لها الدور الحاسم في تأكيد وجود كاتب معين أو، في الحالة المقابلة وهي ممكنة، نفي ذلك الوجود. ومن الأمثلة التي أضحت معروفة في المغرب أن محمد شكري لم يتعلم القراءة والكتابة إلا في سن العشرين، ولم ينشر أولى نصوصه الأدبية باللغة العربية (في مجلة الآداب البيروتية على الأرجح) إلا بعد أن تجاوز الثلاثين، ولم ينل حظا من الشهرة التي استوى بها اسمه في المغرب وفي الخارج من خلال الترجمات إلا بعد الأربعين. وأول عمل نشره إدمون عمران المليح (المجرى الثابت) جاء بعد أن تجاوز الرابعة والستين، فلم يتحقق له الاعتراف الوطني (السياق الصغير بتعبير كونديرا كما رأينا) الذي ربما كان يتطلع إليه إلا بعد ذلك بفترة. وكثيرون نشروا كتاباتهم الأولى في السنوات العشرين من حياتهم في مرحلة التعليم الجامعي التي غالبا ما تدعو إلى التفتح والانطلاق والتجريب كذلك، ولعلها فيما يبدو هي القاعدة، فلم يحققوا بذلك وبغيره ما كانوا يطمحون إليه إلا بعد ذلك بكثير، ومنهم من لم يحقق به شيئا إذا تكلمنا عن ذلك من زاوية الشهرة والذيوع. ومن الكتاب من برز في المجال الثقافي بسبب تميز مذكور، أو نجابة مبكرة، أو بغيره، ولكنه لم يعد له أثر يذكر بعد ذلك (عماد الدين السعيد، محمد البوعناني، محمد البقالي، محمد القماص وغيرهم...) لأسباب ليست في الغالب محض شخصية. ومن الكتاب من بدأ بداية متواضعة لم يعرف له فيها أي أثر متميز يحظى بالاهتمام، فجاء زمن صار له الشأن المعلى في المجال المخصوص، بل وهو فيه مرجع الأشياء والمواقف والأفكار، ومن الكتاب من كانت بداية وجوده فيها واعدة، فتوقف عقودا عن ممارستها ثم استأنف السير في مجراها على نفس الوتيرة أو بصورو مغايرة... وهكذا. ومن الصحيح أن مجال الانتشار أمام الكتاب في مغرب السنوات الأولى من الاستقلال وبداية السبعينات من القرن الماضي، على سبيل المثال، كان أوفر منه فيما بعد، لأسباب تبدو الآن مفهومة من زاوية التحليل السوسيوثقافي (حداثة التجربة الثقافية في ارتباط بالتعليم، قلة مجالات النشر والانتشار، التأثير المباشر للعمل السياسي في الحياة الثقافية... وغيرها من العوامل)، بيد أن التعدد الذي أوجبه تطور الممارسة الثقافية، فيما بعد، صار عاملا محددا في إنجاح أو إفشال هذه المحاولة أو تلك من المحاولات الدائبة التي يبذلها الكتاب للظهور والانتشار. ومعنى هذا أن ظهور الكاتب أو اختفاءه في مرحلة ما، أو في سياق وجودي معين، لا يستقر على قانون ولا يخضع لمنطق، لأنه ليس إلا حالة قابلة للتوصيف ربما كانت من حالة العوامل العميقة غير المباشرة التي يخضع لها تطور المجتمعات على امتداد فترات معينة قد تطول وقد تقصر. أقصد أن الكاتب هو التعبير الرمزي عن درجة التطور الثقافي في مجتمع ما، وظهوره مثلما هو وجوده مرتبط بذلك، ولذلك تعاني المجتمعات المتخلفة من انحسار دور الثقافة فيؤثر ذلك على ظهور أو اختفاء الكاتب بل ويحدده في الحالتين، وتجد العكس (أي درجة التطور الثقافي)، بطبيعة الحال، من أهم المقومات الأساسية التي تهيئ جميع الاحتمالات الممكنة لبروز كافة أشكال الوجود الثقافي والفني سواء تعلق الأمر بالكاتب أم بغيره. وإذا وُجد الكاتب فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ارتبط بمكونيْن هامين من مكونات ذاك الوجود: الكتابة نفسها من حيث هي أداة، وقد ترتقي إلى مستوى الحاجة، للتعبير عن الاختيار المقرر الذي يستشعره الكاتب نفسه ويصبح جزءا من تكوينه الثقافي (أكون كاتبا يترافق مع وعيي واختياري بأن الكتابة أداتي وصناعتي). أما المكون الثاني فهو السياق الثقافي من حيث هو مجال للتعبير والظهور والتفاعل معا. إنني أكتب من موقعي الخاص (وهو صفتي في نفس الوقت لارتباطه باسمي الشخصي الذي هو اسم علم، ودلالته الحضورية شاهدة علي من زاوية القراءة والتلقي) للتعبير عن الانشغالات التي تأخذ باهتمامي. بيد أن العملية لا تنحصر فقط في هذا المستوى المبدئي (رغم أنه نابع من اختيار وقرار) بل تتعداه إلى أن تصبح عملية الكتابة حركة تحول الكاتب من ذاته إلى وجوده، وانتقاله من وعيه الخاص إلى إدراك متطلبات الوعي بالآخر. وهنا مكمن التفاعل المشار إليه قبل قليل، أي أن الكاتب لا يكتب استشعارا لحاجة أو تنفيذا لقرار فقط، بل ويسعى كذلك إلى الارتباط بالمجال الثقافي لتحقيق قدر من التفاعل، صغر أم كبر، هو من صميم الدينامية الثقافية التي تسري في السياق الثقافي المعين. إن الكتابة، خلافا لما قد يفترضه الكاتب لو شاء أن يعرّف مبناها، هي، بحكم التداخل الدلالي الثاوي في معناها، لغةٌ (إذ تعتمد على الصوغ البياني والتركيب اللفظي) وصوتٌ (لأن فيها معنى التعبير عن الوجود الفردي) وأثرٌ كاليغرافي ( من حيث الشكل والتكوين) وصيغةٌ إيديولوجية ( من حيث الوظيفة لأنها حمالة موقف).
--------------------------------------------------------------------------------
[2] La maleta de mi padre, Literatura Mondadori, España 2007 [3] المثال الأبرز على ذلك في نظر كونديرا هو أن البولونيين متساوون مع الإسبانيين من حيث العدد، غير أن إسبانيا تعتبر قوة عريقة لم تتعرض للتهديد في وجودها أبدا، في حين لقن التاريخ للبولونيين معنى ألا تكون موجودا بالمرة، وبما أنهم حرموا من دولتهم فإنهم عاشوا قرابة قرن في ممر الموت
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأربعاء 19-05-2010 05:25 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 3239 التعليقات: 0
|