منزلة "التخييل الذاتي" في المشهد الأدبي-د.محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=119
الكاتب: mdahi


 حرر في الأحد 20-06-2010 07:20 أ•أˆأ‡أچأ‡

لا نزعم أننا سنقدم أجوبة جامعة مانعة عن هذا المفهوم الذي أصبح يزحزح كثيراً من اليقينيات التي علقت بالكتابة عن الذات منذ ما يربو على أربعة عقود. سنعرض بعض التعاريف المقترحة له، ثم سنناقشها للتوقف على الخلفيات المتحكمة فيها، ثم سنشتغل على عينتين تخييليتين تستجيبان لطبيعة موضوع الدراسة، وتتوافر فيهما معايير التخييل الذاتي.




1-ما التخييل الذاتي؟



1-1 من خلال عنوان الأطروحة([1]) يتضح أن صاحبها سيركز على جانب أساسي يتعلق بإضفاء التخييل على الذات، أو بعبارة أخرى سينكب على دراسة مختلف الأشكال والصيغ التلفظية والتداولية التي تسعف الكاتب على توسيع الهوة بينه وبين ذاته والتعامل معها كما لو كانت طرفا مخالفا له. وفي هذه العملية الإبداعية يخلق الكاتب لدى القارئ انطباعا مفاده أن ما يحكيه لا يمت إلى ذاته بأية صلة.


 
مازال التخييل الذاتي يعتبر أرضا مجهولة (Terra incognita) وإن بدأت بعض معالمها تتضح شيئا فشيئا. ويرجع الفضل في اكتشافه إلى سيرج دوبروفسكيٍ Doubrovsky Serge الذي علل على ظهر غلاف عمله الابن (1977) دواعي تصنيفه ضمن خانة التخييل الذاتي، كما سبق له أن خصص دراستين([2]) للتوسع في المفهوم وتحديد سماته العامة، التي يمكن أن تُجمل فيما يلي:



ا-سمة تخييلية: إذا كانت السيرة الذاتية تكترث بحياة العظما، فإن التخييل الذاتي يهتم بحياة الناس العاديين.



ب-سمة موضوعاتية: يتقاطع التخييل الذاتي مع باقي أشكال الكتابة عن الذات في كونه يسرد الحياة "الحقيقية" للمترجم له، لكنه يتميز عنها في انزياحه عن السجل المرجعي.



ج- سمة شكلية: يعتبر التخييل الذاتي مغامرة لغوية تعنى بالمحسنات البديعية (الجناس، والسجع، والتشاكل الصوتي).



د-سمة جنسية: ملأ التخييل الذاتي الخانة الفارغة التي أصبح الكاتب، بمقتضاها، شخصية خيالية.



إن تمكُّن سيرج دوبروفسكي من صقل المفهوم ساعده على حل معضلة تكاثر المصطلحات التي ترمي إلى تفسير ظاهرة إضفاء التخييل على التجارب الشخصية. ومن بينها نذكر أساسا ما يلي: الرواية السيرذاتية،والسيرة-الرواية، والسيرة الذاتية الاستيهامي، والسيرة الذاتية المتوهمة، والرواية-المرآة، والتخييل-الحصيلة، ورواية المغامرات الشخصية..الخ. وفيما يلي المعايير التي اعتمد عليها سيرج دوبروفسكي لحصر مجال التخييل الذاتي وضبطه:



أ-المراسم الاسمية: حلل فانسون كولونا Vincent Colonna مختلف الألاعيب التي يلجأ إليها الكاتب للتميُّز عن ضعفه. ومنها وسمه بأسماء مستعارة، وبألقاب وكنى غير معروفة.



ب- المراسم الجهية التخييلية: يبين كولونا في هذا المعيار كيف يمكن للكاتب أن ينفصل عن قصته إلى حد يجعل القارئ يتوهم بأنه مجرد ضرب من الخيال. ومن بين الإجراءات التي يعتمد عليها لإضفاء التخييل على الذات نذكر أساسا ما يلي: وضع لفظ الرواية على وجه غلاف الكتاب، واضطلاع الكاتب بتأكيد الطابع الخيالي للعمل في مقدمته، إدراج القوى الغيبية في أطوار القصة،و توظيف مؤشرات تركيبية أو دلالية أو تداولية تجعل القصة اللاواقع (Irréalité).



ج-الخطاب الخيالي: ويقوم أساسا على الازدواج المضاعف : تخييل القصة وتخييل الخطاب الذي يتضمن القصة من جهة، و يستتبع توطُّدَ طريقة خاصة في سرد القصة أي التركيز على محكي التخييل أكثر من محكي القصة من جهة أخرى.



أشرنا في البداية إلى أن كولونا يميز التخييل الذاتي بكونه يضفي التخييل على الذات، وينهض بتمويهها وإبعادها عن السجل المرجعي. وفي هذا الصدد ركز على وظائف معينة لبيان كيف يبتعد الكاتب عن ضعفه شيئا فشيئا.



أ-الوظائف المرجعية: وإن انزاحت القصة عن الواقع فهي تحرص، بشكل من الأشكال، على دعم الجانب الحقيقي، وذلك سعيا إلى ضمان تأويل ملائم لمحتوياتها، وحفز القارئ على تصديقها كما لو كانت تجربة حقيقية.



ب- الوظائف الانعكاسية: تحوي القصة نصوصا مرآتية، تحيل على ذاتها، وتعيد تأمل مضامينها، وتتيح لها إمكانات تمجيد ذاتها والاحتفاء بها. تسعف هذا التقنية ( الإرصاد المرآتي LA MISE EN ABÎME ) الكاتب على الانشطار عن ذاته، وعكسها متشظية في مرايا متقابلة للنظر إليها من زوايا متعددة، وتقويض أي تشابه ممكن بينه وبينها.



ج- الوظائف الصورية: ماذا يعنى ب" الصورة الروائية"؟ يصعب أن نجد ما يماثل مزاج الشخصية وطباعها وحوافزها على مستوى الواقع، فهي مجرد طوبى. وما يقوم به الكاتب من محاولات لوصف ذاته والتحدث عن طواياه وسرائره، لا يمكن أن تستوعب إلا ضمن " المثالية الرمزية" .



بعد أن حدد كولونا موضوع التخييل (إضفاء التخييل على الذات)، وبين السمات التي تميزه عن غيره، أثار جملة من الأسئلة التي تهم منزلته الجنسية والخطابية: أهو جنس أدبي أم سجل خطابي أم صيغة خطابية؟ حتمت هذه الأسئلة على كولونا الانطلاق من فرضية مفادها أن التخييل الذاتي يتمتع بوجود جنسي Génerique. وفي حالة ما إذا كان له هذا الوجود، أهو جنس بما تحمله هذه الكلمة من معنى أم جنس غير معروف أم جنس خفي؟



ما لفت انتباه كولونا أن التخييل الذاتي لم يحظ بالتلقي اللازم، ولم تُستنتج قواعده بعد، ولم يصبح، عبر سيرورة التاريخ، تقليدا أدبيا معترفا به، ولم يظفر بمنزلة خاصة داخل المشهد الأدبي. " هو، إذن، شكل من التخييل، ظل لمدة طويلة مجردا من التلقي، ومن الخطاب المصاحب، ومن الذاكرة، ومن التاريخ، ومن المنزلة، ومن الاسم. ومع ذلك، فهو يتجلى من خلال طبقة من النصوص لا يمكن إنكار وجودها. ويتسم ببعض شروط الجنس، ويقدم اطرادات لممارسات خطابية"([3]).


 
وما دفع كولونا إلى استبعاد الطابع الجنسي عن التخييل الذاتي رغم تشكله من طبقة نصية تتوفر على مميزات مشتركة، هو عدم تحققه تاريخيا، أي أنه لم ينتزع الاعتراف المؤسساتي به خلال فترة تاريخية محددة، ولم يشجع القراء على التعامل معه كما لو كان ظاهرة أدبية متميزة. " الجنس هو نمط من الأعمال التي يُتعامل معها بوصفها هكذا، وتشهد له بذلك الخطابات التي تشمل إنتاج الأعمال وتلقيها. إذا ما اختلت هذه الأعمال، وانتفى التلقي، فلن يعترف بها، ولن يكون الجنس ممكنا"([4]).



من خلال الحجج التي قدمها كولونا يتضح أنه يستند إلى خلفية " الجنس التاريخي"، ويستبعد خلفية " الجنس النظري". فهو يقصي الطابع الجنسي من التخييل الذاتي بسبب عدم الاعتراف المؤسساتي به في فترة زمنية محددة. ولم يتعامل مع التخييل الذاتي بوصفه جنسا نظريا ، و أفقا قابلا للتحقق من خلال صفات نصية مشتركة قد تضرب بجذورها في الممارسات الأدبية القديمة. " مثلما يمكن أن نصف، في نظام ماندلييفMandeleïv، مميزات العناصر التي لم تكتشف بعد، يمكن، من ثمة أيضا، أن نصف مميزات الجنس، وبالتالي مميزات الأعمال، القادمة"([5]).


 
ويخلص كولونا ، في الأخير، إلى أن التخييل الذاتي:



-"هو، ببساطة، وضعية تلفظية ( لنتخيل بأنني..) تكون إمكاناتها مثبتة في اقتصاد خطابي، وحتى في ترتيب الخطاب ذاته"([6]).



-" هو نمط من القراءة في طريقه إلى الظهور"([7]).



1-2استعرضت ماري داريوسيك Marie Darrieussecq في بداية دراستها([8]) مختلف التعاريف المقترحة للتخييل الذاتي ( سيرج دوبروفسكي، فانسون كولونا، جيرار جنيت)، ثم حللت منزلته التداولية المعقدة. ليس التخييل الذاتي غولا يتنكر في صورة ما للدخول بطريقة غير شرعية إلى أرض ممنوعة، وإنما هو نتاج أدبي ( جنس أو لا جنس) يضطلع بوظيفة خاصة، تتمثل في مساءلة الممارسات الأدبية، والبحث عن موضع يجمع في الآن نفسه بين السيرة الذاتية والرواية بضمير المتكلم. وباستناد ماري داريوسيك إلى معايير كايت هامبرغرKäte Hamburger اعتبرت التخييل الذاتي " ملفوظا من الحقيقة المزيفة"([9]). وتبنت نظرية الأفعال اللغوية للتمييز بين السيرة الذاتية وبين التخييل الذاتي. إن السيرة الذاتية فعل لغوي يحث على التوكيد الصادق ( ولدت في...) والطلب (صدقوني لما أقول لكم بأنني ولدت في...) والتصريح ( أصرح حقا بأنني ولدت في...).



يكشف التخييل الذاتي عن التشابه الملتبس الذي يوجد بين السيرة الذاتية و بين الرواية بضمير المتكلم ( على نحو ما أثبتته كايت هامبرغر). للتخييل الذاتي وجهان: أن يكون فجا أو غير فج، وتوكيدا صريحا أو غير صريح. فهو يجمع بين الرواية (التزام متصنع) والسيرة الذاتية ( التزام صريح)، ويسعى إلى إضفاء التخييلي على الواقعي.



