يشكل التطويع خطرا على العلاقات البشرية لكونه يعد تاثيرا سلبيا وعملا عنيفا لتعكير صفوتها وتدميرها. وهو -على عكس الفعل التواصلي النبيل ( ما فتئ يورغان هابرماس يلح عليه في مشروعه الحداثي)-يستثمر الكذب المنظم أو الكذب النبيل لإخضاع الآخر وخدعه.
ويمكن أن نمثل في هذا الصدد بمناورات المحافظين الجدد لغزو العراق بدعوى علاقة صدام حسين بالقاعدة وتوفر بلاده على أسلحة الدمار الشامل.وارتأينا في هذا المقال توعية الرأي العام بخطورة التطويع في العلاقات الإنسانية والدولية:
عندما يصادف المطوِّع ضحيته الجديدة ينحني لمفاجأته بالعثور على شيء ثمين ملقى على الأرض. يظهره للشخص مدعيا ما يلي: " واعجباه! انظر ..إنه خاتم `من ذهب. على ما يبدو خاتم قران..ربما ضاع لإنسان مر من هنا.."، ثم يسترسل في حديثه:" إنه خاتم ثمين وقيِّم..ينبغي تسليمه لمفوضية الشرطة"، ثم يواصل حديثه:" يتعذر علي الذهاب إليها لأنني أجنبي ، ولم تسو وضعيتي بعد من الناحية القانونية". يضع الخاتم في يد الشخص، ويقترب منه أكثر ليرفع يده هامسا له بما يلي: " سأجازيك لأنك جدير بذلك..يمكن لك أن تأخذ هذا الخاتم مقابل عشرة أورو.." نادرا ما ترفض الضحية هذا الاقتراح"([1])
********
1-الإخفاء(La dissimulation):
-يختار المطوِّع ضحاياه بإمعان وتؤدة. فهو يعرف بالتجربة والحدس طينة البشر الذين يمكن أن تنطلي عليهم حيله وخدعه دون عناء.
-يخفي المطوَّع على ضحيته بأنه ألقى الخاتم إلى الأرض، ويتظاهر أمامها بأنه عثر عليه، ويبين لها أن هذا الخاتم هو " صيد ثمين" لطبيعة معدنه ( الذهب) وغلاء ثمنه.
الظاهر(La paraitre)= خاتم قران من ذهب، باهض لا يقدر بثمن.
الكينونة(l'être)= إلقاء المطوِّع خاتما مزيفا إلى الأرض لاقتناص ضحاياه وإيقاعهم في شركه.
2-العنف الذهني(La violence mentale):
-يلجأ المطوِّع إلى ألاعيب وحيل لخدع الآخر وحفزه على تصديق مزاعمه.
-يتظاهر المطوِّع ، في البداية،بحمل الخاتم إلى مركز الشرطة لإخفاء ما يجول في طويته، وكسب مودة مخاطبه وثقته، وإبراز له صدق سريرته ونواياه وحسن ظنه، ثم يستدرك بطريقة مرنة معتذرا له عن تسليم الخاتم إلى الشرطة بالإفصاح عن مزاعم وهاية.
- وهو- من خلال كل هذه العمليات الذهنية والنفسية، يمارس عملا عنيفا ومكرها على المطوَّع(manipulé) لحضه على تصديق مزاعمه، ومجاراة خططه بطريقة عفوية وتلقائية.
3-حرمان الآخر من الحرية
-لم يتح المطوِّع لمخاطبه أدنى فرصة للتفكير فيما يُعرض عليه من حلول واقتراحات. لقد طوقه وباغته بعبارات منتقاة تسعفه على تغليط مخاطبه، وإيقاعه في الأحبولة المعدة له سلفا، وتدبير خططه وتنفيذها على الوجه الأحسن وضمان لها النجاح المتوقع.
-ومما يبين للمطوِّع حدسيا أن خططه تسير في الاتجاه المرسوم لها هو أن المطوَّع يتجاوب معه تلقائيا، ويذعن وينقاد له ، بالكلية، كما لو كان جثة هامدة ( وضع الخاتم في يده ورفعها دون أن يصدر عنه أي رد فعل سلبي).
تنتهي الواقعة -وفق منطقها السردي- بما يلي:
- يتمكن المطوِّع من بيع الخاتم المزيف للمطوَّع بثمن عشرة أورو، وهو ما سيزيده ثقة بنفسه ، ويجعله مزهوا بمؤهلاته الذهنية واللغوية، ومعجبا بشطارته ودهائه في تدبير الخطط وإخراجها من القوة إلى الفعل بفاعلية ونجاح.
- يعتقد المطوَّع أنه ربح الرهان بشراء خاتم ذهبي بثمن بخس. ولما سيتباهي به أمام أقاربه أو أصدقائه سيكتشف أنه كان ضحية مؤامرة دبرها له مطوِّع شاطر( شراء خاتم مزيف بثمن باهض!).
----------------------------------------------------------
[1] -النص مترجم والمفاهيم الثلاثة مستعارة من كتاب:
Philippe Breton : Convaincre sans manipuler, apprendre à argumenter, la découverte ,Paris,2008,pp31-33.
ترددنا في ترجمة كلمة التطويع(Manipulation) بكلمات تعني المعنى نفسه تقريبا (التسخير والتدجين والتضليل والتلاعب ). لكننا، في الأخير، آثرنا كلمة التطويع لكونها تفي بالمقاصد المضمنة في الكلمة الأجنبية: يراهن المطوع، من خلال شطارته ودهائه، إلى جعل الآخر أداة طيعة بهدف تحقيق مأربه الشخصية.