تأزيم المفهوم
متى ظهر هذا المفهوم؟ ما تحديده؟ متى انبثقت ثنائية الشرق والغرب؟ ما هي حدود الشرق، وما هي حدود الغرب؟ ما مدى ملاءمة هذا المفهوم لواقع الحال؟ هل ما زال هذا المفهوم مسايراً لِمَا جَدَّ من علوم، ومن دراسات ناتجة عنها؟ إن هذه التساؤلات التي تؤزم المفهوم، وتَسْتشكله، توجه الباحث المعاصر نحو التماس مقاربات وجيهة ملائمة ومُسَايِرَة لِروح العصر وعلومه؛ وتحقيقاً لِنَزَرٍ يسيرٍ من هذا الهدف الكبر المعلن، فإننا سنفصل زمن الاستشراق إلى حقبتين كبيرتين؛ أولاهما تنتمي إلى إبدالات ما قبل العلوم المعرفية؛ وثانيتهما محكومة بتصورات العلوم المعرفية المعاصرة. ويفرض هذا التحقيب أن نُوظِّف أربعة مفاهيم أساسية؛ أولها الاستشراق، وثانيها الاستشراك، وثالثها الاستنسان، ورابعها الاستخلاف؛ وبعد هذا نقدم نموذج نظرية لتبيان مكاسبها، ومزالقها.
الاستشراق:
نسجل في البداية أن أهل الاختصاص أفاضوا الحديث في الاستشراق، وأهله، وخلفياته، وأبعاده، وحدوده، وإلى غير هذا، مما هو مُتداول بين المحتَرفين، والهواة، في هذا الميدان؛ لهذا، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى التصورات العميقة التي تتحكم في النظر إلى الثقافة الغيرية بصفة عامة، وإلى ثقافة الشرق بصفة خاصة، عبر تحقيب، وتمكين، وتخييل.
نقترح التحقيب الآتي الذي هو (1) العصور الوسيطة، و(2) عصر النهضة والاكتشافات الجغرافية، و(3) عصر التوسع الأوروبي، وما تلاه من استعمار صريح، أو مقنع؛ ونضع التمكين الموالي الذي هو (1) المجال الجرماني، والسّلافي، و(2) المجال اللاّتيني، و(3) مجال العالم الجديد؛ وأما التخييل فهناك (1) الأوهام والاستيهامات، و(2) بداية الصّراع، والتعرف، و(3) رؤيا المركزية.
وقد وجهت الأبحاث التي أنجزت ضمن هذا التحقيب، والتمكين، والرؤى التصورات الآتية:
(1) رؤيا الصراع بين الثقافات، والحضارات والديانات التي يمكن أن يرد إلى التصورات الجغرافية القديمة القائمة على نظرية الأقاليم السبعة التي لها مركز وطرفان، ثم على رؤيا جغرافية أخرى مركزية أوروبية مهيمنة متفوقة، ومهما كانت التصورات والرؤى، فإنها هي ما يكون المركزية الثقافية. ذلك أن هذه المركزية الثقافية غير قابلة للإبعاد؛ إذ إن الذاكرة المليئة بالثقافة الخاصة والمألوفة تَفْعَلُ فعلها في التأثير، وفي التأويل؛ لهذا تكون هناك «عرقية» ثقافية تؤول ثقافة الغير بحسب معاييرها، وبعدَسات محصولها([1]).
في ضوء هذا الإطار يجب أن تفهم، وتؤول، المقترحات التي صاغها الباحثون الغربيون من أقدم العصور إلى يومنا هذا؛ فقد اتخذُوا معارفهم، وثقافتهم، ودينهم، وسياستهم، أصلاً يقاس عليه؛ لذلك كانت المواقف المتشنجة من الدين الإسلامي أحياناً كثيرة([2])، وأطروحات القرن التاسع عشر المتجلية في مواقف أرنست رونان([3])، وفي مواقف بعض الأناسيين الوصفيين، وأطروحات الأدبيات الكولونيالية بالمغرب العربي حول الأعْرَاقِ والديانات، والتصوف([4]).
إن المناهج، مهما اتسمت بالموضوعية، هي وليدة السياق الذي انبثقت منه. وهكذا، فإن المنهاجية التاريخية الحدثية تؤجج الصراع بين الأمم، والجماعات؛ وبعض جوانِب النظرية الداروينية، والماركسية تؤسس لصراع تاريخيٍّ دموي مرير؛ وفقه اللغة، والأناسة الثقافية، والأناسة الوصفية وَضَعَتْ أساساً لعرقية مَقِيتَة (الشرقُ شرْقٌ، والغرب غَرْب)، ولثقافة بِدَائية بدوية، وثقافة متحضرة (اللغة العربية، واللغات الأوروبية)، ولثقافة متطورة نامية، وثقافة ساكنة جامدة، ولِنَظَرِيَّة الجنس العربي والجنس البربري (مسألة الظهير البربري في المغرب).
يتبين من هذا أن الباحث الغربي في ثقافة الشرق ضحية بالقصد الأول، وجَلاَّد بالقصد الثاني؛ إنه ضحية صيرورة تاريخه الخاص به؛ وهي صيرورة كانت نتيجة لعوامل كثيرة مادية وثقافية تخضع كل مكونات المجتمع إلى إرادتها؛ وهل المثقف إلا مجتمعي بطبعه! إلا أنه يصير شبيهاً بالجلاَّد حينما لا يفطن إلى أبعاد ومرامي ما يمارسه، فيصير معتنقاً عرقية مقيتة، ومفرّقاً بين ساكني الوطن الواحد، ودليلاً خرِّيتاً للغزوات الاستعمارية([5]).