1-3-يرى لوران جيني Laurent Jenny في دراسته " التخييل الذاتي" ([10]) أن تسمية التخييل الذاتي تندرج في إطار معاودة النظر في " الممارسة الساذجة للسيرة الذاتية". وهي نوع من التركيب بين السيرة الذاتية والتخييل. ويثير هذا التركيب تأويلات متعددة. وفي الأحوال جميعها، يعتبر التخييل الذاتي تحويلا تخييليا للسيرة الذاتية. يوجد صنفان لتعريف السيرة الذاتية. أحدهما ( أسلوبي) يرى أن تحويل السيرة الذاتية إلى تخييل يخضع إلى بعض الآثار الناجمة عن طبيعة اللغة المستعملة. وثانيهما (مرجعي) يرى أن السيرة الذاتية تتحول إلى تخييل بالنظر إلى محتواها، وإلى علاقة هذا المحتوى بالواقع.



ا-يرى أصحاب الطرح الأسلوبي أن السمات الأسلوبية تفضي إلى أثر التخييل. وهذا ما جعلهم يقرون بأن السيرة الذاتية تعاني من خلل لا تستطيع أن تعالجه لكونها تدعي قول الحقيقة. ويستندون إلى حجج يمكن أن نختزلها فيما يلي:



* إن السيرة الذاتية - من منظور آلان روب غرييه Alain Robbe-Grillet في مؤلَّفه المرآة التي تعود(1984)- تخون الواقع بانتقاء وقائع دون أخرى، وإعطاء لبعضها الآخر قيمة لم تحظ بها على أرض الواقع، كما أنها تنزع إلى تنظيم خاص وفق منطق سببي.



* إن السيرة الذاتية- من وجهة نظر سيرج دوبروفسكي- حكر على العظماء، وبناء أسطوري وجمالي للوجود. في حين أن التخييل الذاتي جنس وضيع وتحت أدبيinfra-littéraire تقريبا لا يحتاج إلى حياة هامة وموهبة أدبية. ويتسم التخييل الذاتي عموما بالسمات الآتية: حرية الكتابة، وعدم الرضوخ لإمرة الوعي، والتداعي الحر، والتلقائية، وإطلاق العنان للاشعور الداخلي. وهذا ما يجعل من التخييل الذاتي سيرة ذاتية في متناول الناس جميعهم على اختلاف مستوياتهم التعليمية والثقافية.



ب- على عكس الطرح الأسلوبي ( ما تبناه سيرج دوبروفسكي)، يوجد طرح آخر يدافع عن إضفاء التخييل على التجربة المعيشة ( ما تبناه فانصو كولونا). وهو يركز على ما يلي:



* يصبح الميثاق السيرذاتي في التخييل الذاتي محرفا بدعوى عدم وجود تطابق مرجعي بين الأطراف الثلاثة: الكاتب والسارد والشخصية. وعليه، إما يضفى التخييل على القصة( ينزاح السارد/الشخصية عن الكاتب في بعض مظاهر قصة حياته) أو على هوية السارد(تختلف هوية السارد عن هوية الزوج الكاتب/ الشخصية) أو على هوية الشخصية (تختلف هوية الشخصية عن هوية الزوج السارد/ الكاتب).



* يرتكز التخييل الذاتي على الوظائف المرجعية الآتية:



-الوظيفة المرجعية بوصفها تلطيفا أخلاقيا: أسند بروست إعجابه بشخصية ألفريد أغوستنلي إلى شخصية ألبرتين في بحثا عن الزمن المفقود للتستر على شذوذه الجنسي.



-الوظيفة المرجعية بوصفها تعليلا تجميليا للسيرة الذاتية : يكمن هنا طرح مخالف لطرح دوبروفسكي. يحاول أصحابه أن يعطوا الشرعية للسيرة الذاتية. فهي ، في نظرهم، ليست كتابة عفوية، وإنما تتمتع بقيمة جمالية تماثل قيمة الرواية.



-الوظيفة المرجعية بوصفها حكاية استكشافية: بما أنه يصعب اقتناص بعض الأحداث الموغلة في الطفولة، فإن الكاتب يضطر إلى إسناد أدوار إلى السارد/ الطفل على نحو يمتزج فيها الواقعي بالخيالي.



ويخلص لوران جيني إلى أن النقاد استنتجوا الطابع غير الخالص للتخييل الذاتي. اعتبره جاك لوكارم Jacques Lecarme جنسا رديئا، ولم يقر جيرار جنيت بوجوده إلا بازدراء. وقدمته مؤخرا داريوسيك بصفته جنسا غير صادق ( يؤكد الكاتب بأن ما يحكيه حقيقي، ويحذر القارئ، في الوقت نفسه ،من مغبة تصديقه). إن عدم وجود الصدق في التخييل الذاتي يشكك صراحة في الحقيقة الساذجة للسيرة الذاتية، ويدعم الطابع المتسيب لحقيقة الحياة، الذي لا يمكن أن يستوعب جيدا إلا من خلال خبايا التخييل وانحلال الكتابة المتداعية.



1-4 يقر جاك لوكارم و إليان لوكارم-طابون ([11]) بأن سيرج دوبروفسكي ملأ الخانة الفارغة التي تخللت جدول فليب لوجون([12])، وبمقتضاها يتقاسم الكاتب والسارد والشخصية الهوية نفسها، ويصنف المحكي ضمن الرواية . " لا يختلف التخييل الذاتي عن السيرة الذاتية، فهو يعد مرادفا لها، وعلى الأقل متغيرا عنها وخدعة: يقدم دروبفسكي نفسه، على نحو ديكارت، متقنعا بتعليل مثبت في نص مواز" ([13]). ويرتكز جاك لوكارم وإليان لوكارم على كتاب جيرار جنيت (Diction et Fiction) لتحديد الهوية السردية (أي تبيان العلاقة التي تربط بين السارد والكاتب والشخصية). وفيه يقدم جنيت خطاطة توضح الفروق الموجودة بين ثلاثة أجناس ( السيرة الذاتية، والمحكي التاريخي، والتخييل المتماثل حكائيا). وفي خانة السيرة الذاتية يميز جنيت بين السيرة الذاتية المتماثلة حكائيا (ش= ك=س) والسيرة الذاتية المتباينة حكائيا (ك#س، ك=ش، س#ش) والتخييل الذاتي ( ك#س، ك=ش، س= ش). وهكذا نعاين في التخييل الذاتي تناقضا من قبيل ( هذا أنا وليس أنا) ومن صنف ( هذه رواية ومحكي حقيقي). وإن كان الفضل يعود إلى سيرج دوبروفسكي في صقل المفهوم، فلقد أرهص به كتاب آخرون على نحو سلينCéline ومالروMalraux.



قام الباحثان بجرد الأعمال التي يمكن أن تدرج في إطار التخييل الذاتي([14])، ولم يعتمدا في جردها على اعتبارات جمالية، وإنما ركزا أساسا على قواعد اشتغالها الجلية. وأقصيا منها كل الروايات التي توسم بالسيرة الذاتية لكونها تتضمن افتراضا مواد من التجربة المعيشة للكاتب، كما استبعدا سلسلة من الروايات التي يسمى فيها اسم الكاتب باسم مغاير. ويتميز التخييل الذاتي ، في نظرهما، بالسمات الآتية: يشار إلى اسم الكاتب أو يعلق عليه، توظف ألقابه غير المعروفة، إن وجدت علاقة بينه وبين الشخصية فهي من باب الصدفة، استعمال ضمير الغائب. إن التخييل الذاتي هو " نسج مجازف للسيرذاتي والخيالي والواقعي والاستيهامي"([15]).


 
ويخلصان إلى أن معالجة اسم العلم تعد أحد معضلات التخييل الذاتي كما هو الشأن في السيرة الذاتية ( بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل)، ويجملان ما يميز التخييل الذاتي عن الرواية والسيرة الذاتية في القولة الآتية: " التخييل الذاتي جنس سمج أساسا، يبحث عن طريق بين النذالة ( ترفض في وجه الناس أسماؤهم العائلية والشخصية) و بين المكر( يسمح للتعرف عليها من خلال حاجز واق). تكون الرواية أكثر ملاءمة عندما تحل اسم برداموBardamu محل سيلين Céline، وجيلGilles محل دريوDrieu، ورينييRainier محل كاريGary، وسارد غير مسمى محل بروستProust. وتكون السيرة الذاتية أكثر أمانة عندما تتحمل مسؤولية الكاتب على سرده، والطابع الصريح لملفوظاته" ([16]).



1-5- رصد فليب لوجون تطور المفهوم في شكل مسرحية من خمسة مشاهد:



أ-المشهد الأول،1973: يجري هذا المشهد في صالون الميثاق السيرذاتي الصغير والمربع. اقترح فيه فليب لوجون جدولا يحدد الهوية السردية في الرواية والسيرة الذاتية، وترك خانتين فارغتين لصعوبة ملئهما بما يلائمهما. ومن بين الأمور التي حيرته هو إمكان وجود بطل روائي يحمل اسم الكاتب. ولم يخطر على باله- لحظتئذ- أي مثال عن هذه الحالة.



ب- المشهد الثاني ،سيرج دبروفسكي 1977: لما كان يُعتقد بأن المنزل مغلق بعد سد نوافذه بإحكام، ظهر من يريد أن يحتله(Squatter). كان سيرج دوبروفسكي منشغلا في كتابة نص يجهل معالمه، ويتعذر عليه أن يجد خانة جنسية تناسبه. ولهذا ارتأى أن يملأ خانة فارغة، و يقترح لها اسم التخييل الذاتي . وأثبت الاسم نفسه على ظهر غلاف عمله الابن. وبعد نشر هذا العمل انكب على تحديد المنزلة النظرية لمشروعه. ويقتطف فليب لوجون نصا من رسالة كان قد وجهه إليه سيرج دبروفسكي ليخبره عن حيرته في تصنيف عمله المشار إليه أعلاه، وإقدامه على تجنيسه ضمن خانة التخييل الذاتي.



ج-المشهد الثالث،1984: لاحظ البواب أن المنزل أغلق خطأ لوجود سكان بداخله. بين جاك لوكارم في دراسة له بالموسوعة العالمية أن الخانة لم تكن فارغة لوجود من يشغلها ( على نحو سلين،و مالرو، وآخرون) ولكونها أصبحت، منذ سنة 1970، غاصة بأسماء أخرى( على نحو موديانو، بارت، كاري، سولرس..). وأصبحت، مع مر الأعوام، تستقطب الكتابات التي تتموقع بين السيرة الذاتية و بين التخييل غير السيرذاتي. وهي عبارة عن أشكال نصية واستراتجيات شخصية يستوعبها جنس مبهم ( التخييل الذاتي).



د- المشهد الرابع 1989: يُشيد منزل آخر في الجهة المقابلة، وتُعرض في صيوانه بضاعة جديدة. أعاد باحث شاب فانسون كلونا النظر في المشكل الذي أثارته الخانة الفارغة، واقترح تعريفا للتخييل الذاتي ( عمل أدبي يسعف الكاتب على خلق شخصية ووجود محافظا على هويته الحقيقية ( اسمه الحقيقي))، ووسع نطاق بحثه ليشمل أعمالا عالمية وموغلة في الماضي. نوه فليب لوجون بهذا العمل لكونه استعرض خطوات هامة لإضاءة المفهوم من زوايا متعددة.



هـ المشهد الخامس، 1991-1992: توجت مساعي سيرج دبروفسكي وجماعة "محكي الحياة" في نانتيرNanterre بتنظيم ندوة مشتركة حول التخييل الذاتي([17]). ومن حسناتها أنها استدعت بعض الأسماء التي سبق لها أن خاضت في تحديد المفهوم وتجنيسه، وأغنت النقاش بطرح وجهات نظرها والدفاع عنها ( على نحو فليب لوجون، سيرج دوبروفسكي، جاك لوكارم). كما قدمت أسماء أخرى عروضا حول تصورها للمفهوم في ضوء المستحدثات المعرفية والمصطلحية ( على نحو آن روش، رجين روبان، جون ميشيل آدام،ميشيل كونطا..).



