|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
اللسانيات العربية- حوار مع د. مصطفى غلفان/أجراه محمد الداهي
د.مصطفى غلفان باحث في مجال اللسانيات العربية، حاصل على دكتوراه الدولة في اللسانيات من جامعة الحسن الثاني. عضو في كثير من الهيئات العلمية، له كثير من الدراسات العلمية. من مؤلفاته: اللسانيات العربية الحديثة: دراسة نقدية في المصادر والأسس النظرية (1998)، اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة: حفريات في النشأة والتكوين(2006)،في اللسانيات العامة (2010). وفيما يلي حوار أجراه معه زميله محمد الداهي في كلية الآداب-عين الشق لبيان منزلة اللسانيات العربية وطبيعتها ووظيفتها. س-أصبحت اللسانيات اليوم تشغل صدارة العلوم الإنسانية وتستأثر باهتمام النظريات التواصلية والإعلامية.لم هذا الاهتمام المتزايد باللساني ؟ ج- أود في البداية أن أتوجه بالشكر لزميلي الأستاذ محمد الداهي على هذه الالتفاتة الكريمة من خلال هذا الاستجواب الذي شرفني به على مجلة حوار العرب الغراء . يمكن القول بأن كل الثقافات والحضارات القديمة والحديثة أولت للبحث اللغوي(أيا كانت التسمية) عناية خاصة ضمن أنماطها التفكيرية وذلك حسب مرجعيتها الفكرية وظروفها التاريخية والاجتماعية الخاصة بها.بالنسبة للعصر الحديث يمكن القول بأن صدارة اللسانيات لها عواملها الموضوعية والتاريخية لا سيما في الفكر الغربي. ويمكن القول بأن ازدهار اللسانيات وتطورها في القرنين الثامن والتاسع عشر ارتبط أساسا بالتوسع الأوروبي سياسيا واقتصاديا.كانت معرفة الآخر تمر حتما عبر لغته."اللغة مفتاح العقلية ومفتاح ثقافة الشعوب وملامحها المادية والمعنوية. ولهذه الأسباب ارتبط نمو اللسانيات بالأبحاث الأنتروبوجيا والفيلولوجيا والأركيولوجيا وتاريخ الثقافات والأديان وما شابه هذه المعارف التي تلعب فيها اللغة دورا مركزيا للكشف عن البنيات الذهنية للشعوب الناطقة بها. راهنا انتقل هذا الاهتمام باللغة إلى المجتمعات الغربية ذاتها حيث تلعب اللغة دورا هاما في التأثير السياسي والاقتصادي (الدعوة إلى الاستهلاك عن طريق الإشهار السمعي البصري). وأخيرا تعتبر اللغة قطب الرحى في العلوم الإنسانية وكل تحليل علمي للظواهر الإنسانية لا بدله من المرور عبر اللغة.ألا يقال بأن الإنسان كائن ناطق ؟ فاللغة تلعب اليوم كما بالأمس دورا حاسما في تواصل المجتمعات والشعوب. وبواسطة اللغة المكتوبة والمسموعة يمكن القيام بمجموعة من الأمور التي لا تستطيع أي وسيلة رمزية أخرى القيام بها. وقد زاد من الاهتمام باللغة ما كشفت عنه الأبحاث اللغوية في مستويات مختلفة ومتعددة من بيانات مذهلة حول سيرورة اللغو عند الإنسان سواء في بعده الفردي أو الجماعي. هذه العوامل متفردة أو مجتمعة وبدرجات متفاوتة الأهمية خلقت اهتماما محوريا باللغة والبحث فبها خلال العصور الماضية..ونحن نعرف أن لكل عصر أو مرحلة زمنية اهتماماتها الفكرية الخاصة بها. فالحقبة اليونانية حقبة فلسفية بامتياز، والقرن الثامن والتاسع عشر كانا قرني التحولات العلمية الكبرى لا سيما في الرياضيات والفيزياء بامتياز. أما القرن العشرين فهو قرن الإنسان بكل أبعاده ومن بينها البعد اللغوي الذي هو المدخل الحقيقي لباقي الأبعاد. س- لا تذكر منجزات العرب في التأريخ اللساني بما يحدث قطيعة في تسلسل التاريخ الإنساني. ما هي خلفيات هذه الثغرة العربية في تاريخ اللسانيات؟ ولماذا لم تجد اللغة العربية بوصفها نمطا لغويا حظها عند استعراض اللسانيين لنماذج اللغات في العصر الحديث؟. ج- من المعروف أن إشكالية التأريخ في العلوم عامة وفي العلوم الإنسانية بصفة خاصة مسالة معقدة سواء من الناحية النظرية أو المنهجية. فليس هناك طريقة متفق عليها لكتابة تاريخ أي علم كيفما كانت طبيعته.وفي كل الكتابات التاريخية يتعايش الذاتي والموضوعي. إن كتابة التاريخ عموما هي كتابة ذاتية. إنها نوع من الإسقاط لأنها تنطلق من إطار وأدوات معرفية مختلفة في الزمان والمكان.إ ن مؤرخي كل حقبة يدونون التاريخ ويفهمونه انطلاقا من وجهة نظرهم وهو ما يعني أننا نكتب التاريخ كما نريده. نحن نخلق التاريخ لاحقا على نمط تفكيرنا كما يقول جورج مونان.وبالفعل فإن تاريخ الفكر اللساني الإنساني وهو التاريخ الذي كتبه الغربيون لا يعطي للفكر اللغوي العربي حقه التاريخي.مثلا خص بلومفيلدBloomfield في كتابه اللغةlangage الصادر سنة 1933 الفكر اللغوي القديم عامة بما يقارب خمس عشرة صفحة لم يكن نصيب الفكر اللغوي العربي القديم منها أكثر من سطرين أشار فيهما إلى أن العرب وضعوا على أسس قديمة(إشارة إلى تأثير الهنود واليونان على العرب) نحوا للشكل التقليدي للغة كما ظهرت في القرآن ، وأن اللغويين العبرانيين ساروا على نهج العرب في التأليف والتحليل اللغوي.[1]مؤلف آخر هو موريس لوروا Maurice Leroy في كتابهLes grands courants de la linguistique الصادر بباريس 1963 لا يشير للفكر اللغوي العربي لا من بعيد ولا من قريب وهو يعرض للفكر اللغوي القديم قبل ظهور اللسانيات.ورغم أن كتاب "اتجاهات البحث اللساني"Trends in linguistics لميلكا إيفيتش Milka Ivicالصادر سنة[2]1965 يعتبر من أهم الكتب التي رصدت بنوع من التدقيق والتفصيل تطور مسار الفكر اللغوي في مختلف الثقافات قبل ظهور اللسانيات، فإنه لم يخرج عن المألوف من الآراء الجاهزة و المختصرة التي كونها الغرب عن الفكر اللغوي العربي القديم. و تختصر صورة البحث اللغوي العربي القديم في كون العرب قد ساروا في تقاليدهم النحوية على خطى النحاة واللغويين الإغريق. وأعتقد أن مرد هذا الإهمال راجع إلى اختلاف أسس الثقافة العربية الإسلامية عن نظيرتها اليونانية في مجال اللغة والإشكالات التي عالجتها كل ثقافة على حدة. ويجب كذلك أن لا ننسى في هذا المقام اختلاف طبيعة اللغة العربية كلغة سامية عن غيرها من اللغات اللاتينية واليونانية والأنكلوساكسونية. وفي العصر الحديث لعبت العلاقة السياسية (المستعمر والمستعمر) بين الشرق والغرب دورها في هذا التجاهل المتعمد.