2 - الاستشراك
قد يوحي مفهوم «الاستشراق» بالانفصال المطلق بين الشرق والغرب؛ وهذا الإيحاء خاطئ، وخطير. ذلك أن التفاعل بين ضفتي البحر المتوسط كان على أشده؛ ويبرز هذا التفاعل في اللغة، وفي المعمار، وفي التشريع، وفي مظاهر أخرى. حينما نقرأ الفاتحة تواجهنا كلمات مثل: باسم الله، والصراط.. ونتلو في غيرها: القسطاس..؛ ويعلم المهتمون أن جملة من محدثي الثقافة العربية الإسلامية، وفقهائها، ولغوييها، ومُفسريها، تناولوا تداخل اللغات الشرقية مع غيرها من اللغات. وقد لخص "المزهر" للسيوطي مختلف المواقف في (النوع الثامن عشر)، وفي (النوع التاسع عشر)([6])؛ وأهمها موقف المنكرين الذين يقولون: إنه «ليس في كتاب الله... شيء بغير لغة العرب»، و«ليس في القرآن ما ليس بلغة العرب»؛ وهناك موقف المثبتين، مثل بن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، وعطاء... وأبي عبيدة، والجوالقي، وأبي حيان..؛ وهناك موقف ثالث مثبت بشرط إخضاع المفترض إلى تعريب ملائم لقواعد اللغة العربية؛ وهناك موقف مثبت بدون قيد أو شرط، بحيث يمكن تغييره، وإلحاقه بكلام العرب باعتبار الأصل، والوزن، فيزاد فيه، أو ينقص منه، أو تغييره وعدم إلحاقه بأبنيتها، أو عدم تغييره.
يذهب المثبتُون، على اختلاف درجاتهم، إلى أن هناك كلمات عجمية موجودة في القرآن وفي الحديث: طه، واليم، والطور، والربانيون بِالسُّرْيَانِيَّة؛ والصراط، والقسطاس، والفردوس، بالرومية؛ ومشكاة، وكفلين، بالحبشية؛ وهيت لك، بالحورانية؛ على أن الباحث الجاد يجد أكثر مما ذكره الأسلاف؛ بل يمكن له أن يتجاوز التعريب إلى البحث في الترجمة. وما قيل في العربية يقال في غيرها من اللغات الأخرى. ذلك أنه يعثر على كثير من أصول اللغة العربية في اللغة اللاّتينية، وما تفرع عنها من لغات أخرى، كما تعكس ذلك معاجمهم التاريخية، والعامة، والخاصة بعلوم العصور الوسيطة؛ والدراسات المقارنة في المعمار، وفي التشريع، تُبَيِّن مدى تبادل التأثير بين الثقافات([7]).
إذا تجاوزنا هذا التفاعل الثقافي إلى البحث عما هو أعمق، فإننا نجد مشتركات إنسانية نَبَّهَ إليها الفلاسفة، والديانات، وفلاسفة التنوير، وبعض الأناسيين الثقافيين، والسيميائيين؛ تحدث الفلاسفة الأكاديون، والأشوريون، وقدماء الإغريق، عن الإنسان من حيث هو إنسان في إطار محَدّدات عصورهم؛ والديانات عَنْ خلق الله الإنسان على صورته، وعلى مثاله؛ والأنواريون عن أعدل قسمة بين الناس المتجلية في العقل؛ وأبحاث ليفي ستراوس، وسيميائيات مدرسة باريز عن الكليات الإنسانية معروفة، وكذا الثوابت الدلالية([8]) معروفةٌ.
يتبين من هذه المعطيات والوقائع أن مفهوم الاستشراق يتأزم منذ البداية. ذلك أن الثقافة «الشرقية» والثقافة «الغربية» نابعتان من أصل إنْساني واحد، وأنهما تنتميان إلى حوض البحر المتوسط، وما حوله، وأنهما محكومتان بتصورات جغرافية تتأسس على الأقاليم السبعة.
3 - الاسْتِنْسَان
على أن هذه الوجهات من النظر حول الإنسان، ومكوناته، وفاعلياته كانت مبنية على تصورات ميتافيزيقية، وثيولوجية، وأسطورية، وثقافية، وعلمية. وأما التصورات المعاصرة التي نتبناها فهي مؤسسة على علوم الأعصاب، ووظائف الأعضاء، والتشريح.. وفلسفة الذهن، وعلم النفس المعرفي، والأناسة المعرفية.. أي ما يسمى بإبدال العلوم المعرفية([9]). وحينما نمزج بين هذه العلوم المختلفة نخرج بالخلاصات الآتية؛ أولاها الإنسان هو لإِنْسَان إلى أن يثبت العكس مهما اختلفت أزمنته، وأمكنته؛ وثانيتها مراعاة تأثير المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، بما يتيحه له من إمكانات، أو بما يضعه أمامه من عراقل؛ وثالثتها القرية الكونية التي يمكن تلخيصها في التعبير الآتي: إذا وقع حدث مَّا في بلد اهتزت له بلدان العالم كلها؛ أي ما يسميه منظرو الكوارث: «وقع الفراشة»([10]).
تأثرت البحوث المعاصرة بهذا الإبدال، وخصوصاً اللسانيات؛ وأهم ممثلي هذا الاتجاه هم أصحاب نظرية النحو التوليدي التحويلي، مثل نعوم شومسكي، وﺳﺘﻴﭭﻦ بنكر([11])؛ وأهم ما تتأسس عليه هذه النظرية من المفاهيم هو الفطرة اللغوية، ووحدة بنية الدماغ والذهن، لدى البشر؛ وبناء على هذا التصور، فإن هؤلاء اللسانيين يدرسون اللغة العربية واللغات السامية الأخرى بمعية بحثهم في لغات أخرى، عاقدين مقارنات، وباحثين عن تماثلات، وتشابهات، لِلْبَرْهَنَة على الكليات اللغوية([12])، ومُبْرِزِين الموَرِّثات، أو الأجزاء الضرورية من الدماغ الخاصة باللغة، ويتحدثون عن استقلال الملكات، أو اتصالها، كملكة اللغة، وملكة التفكير، وملكة الإبْصار، وملكة الاستماع..؛ ذلك أن كل ملكة لها دَوْرُها، ووظيفتها([13]).
وتأسيساً على هذا يَرْفُضُونَ النِّسبيَّة الثقافية المتطرفة التي تجعل التفكير مرتبطاً باللغة، فيكون التفكير العربي مخالفاً للتفكير غير المستعمل للغة العربية، كما يدعي ذلك بعض الأناسيين الثقافيين والوصفيين، مما جعل تمييزاً بين الثقافة الغربية العقلانية الحيوية المتطورة، وبين الثقافة الشرقية الغربية الشاذَّة الساكنة، ومما أحدث تشطيراً لساكنة الوطن الواحد([14]) في كثير من بِقاع العالم.