مما تقدم يمكن أن نبدي الملاحظات الآتية:



1-وإن اختلفت التصورات السابقة في تحديد هوية التخييل الذاتي، فهي تتفق على مسألة جوهرية، مؤداها عدم التعامل معه كجنس أدبي يتضمن قواعد صارمة، تحدد مقروئيته، وتخاطب أفق انتظار القراء وتوجههم. ولو تحكمت في هذه التصورات خلفية " الجنس النظري" لتمت مقاربة النصوص التي يتشكل منها التخييل الذاتي ( سواء أكانت قديمة أم حديثة أم مفترضة) بوصفها أفقا لتكون جنس أدبي ممكن يتسم، عن غيره من الأجناس، بسمات شكلية وخصائص بنائية محددة([18]). ويمكن لهذه السمات والخصائص المستنتجة بطريقة علمية أن تحفز على إنتاج التخييل وتلقيه، وتضفي الشرعية عليه حتى يصبح تقليدا أدبيا معترفا به في المشهد الأدبي. ولا يمنع الاعتراف المؤسساتي به من إعادة مساءلته في ضوء التطورات المعرفية والمنهجية.



2- استندت بعض التصورات ،في تمييز السيرة الذاتية من التخييل الذاتي، إلى طبيعة القصة المحكية ( حياة العظماء/ حياة البسطاء) وإلى درجة الانزياح عن المرجع (نقل الواقع بأمانة أو إضفاء التخييل عليه).



أ- طبيعة القصة المحكية: تستدفع بعض التصورات التخييل الذاتي إلى دائرة محكي الحياة، الذي يكون ، حسب طبيعته ووظيفته، في متناول الناس العاديين ، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية، لسرد تجاربهم ومغامراتهم الشخصية بفجاجة وتلقائية و"صدق" و"أمانة". مع العلم أن التخييل الذاتي يتطلب من صاحبه حذقا فنيا وتكوينا أدبيا يمكنانه من إضفاء التخييل على مسار حياته الشخصية، واستخدام ألاعيب التمويه والخدع الفنية لمعاودة النظر في ذاته بمنظور فلسفة جديدين. وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن تُحدد عظمة العمل الأدبي بالإحالة على منزلة صاحبه ( الانتساب إلى علية القوم)، وإنما على ما عاشه من تجارب استثنائية ومثيرة. كما أن التجربة الثرَّة وحدها لا تكفي إذ لا بد من توفر صاحبها ( أو من يساعده) على المؤهلات التي تسعفه على إعادة تشخيصها بطريقة فنية. وهكذا يمكن للسيرة الذاتية أن تستوعب قصة عادية، وعلى العكس يمكن للتخييل الذاتي أن يحوي حياة عظيمة ومثيرة. وعليه، لا يجب أن نحتكم في التمييز بينهما إلى طبيعة القصة المحكية، وإنما إلى طريقة سردها وتشخيصها. كما لا يجب أن نضع حدا بينهما بالرجوع إلى منازل الكتاب ودرجاتهم، وإنما إلى تفاوت قدراتهم الإبداعية في إعادة تشخيص الواقع المعيش.



ب-درجة الانزياح عن المرجع:



اعتمد هذا المعيار للتمييز بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي على مدى اقترابهما من المرجع أو انزياحهما عنه. تكون السيرة الذاتية وفية للسجل المرجعي (الالتزام الصريح، والصدق، والحقيقة الساذجة، وتطابق الهويات السردية). أما التخييل الذاتي فينزاح عن الواقع، ويعيد تشخيصه بطريقة خيالية، ويتمرد على مواضعات الميثاق السيرذاتي (الالتزام المصطنع،و تزييف الحقائق المعيشة، وإضفاء التخييل على الذات، وعدم تطابق الهويات السردية). إن التعامل مع السيرة الذاتية بوصفها تشخيصا للحقيقة الساذجة هو تصور ساذج لا يقر بمزالق الكتابة وخدعها وقيودها ( الانتقاء، والتمويه، والحذف، والنسيان المتعمد أو النسيان الطبيعي، والحذف،والتمطيط..)، وما ينجم عنها من فجوات بين الواقع وشبيهه، ومن صعوبات في تذكر التجارب الشخصية واستحضارها كما وقت فعلا. إن وعي بعض كتاب السيرة الذاتية بصعوبة استرجاع ماضيهم الشخصي كما هو، حفزهم على تصنيف أعمالهم ضمن أجناس مفترضة ( السيرة الذاتية الخيالية، والسيرة الذاتية المتنكرة، والسيرة الذاتية الكاذبة،و السيرة الذاتية المتمردة، والسيرة الخرافية)([19]) لتهيئ القراء على تلقيها ليس بوصفها صورا طبق الأصول، وإنما بصفتها أعمالا إبداعية يمتزج فيها الخيالي بالواقعي. وهذا ما أفضى، مع تراكم تجارب من هذا النوع، إلى صقل مفهوم التخييل الذاتي ليستوعب كل عمل يندرج في إطار المشاريع السيرذاتية المضادةProjetsanti-autobiographiques .



يمكن أن نستعين بالتصورات السابقة لتقديم فروق جوهرية بين السيرة الذاتية وبين التخييل الذاتي في انتظار أن يُحددا معا بوصفها جنسين أدبيين وليسا مشروعين للكتابة. ومن ضمن ما يميز التخييل عن السيرة الذاتية نذكر أساسا ما يلي: المراسم الاسمية، والمرسم الجهية التخييلية، والسمة التخييلة، والخطاب التخييلي، والالتزام المصطنع، والتردد ( أنا وليس أنا).



2-دليل العنفوان: التشكيك في صدقية الذكريات.



رغم افتراش عبد القادر الشاوي مَدَر النقد، فلقد تقصد عدم إثبات أي مؤشر على غرة الغلاف يجلي انتساب المؤلَّف([20]) إلى جنس أدبي ما. فهل استهدف من هذا الصنيع تحطيم الحدود الوهمية التي تأسر النص في خانات مقننة أم تفويض مهمة التصنيف أو التجنيس إلى قراء مفترضين؟ ضمن هذا السياق نورد قولتين نقديتين تجنسان النص وفق معايير محددة. يقول محمد برادة:" ليست دليل العنفوان إذن سيرة ذاتية بالمعنى المألوف لأن شكلها وتقنيتها المركبة يكشفان عن علاقة معقدة بين ذاكرة السارد وسجل الأحداث المعيشة التي تعاقبت عليه في فترة من حياته..نعتبر دليل العنفوان سيرة تخييلية تستوحي أحداثا عاشها السارد-الكاتب في مرحلة من عمره. ولكن، وهو يحاورها وينسج منها مناخا وشخوصا وفضاء، يضع مسافة بينه وبينها ويبرز شكوكه في صحة بعض ما رواه، ويقر بالإضافات والحذوفات التي يقتضيها تأليف الكلام وإعادة تكوين التجربة على أساس من وعي التحولات الحاصلة في الذات وداخل المجتمع"([21]). ويؤكد عبد الحميد عقار ما يلي :" دليل العنفوان نص سيرذاتي. شخصية السارد فيه تتماهى كلية مع شخص المؤلف، وضمير المتكلم يهيمن في تصريف الكلام وتوجيهه...وحتى عندما يكون الآخرون هم مصدر التلفظ يظل السارد-المؤلف في موقع البؤرة: إليه يوجه الكلام، وبسببه وعنه يقال، هو ذات الكلام وموضوعه في آن واحد، وهو من يقوم في البدء والمنتهى بوظيفتي التنظيم والتأويل.. والظاهرة اللافتة للنظر في سياق هذا الانزياح لدليل العنفوان عن الميثاق السيرذاتي المألوف هي المتصلة ببناء السرد وبخصائص لغة الخطاب فيه. فالنص يخرق الدقة الكرنولوجية المفترضة في أي سيرة ذاتية ويكسر خطية الزمن تبعا لذلك"([22]). من خلال هاتين القولتين يتضح أن نص دليل العنفوان ينزاح عن المواضعات السيرذاتية المتعارف عليها، ولم يتقيد بالسجل المرجعي لأن الكاتب أضفى طابع التخييل عليه ، واستسلم ل" تداعيات مبتذلة" لتزييف الحقائق، ورتق الذكريات الوهمية، ومعاودة النظر في الماضي الشخصي في ضوء سياقات تداولية جديدة، وتحويل الواقع المستعاد إلى سيرة تخييلية.



فبقدر ما نتوغل في النص تنحل الخيوط التي ينسج بها عبد القادر الشاوي عوالمه التخييلية، ويكون منها فسيفساء تجاربه الذاتية. يعيد الكاتب بناء ما عاشه من أحداث بتلقائية، لكنه ينتقي، بتلطف وحذق، المشاهد الأكثر دلالة، و يقتنص اللحظات الهاربة التي تكشف عن عنفوان الذات ومرحها من جهة، وعن معاناتها من محن الحياة ودواعي الدهر من جهة أخرى . وبما أن الماضي المفقود والهارب قد استحال إلى ذكريات مفتتة ومتشظية، فإن استحضاره من جديد لا بد أن يتسم بنفحات الحاضر وقبساته، ويتغذى بما طرأ على الواقع من تبدلات جوهرية، ويفضي إلى تعايش وتساكن الأزمنة المختلفة وإقامة علاقات بين الأحلام والهواجس المنفلتة من عقالها و بين الاستيهامات المكبوتة والتطلعات المحبطة. وما زاد من تعتيم الماضي والتشويش عليه، والتشكيك في صدقية أحداثه (بالإضافة إلى تعذر استرجاعه على حاله ب"صدق وأمانة")، لجوء عبد القادر الشاوي إلى ممارسة خدع التشخيص الأدبي، وإيجاد المعاذير والتعليلات لأحداث سابقة، وتضعيف البنية السردية على نحو يمكن من تنامي الموضوعات المختلفة ، وزرع مرايا نصية متعددة لمعاينة مختلف حالات الذات و ِوضعاتها، وتنويع ضروب الحذف والنسيان والمراجعة، وتشبيك الفضاءات والأزمنة.



2-1-بنية النص : قسم الكاتب النص إلى جزأين: الخلطاء ثم اللغو والتأثيم.



2-1-1-أهدى الجزء الأول إلى ليلى الشافعي. وسماه بالخلطاء أي القوم الذين أمرهم واحد، وهم-وفق سياقات النص- الأصدقاء الذين قاسموا السارد همومه وتجاربه (على نحو مصطفى الإدريسي، وأحمد برهوم، والمامون، ونزهة..). وتميز هذا السفر باستخدام تقنيات خدع التشخيص التي تجعل المروي ينفلت من الإرغامات المرجعية، و يثير تساؤلات حول جدوى الذاكرة وصدقيتها. وتتجلى بعض مظاهر هذه الخدع فيما يلي:



أ-عملت الآثار المموهة(Effets pervers) على فلسفة الأحداث الماضية والنظر إليها من زوايا أخرى، وأسهمت في تحلي النص بالصور الشعرية والأساليب العتيقة والتعابير المتأنقة والمزدانة بألوان التحاسين. جعلت هذه السمة الفنية الشاوي يحدث قطيعة مع الطابع التقريري الذي وسم عمله الأول كان وأخواتها (1986م)، ويقيم مسافة نقدية مع الواقع لنقل تجربته الشخصية من مستوى الشهادة إلى مستوى التخييل.