غير أن عدم اهتمام اللسانيات بالفكر اللغوي العربي لا يقلل من شيء في قيمة الأدبيات اللغوية العربية. واهتمام الباحثين المستشرقين باللغة العربية وإشادة الكثير منهم بالعقل اللغوي العربي يبين قيمة هذا الفكر. وكتب تاريخ اللسانيات في الغرب لم تهتم بكثير من الثقافات اللغوية الأخرى كما حصل مع الهنود في القديم أو مع بعض اللسانيين المحدثين الذين كان لهم دورا رياديا في تاسيس اللسانيات الحديثة مثل بدوان دو كورتناي Beaudoin de Courtenay الذي كان سباقا لما قال به سوسور ومع ذلك أغمض هذا الرجل حقه ولم يلتفت لقيمة آرائه إلا مؤرخا. س- في كتابكم الموسوم ب"اللسانيات العربية الحديثة : دراسة نقدية في المصادر والأسس النظرية والمنهجية من منشورات كلية الآداب عين الشق الدار البيضاء 1998 تستعملون تارة عبارة "الكتابة اللسانية " وتارة عبارة " اللسانيات العربية .ألا تشاطرونني الرأي أن العبارة الأولى أكثر ملاءمة من العبارة الثانية لكونها لا تصدر عن تأويل إيديولوجي أو حكم قيمي ؟ ج - اسمح لي بأن أقول لك بأني لا أشاطرك هذا الاستنتاج وليس في كتابي ما يشير إليه. ولكي أوضح لك استعمالي لهاتين العبارتين أقول لك بأن المقصود بالعبارة الأولى(الكتابة اللسانية العربية) وهو العنوان الأصلي لأطروحتي التي اجتزئ منها الكتاب الذي تفضلت بذكره، هو مجموع الأدبيات اللسانية المكتوبة باللغة العربية في الأقطار العربية من كتب ومقالات وأطاريح جامعية. أي باختصار وببساطة الإصدارات العربية الحديثة في مجال اللسانيات أو ما اعتبر من أصحابه كذلك. والعبارة بهذا المعنى يمكن أن ترادف مصطلح الخطاب الذي لم استعمله لضبابيته والتباسه. أما عبارة اللسانيات العربية Linguistique arabe على غرار لسانيات أخرى مثل اللسانيات الفرنسية أو الانجليزية فليس فيها أي هاجس إيديولوجي كما تقول. وقد استعملتها بنفس الدلالة التي نجدها عند كثير من الدارسين العرب أمثال الأستاذ الفاسي الفهري وأحمد المتوكل وسعيد مصلوح الذي له كتاب بعنوان "دراسات نقدية في اللسانيات العربية المعاصرة" وغيرهم. "اللسانياتالعربية هي إذن كل ما يكتب في اللسانيات باللغة العربية سواء تعلق الأمر باللسانيات العامة أو لسانيات العربية أو لسانيات أية لغة من اللغات الطبيعية. ويذهب باحث آخر(مازن الوعر من سوريا) إلى نفس الفهم والتقسيم مميزاً بين "التفكيرالعربي اللساني" و "التفكير اللسانيالعربي". هذا الباحث يدعو إلى التفكير العربي اللساني وليس التفكير اللساني العربي لأنه ينبغي أن نُكَوِّن ونشكل فكراً عربياً في اللسانيات وليس فكراً لسانياً نفرضه على اللغة العربية. ومن المفيد أن الكتابة اللسانية واللسانيات العربية تتميز منهجيا عما نسميه لسانيات العربية أي اللسانيات التي تشتغل باللغة العربية موضوعا لها، أقصد اللغة كبنيات أو مستويات صوتية صرفية تركيبية إلخ... وكما تلاحظ معي الهاجس الحقيقي وراء استعمال هذه التسميات هو الهاجس النظري والمنهجي وليس شيئا آخر.وبالرجوع لهذا الكتاب وللأطروحة هو الرغبة المنهجية في تقويم التجربة اللسانية في الثقافة العربية الراهنة من خلال طرح بعض التساؤلات من قبيل : * كيف وعى اللغويون العربالمحدثون مبادئ اللسانيات العامة وفرضياتها ونماذجها النظرية؟ * كيف تم توظيف كل هذه الأمور وتطبيقها في دراسة مختلف جوانب اللغةالعربية؟ * كيف تم نقل كل ذلك للقارئ العربي متخصصا كان أم قارئا عادياً؟ هذا هو المنطلق وليس شيئا آخر. س- يندرج تصوركم اللساني في إطار التحليل النقدي الذي يسعى إلى مساءلة الأسس النظرية والمنهجية للسانيات العربية. لم تبنيتم هذا الاختيار المنهجي ؟ما الاعتبارات المعرفية التي تحكمت فيه وما هي النتائج التي توصلت إليها بواسطته؟ ج - أعتقد أن المشكل الحقيقي الذي يواجهنا في الثقافة العربية على كافة المستويات هو استمرار النقاش في موضوع الأصالة والمعاصرة. صحيح أن لهذا الموضوع - الإشكال أهميته وقيمته. ولكن إلى متى سنستمر فيه ؟وما البدائل المطروحة؟ من هذا المنطلق نجد كثيرا من الكتابات اللسانية العربية أو الخطاب اللساني العربي(ولم أقل اللسانيات العربية ) تعرض لهذه الإشكالية والمتمثلة في السؤال التالي :كيف نتعامل مع الموروث اللغوي العربي وما دوره في علمية التحديث اللساني للغة العربية ؟إن القراءات التي تشيد لدرجة التمجيد بالتراث اللغوي العربي القديم من جهة وتلك التي تسقط في أحضان اللسانيات بنوع من العمى الفكري لا تخدم الفكر اللساني العربي .الأولى تقليدية تراثية والثانية مستلبة ليس لها واقعيا أي تأثير. وللخروج من دائرة نقاش عقيم حول علاقتنا باللسانيات ، كان من الضروري تغيير تعاملنا مع هذا الإشكال والانطلاق من أرضية منهجية مضبوطة ومحددة للأسس البحث اللساني في صورته العامة وهي أسس لا يختلف حولها من يشتغل باللسانيات .ما هي الخصائص النظرية والمنهجية التي تسم الخطاب اللساني عامة؟ ما صورة هذه الخصائص وشكلها تأويلا ووظيفة في الخطاب اللساني العربي . فمساءلة الأسس النظرية والمنهجية من شأنها أن تعري واقع خطابنا اللساني الذي قال عنه الأستاذ الفاسي الفهري بأنه خطاب هزيل . وأعطيك مثالا بسيطا على هذا التباين الحاصل بين الخطاب اللساني العام ونظيره العربي .فمن المعروف لدى جميع الدارسين اللسانيين بمختلف مشاربهم النظرية والفكرية أن موضوع اللسانيات هو اللسان في حد ذاته ومن أجل ذاته على حد قول سوسور. ونجد الفكرة نفسها عند شومسكي حين يقرر أن القدرة اللغوية Compétence هي الموضوع الوحيد للسانيات، وعند غير شومسكي قد تكون القدرة تواصلية وهكذا .بصفة عامة، الموضوع الذي يشتغل به وعليه هو اللغة أيا كانت التسمية(لسان شفرة/ قدرة/ خطاب/ نص) . لكن في الكتابة اللسانية العربية ، إلا في حالات نادرة ، ينصب اهتمام اللسانيين العرب على أمور أخرى تتمحور حول إشكالية قراءة الفكر اللغوي العربي القديم في ضوء ما هو لساني حديث..ليس لي اعتراض على توظيف اللسانيات في قراءة الفكر اللغوي العربي القديم ولكن هذا النوع من العمل اللساني يغيب الواقع اللغوي الذي ينبغي الاهتمام به في الدرجة الأولى وهو اللغة العربية كبنيات. هذا هو التحليل اللساني الحقيقي. أما بالنسبة للنتائج التي توصلت إليها فهي واضحة وهي أن جل الكتابات اللسانية العربية لا يمكن أن تندرج في إطار التحليل اللساني بمعناه الدقيق وهذا هو البون الشاسع بين اللسانيات عندنا واللسانيات عندهم. س- سعيتم إلى خلق مسافة نقدية مع الموضوع ومقاربته بطريقة موضوعية معتمدين على مفاهيم من قبيل النقد المزدوج (عبد الكبير الخطبيي) والقواعد المعيارية والقواعد المؤسسة (سورل).ألا ترون أن ذاتية الباحث في مجال العلوم الإنسانية تنعكس أحيانا في ثنايا ما يكتبه ؟ أ يمكن أن تضطلعوا بنقد النقد أو النقد الواصفmétacritique على بعض النتائج التي توصلت إليها في أطروحتكم عن اللسانيات العربية الحديثة ؟ ج- الذاتية موجودة في العلوم الإنسانية كما في العلوم البحث. والذاتية لا تفارقنا لأنها مرتبطة برؤيتنا للأشياء سواء تعلق الأمر بالحياة الخاصة العادية أو بالحياة العلمية .والمهم أن لا تخرق هذه الذاتية قواعد المعرفة العلمية المتعارف عليها بصفة عامة وليس بصفة تامة.ولم يكن غرضي من تقويم الكتابة اللسانية العربية إصدار أحكام قيمة ذاتية في حق هذه الكتابة أو تلك ،سلبا أو إيجابا إن ما نطمح إليه هو وضع لبنات منهجية محددة لتحليل الكتابة اللسانية العربية تحليلا موضوعيا يمكن من إبراز إمكانياتها النظرية داخل حقل اللسانيات العالمية، وبالتالي إعطاء الخطاب اللساني العربي نوعا من المصداقية بعيداعن كل أشكال الصراع المذهبي أو الشخصي. أما بالنسبة لما أسميته بنقد النقد أو النقد الواصف أقول لك بكل صدق أنني لا أدعي تقديم عمل نهائي تام فدراستي لا تدعى أكثر من كونها مدخلا منهجيا للسانيات العربية الحديثة متمنيا أنيقوم غيري بتعميق ما هو جدير فيها من أفكار واقتراحات اكتفيت في كثير من الحالات نظراً لطبيعة المقام بعرضها دونما دخول فيالتفاصيل والجزئيات و بإمكانها أن تشكل مقدمة عامة لرؤية منهجية تتجاوز حدد النقد القائم على المجاملات أو السب والشتم. إن تقويم ما يكتب في اللسانيات العربية ينبغي أن يستند إلى أسس نقدية واضحة المعالم تنطلق من طبيعة الدرس اللساني نفسه لا من خارجه. إن التحليل النقدي يجب في نظري أن يركز اهتماماته على المردودية النظرية والمنهجية للأعمال اللسانية العربية القائمة على اختيار نماذج لسانية محددة سواء في إطار تطبيقها على اللغة العربية أو في إطار تقديمها للقارئ العربي كثقافة جديدة يمكن الاستعانة بها في مجالات فكرية أخرى دون مزايدة أو تحريف أو تلاعب بالمفاهيم . س- مرت سيرورة الخطاب اللساني العربي الحديث بمرحلتين وهما الخطاب اللغوي النهضوي والخطاب اللساني المعاصر .ما السمات العامة التي تحكمت في كل خطاب على حدة ؟ ج- بالفعل عندما ننظر في الكتابات اللسانية العربية يمكننا أن نميز بين خطابين: خطاب لغوي نهضوي ويشمل كل الكتابات اللغوية التي ظهرت في الفترة الممتدة ما بين بداية النهضة العربية ومنتصف القرن العشرين .غير أننا إذا قمنا بفرز مصادر هذا الخطاب اللغوي النهضوي وحددنا سماته النظرية والمنهجية وجلونا أهدافه وحللنا نتائجه، تبين لنا أن هذا الخطاب مازال قائماً في كثير من الكتابات اللغوية العربية المعاصرة.ويتسم الخطاب اللغوي النهضوي بجملة من السمات والملامح الفكرية العامة نذكر منها: - انخراطه في الإشكالات الكبرى التي عرفها لفكر العربي الحديث، وهوما جعله يهتم أساساً بقضايا لغوية تتعلق بدور اللغة في النهضة العربية سياسياً و فكريا ًواجتماعيا.