4 - الاستخلاف
على أن الأخذ بحقائق الكليات لا يعني أن الثقافات الإنسانية متطابقة متقايِسة، مما يزيح تأثير المحيط، ويعدم خصوصية الأفراد، في حين أن واقع الأشياء يُبَيِّنُ اختلاف الثقافات في كثير من المظاهر؛ لهذا، نسلم بوجود الكليات البشرية من جهة، وبوجود الخلاف من جهة؛ ومن ثمة اقترحنا مفهوم الاستخلاف؛ أي البحث عن أنواع الاختلاف، وضروب الْخِلاَف، وظاهر الخصوصيات.
لقد شغلت مسألة الكليات والخصوصيات بعض كبار الأناسيين، والفلاسفة، مثل كلفُّورد كيرتز، وريشارد رورتي؛ وقد دارت مناقشاتهم حول مفهومين أساسيين؛ هما اللاّتقايس بين الثقافات، والمركزية الثقافية([15])
اهتمت الموسوعات الرياضية بالمتقايس، واللاَّمتقايس من الأعظام، والكميات. ذلك أن التقايس يكون بين «عِظَمَيْنِ من نفس النوع يمتلكان، ما يسمى بالقياس المشترك (طول واحد ويحتويان على عدد أزْمنة متساوية عددياً)؛ وأمَّا اللاَّ تقايس فيكون بين عظمين، مثل مُنْحَنَى المربع، وأضلاع ذلك المربع»([16]). وإذ إن التقايس يتيح المقارنة، فإن اللاتقايس لا يمنع منها. وقد نقل هذا المعنى الرياضي إلى ميادين لغوية، وثقافية. فهناك لغات، وثقافات متقايسة (الساميات)، ولغات، وثقافات ليست متقايسة (الساميات، والهند اوربيات)؛ لكن اللاَّتقايس لا يعني رفض الكليات اللغوية.
إذا كان اللاَّتقايس استخلافاً، فإن ما يتولَّدُ عَنْ هذا الاستخلاف أيضاً هو المركزية الثقافية؛ ذلك أن كبار المفكرين والفلاسفة يعتقدون أنها غير متيسر إبعادها. إن الذاكرة المليئة بالثقافة الخاصة المألوفة تفعل فعلها في تأويل المؤول؛ هكذا يكون محكوماً بتصورات الإنسان الأبيض المثقف اللبرالي البرجوازي الغربي؛ وكل ثقافة لا تتحقق فيها هذه الصفات فهي ناقصة عقل وممارسة: لا ديمقراطية إلا ما طابق الديمقراطية الغربية؛ وأمام هذا المأزق اقترح المهتمون عدة مخارج؛ أولها البحث عن الكليات البشرية من حيث هي؛ وثانيها استعمال لغة واصفة محايدة ليست لغة الواصف والموصوف، وثالثها عقد مقارنة دقيقة بين الثقافات بدون أحكام قيمة خافضة أو رافعة، وإنما كل واحدةٍ منها هي تنويعات على الثوابت الإنسانية، وتعبير عن المحيطات الخاصة.
يتلخَّصُ من هذا أن هناك محاولات جادة للتعرف على الكليات الإنسانية اللاّتاريخية المتعالية حتى يمكن الفهم بها فكر الْغَيْر، وثقافته، والتنبؤ بسلوكه؛ وهذا ما يُجَنِّبُ الباحث في الثقافات المركزية الثقافية؛ على أن اختلاف المحيطات، والبيئات، يقف حاجزاً منيعاً أمام هذه الموضوعية المأمولة؛ وإذ جَنَّبت الكليات البشرية الوقوع في براثن التعصب المقيت، فإنها لما تتجاوز المركزية الثقافية؛ إذ لا ملجأ إلا إلى المقايسة حين تَنْبَهِمُ الأمُور!.
5 - نموذج نظرية
يقر الباحثون عن الكليات، وخصوصاً اللغوية، بأن هناك كليات حقاً، لكن هناك خصوصيات صدقاً. ذلك أن البيئة المعينة تؤثر في المورثات اللغوية التي تنتج لغة يتفاهم بها الفرد مع جماعته. واستدلالاً على ما قدمناه، فإننا سنقدم بعض عناصر النظرية النظمية التي تستقي من إبدال العلوم المعرفية؛ وأشهر مؤسسي هذه النظرية جون مكَّارثي، وألن ﭘﺮينس، وأتباعهما. وقد اهتمت هذه النظرية من بين ما اعتنت به صَرْفُ اللغة العربية؛ وفرضيتها الأساسية: أن الصرف محكوم بقواعد موسيقية؛ أي يجب دراسته والتعرف على مكوناته،
وعناصره، وصيغه في مفاهيم النظم([17]).
ارتكزت هذه النظرية على العلوم المعرفية، وخصوصاً ما يتعلق بالكليات، بخلاف النظريات الأناسية التي تهتم بالاختلاف؛ على أنها وقعت في الانتقائية، والاختزالية، والمركزية. ومع كل هذا، فإننا سنقدم هذه النظرية، ثم نبين أخطاءها، ثم نقترح ما نراه ملائماً لتصحيحها، ثم تشييد نظرية تعتمد على الاسْتِنْسَانية، والاستخلافية في آن واحدٍ.
أ - النظرية النظمية
سار على هذا النهج مكارثي وﭘﺮينس في أبحاثهما المتعددة؛ بل يمكن القول: إنهما من كبار المؤسسين للنظرية النظمية، ضمن الفرضية الصرفية النظمية؛ وتعني أن الصرف الهيكلي، وهيكل الإدغام، يحددان في مفاهيم الوحدات الأصيلة للنظم التي هي النقرة والمقطع والقدم والكلمة ذات الأصوات الوظيفية (الفونولوجية) ([18])؛ وبهذا تصير المفاهيم الآتية مشتركة بين الصرف والنظم: النبر، والتجزيء المقطعي، والإقحام، والتطويل التعويضي، والقافية، والوزن؛ النقرة هي الوحدة التي يوزن بها المقطع، وتتألف القدم من مقطعين؛ أحدهما منبور، وثانيهما غير منبور، أو ثقيل، وخفيف؛ الثقيل ما يكون مقطعاً طويلاً: (مَا) و(مَنْ)، وأما الخفيف فهو صوت وحركة: (مَ)؛ والطويل يحتوي على نقرتين، والقصير على نقرة واحدة.