ب-يتفرع الجزء الأول إلى مقاطع مرقمة ومعنونة تتجمع في مسارين حكائيين متشاكلين: أحدهما يخص التجارب التي عاشها السارد-المؤلف بفضاء تطوان، وثانيهما يهم ما استوحاه من تجارب أخرى في فضاء الرباط. وتتخلل هذين الفضاءين فضاءات عابرة تكشف عن ارتياد آفاق بعيدة (سفر مصطفى الإدريسي إلى ليبيا)، وعن منبت الغرس (باب تازة)، وعن الشطحات الصوفية ( مزار عبد السلام بن مشيش في نواحي العرائش)، وعن النضج الفكري والإيديولوجي للذات ( إلقاء محاضرة في موضوع التخلف والتنمية في مدينة شفشاون).



قبل حصول السارد-المؤلِّف على شهادة الباكلوريا، مكث بتطوان، وتردد على ثانوية القاضي عياض ومقري الاتحاد المحمدي للأمداح النبوية وجمعية البعث الإسلامي. تستوعب هذه الفضاءات لحظات استذكارية، وتكشف عن الأهواء والميول المترسبة في أعماق الذات، وترصد تكونها الإيديولوجي ومسارها الفكري، وهي تبحث عن الامتلاء والتوازن. وفي هذا المضمار، تعرف السارد-المؤلِّف على بعض الدعاة الدينيين (الوزاني والكويرة والمفتي) الذين أسهموا في تنوير عقله، وفتح عينيه على تعاليم الدين الإسلامي السمحة. ومما زاد من ترسخها في ذهنه ارتباطه برفاق ( برهوم وبن صالح والورياشي) يوقرون الشخصيات الدينية البارزة، وينظمون أنشطة ثقافية للتعريف بتعاليم الدين الإسلامي واستقطاب عناصر جديدة، ويبحثون عن كل ما يروي غلتهم من الثقافة الإسلامية ( على نحو مراسلتهم الشيخ محمد أبي زهرة على عنوانه في الأزهر الشريف لمطالبته ببعث مجلة " منبر الإسلام" إلى مقر جمعيتهم بصورة منتظمة) ويتصلون ببعض الوجهاء طالبين التبرعات.



ولما حصل السارد على شهادة الباكلوريا حل بالرباط لإتمام دراساته العليا (التسجيل في شعبة الفلسفة، ثم ولوج المدرسة العليا للأساتذة). وفي هذا الفضاء، أتيحت له الفرصة لتعميق علاقاته مع طلبة قادمين من شمال المغرب،والتشبع بالماركسية-اللينينية، والتخلي عن مبادئه القديمة. ويتحمس- من خلال انخراطه في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وحزب التحرر والاشتراكية- لخوض نضالات عاتية في أفق بناء مجتمع خال من الفوارق الطبقية. وبفضل صديقيه مصطفى الإدريسي ومحمد الرطوبي أصبح فاعلا في الحياة السياسية وواثقا من مؤهلاته وإمكاناته الذاتية. فهما اللذان حفزاه على نشر أولى كتاباته في منابر العلم واللقاء والكفاح الوطني، وعملا على توريطه في إدمان القراءة ومداومة النشر بانتظام.



نعاين في نهاية الجزء الأول أن ثقافة السارد قد نضجت، فبدأت تجد صداها في بعض المدن المغربية. وهكذا استدعته جمعية ثقافية في شفشاون لإلقاء عرض حول التخلف والتنمية. ونتيجة دفاعه عن الطرح الماركسي، أثار حفيظة أحد الحاضرين الذي انتقده مرددا هذه العبارة : " هذا كلام مستورد أيها الإخوان"، وبدأ يشرح معنى كلمة "الاستيراد" بلهجة ساخرة. " وهل يحسب الأخ المحاضر نفسه خطيبا في إذاعة موسكو، حتى أتى على بنات أفكاره بتفصح وخطابة" ص 63.



ج- تتحدد المفارقات الزمنية بموازاة مع السرد الأصلي، وتتنوع بفعل تكسير منطق تتابع الأحداث وإدماج وقائع منزاحة سواء بالإيغال في الاسترجاع أو بالإحالة على أحداث قادمة. وما يلفت النظر أن الأحداث التي وقعت بالرباط تقدم نوعا من التطابق بين السرد والقصة. فلقد تمت رواية المحكيات المتشذرة على نحو متزامن بإيقاف أو تعطيل حدث ،وتحريك وتسريع حدث آخر. وبناء عليه، نهضت المفارقات الزمنية المختلفة بتشذير السرد وإحداث اختلالات تركيبية في سيرورة الأحداث المُحيَّنة وإعادة تكوين التجربة المعيشة على أساس الانقطاع والتوازي. تشمل الاسترجاعات المتماثلة حكائيا المقاطع الاستذكارية لتدارك المواقف المحذوفة أو المهملة، وسد الفراغ الذي حصل في المسار العام للقصة، وهي تضطلع في دليل العنفوان بإضاءة الجوانب الداجية من سوابق السارد، وبالانفتاح على بعض التحولات الاجتماعية والسياسية. وهكذا تخبرنا عن الهجرة الاضطرارية لوالد السارد-المؤلف من بياضة إلى تطوان على عهد الحماية، وتستحضر الخطابات الحماسية التي كان يبثها علال الفاسي لإيقاظ همم الوطنيين وحثهم على النضال لفرض مطلب الاستقلال، وتحيل على الأجواء الدراسية بثانوية القاضي عياض في تطوان والأنشطة الثقافية والسياسية في رحاب الجمعيات الدينية، وتوقظ الأحاسيس الغرامية الأولى التي كانت تتسم بالصفاء والعفة والأنفة، وتنتشي بأحاسيس طفولة هاربة وعصية." بعيدا بعيدا كنت أعرف أن هناك مهبط الوجدان: باب تازة. إلى الحمام أولا. كان يقول والدي وهو يجرني خلفه كالطفل المشدوه. حمامه المفضل يقع في منتهي الساحة قريبا من الكوميسارية" ص 61.



د- يعطي السارد انطباعا عاما مفاده أن ما يحكيه نابع من ينبوع الصدق. لكنه تعمد توكيد مدى صعوبة فهم الأوهام الإنسانية في نص مواز (ص4)، ووظف عبارات حكائية واصفة ( على نحو " طفولة منتقاة مستعارة"، و" قصة مستعارة"، و" استعادة سائبة") لتقويض قواعد الميثاق السيرذاتي، وتمويه التجربة المعيشة، وإضفاء طابع التخييل على الأحداث والوقائع المسترجعة. وهذا ما دعم خدع التشخيص ومناوراته، ووسع الهوة بين الذات وضعفها، وبين صدقية الأحداث ونزوات الذاكرة.



2-1-2-أهدى الشاوي الجزء الثاني إلى سعيد البشري. ويتضمن هذا الجزء عنوانا مركبا من وحدتين دالتين: اللغو والتأثيم. فمن جهة، تقصد القائم بالسرد إعادة أحداث بعينها لتأملها وفحصها وإعادة النظر في محتوياتها ، والتجأ ،من جهة أخرى، إلى التنقيح لتقويم الاختلالات وتقليص التفاوتات والمفارقات، وسد الثغرات والفُرجات، والكف عن ارتكاب المغالطات الوهمية. وظف السارد-المؤلف اللغو أكثر من مرة لتأكيد مدى عجزه عن قيادة الحكي وفق إرادته وعزيمته، وتنصله من انسيابه في "تداعيات مبتذلة" تفضي إلى حقائق لم تكن في الحسبان. " الحق أقول - وها قد جرنا الحديث إلى واد آخر- لقد ضاق صدري ولم تفض نفسي، ازدحمت الوقائع في ذاكرتي ولم تتنفس لغتي، إن هي إلا اللغة اللاغية. ليس لي عليها حق و ليس لها علي بلاغة، وكان يجب أن أكتب شيئا فخرج هذا الشيء في سطور فاحمة، مسنونا حادا في طور، رخوا لزجا هولاميا في طور آخر. أوحيت بالواقع المكين، ولكنني-كشأن كل كاتب رددت عليك تداعيات مبتذلة. طفولة فيها اعتياد الأيام جريانها السائل، وشباب دون حد الشباب المنطلق" ص 74. وكان يسعى ، من لعبة التأثيم، إلى الكف عن آثامه ( اختلاق وقائع وافتراؤها) وممارسة طقس من طقوس التكفير للتظاهر ، أمام الملأ، بقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.



وهكذا يتضح أن الجزء الثاني ينهض بوظفيتين: إحداهما تتعلق بالتشكيك في صدقية المحتويات المروية، وتنبه القارئ إلى عدم تصديقها والاعتداد بها، وثانيتهما تهم استدراك الأخطاء التي سقطت سهوا وسجلها القلم في غفلة منه. وكلاهما يؤكد التباس الكتابة وتأرجحها بين المستوى الخيالي( أحداث مفتعلة من ضرب الخيال) والمستوى الواقعي (أحداث يُفترض أنها وقعت فعلا).



قد يتبادر إلى الذهن أن الجزء الأول قد استوعب المادة الحكائية واستوفى حقه من التذكر، وأن الجزء الثاني لا يعدو أن يكون نصا ملحقا أضافه السارد ليعلق على بعض ما ورد فيما قبل. " ولكننا نتبين- بعد قراءة الجزأين والتأمل فيهما-أنهما يكونان نص هذه السيرة الروائية، وأن هذا الشكل وما ينطوي عليه من تقنية إنما هو نتيجة لتلك العملية المعقدة التي تصاحب الكتابة المحفوفة بالأسئلة والاستبطان وإبراز هموم السارد والحرص على إشراك القارئ في التقاط أواليات الحكي ونزوات الذاكرة وتداخل الفضاءات والشخوص"([23]). وفيما يلي بعض المناورات التي اعتمدها السارد-المؤلِّف لنقض الحقيقة المعلنة، ووضع صِدْقيتها موضع تساؤل واختبار.



أ-يتميز هذا الجزء ،أسوة بسابقه، بتداخل محكيين وتقاطعهما: محكي يضطلع به السارد-الطفل، والآخر يرويه السارد-الراشد. ويختلف عنه في كونه، عموما، عبارة عن نص واصف Métatexte يعلق على ما سبقه، ويعلل ما تضمنه من هفوات وسقطات وحذوفات، ويزعم تقديم الوقائع " الحقيقية" التي لا تشوبها شائبة ولا ينتابها شك.



ب-يقوم السارد بإعادة أحداث السفر الأول للاضطلاع بما يلي:



-ملء الفراغات والثغرات ( لما وصل إلى الرباط أغفل ذكر إقامته بمنزل خاله وبفندق المحيط، وتولهه بخديجة، وعلاقاته المتينة برشيد الوداني..).



-تصحيح بعض الحقائق ( أقمت في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطل على الجوطية.. تصنع وحذلقة، كأنني كنت أملك حريتي...أنتقل بها في الوهم من المستحيل إلى الممكن..إن هي إلا أكذوبة خضراء" ص64.



-تعليل عدم القدرة على إدراج بعض المحكيات في المسار الحكائي العام ( ماذا فعل المأمون بعد رجوعه إلى ملهى صباه بشفشاون؟ ما مصير مصطفى الإدريسي الذي رهن مستقبله كصحافي لولاية السنوسيين بعد الانقلاب؟).



-إدماج مقاطع حكائية غير معروفة ( زيارة السارد- برفقة والدته وأخته والسي محمد الناية وأخته المترملة وبنتيها ربيعة وخديجة- لضريح مولاي عبد السلام، ووقوعه في شرك حب أمينة، والكشف عن علاقته الحميمة بالحاج الطيب).



-دعم الجانب التخييلي باعتبار الشخوص مبتدعة ووهمية، وتعديل التواريخ، واستحضار الأحلام والاستيهامات، ومساءلة أحداث توارت ثم انقشعت بعد أن تحررت من قبضة النسيان.



ج-تكثر في السفر الثاني مقاطع استرجاعية تروم إعطاء نظرة شاملة عن سوابق السارد. وتطال هذه المقاطع مدى المفارقة ( المسافة الزمنية) الذي يستغرق أعواما متعددة من سنة 1953 ( معلمة زمنية قريبة من ولادة السارد-المؤلف) إلى سنة 1969 ( تأزم القضية الفلسطينية، واشتداد حدة الصراع بين بعض مكونات الحركة الطلابية بجامعة محمد الخامس في الرباط، ووقوع الانقلاب في ليبيا). وتتفرع عن السرد الأصلي بنيات زمنية استشرافية تثير أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها. وتتشخص في دليل العنفوان من خلال تمهيد ( Amorce) عديم الدلالة يستدعي مشاركة القارئ ويستحثه على الترقب والتنظُّر. لكن سرعان ما يتحول هذا التمهيد إلى مؤشر زمني يسهم في تحديد مدى المفارقة ( من لحظة الاعتقال إلى لحظة التلفظ). وإن كانت هذه المدة الزمنية غير معلومة وتحتاج إلى تأويل لقياسها، فهي تبين أن عبد القادر الشاوي قضى مدة طويلة في السجن استغلها -من بين أشياء أخرى- لاستحضار تجربته في الحياة، وإعادة تأملها من أجل فهم أسرارها وفك ألغازها.



2-2- معضلة صورة اللغة: استثمر السارد-المؤلِّف إمكانات الكلام المهجور بالمتح من النصوص التقليدية، وأسلبة النصوص المقدسة والخطابات الترسلية بطريقة ساخرة. إن هذا النوع من الأسلوب واللغة يحققان تباعدا عن الأحداث، ويتيحان الحديث عن فترة زمنية قريبة وكأنها تنتمي إلى ماض موغل في القدم. لقد جعلت طرائق الأسلبة الواعية السارد-المؤلِّف يختبر إمكانات اللغة المؤسلبة، ويغربل مفرداتها لكي تصبح مدرجة ضمن مواقف جديدة، ومسربلة بصورة شعرية باذخة. وظل وفيا لمقصدية التأنق اللغوي وللغة الواحدة والوحيدة التي تنهض على رؤية جماعية للعالم. وعلى الرغم من إدماج بعض الملفوظات الهجينة (كلمات من العامية المغربية) والأجناس المتخللة( الرسائل والتقارير والمحاضرة والشعر..)، فإننا لا نحس بكلام الغير بوصفه ظاهرة كاشفة عن " معضلة صورة اللغة" ومدخلا لالتقاط العينات الإيديولوجية. وهذا ما جعل اللغة الأحادية تبلور رؤية جماعية متدرجة من السلفية ( التشبث بالعقيدة الإسلامية) إلى التغريب (الانجذاب إلى المذهب الماركسي-اللينيني). وهي رؤية تستجيب لتطلعات السارد نحو التغيير وإقامة مجتمع لا طبقي. وإن كان السارد-المؤلف يوهمنا بأنه وضع أفكاره " السالفة" موضع تساؤل، فإنها تظل منغرسة وغائرة في لا شعوره، وفاعلة في توجيهه وتحسيسه بانشطار هويته وضياعه واستلابه.



2-3- تم تكديس النص بشخصيات مرجعية تنتمي إلى الحقل الأدبي ( جبران خليل جبران، محمد الطبال، ميخائيل نعيمة) أو السياسي ( علال الفاسي، التهامي الخياري، عمر بنجلون، ليفي شمعون) أو الفلسفي ( ماركس، لينين، نجيب بلدي، رشدي فكار) أو الديني ( التهامي الوزاني، عمر مفتي، والشيخ محمد أبي زهرة، ومولاي عبد السلام..) أو الغرامي ( فاطمة السلامي، زكية العمراني، خديجة ابنة عم السارد-المؤلف). " وباندماج هذه الأعلام في النص، فهي تشتغل بوصفها إرساء مرجعيا يحيل على النص الكبير للإيديولوجيا أو للرواسم الثقافية"([24]). ووتضمن ما يسميه رولاند بارث بأثر الواقع. وترد أحيانا مقرونة بألقاب دينية أو اجتماعية، مما يبين مدى حرص السارد-المؤلف على جعل السياق الاجتماعي ملازما لبنية النص، وعلى توظيف كل ما يمكن أن يدعم المعطيات القيمية والتثمينات الاجتماعية. ولم يتوقف هذا الصنيع على الشخوص بل تعداه إلى استحضار أحداث اجتماعية وسياسية ساخنة ( هزيمة العرب سنة 1967، حدوث الانقلاب في ليبيا، استفحال ظاهرة الاعتقالات السياسية بالمغرب في منتصف السبعينات)، وإلى عقد الصلة مع فضاءات أيقونية ( الرباط، باب تازة، سفشاون، العرائش، طرابلس)، وإلى ذكر بعض الكتب والصحف ( المكتبة النصية Bibliotexte) التي أسهمت في رسم المسار الفكري للسارد-المؤلف. لقد موهت هذه لآثار الواقعية نتيجة توظيف خدع التشخيص التي سبق ذكرها، وتبديد الوهم المرجعي، وإعطاء الأسبقية للتقنيات الآتية:



ا-لا يتعامل التزمين(Temporalisation ) الكتابي مع المرجع في تزامنيته بل بطريقة تجزيئية وتتابعية. وهذا ما جعله يدخل في علائق سطرية ( أثر الترتيب) وفي علائق عبر سطرية (الترابطات المتباعدة). وبقدر ما يحصل تباعد زمني معه تتلاشى بعض ملامحه، ويتعذر استعادة المشاعر المرتبطة به.مما يتيح فور استحضاره إضفاء أبعاد تخييلية عليه، ومساءلته انطلاقا من وعي وطموح جديدين.



ب- يتجلى التنشخيص الذاتي (Auto-représentation) في دخول النص في صراع مع ذاته ليدحض فكرة الحقيقة المطلقة والنهائية، ويفرض إيقاع التحول عبر آليات الارتداد والتصحيح والإضافة والحذف، ويأخذ منحى معاكسا للإطار الإيديولوجي الجاهز، ويتمرد على التصنيفات المتعسفة والمطابقات المختزلة، و يجعل النص يحيل على ذاته عوض أن يحيل على خارجه.



ج-تعمل الكتابة الجياشة(Ecriture effervescente) على تحطيم المعرفة المطابقة للواقع، و توليد الصور الشعرية المنزاحة عن اللغة المتداولة، و توسيع مجال الحرية لمزج الحقيقة بالخيال وإضفاء تلوينات من السخرية اللاذعة على كل ما هو جدي ومقدس، و الارتقاء بالكتابة الشاهدة على التمزق والعذاب والانبهار إلى مستوى تجديد الأشياء والمخلوقات وابتداع شخصيات ومحكيات وتخييلات ،واستجلاء ملامح المسكوت عنه، واستكناه الحقيقة الراسخة في ثنايا الخيال وتضاريسه الملتبسة.



3- مثل صيف لن يتكرر: لعبة الذاكرة وغوايتها.



تتخذ لعبة التذكر في الأعمال التخييلية لمحمد برادة أبعادا وتجليات مختلفة. فهي تستدعي لعبة النسيان ([25]) لإضفاء طابع التخييل على ما هو "واقعي" ، وتلوين الحقيقة بأصباغ خيالية. وترتكز رواية الضوء الهارب(1993م) على لعبة التذكر لإضاءة الجوانب المظلمة في حياة الشخوص التي تتربع على عرش الحكي (العيشوني، وفاطمة ، وغيلانة). في امرأة النسيان(2001م) يعمد برادة على بعث شخصية ( ف.ب) من مرقد العمل الأول، وتسليط مزيد من الأضواء على حياتها، وإبراز طبيعة العلاقة التي كانت تجمعها بالسارد. يستعيد حماد في مثل صيف لن يتكرر لحظات من مساره التعليمي والفكري، ويحتفي بلعبة الذاكرة لاستجماع خيوط ماضيه الشخصي، ورتق ما تلاشى منها، وفتلها من جديد لتسترجع نضارتها وبريقها في حلة تخييلية.



3-1-جنسية المؤلف:



ما يشد الانتباه في العمل الأول لعبة النسيان والعمل الثالث مثل صيف لن يتكرر ([26]) لمحمد برادة، هو أنه وسم كل واحد منهما بجنس قد يثير جدلا حول مدى انسجامه مع طبيعة البنية الحكائية التي مزج فيها ذكرياته بوقائع مستوحاة من الخيال . مع العلم أنه ناقد ملم بنظرية الأجناس الأدبية، ويحرص في بعض دراساته النقدية على إبراز مدى التزام الكتاب بالتعيينات الجنسية التي أثبتوها على أغلفة كتبهم. إنه- باختيار الكتابة في جنس ما- يستدعي القارئ المفترض إلى مشاركته في لعبة الكتابة، وحفزه على إبرام ميثاق مشترك، وتبني اختياراته الحكائية ، والتواطؤ معه في إضفاء الشرعية على مواضعات الجنس، والاستئناس بها في قراءة العمل التخييلي.



لقد وسم محمد برادة لعبة النسيان بالرواية. في حين لما نعيد قراءتها يتضح التقاطع الحاصل بين الجانبين التخييلي والروائي. فإلى جانب أنها تتضمن وقائع مستوحاة من الخيال، فهي تحفل أيضا بأحداث مسترجعة تقاسمها الكاتب مع شخوص موسومة بأثر الواقع. إن الجنس الذي يلائم إلى حدما طبيعة المواد الحكائية في لعبة النسيان هو الرواية السِّيرْذَاتية.



يتضمن نص مثل صيف لن يتكرر التباسات قد تؤثر في منزلته داخل خانة جنسية محددة. اختار له الكاتب تعيينا جنسيا ( محكيات) معتادا في التقليد الفرنسي لبيان طبيعته وتحديد مقروئيته. ويتصل هذا الجنس عموما بأحداث عاشها الكاتب، لكنه عندما يهم بسردها، يجد نفسه مشدودا إلى رصد تفاصيل الواقع الذي يوجد به. و تتحدد بعض معالم هذا التجنيس في الإهداء الذي خصه الكاتب لمن جمعته به علاقة حميمة بأرض الكنانة، إذ يتبين أن الأمر يتعلق بمحكيات عن مصر. من خلال هذا الصنيع، يتضح أنه تعمد خلق مسافة بينه وبين المحكي، وإثبات أن ما يسرده لا يتعلق بتجربته الشخصية ( الانفصال عن الذات)، وإنما يمت بصلة إلى ما يقع في مصر من أحداث تاريخية وتجارب إنسانية، وما تتميز به من مآثر وبنايات وفنون. وإن تحدث عن ذاته فإنما ليبين أن تجربته هي جزء صغير مما يمكن أن تستوعبه مصر من أحداث كثيرة وتجارب ثرة وحيوات متضاربة.