يتكون الصرف النظمي في العربية من مصوِّتات، وجذر، وهيكل، وباندِماجها تتكون أنواع المقاطع، وما هو خارج المقاطع يكون في البداية أو في النهاية. ويفترض الباحثان أن اللغة العربية لا تحتوي إلا على ثلاثة أصناف من المقاطع؛ مثل: (مَ C V )، و(مَا C V V)([19])، و(مَنْ C V C). وقد نقل المؤلفان هذا التصور إلى العروض العربي فتحدثا عن السبب والوتد، كما حاولا أن يعالجا في ضوئه أنواع القافية؛ إذ ذكرا أنها تعتمد على المقاطع الطويلة، لذلك يتعين معرفة ترتيب الحركات والسكنات، وما يؤدي إليه من مقاطع قصيرة وطويلة.
أنواع القوافي هي([20]): سار الرجلان على نهج أصحابهما من التوليديين بحديثهما عن قيود التكوين الجيد للمقاطع، وعن المفاضلة بينها حينما تتعارض القواعد؛ ومنها قيد المجاورة([26])؛ ويعني أن تكون المقاطع أو العناصر الشبيهة بها سلسلة متجاورة؛ وبهذا يمكن إبعاد المصوت الذي لا يكون مقطعاً (همزة الوصل)، أو الصوت الذي يكون في البداية (ف)، (س)، (ن)... أو في النهاية (ل)، (س)..، كما يمكن إقحام مصوت بين صوتين (دود)، أو إضافته لتكوين مقطع (ص)، (صَا)...
قيد الأقلية الذي يعني أن القدم في العربية لا تنزل عن قدم منبورة خببيّة ذات نقرتين في مقطع طويل أو موزعتين على مقطعين خفيفين: (فا)، (مُتَـ)؛ إلا أنهما وَجَدَا بعض الكلمات تخرق هذا القيد؛ مثل الحروف والكلمات ذات الصوتين/ الحرفين، أو الصوت/ الحرف: بعض الأسماء الخمسة: أب وأخ وحم، وفو..؛ وبعض الأفعال: ضَعْ،
و، عِ، و، لِ..؛ وقد عللا ذلك، بأنها محدودة جداً، أو غير اشتقاقية؛ وبناء على هذا، فإن الهيكل الصرفي يتمثل في كلمات ثنائية قليلة العدد، وثلاثية كثيرة، ورباعية، ويحتوي على نقرتين، أو ثلاث، أو أربع: (قِطّْ نقرتان)، و(ضَرَب نقرتان)، و(قَوَامَ ثلاث نقرات)، و(قَوّم ثلاث نقرات)، و(قَوَّامَ أربع نقرات)؛ وهو ما يتحكم في الاستعمال اللغوي الذي يتصرف في المفردات الدخيلة حتى يجعلها ملائمة لقواعد العربية
قيد الجذع الأقصى يهدف إلى حصر الكلمة العربية في ثلاثة مقاطع، مثلما هو شأن جمع التَّكسير، وكذلك بعض الكلمات الدخيلة؛ وبناء على تعداد أنواع الصيغ وتتبع المتداول منها في العربية تبيَّنَ لهما أن: (فعولن C V C V V C) أكثر من (فاعلن C V V C V L)؛ أي أن القدم الهجائية (اليامبية) أكثر من القدم الخببية (تروكية)؛ وبهذا افترضا أن (فعولن) أصيلة و(فاعلن) مشتقة؛ إلا أن النظم العربي هو بعكس هذا، وهذا ما تنبها إليه فيما بعد فقررا «أن النبر والكلمة الدنيا في العربية يعتمدان على القدم الخببية، لكن جمع التكسير ونسق النظم تسودُ فيهما القدم الهجائية»([27]).
تلخيص ما سبق أن القدم الخببية؛ مثل (مَدَّ C V C C)، و(قَالْ C V V C)، والهجائية كَـ(خروج C V C V V C)، والتوليف بينها نحو (منهاج C V C C V V C)، كما أنها لا تتكون من مقطعين خفيفين؛ مثل (مُ تَ) فإذا ما وُجِدَا فهما مقطع طويل، وهذا ما عَنَيَاه بقولهما: «إذا كان هناك مقطعان خفيفان، فإنهما لا يتتابعان في القدم الهجائية، فإذا ما تواليا، فإن القدم تصير خَببيّة»([28]).
تلك هي الصيغ الإيقاعية الصرفية للاسم فما هي طبيعة المتعلقة بالفعل من حيث هو ثنائي وثلاثي ورباعي؟ لقد أجابَا عن هذا السّؤال بعد استعراض صيغ الفعل، وبعد تحليلها ومقارنتها بصيغ الاسْم؛ والجوابُ يتلخص في أن الفعل متعدد المقاطع في حين أن الاسم قد يأتيَ ذا مقطع واحد، لكن بعض جذوع الفعل النهائية تسمح بوجود مقطع واحد، لكنها ثنائية النقرة إذا كانت دخيلة: (تَلْفنَ C V C C V C V)؛ فهذا الفعل الدخيل يحتوي على مقطع ذي نقرتين، ثم على مقطعين خفيفين، أحدهما في النهاية بعكس ما يقع في المصدر؛ وخلاصة ما تقدم:
— المترادف، وهو ما يتوالى فيها ساكنان من غير فصل لحركة: (قَالْ C V V C).
— المتواتر وهو ما يتوالى فيه ساكنان فصل بينهما لحركة: (بَالِي C V V C V V).
— المتدارك ما تتوالى فيه حركتان: (زِلِ C V C V).
— المتراكب ما تتوالى فيه ثلاث حركات: (سَنَدِ C V C V C V).
— المتكاوس ما تتوالى فيه أربع حركات: (شجَرَتُـ(نْ) C V C V C V C V).
إلا أن هذا الصنيع يبين أنهما تَبَنَّيَا تعريف الخليل للقافية: آخر متحرك قبل الساكن قبل الأخير من آخر البيت؛ مثل؛ مَرَّدَا: ( مَ ) ( رْ ) ( رَ ) ( دَا )؛ وهكذا، فإن الساكن الأخير (1)، والساكن الذي قبله هو سكون الراء الأولى (رْ)، والمتحرك قبلها هو ( مَ ).