وفي الكلمة المثبتة على ظهر الغلاف يصرح الكاتب بأن ما يتضمنه النص هو جزء من ذاكرته التي انتسجت خيوطها خلال إقامته في مصر (متابعة دراساته العليا) أو زيارتها بانتظام. وبما أنه يركز على سرد مساره التعليمي والفكري، فحري به أن يصنف عمله ضمن السيرة الذاتية الذهنية.لكن تأرجح العمل بين الرواية ( تشخيص وقائع مختلفة تهم مصر) وبين السيرة الذاتية ( استرجاع المسار الفكري) يحتم إعادة تصنيفه ضمن التخييل الذاتي ( تقاطع الخيالي بالواقعي)([27]).



3-2-ضمير الغائب والاسم المستعار:



اعتاد كتاب السير الذاتية أن يستعيدوا ذكرياتهم وتجاربهم بضمير المتكلم، وأن يثبتوا أسماءهم جزئيا ( الاسم الشخصي أو العائلي أو حرف يحيل إلى واحد منهما) أو كليا ( الاسمان معا). وتخرج أعمال كثيرة عن هذه القاعدة، ومن ضمنها مثل صيف لن يتكرر. حكى السارد-المؤِّلف جزءا كبيرا من ذكرياته وتجاربه بضمير الغائب وباسم مستعار. وابتداء من الصفحة 134 انتقل من سرد ذكرياته بضمير الغائب إلى سردها بضمير المتكلم. ومع ذلك يظل القارئ - بحكم انسجام النص واتساقه- متوهما أن حماد هو المسؤول عن هذه النقلة النوعية لتجريب صيغة أخرى في استجماع خيوط ماضيه الشخصي . ومن يتابع ما كان ينشره برادة في جريدة البلاغ المغربي يعلم أنه كان يوقع مقالاته بالاسم المستعار نفسه. " فالقص بضمير الغائب واللهجة التهكمية والاسم المنتحل كلها تدل على احتياج الكاتب الشديد إلى الانفصال عن ذاته الماضية"([28]). فما يتوخاه الكاتب من الابتعاد عن ذاته- بالإضافة إلى النظر إليها من الخارج- هو إيهام القارئ بأنه يتحدث عن شخصية ليست إلا ضربا من ضروب الخيال. وهذا ما يسعف- من بين أشياء أخرى- على فسخ الميثاق السيرذاتي. وإن عاين القارئ تشابها بين الشخصية المستعارة وبين الكاتب، فإنما هو وليد الصدفة والاتفاق لا غير. وقد تنطلي الحيلة على أعداد كبيرة من القراء في حالة ما إذا كان الكاتب غير معروف. فأغلبهم سيتعامل مع الشخصية المستعارة على أنها شخصية خيالية. وبما أن برادة شخصية معروفة، فهم -إبان قراءة العمل -سيعاينون مدى انكسارréfraction كثير من تمفصلات حياته الفكرية بين ثناياه ." إذ السيرة الذاتية تحوي بين دفتيها كل ما سبقها وتفسره وتبرره، وهي إلى ذلك تتويج للأعمال أو للحياة التي قدحت شرارتها" ([29]).



3-3-لعبة الذاكرة:



مهما كانت ذاكرة المرء قوية، فهو لا يستطيع أن يسترجع ذكرياته بدقائقها وتفاصيلها. فهناك أمور تغيب تماما عن الذاكرة، وتغشاها غشاوة النسيان (النسيان الطبيعي). ويمكن له أن يسترجع بعض ملامحها لما يذكره صديق بقرائنها أو يجد في حوزته ما يحيل عليها ( رسالة، مذكرة، صورة، خاطرة، كراس). وهناك أمور أخرى يتقصد نسيانها وكتمانها ( النسيان المتعمد)، ويمارس رقابته الطبيعية عليها لأنها تمس كيانه الداخلي وقد تؤذي غيره ممن شاركه قسطا من حياته ([30]). ولما يعيد ذكرياته، فهو يقدمها في حلة أخرى، وبترتيب مغاير، ومن زوايا جديدة " تهدم وتبين حسبما يلائم تجدد الظروف وتغيرها، وتجد التعليل والمعاذير لأشياء سابقة، لأنها في عملية كشف دائم؛ ومعنى ذلك أن الماضي شيء لا يمكن استرجاعه على حاله، ولا مناص من تغييره بوعي أو بغير وعي"([31]).



قد يستعين كتاب السيرالذاتية بالوثائق للإمساك باللحظات الهاربة والمنفلتة، واسترجاع الماضي في كينونته الزمنية وبالانفعالات التي لازمت فترات منه. "ولنا في هذا المجال فريقان على الأقل من كتاب السيرة الذاتية، فريق يستعين بوثائق ( رسائل قديمة ومقالات مقتطفة من الجرائد ولا سيما يوميات خاصة). وفريق لا يعتمد إلا على ذاكرته، إما عن اقتناع مسبق أو أحيانا لعدم وجود ما يقوم مقامها، شأن روسو الذي يشكو في بداية الكتاب السابع من الاعترافات أن كل الأوراق التي يقول عنها " لقد كنت جمعتها لتسد مسد ذاكرتي"، لم تكن متوفرة لديه" ([32]).



نعاين في مثل صيف لن يتكرر اعتماد السارد-المؤلف بشكل كبير على الذاكرة في استرجاع مساره الفكري بطريقة غير مباشرة. فهو يحتفل بها، و لا يستعين بالوسائط التي يمكن أن تسلب منها غضارتها وحيويتها. وتتشخص لعبة الذاكرة في المؤلف على النحو التالي:



أ-" فكر قليلا ثم أضاف، سأكتب ما يتسابق إلى الذاكرة ثم أضيف ما أستدركه وتوشيه المخيلة إلى أن ينفسح القول وينتسج ذلك الذي يراودني بقوة ملحا على أن يسكن الورق حتى لا يبهت داخل مسالك الذاكرة" ص 8. قبل أن يطمئن السارد-المؤلِّف لما يراوده بإلحاح، و يسكنه الورق خشية تلاشيه واندثاره، يعمد إلى كتابة ما يتسابق إلى ذاكرته، ثم يضيف إليه ما أغفله، ثم يوشيه بما جادت به مخيلته. وهكذا يتبين أن السارد-المؤلِّف يحرص على استجماع خيوط الذكريات بدقة وأمانة، ثم يدخل عليها التوشيات الضرورية، ويقدمها في حلة جديدة لإضفاء طابع التخييل عليها، وإحكام تقنيات التمويه والتشخيص المضاد.



ب" أعاد حماد قراءة ما كتب واستغرق في التأمل. تفاصيل كثيرة أهملها أو أنها غابت عنه أثناء الكتابة" ص19. رغم حرص السارد-المؤلف على استدراك الذكريات التي طالها النسيان، فإنه يصعب عليه استرجاعها بتفاصيلها. وتظل أشياء هاربة ومنفلتة منه باستمرار. يمكن أن تطفو على سطح الذاكرة لما تستدعيها ضرورة ما. قد تملأ الثقوب والفرجات، ويعاد ترتيب الذاكرة لما يكتب أصدقاء حماد عن الذكريات المشتركة التي جمعتهم في فترة معينة.



ج- " لا يستطيع، مثلا، أن يسترجع مرحلة الإجراءات المعقدة للالتحاق بمدرسة الحسنية لإعداد شهادة التوجيهية ولكنه يذكر جيدا ووبوضوح موعده مع برهوم في مقهى بميدان العتبة في الأسبوع الأول من شتنبر" ص12. هناك أمور يتعذر استرجاعها بحكم أن آثارها انمحت من الذاكرة، وهناك مشاهد ولحظات يتذكرها المرء جيدا كما لو حدثت بالأمس.


 وللراوي حق التصرف فيما يسرده لأنه يدخل في ملكيته الخاصة.وقد يعرض نفسه إلى انتقادات الآخرين إذا ما لاحظوا أنه يقلب الحقائق ويزينها. يمكن أن يغفل تجارب معينة لأسباب يجهلها القراء، ويملأ بياضات الذاكرة بأحداث متخيلة، ويوهم بأنه يتذكر جيدا ما يحكيه عن واقعة ما. وهكذا نجد أنفسنا أمام لعبتين يمارسهما الكتاب بنوع من المكر والدهاء: لعبة النسيان ولعبة التذكر. فهمــــا - وإن شكلا طباقا- يشكلان وجهين لحقيقة واحدة. في لعبة التذكر أنسى أشياء أو أتناسها. وفي لعبة النسيان أتذكر ما يرضيني أو أعرض عما يمكن أن يسئ إلي.



د- و إن لم يستعن السارد-المؤلف بالوثائق الشخصية التي يمكن أن تسلط مزيدا من الإضاءات على الجوانب الملتبسة من مساره الفكري، ويسد فجوات الذاكرة؛ فهو، في بعض الجوانب التاريخية، قد استفاد من الكتب التي ذيل بها مؤلفه. وهذه الإشارة - إلى جانب قيمتها العلمية- تبين حاجة الذاكرة إلى ما يعضد دورها ووظيفتها حتى تسترجع ملامح وجزئيات واقعة ما، أو تتعرف على ملابساتها وتبدد ما يكتنفها من غموض. وهكذا يمكن للمرء أن يستئنس بمراجع للتعرف أكثر على معلمة زارها منذ زمن بعيد. وهناك صنف من الكتاب يتحرون فيما يكتبونه حرصا منهم على الإلمام به، وتجنب الإتيان بحقائق تاريخية أو جغرافية مغلوطة.



3-4-الصيف الإستثنائي:



اللافت للنظر أن ذاكرة حماد مشدودة ومنجذبة إلى صيف 1956. فهو لما يستعيد وقائعه البارزة "يجده بالفعل متميزا ومتألقا وسط مخزون الذاكرة"ص43. ونظرا لمنزلته في قلبه واهتماماته، فقد ركز عليه في عنونة المؤلف وأحد محكياته. لا يمكن للمرء أن يسبح في النهر مرتين (هراقليطس)، ولا يمكن للأحداث الماضية أن تعيد نفسها بالوتيرة نفسها. ولكن يمكن له أن يعيد شريطها ويفلسفها ويرممها من جديد. ومهما كانت قوة الذاكرة، فهي لا تستطيع أن تنقلها بأمانة وصدق. تمسك بذكريات وتُفلت أخرى. وتظل أحداث متمنعة عن الانكشاف أو إماطة اللثام عن حقيقتها العارية. وما حفز حماد على استجماع خيوط ذلك الصيف ولملمتها، هو إبراز الأحداث التي عاينها عن قرب أو عاشها في صخبها وغليانها .وما جعل هذا الصيف يحظى بمكانة خاصة في ذاكرة حماد هو أنه لا يعد محطة مشوار فقط، وإنما هو، أيضا، حدث له أهميته و دلالته في سيرورة حياته. لأن فيه برزت معالم استقلالية ذاته وانفصالها عن مداراتها السابقة، وتوقها إلى بداية ثانية ، وهذا ما حذا به أن ينعته بما يسميه الفيزيائيون ب"الانفجار الكبير"؛ كما أنه عاش الحدث الجسيم ( تأميم قناة السويس) الذي جعله - رفقة زمرة من الطلبة المغاربة- يشعر بانتمائه إلى المصير العربي. ولذا سجل نفسه للمساندة والتطوع والتدرب على الأسلحة لمواجهة العدو. عاين امتدادات الحدث في الصحف والمذياع والشارع، وهو مزهو به لكونه فتح آفاقا واعدة للتحرر . ويأتي هذا الشعور ليعزز نشوة الحبور التي انتابته بعد حصوله على شهادة الباكلوريا، وانفتاح أبواب عريضة أمامه ليصبح كاتبا، وهو الحلم الذي راوده منذ طفولته لما كان مولعا بقصص ألف ليلة وليلة وكامل الكيلاني.



وفي ذلك الصيف أيضا، بدأ يتردد على السينما لمشاهدة الأفلام المصرية وخاصة التي يتشرف أبطالها بالحضور إلى العرض الأول تحت وابل من هتاف الجمهور وتحياته وتصفيقاته. وقد أسهمت الذخيرة السينمائية في تشكل ذاكرته الصورية وإثراء متخيله ومخزونه من الرومانيسك. ومع ذلك لما يتذكر ما اختزنته ذاكرته عن مصر، لا يضع حدودا بين ما قرأه وما شاهده في الواقع أو على الشاشة وما سمعه من الكلام "الفاضي والمليان" . " أظن أن كل ذلك، مجتمعا، ينسج تخييلا ضروريا لبعض العلائق القائمة بين وسائل التعبير وبين فضاءات مصر في سيرورتها الواقعية" ص189.



3-5- رد الدّيْن:



يرصد السارد-المؤلف مساره التعليمي والفكري الذي توطد بنيانه بأرض الكنانة. وإن ركز على الفترة الذهبية التي قضاها بها ( 1955- 1960 م) ، فقد ألحقها بالزيارات المتكررة لها لإعداد أطروحته عن محمد مندور، ثم للحضور والمشاركة في المناسبات الثقافية بعد أن انتزع الاعتراف به كمثقف شاب يثير أسئلة مستحدثة ومستفزة لمقاربة مختلف القضايا الأدبية والفكرية. وهذا لا يعني بأن المسار الفكري يخضع لترتيب زمني منطقي، وإنما هو عبارة عن ارتدادات واستباقات يتداخل فيها الماضي بالحاضر وبالمستقبل. وكانت ذاكرة حماد-بين الفينة و الأخرى - تقفز إلى المدارس التي ارتادها بالمغرب قبل أن يلتحق بمصر. ولا يستدعى الفضاء إلا بالقدر الذي يجلي التحصيل التعلُّمي للمترجم له، ونمو قدراته الفكرية، واتساع رؤيته إلى الوجود بعد أن راكم تجارب معينة، وتوطدت علاقاته بأصدقاء وصديقات جدد.
سافر حماد إلى القاهرة سنة 1955 لمتابعة دراساته العليا لأن التعليم بالعربية في المدارس الحرة المغربية يتوقف عند عتبة الباكلوريا. فنسج مع علاء وبرهوم (الفرسان الثلاثة) علاقات متينة دامت خمس سنوات، ثم استمرت فيما بعد من خلال الصداقة والذكريات المشتركة. كان حلم حماد هو أن يصبح كاتبا، ولذلك تابع دراسته بشعبة الآداب. و هكذا يطلعنا على الأجواء الثقافية والسياسية التي كانت تجثم بثقلها على جامعة القاهرة. فإلى جانب دعاة التقليدية، بدأت تظهر كوكبة من الأساتذة الذين يبشرون بذائقة أدبية وفنية جديدة، ويعرفون طلبتهم بأسماء كانت، عندئذ، رائجة في سماء فرنسا ( سارتر، كامو، مورياك، أندريه جيد)، وتحظى بتقدير خاص عند طليعة النقاد العرب آنذاك. أما الجو السياسي العام فكان مفعما بالشعارات والخطابات القومية التي كان يصدع بها جمال عبد الناصر، خاصة بعد أن تألق اسمه لما أمم قناة السويس وأخفق العدوان الثلاثي في تحقيق أغراضه، مما نجم عنه تأجج شعلة المقاومة لدى الشعب المصري، واسترجاع العرب لنخوتهم واعتزازهم بالذات.



إن حماد -في جزء كبير من فكره-مدين بما متحه من معين الجامعة والثقافة المصريتين. لذا كرس بعض مجهوداته لرد الدين الذي يقر به إليهما. وكانت مناسبة تأبين طه حسين سنة 1973 أول فرصة يتناول فيها الكلمة بمبنى الجامعة العربية بوصفه ناقدا شابا يجرب أدوات المنهج البنيوي التكويني. وقد تركت المحاضرة صدى إيجابيا في متلقيها. ومنذ ذلك التاريخ غدا حماد علما معروفا في الأوساط الأدبية والفكرية، يستدعى في الندوات والمؤتمرات للإصغاء إلى وجهة نظره في زحزحة المفاهيم السائدة، وإبراز علاقة التخييل بالواقع، وتجريب أدوات جديدة في مقاربة النصوص الروائية. " أتساءل وأنا أستعرض في الذاكرة ندوات العشرين سنة الماضية وأجواءها الصاخبة والهادئة، عما إذا كان بالإمكان أن نتخذ منها مدخلا للتعرف على الحقل الثقافي داخل المجتمع المصري وأسئلته في هذه المرحلة الحرجة التي يحتد فيها الصراع خلالها بين ثقافة التنوير والتفتح على العصر، وبين ثقافة الارتداد الماضوية. أعرف أن ذلك لا يكفي، ولكن لدي اقتناعا بأن بعض العناصر المستخلصة من تلك الندوات وما رافقها من جدال قد تفيد في إعادة طرح علاقة المثقف المصري بالسلطة والديمقراطية والمجتمع المدني" ص173. ويقر حماد بأن ندوة الحداثة التي نظمتها مجلة فصول سنة 1984، تدشن منعطفا أساسيا في اهتمامات النقد والفكر المصريين، ولحظة تؤشر على مساهمة الثقافة العربية في إعادة صوغ أسئلة المجتمع والتاريخ والإبداع.



وضمَّن حماد محكياته نصوصا نقدية واصفة تهم تحليل كتابات مندور النقدية، وبمقاربته عينة من روايات نجيب محفوظ، وقصة اللعبة ليوسف إدريس، وقصة السمادير لجابر عصفور، وتثير أسئلة حول طبيعة الرومانيسك في روايتين لغابرييل غارسيا ماركيز ( مائة عام من العزلة و سجل موت معلن عنه)، وحول منزلة الصمت في كتابات صاموئيل بكيت، وحول قضايا عامة تهم الحداثة والرومانيسك واللغة والمنهج. و تبين هذه النصوص قدرة حماد على تفكيك النص وإصدار تأويلات منسجمة مع طبيعته ووظيفته. وما يجعل تحاليله النقدية منسابة ونفاذة هو عدم إثقالها بالمصطلحات، والمزج بين الموضوعي والعمومي، وبين الذاتي والخصوصي.



وتتخلل المسار الفكري ( أطوار التعليم، المقروءات والكتابات، النصوص النقدية، المناسبات الثقافية) بورتريهات عن شخصيات تعرف عليها حماد خلال إقامته بمصر، ثم حاول تتبع مصائر بعضها كلما عاد من جديد إلى القاهرة. ومن بين الشخصيات التي حظيت باهتمام حماد نذكر أساسا أم فتيحة، وسنية لطيفة، والست زينات.



و موازاة مع رحلة التحصيل العلمي والثقافي بدأت تجربة حماد الوجدانية والسياسية تفتح آفاقا وامتدادات جديدة. ففيما يخص تجربته الوجدانيه دفعه الفضول إلى اكتشاف القاهرة اللاهية والفاتنة، وبدأ ينزع أكثر إلى فهم الجنس اللطيف وتفجير رغباته الداخلية. وإلى جانب أن هذا الجنس يحظى بمكانة خاصة في قلب حماد، فهو يشغل لحظات متألقة في مخزون ذاكرته. فالأنثى تفتح شهيته للبوح بالكلام الجميل والمنساب، وتبعث استيهاماته من مراقدها. أما التجربة السياسية فتطبعها أحداث جسام ( تأميم قناة السويس، العدوان الثلاثي، استقلال المغرب، توتر العلاقة بين الدولة والتنظيمات اليسارية، هبَّة 1968م بفرنسا)، وشخصيات استثنائية ( على نحو جمال عبد الناصر والمهدي بنبركة). رغم اعتراف حماد بهفوات وسلبيات جمال عبد الناصر، فهو كان معجبا به لأنه فتح أفقا للتحرر، ومفتونا بخطبه خاصة بعد تأميم قناة السويس والصمود في وجه العدوان الثلاثي. وما كان يشد حماد إلى المهدي -إلى جانب انتمائهما إلى التنظيم السياسي نفسه الذي يضرب بجذوره في الحركة الوطنية- هو تعامله مع السياسة بوصفها عملا تنظيميا متواصلا ، وقدرته على العمل المتواصل يسنده حس تنظيمي جبار.



3-6- الكلام المشخص أدبيا:



نظرا لوعي السارد-المؤلف بأهمية تشخيص المجتمع واللغة أدبيا، فهو يحرص في كل أعماله التخييلية على تفريد الشخوص بالتركيز على أدائها الكلامي وتلفظاتها الفردية والاجتماعية. وبما أن ترجيعات وارتدادات الذاكرة مشدودة إلى العوالم التخييلية التي عاش حماد قسطا كبيرا منها بمصر، فقد تخللت فضاءات النص جزر من العامية المصرية الملئية بالتلميحات والاستعارات، والطافحة بالطرافة والفكاهة والتعليقات الساخرة. وهي - من خلال مختلف تجلياتها في الأغنية والصحيفة والشارع- تنسج ذاكرة مغايرة. من وظائفها ترميم شتات اللحظات الهاربة، وتكسير رتابة الأشياء والقوالب الجاهزة، واستعادة بعض ملامح الرومانيسك الذي اختزنته الذاكرة عن مصر. فإلى جانب أن حماد يبذل جهدا من أجل إعادة تنشيط ما ترسب في ذاكرته من وقائع وتجارب، فهو يحرص على إرفاقه بنبرات اللهجة المصرية، وفتنة تعابيرها، وسورة سخريتها.



ويلعب الكلام المُشخَّص دورا في تفريد الشخصية وتمييزها، وإبراز صورتها الاجتماعية وهويتها. فرغم وصفها وإبراز مهماتها، فإن معالم صورتها لم تتوضح إلا بعد أن انطلقت في كلام مباشر لتكشف عن مستواها الاجتماعي والثقافي، وتفصح عن إحساساتها ومواقفها وتجاربها، وتعرف بشخصيتها المرحة، والقوية المرنة.



فبين ثنايا لغة فصيحة ذات نكهة شعرية، تتناثر جزر من العامية المصرية أو مفردات باللغة الأجنبية. ونجم هذا الوضع اللغوي عن الرغبة في تشخيص كلام الشخوص المفرد أسلوبيا والمستقل نسبيا، واستثمار الأشكال الأدبية التي تَحْرف نوايا السار-المؤلف (استطرادات عالمة،والنقد)، و توظيف الأجناس المتخللة (القصة، الأغنية، قصاصة الأخبار) في سياقات جديدة محافظة على أصالتها الأسلوبية.



وما جعل السارد- المؤلف يحافظ على طراوة العامية المصرية ونبراتها، هو إقامته مدة طويلة بالديار المصرية وتردده عليها بين الفينة و الأخرى. ولم يتوخ منها ممارسة لعبة لفظية مجردة أو استنساخ الكلام المصري، وإنما أراد أن يشخصها بطريقة أدبية حتى تنكشف خلفياتها الإيديولوجية، و تصبح مفعمة بمقاصد " أجنبية" . وإن كان الكاتب لا يتفق معها، فهو يكسر بين ثناياها مواقفه الخاصة.