ومثل؛ ظُلْمي: الساكن الأخير ( ي )، والساكن الذي قبله ( لْ )، والمتحرك الذي قبله ( ظُ )؛ أي المقطع قبل الأخير.
ومثل؛ هَيْكَلِ: ( ي ) الساكن الأخير، والساكن الذي قبله ( يْ )، والمتحرك الذي قبله (هَـ)؛ أي المقطع الذي هو ما قبل المقطع الذي هو ما قبل الأخير؛ أو المقطع الثالث قبل الأخير من الكلمة([21]).
ومثل؛ قد حُسِدُوا: الساكن الأخير ( وا )، والساكن الذي قبله ( دْ ) والمتحرك الذي قبله ( قَ )؛ أي المقطع الرابع الذي هو ما قبل الأخير.
إن الجديد عند الرجلين هو أنهما لم يكتفيا بما ورد لدى القدماء، لكنهما استثمراه لاستخلاص قواعد نبرية؛ هي (1) أن النبر يكون في المقطع الأخير: (قَالْ C V V C)، (2) وإلا فإنه يكون على المقطع ما قبل الأخير إذا كان هكذا: (مَا C V V)، أو (مَنْ C V C)، (3) وإلا فإنه يكون على المقطع الثالث([22]): ((هَيْـ)كَلِ C V C V (C V C))، (4) (وإلا فإنه يكون على المقطع الرابع: ((قَدْ) حُسِدُوا C V C V C V V (C V C))، ومحدد النبر عندهما هو عدد النقرات([23])؛ إذ (قالْ) تحتوي على نقرتين وكذلك (مَنْ) وما ضاهاهما أين كان موقعه؛ بمعنى أن النبر يقع على القدم الخببيّة (تروكية)؛ إلا أن المقاطع قد لا تبقى على صورتها الأصلية، فقد يقع تبديل مقطع طويل بمقطع قصير، وحينئذ فإنه يلتجأ إلى التمديد الصوتي لتعويض المحذوف([24]).
يجب أن تبدأ المقاطع العربية بصوت (ساكن)، إلا أن القارئ يجد الصيغ الآتية: انفعل وافتعل، واستفعل... المبتدئة بهمزة الوصل؛ وإذا نطقت في البداية، فإنها تعتبر صوتاً، لكنها تحذف عندما تسبق بصوت؛ وإذا لم تنطق، ولم تسبق فإن (ن) و(ف) و(س) تعتبر صوتاً (نقرة) خارج الوزن مستقلة لا ترتبط بأي مقطع. والمقاطع المسموح بها في العربية هي (مَ C V) و(ما C V V)، لكن الجذع في العربية يجب أن ينتهي بصوت لأنه لا يجوز أن ينتهي هكذا([25]): (ما C V V) و( م C V)؛ لهذا يجد القارئ ( بحر C V C C)، و(مُوسْ C V V C)؛ وعليه، فإن مجموع المقاطع المسموح بها في العربية هي (مَ C V)، و(من C V C)، و(مَا C V V)، و(مَنّْ C V C C)، و(مُوس C V V C).
لقد قدم المؤلفان إحصاءات لأعداد الجذور بناء على ما ورد في معجم وهر؛ وها هي نتائجها:
(أ) (بحر ٍِِC V C C ثقيل 33 %).
(ب) (بَدَل C V C V C خفيف خفيف 7 %).
(ﺟ) (وَزير C V C V V C خفيف ثقيل 21 % ).
(د) (كاتب C V V C V C ثقيل ثقيل 12 %).
(ﻫ) (جاموس C V V C V V C ثقيل ثقيل 02 % ).
(و) (خنجر C V C C V C ثقيل ثقِيلٌ 14 % ).
(ز) (جُمْهور C V C C V V C ثقيل ثقيل 11 % ).
أ. ب.
قاعدة لاحقة قاعــدة لاحقة
+ + + + +
ﺟ. د.
سابقة قاعدة لاحقة سابقة قاعــدة لاحقة
يتبين مما هو أعلاه أن النقرة تقوم بدور كبير في التمييز بين المقاطع إلا أنهما لاحَظَا، مُصِيبيْنِ، بأنها لا تستطيع أن تميز بين المقطعين الطويلين، في حين أن النظرية المقطعية تستطيع ذلك؛ وهكذا، فإن كلمتي: (باب) و(بحر) يكونان في النظرية النقرية كالآتي:
؛
بَ ا بْ بَ حْ رْ
وفي النظرية المقطعية كما يلي:
بـَ ا ب ؛ بـحـــر
C V C C C V V C
قيد القدم يعني أنها يجب أن تحتوي على مقطعين أو نقرتين مع هيمنة الكلمة النظمية عليها وعلى المقاطع، لكن قيد النظم يشرف عليها؛ ويعبر عنها أحياناً بالجذع الاسمي؛ وفراراً من هذا الترادف اقترحت قاعدة جامعة بينهما دَعَوَاهَا بِـ(الهجائية) لِيَرْصُدَا الصّيغَ المستعملة وليؤكدا أطروحة الهجائية، باعتماد على معجم وهر؛ وهكذا، فإن الحصيلة كانت كما يلي:
القدم الْخَبَبِيَّة القدم الهجائية
(ثقيل خفيف) (خفيف ثقيل)
فَاعِل - c A A c i c = 203 فَعِيل - c a c i i c = 265
فَاعَل - c A A C A c = 007 فِعَال - c i c A A c = 106
فَاعُل - c A A C V c = 001 فَعَال - c A c A A c = 37
211 فَعُول - c A c u u c = 29
فِعِيل - c i c i i c = 001
418
تلك هي قيود التّكوين الجيِّد: المجاورة، والأدنوية، والأكثرية، والقدمية، والنظمية، والهجائية، والحشوية بإقحام مصوتات في الوسط، أو بتضعيف قطعات لإرضاء الْهَيْكَل النظمي الصرفي؛ لهذا أنجزت دراسات كثيرة حول التضعيف فوضعوا له قواعد، أو قيوداً أيضاً؛ مثل توالي مكونات الأساس، وتعزيز عناصر التضعيف للأساس، سواء أكانت في البداية أم في النهاية، وكماليته مع عدم تجاوزها للهيكل؛ إلا أن تلك القيود والقواعد جعلتهما في مأزق؛ لهذا وقع الالتجاء إلى ما سمي بنظرية التَّفْضيل على شاكلة صنيع المحللين الموسيقيين؛ هكذا يمكن خرق القاعدة وتحطيم القيد الوحِيدِ بترجيح قاعدة على أخرى، ويفترض شمولية القاعدة العامة، واحتواؤها لعناصر دخيلة: وهذه القواعد التفضيلية تخرج من المأزق([29]).