مما تقدم يتضح أن السارد-المؤلف اعتمد بشكل كبير على الذاكرة في سرد الوقائع، ورتق الذكريات المتفرقة عبر فضاءات متباعدة، وتخيل أحداث تتلاقح فيها الرغائب والاستيهامات بصيرورة التاريخ العام. وبالمقابل استعان بكتب (وهي المدرجة في آخر المؤلف) لمتح بعض الجوانب المتصلة بتاريخ مصر القديمة. ومع ذلك يجد القارئ صعوبة في تمييز الملفوظ الشخصي من " الملفوظ الأجنبي" لكونهما مذوبين ومنصهرين في سبيكة متراصة.



الخاتمة:



بعد تحليل هاتين العينتين يمكن أن نستنتج منهما بعض السمات التي يتميز بها التخييل الذاتي:



أ-المراسم الاسمية: لم يسم عبد القادر الشاوي الشخصية الرئيسة التي تضطلع، في الآن نفسه، بسرد الأحداث وبالدور الأساسي. كما أنه لم يسند لها أيه صفة جلية يمكن أن تحيل عليه شخصيا. تركها على عواهنها تسرد الوقائع ثم تشكك في مدى صحتها وسدادها. وفي مثل صيف لن يتكرر اتخذ محمد برادة شخصية حماد قناعا للتعبير عن قناعاته واستيهاماته بحرية وطلاقة والتحلل من القيود المفترضة. و كان يوقع مقالاته الصحفية في جريدة البلاغ المغربي بهذا الاسم المستعار إبان تضييق الخناق على حرية التعبير في منتصف الثمانينات بالمغرب. ونعاين في كلا الحالتين أن الكاتبين يضفيان طابع التخييل على هويتهما السردية، ويتخذان مسافة تلفظية تجاه ضعفيهما للتعبير عن مشاعرهما وأفكارهما واستيهاماتهما دون قيد، وترك تجربتهما الشخصية تنساب في شكل تداعيات حرة يمتزج فيها الحلم بالواقع.



ب- المراسم الجهية التخييلية: يعنى به "كل الوسائل التي يستعين بها المؤلف لتحديد السجل التخييلي لنصه، وكل العناصر التي يتوفر عليها لإثبات الطابع الخيالي لعمله والإعلان عنه"([33]). وبما أن عبد القادر الشاوي كان واعيا بعدم وجود جنس يمكن أن يستوعب تجربته التخييلية فقد آثر عدم تجنيسها، مفوضا هذه المهمة إلى القراء المفترضين. وبعد أن أصبح مفهوم التخييل الذاتي متداولا، وجده عبد القادر الشاوي ملائما لوسم عوالمه التخييلية من طينة دليل العنفوان ([34]). واحتار الناقدان ( محمد برادة وعبد الحميد عقار) في تصنيف النص داخل الخانة الجنسية المناسبة. فمرة يصنفه برادة ضمن الرواية ومرة ضمن السيرة التخييلية. واعتبره عبد الحميد عقار عملا سيرذاتيا منزاحا عن الميثاق السيرذاتي المألوف. إن هذا الارتياب والتردد في تجنيس النص يؤشر على ارتياد آفاق جديدة يتساكن فيها الروائي والتخييلي، ويحتم مقاربة النص ومعالجته بتصورات ومفاهيم جديدة. وفي السياق نفسه، جنس محمد برادة عمله ضمن المحكيات وليس ضمن السيرة الذاتية رغم تبنيه لمشروعها ظاهريا، وذلك حرصا منه على تأكيد طابعه التخييلي، والتدليل على أن " واقعية الأحداث" لا تحول دون إضفاء أبعاد تخييلية عليها.



ج-ضمير الغائب: إلى جانب اتخاذ محمد برادة قناع حماد لسرد تجربته بطريقة غير مباشرة، فهو قد استخدم ضمير الغائب للتحدث عن ذاته " كما لو كانت شخصا أجنبيا أو إنسانا آخر"([35]). ولم يكتف محمد برادة بذلك بل فوض هذا "الشخص الآخر" للتحدث باسمه الشخصي، مستعملا ضمير الغائب الذي يجرد الملفوظ من أثره الواقعي. وهو ما عبر عنه إميل بنفنست في هذا القول الموحي بدلالات عميقة :" ليس ضمير الغائب شخصا وإنما هو الشكل اللغوي الذي يضطلع بوظيفة التعبير عن " اللاشخص"([36]).



د-التردد: يتجلى في التباس الأنا بغيره على القارئ. إن إضفاء الكاتب الطابع التخييلي على ذاته، متوسلا صيغا وطرقا مختلفة، يربك القارئ في تحديد هويته السردية، ويجد نفسه كما لو كان يخاطبه بهذه العبارة الملتبسة: " أنا وليس أنا". هل حماد هو برادة نفسه؟ فيم يتشابهان ويختلفان؟ أسارد الجزء الأول أكثر ارتباطا بعبد القادر الشاوي وتعبيرا عن مواقفه الحقيقية أم سارد الجزء الثاني؟ ولم شكك السارد في صدقية الأحداث المروية؟ إن هذا التردد بين الأنا والأنا الآخر يجعل القارئ مشككا في صحة ما يُروى، ومحتارا في تمييز الواقعي من الخيالي ،والحقيقي من الوهمي، ومرتبكا في أخذ ما تُعرض عليه من معطيات وحقائق مأخذ الجد.[37]



----------------------------------------------------------
الهوامش



[1] -Vincent Colonna , L'autofiction ( essai sur la fictionnalisation de soi en littérature) , Doctorat de l'E.H.E.S.S , 1989, sous la direction de Gérard Genette, Ecole des Etudes en sciences sociales(360 p).
[2] -«L'initiative aux maux. Ecrire sa psychanalyse » en 1979 et « Autobiographie/ Vérité/psychanalyse » en 1980, ibid p17.
[3]-ibidp329.
[4] -ibidp332.
[5]قولة مأخوذة من كتاب : تزفتان تودورف ، مدخل إلى الأدب الفانطاستيكي(1970، ص16)، المرجع نفسه ص33.
[6] id p 336
[7] -Ibid p337.
[8] - Marie Darrieussecq , « L' autofiction, un genre pas sérieux », Poétique n° 107, septembre,1996, pp369-980.
[9] -ibid p 373.
[10] -Laurent Jenny , « L'autofiction », http://www.unige.ch/lettres/framo/enseignements/methodes/autofiction/index.htm ( Fabula 2003).
[11] Jacques Lecarme et Eliane Lecarme-Tabone, « L'autofiction » in L'autobiographie, Armand Colin/Masson ,Paris,1997 ,pp 267-282.
[12] -































اسم الكاتب!


الميثاق



# اسم الكاتب



=0



= اسم الكاتب



 الروائي



1 أ الرواية



2 أ الرواية



///////////////////////////////////



=0



1 ب الرواية



2ب غير محدد



3أ السيرة الذاتية



السيرذاتي



/////////////////////////////////



3 ج السيرة الذاتية



3ب السيرة الذاتية





جدول أنجزه فليب لوجون 1975. يوجد في المرجع نفسه ص268.
[13] - يوجد صنفان من النصوص الواصفة. ما يصطلح عليه ب (Le péritexte)وهو المقصود في السياق، ويعنى به كل ما يحيط بالنص ويحيل إليه مباشرة ( على نحو عناوين الفصول، الإحالات، التصدير، كلمة الناشر..). وما يصطلح عليه ب(L'épitexte) ويعنى به كل ما يشكل امتدادا للنص. ( على نحو حوارات الكاتب ويومياته وتعليقاته). وفيها يثبت الكاتب أن "فلانا هو أنا".
[14] - نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :

-Guibert Mes Parents,Ernaux La place -une femme-Passion simple, Barthes Roland Barthes par Roland Barthes, Céline D'un château l'autre , Nord,Rigodon, Doubrovsky Fils, Un amour de soi -Le livre brisé-L'après-vivre, Perec W ou le Souvenir d'enfance-Je me souviens ,Queneau Chêne et chien , Robbe-grillet Le miroir qui revient-Angélique , Semenon Les trois Crimes de mes amis..ect.
[15] - Jacques Lecarme et Eliane Lecarme-Tabone, « L'autofiction » , op.cit p277.
[16] -ibid p279.
[17]-Philippe Lejeune , « Autofiction & Cie . Pièce en cinq actes» ( Colloque de Nanterre les 20 novembre 1992) sous la direction de S. Doubrovsky, J.Lecarme er P.Lejeune, RITM 6, Université Paris x, 1993 , pp5-16.
[18] - يمكن أن نثمثل، في هذا الصدد، بكتاب مدخل إلى الأدب الفانطستيكي لتزفتان تودورف (1979)، وبالحكي الشعري لإيف تاديي(1978)، وبالرواية ذات الأطروحة لسوزان سليمان (1983 )، وبشعرية السيرة الذهنية لمحمد الداهي (2000).



[19] Autobiographie fictive, déguisée, mensongère,rebelle , mythobiographie.
[20] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، منشورات الفنك، البيضاء، ط1، 1989.
[21] - محمد برادة، " دليل العنفوان: تحويل السيرة إلى تخييل والتذكر إلى تجربة"، في : فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة ، المغرب، ط1، 2003، ص/ص 266-267.
[22] - عبدالحميد عقار، " الكتابة وسؤال الكينونة قراءة في دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي"، مجلة المساءلة، العدد2-3، 1992،ص-ص13-16.
[23] -محمد برادة، " دليل العنفوان: تحويل السيرة إلى تخييل..."، م,سا، ص266
[24]- Ph. Hamon , « Statut sémiologique du personnage » in Poétique du récit, Seuil,1977,p 122.
[25] -محمد برادة، لعبة النسيان، ط1، دار الأمان، 1987.
[26] - محمد برادة، مثل صيف لن يتكرر، الفنك، 1999.
[27] - لما قدم العمل إبان صدوره في مكتبة كليلة ودمنة بالرباط أثبت محمد برادة ،في رده على بعض التدخلات، أنه ( العمل) يندرج في إطار التخييل الذاتي.
[28] -جورج ماي، السيرة الذاتية، تعريب محمد القاضي وعبد الله صولي، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، بيت الحكمة، قرطاج، 1992،ص90.
[29] -المرجع نفسه ص 39.
[30] -- يعود مفهوما ( النسيان المتعمد والنسيان الطبيعي) إلى أندريه موروا، انظر إحسان عباس، فن السيرة، دار الثقافة، ط5، 1981، ص113.
[31] -المرجع نفسه ص 114
[32] - جورج ماي، السيرة الذاتية، م.سا، ص/ص85-86
[33] - Vincent Colonna , L'autofiction ( essai sur la fictionnalisation de soi en littérature), op.cit p156


[34] - نخص بالذكر العملين اللذين جنسهما عبد القادر الشاوي ضمن التخييل الذاتي: دليل المدى ( تخييل ذاتي)، نشر الفنك، 2003، من قال أنا ( تخييل ذاتي)، نشر الفنك، 2006
[35] - Vincent Colonna , L'autofiction ( essai sur la fictionnalisation de soienlittérature),op.cit,p207.
[36]-Ibid
p208.



 


 




 





     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009