تلك ملامح واضحة من النظرية النظمية التي تحلل صرف الكلمات بمفاهيم نظمية موسيقية؛ مثل النقرة، والمقطع، والقدم، بل إن البنية النظمية تسيطر على الهيكل الصرفي وتضبط حدوده. ذلك «أنَّ الهيكل وحده يجب أن يعبر عنهما في نطاق مفاهيم النظم، ويجب أن يحترما متطلبات التكوين الجيد للنّظم»؛ وهكذا، فإن الصرف النظمي هو ما يحدد الهيكل الصرفي الذي هو ملزم بقيد الإرضاء لقوانين النظم؛ ومعنى هذا أن المكون النظميّ/ الموسيقي مِصَفّاة للصيغ الصرفية، أو على الأقل، فإن هناك تفاعلاً بينهما
ب - أخطاء
على أن حديثهما فيه خلط بين السبب الخفيف والوتد، وفيه تقصير بإهمال الوتد المفروق، وبالمقايسة على نوع واحد من العروض الإغريقي الذي هو الهجائي (الإيامبي): (C V C V V )؛ كما أنهما اعتمدا على معجم صغير، ولم يفرزا بين الصيغ العربية الأصيلة، وبين الصيغ الدخيلة، والصيغ الموضوعة وضعاً، ولم يدققا في الفروق الزمنية بين الصيغ الفعلية، واختزلا المعطيات اختزالاً.
لقد حَكَمَتْهُما خلفيتهما الثقافية فاعتبرا القدم الهجائية التي تهيمن في العروض الإنجليزي هي ما ينطبق على نظم العربية، ولم يراعيَا مبدأ أَنَّ الْعَرَبَ لا تبتدئ بساكن ولا تقف على متحرك..؛ إنه شرك المركزية الثقافية.
ﺟ - تصحيح وتشييد
سَنُدْلِي بدلونا في هذا الميدان لكننا بعد أن نحاول أن نتجنب المحظورات التي تحول بيننا وبين الإدراك السليم للنظريات، والأطروحات، والفرضيات؛ وأول محظور هو التستر عن كشف الخلفيات المعرفية؛ يتأطر هذا النشاط العلمي ضمن تطور العلوم المعرفية بما تتضمنه من بحث جاد عن الكونيات البشرية، والكليات السلوكية، واللغوية، وعلاقات الباحات الدماغية/ الذهنية ببعضها، ومنها باحتا اللغة، والموسيقى، للكشف عن الآليات المشتركة، والمختلفة، في التأليف اللغوي/ الموسيقي.
تقع هذه المقارنات في سياق أعمال رواد، في التحليل الموسيقي الخالص، وفي الإيقاع، إذ إن مقاربات مكارثي وﭘﺮينس، وسلكرك وﻧﺴﭙﻮر.. وجاكيندوف وليرديهل، استوحت كثيراً من أولئك الرواد، إلا أن هؤلاء ذهبوا بعيداً في قياس ميدان اللغة على ميدان الموسيقى، مما كان له منافعه ومضاره؛ فإذا كانت هناك كليات مشتركة بين اللغة والموسيقى، فإن لكل منهما خصوصيته كما نبه بعضهم إلى ذلك([30])؛ هكذا وظفت النظرية النظمية مفهوم البداية والنهاية الموسيقي في صرف الكلمة، مما جعل وظائف البداية والنهاية في الصرف غير واضحة المعالم، لأن الموسيقى تتأسس على التسلسل والترابط في حين أن الهيكل الصرفي مستقل عما قبله وعما بعده، مما أدى إلى غموض واضطراب.
مما زاد الطين بلة أن هناك اخْتِزَالاً للأسس التي انبنى عليها الإيقاع الموسيقي/ اللغوي؛ إذ هيمن الطرف الواحد (الهجائي) الذي ينضم إليه أحياناً (اﻟﺨﺒﺒﻲ) في حين أن هناك أطرافاً أربعة
قصير + قصير = القدم الحربية
قصير + طويل = القدم الهجائية
طويل + قصير = القدم الخببية
طويل + طويل = القدم التبخترية([31]).
وهذا الاختزال نال التراث الإغريقي الروماني، والتراث العربي، في ميدان الأوزان والقوافي واللغة. وقد أدى هذا إلى مآزق تطلب الخروج منها أثمنة باهظة ذهبت أدراج الرياح.
وبناءً عليه، فإننا سنحاول أن نعدل كثيراً في تلك المقترحات حتى تصير ملائمة لموضوعِنا؛ وهو الإيقاع؛ لذلك، فإننا سنعيد النظر في طبيعة المقاطع مما يؤدي إلى الحصيلة الآتية
(1) (مَ : قُصَّار)، (2) (مَنْ : أقصر)، (3) (مَنّْ : قصير)
v c c v c c v v c
(6) (مَاءْ : طُوَال) (5) (قَالْ : أطول)، (4) (مَا : طويل)
(قَالّ c v v v c) (c v v c) (c v v)
بهذا، يكون الفرق بين (مَنْ/ مَا)، و(فَاعَلَ/ فَعَّلَ)، وبين (قَالْ/ ضَالّْ) ؛ كما يمكن الحصول على هياكل نظمية صرفية عن طريق القلب والإبدال والعكس.
سنخالف هؤلاء الباحثين فَنُعْمِلُ مبدأ (العرب لا تبتدئ بساكن)؛ وعليه، فإن (انفعل، افتعل، افْعَلَّ، استفعل، افْعَالَّ، افْعَوْعَلَ، افْعَنْلَلَ، افْعَنْلَى) ليست بهذا الشكل
( )([32])
(
(ف) (ت) ـ ع ـ ل
وإنما هذا:
(اِف) (ت) ـ ع ـ ل
يجعلنا هذا الصنيع مسايرين لطبيعة اللغة العربية، وقواعدها، وغيرها، مثل اللغة الروسية التي يرى دارسوها أن المقطع الذي يكون في نهاية الجذع ذيلاً يصير رأساً لجذع آخر، كما هو الشأن في الموسيقى، ومراعين الفروق بين الهياكل المذكورة من الناحية الصرفية والزمنية والدلالية؛ إذ لا شك أن هناك فروقاً بين (اِفْ)، و(اِنْ)، و(اِسْ) من النواحي المذكورة؛ ونتيجة لهذا، فإن قيد تحديد المقاطع في اثنين يجب أن يُعَادَ فيه النظر؛ على أنه قد لا توجد جذوع تحتوي على ثلاثة مقاطع طويلة؛ لهذا، فإن ما أثير من نقاش حول جموع التكسير غير المنصرفة قد لا يَقْوَى بالوقوف على رِجْلَيْه: ولتوضيح هذا، فلنأتِ بالأمثلة التالية:
1) أفْعِلاَءْ : أقصر - قُصَّار - طُوَال
c v v c c v c v c
– فَعَائِلُ : قُصَّار - طويل - قُصَّار - قُصَّار
c v c v c v v c v
– فَعَالِيلُ : قُصَّار - طويل - طويل - قُصَّار
c v c v v c v v c v
2) – اِفْعَنْلَى : أقصر - أقصر - طويل
c v v c v c c v c
إذا صح هذا، فإن التقرير السابِق وجيه: «عملية الإلصاق قد تكون مراقبة في العربية وفي اللغات البشرية مراقبة عروضية (نظمية)»؛ وما يحكم النظم هو الزمن الذي يتأسس عليه الإيقاع، وخصوصاً ما يدعى بالمسافة الزمنية التي فصل فيها محللو الموسيقى القول، وبدأت بعض الدراسات الخاصة بالصواتة الوظيفية وبالنظم توظفها؛ وفي ضوء مراعاة الزمن، فإنَّ أطروحة القدم الهجائية (الإيامبية) تصير مَضَيّقَةً لما وسعَته اللغة الطبيعية؛ نعم يمكن قبول الأطروحة لتفسير بعض صيغ المصادر والجموع، لكنه لا معنى لجعل ما يخالفها من الأسماء لا هيكلية باعتبارها خارجة عنها؛ ذلك أنه من الممكن الافتراض بأن القدم الخببية (التروكية) تتنبّأ أيضاً بصيغ (الفواعل)، و(فعلولة)، و(فاعولة)، وتفسيرها؛ وهناك وضع يمزج بين القدمين معاً تسمح به التقليبات الرياضية المنطقية؛ مثل:
فَعَلاَنْ : قُصَّار + قُصَّار + أطول
c v v c c v + c v
– فَعَلُوتْ : c v + c v + c v v c
– فُعَلْنِيَهْ : قصار + أقصر + قُصَّار + أقصر
c v c c v c v c c v
مقطعين قُصَّاريْن يُكَوِّنَانِ قدماً خببيّة، فإن الأطروحة تزداد ضَعْفاً؛ وحتى إذا ما سلم لهم بها بأن (فَعيل)، و(فِعال)، و(فَعول) لصالحها، فإن ذلك التسليم يكون من الناحية الصورية، لا من الناحية الزمنية والدلالية. ألا يكون هناك خلاف زمني بين الضمة والفتحة والكسرة؟!.
بناء على ما تقدم، فإننا نرى أنَّ هناك تمحلاً في جعل صيغة (فَاعِل) لا هيكليّة، لأنها مشتقة من الجذع (فَعَلَ)، إذْ كَمَا يشتق منها (فَاعِل) يمكن أن يكون الأمر كذلك في (فَعُول)، و(فَعَّال)؛ ولعل الصواب هو أطروحة عموم هيكلة أوزان الفعل كلها، والأخذ بالتقاليب الرياضية لاستخلاص صيغ متعددة، ثم الاحتكام إلى التداول، أو خلق تداول جديد؛ وهكذا، فإن نواة: (طويل طويل قصير قصير) يمكن استخلاص عشر صيغ منها، بدون اعتبار إحداها شاذة؛ مثل: طويل طويل قصير؛ طويل قصير طويل؛ قصير طويل طويل؛ قصير قصير طويل؛ قصير طويل قصير؛ طويل قصير قصير؛ طويل قصير طويل قصير؛ قصير طويل طويل قصير؛ طويل قصير قصير طويل؛ قصير طويل قصير طويل؛ وإذا ما أراد الباحث أن يجد لها أمثلة من اللغة، فإنها متوافرة؛ ولعل هذا ما حاولت الأطروحة أن تتداركه فاقترحت النظرية المثلوية التي أعادت النظر في كثير من جوانبها.
خاتمة
أزمنا مفهوم الاستشراق باعتباره نتاج تصور مغلوط لواقع الثقافات الذي هو التفاعل بينها، بدرجات، المحكوم بالصَّيْرُورة التاريخية، والعلمية. فقد كان هناك مَدٌّ، وَزَجْرٌ بينها انتهى بتبريز الثقافة «الغربية» على غيرها، فصارت تنظر إليها بِعَدَسَاتِهَا العلمية، والإديولوجية التي وقع تحت نيرِها الباحثون «الموضوعيون»، واعتنقها باحثون آخرون، بوعي، كانوا طليعة للهجمات الثقافية وأدِلاَّءَ للحروب الاستعمارية.
على أن هناك رؤيا كونية كانت موجودةً طوال عصور التاريخ؛ وقد تعززت بانْبِثاق العلوم المعرفية التي غيرت رؤيا الإنسان لنفسه، ولعالمه، فبدأ التركيز على الكلِّيات البشرية، وعلى القرية الكونية؛ وبهذا شرعتْ نزعة إنسانية جديدة تتأسس على البنية العميقة للإنسان، وللكون، عدا أنها غير غافلة عن التجليات التي تميز بين الكائنات والكيانات.
وبناء على هذه الرؤيا يَتَعيَّنُ الاهتمام بالأبحاث المقارنة، بين الثقافات، وبالدراسات الثقافية العامة، والخاصة حتى يمكن الكشف عن المكونات الإنسانية المشتركة، وعن الخصوصيات الثقافية. وبهذا تصير هذه الأبحاث وسيلة توحيد، وإنصاف، وإغناء، لا أداة تفريق وظلم، وإفقار.
----------------------------------------------------------------------------
([1]) هناك دراسات عديدة حول القراءة، والتأويل، ودور الذاكرة؛ لكننا نشير فقط إلى ما هو متصل بموضوعنا؛ منه:
محمد مفتاح، نظرية لشعرية موسعة، الفصل الأول من الجزء الأول: المبادئ المعرفية، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2010.
- Michael Krausz, Rightness and Reasons. Interpretation in Culturd Practice. Cornell University Press. I Thaca and London, 1993.
([2]) بدأت المواجهة الفكرية مع الدين الإسلامي منذ السنوات الأولى.
([3]) أرنست رونان (1823-1892).
([4]) نافش كثير من باحثي المغرب هذه الكتابات، مثل عبد الله العروي، والخطيبِي، ومفتاح وآخرين. كما أن النقاش تناول أعمال الأناسيين الأمريكيين الذين تبنوا النظرية الانقسامية، مثل أرنست ﭼﻠﺰر.
([5]) ومع كل ما أشرنا إليه، فإن كثيراً من تلك الكتابات منجم ثمين يمكن أن يستفيد منه الباحثون الوطنيون.
([6]) انظر السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار إحياء الكتب العربية، مصر، (1378 ﻫ/ 1958 م)، صص. 266، 268، 294.
([7]) أتينا بهذه المعطيات لنؤزم مفهوم الاستشراق.
([8]) Jean Petitot Cocorda, Morphogenèse du sens ; P.U.F, Paris, 1985. Ch. III, Structures Sémio-Narratives et Prégnances asémantiques, pp. 201-202
([9]) يجمع هذه العلوم ما يسمى بالعلوم المعرفية: Les sciences cognitives.
([10]) وقع الفراشة: Butterfly effect - L'effet du papillon
([11]) هناك أعمال كثيرة في كل اللغات حول هذا الإبدال اللساني؛ وقد ترجم كثير منها إلى العربية؛ انظر ﺳﺘﻴﭭﻦ بنكر، الغريزة اللغوية كيف يبدع العقل اللغة، تعريب. د. حمزة بن قبلان المزيني، دار المريخ للنشر، الرياض - المملكة العربية السعودية، 1420 ﻫ/ 2000 م.
([12]) يجد القارئ في البحث الواحد مقارنات بين اللغة العربية، واللغة الروسية، ولغات أخرى من أمريكا اللاّتينية.
([13]) هناك أدبيات كثيرة في هذا الميدان. ينظر في كتاب: محمد مفتاح، نظرية لِشِعرية موسعة، الفصل الأول: المبادئ المعرفية، من الجزء الأول: مبادئ ومسارات، 2010.
([14]) خلق حدود، ودويلات، بناء على معطيات الظاهر، والسطح، وليس على بنيات عميقة.
([15]) voir , Michael Krausz, op. cit., pp. 105, 106, 107, 108.
([16]) Ibid., p
([17]) النظم: Prosodie.
([18]) ستكون عمدتنا في هذه الفقرات الأبحاث الآتية:
- John Mc Carthy, Alan Prince, "Prosodic Morphology and Templatic Morphology", in Perspectives on Arabic Linguistics II, Edited by Mushira Eid and John Ma Carthy. John Benjamin Publishing Conpany, 1990.
- John J. Mc Carty and Alan S. Prince, "Prosodic Morphology", in J. Gold Smith (Ed). A Handbook of Phonological Theory, Oxford, 1995.
([19]) نشير إلى أَنَّ: مُصَوِّت: V V ؛ حركة: V ؛ صامت: صَا صَ ص
([20]) انظر حازم القرطاجني، ص. 275؛ السكاكي، مفتاح العلوم، ضبطه وشرحه نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت/ لبنان، 1983، ص. 569-571.
([21]) هناك مفاهيم خاصة بموقع كل مقطع: الأخير: ultimate؛ قبل الأخير: Penultmate؛ المقطع الثالث قبل الأخير من الكلمة: Antepenultimate.
([22]) لم يذكر المؤلفان هذا الصنف، لكننا استخْلَصْنَاهُ من تَعريف القافية.
([23]) ما هو متداول في هذا التيار من البحث مفهوم: Mora (E) More (F). وترجمناها بالنقرة، ويقترح غيرنا الوقع؛ وهي مفهوم متداول في العروض.
([24]) هذه وجهة نظرهما وسندحضها فيما بعد.
([25]) سار الباحثان هنا على نهج العربية التي (لا تقف على متحرك)؛ وهذا سَلِيم.
([26]) يراجع الفصل الأول (النظرية التوليدية) لمعرفة ما يعنيه هذا القيد.
([27]) انظر:
J. Mc Carthy and. A. Prince, Prosodic Morphology, pp. 17-23.
([28]) Idem
([29]) واجهت هذه المشاكل المحللين الموسيقيين فاقترحوا نوعين من القواعد: (التَّكوين السليم، والتفضيل)؛ وقدَّمُوا مفاهيم مثل: (الشُّمولية، والسُلَّم الواسع)، ينظر فصل (النظرية التوليدية).
([30]) يشير جاكندوف في أبحاث كثيرة إلى المشترك والمختلف بين اللغة والموسيقى وكذلك من ساروا على نهجه. فإذا كان من المكونات الموسيقية الرأس والذيل، فإنهما من المكونات أيضاً في الجملة وفي التعبير، لا في الهيكل الصرفي المنعزل.
([31]) راجع كتاب محمد مفتاح، نظرية الشعرية موسعة، الفصل الأول من القسم الثاني المعنون بـ(مسارت) بالجزء الأول (مبادئ ومسارات).
([32]) وضع الباحثون في هذا الميدان الرموز الآتية:
- القول الصواتي الوظيفي : ∋
- المركب النغمي : І
- المركب الصواتي الوظيفي : φ
- الكلمة النظمية :
- القدم :
- المقطع :
- النقرة : u