ً -استناده إلى بعض المصادر والأفكار التي جاء بها المنهج التاريخي المقارن في أوروبا. - ترويجه لمجموعة من الأفكار حول طبيعة اللغة العربية واعتبارها لغة فوق اللغات البشرية سواء من حيث بنيتها العامة أو من حيث نشأتها وتطورهاعبرالتاريخ -إدماجه لاعتبارات غير لغوية في تحليلاته ومواقفه النظرية من خلال تأكيده المستمر على الدور الحضاري والثقافي للغة العربية. -إعادة إنتاجه لقواعد النحو العربي القديم شرحاً واختصاراً. ويندرج عملياً في هذا الخطاب كتابات لغوية ظهرت في ظروف حضارية خاصة تتعلق بالنهضة العربية ومستلزماتهاالفكرية مثل إحياء اللغةالعربية وتراثها أولا تم إنماؤها وجعلها مسايرة لمتطلباتعصر النهضة الجديد وحاجياته اللغوية. أما الخطاب اللساني فنقصد به ذلك الخطاب الذي تعكسه الكتابات اللغوية التي تستند نظرياً ومنهجياً للمبادئ التي قدمتها النظريات اللسانية في مختلف اتجاهاتها الأوروبية والأميريكية في إطار ما أ صبح يعرف باللسانيات العامة. س- تصب الكتابة اللسانية العربية في ثلاثة اتجاهات :اتجاه بنيوي وصفي واتجاه توليدي تحويلي واتجاه تداولي وظيفي . ما العايير التي تحكمت في هذا التصنيف ؟وفيم يتميز كل اتجاه عن الآخر؟ ج - هذه الاتجاهات التي ذكرت ليست من وضع اللسانيين العرب وإنما هي معروفة في إطار اللسانيات العامة عبر تاريخها منذ سوسور إلى اليوم . ما قمت به في هذا السياق هو فرز أبرز وأهم الكتابات اللسانية العربية الحديثة وفق هذه الاتجاهات. أما ما يميز كل اتجاه على حدة فهذا موضوع لا يمكننا أن نأتي عليه كله في هذا اللقاء المتعلق باللسانيات العربية أساسا. س- ما الفوائد التي جناها الدرس اللساني العربي من مختلف الاتجاهات اللسانية ؟ ج- يمكن النظر إلى سؤالك من زاويتين: الزاوية النظرية المحضة. و يمكن أن نقول أن الثقافة العربية الحديثة استفادت الكثير من اللسانيات فقد نقلت وترجمت كثير من الأعمال اللسانية أو كتبت رأسا باللغة العربية .من ناحية السرد النظري هناك مجهود يشكر عليه أصحابه حتى ولو بدا أحيانا صعبا ومستعصي الفهم على المتخصص وغير المتخصص ، وفي بعض الجامعات العربية تخصصات لسانية متقدمة، وهذا إيجابي في حد ذاته، يبين أن اللغة العربية قادرة على أن تكون لغة العلم كما كانت دائما... الخ. لكن من الزاوية العملية أي المردودية اللسانية المباشرة في مقاربة اللغة العربية ، يمكن القول بأننا ما زلنا لم نراوح مكاننا .فالدرس اللغوي العربي مازال تقليدا وتعليم اللغة العربية لأبناءها ولغير الناطقين بها ليس فعالا ، ولا يأخذ بنتائج تدريس اللغات وفق مبادئ اللسانيات العامة .كما أن تصورات المهتمين باللغة العربية عامة ما تتغير. ما زلنا ندرس النحو بأساليب عتيقة شكلا ومضمونا .هذا الوضع المتباين بين النظري والعملي يدعونا إلى التفكير جيدا في وضع اللسانيات ووظيفتها في الثقافة العربية الحديثة. ما هو دورها وما هي قيمتها بالنسبة لنا؟. يجب أن لا يفهم من هذا الكلام أنني ضد النحو أو ضد تدريسه ولكني أريد أن أؤكد على أن مقاربة اللغة العربية لسانيا ما زال محصورا في مقالات متخصصة لا يعرفها جمهور المهتمين فما بالك بجمهور المثقفين أو عموم القراء. ليس لدينا حتى بعد هذا الزمن الطويل نسبيا من تاريخ اللسانيات أي دراسة وصفية متكاملة للغة العربية. وليس بين أيدينا نحو توليدي شامل للغة العربية وما أكثر الأمثلة. ولتوضيح ذلك يكفي أن ننظر إلى تدريس اللغة العربية وتدريس اللغة الفرنسية حتى في مدارسنا المغربية فسنلاحظ أن الفرق بين وواضح في طريقة التدريس كما في المفاهيم وكتب التدريس. س- لم تنزعون إلى تكامل المناهج أيا كان إطارها النظري لإرساء قواعد تفكير لساني عربي جديد ومقاربة اللغة العربية بدقة وشمولية ؟ ج- الواقع أن فكرة تكامل المناهج إذا طرحت بهذه الكيفية العامة تبدو فكرة ليس لها أي مبرر أو سند معرفي وغير مقبولة من الناحية المبدئية. فلكل منهج هو في الواقع قائم الذات، له منطلقاته الفكرية وخصائصه وسماته الخاصة به دون غيره. والحديث عن تكامل المناهج كما نقرأ كثيرا في الأدبيات العربية فيه نوع من الانتقائية. ما أشرتم إليه من تكامل المناهج في كتابي هو على الأصح مساواة بين المناهج اللسانية الأكثر تداولا وهي الوصفية والتوليدية والوظيفية.والمساواة بين المناهج كان اختيارا استراتيجيا بالنسبة إلى في هذا الكتاب لأن ما يهمني أساسا هو البحث في الخطاب اللساني العربي بكيفية موضوعية تضمن لي إعطاء الصورة الحقيقة لواقع هذا الخطاب تنظيرا وممارسة أيا كان الأساس النظري المتبع. أوضح لك. لا يمكنني أن أكون موضوعيا في مقاربتي المنهجية حين أنطلق من منظور توليدي لأفحص تصورات بنيوية ،والعكس صحيح كذلك .فلكل تصور كما قلت سماته ومنطلقاته. شخصيا حاولت أن أبتعد عن كل رؤية ضيقة تنظر للخطاب اللساني العربي من منظور لساني محدد. لم أكن أرغب في إقصاء أي طرف أيا كانت أسسه النظرية والمنهجية. ما يهمني هو تقويم التجربة اللسانية في العالم العربي والعوامل الفاعلة فيها سلبا وإيجابا إمكاناتها وحدودها. و من هنا جاء الاهتمام بالمبادئ والمفاهيم اللسانية التي تشترك فيها جميع الاتجاهات اللسانية الحديثة مثل تحديد الموضوع، وربما سمح هذا باستنتاج أن الأمر يتعلق بتكامل المناهج اللسانية. وعندما ناقشت بعض التصورات فمن داخل التصور الذي تبنته هذه الكتابات. وقد حاولت في الكتاب أن أرسم حدود النقد اللساني للكتابة اللغوية العربية على الأقل كما مارسته في هذا العمل. س- ما منزلة اللسانيات العربية داخل اللسانيات العامة؟ ج- يمكن القول بأن الوضع العلمي للأمم والمجتمعات هو انعكاس لوضعها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وبعيدا عن كل جدل فلسفي أو اقتصادي أو سياسي حول المسببات والظروف والعوامل في العالم العربي ، أجيبك بأن حظنا في اللسانيات لا يختلف كثيرا عن وضعنا الاجتماعي والفكري والاقتصادي والسياسي في عالم اليوم. س- كيف تقومون بعض الأبحاث اللسانية العربية التي استطاعت أن تغني النماذج الغربية نفسها(عبد القادر الفاسي الفهري / أحمد المتوكل) ؟ ج- غرائبنا في العالم العربي كثيرة ومتنوعة . ومن هذه الغرائب أن الباحث اللساني العربي لا يلتفت إليه إن هو كتب باللغة العربية، لكن ما أن يكتب بالإنجليزية حتى يصبح شيئا آخر. وعندما كنت أجيب عن سؤالك المتعلقة بتكامل المناهج منذ قليل ذكرت التشردم والتفرقة والانطواء الحاصل في الأوساط العلمية العربية المعاصرة.وبالفعل فإن هذا التجاهل أو الجهل الذي يطال بعض الأعمال العربية الرائدة في مجال اللسانيات العربية مرده إلى كل هذه الأزمة الخانقة التي يحياها الفكر العربي اليوم في وضع "مبهدل ".أعمال هذين الباحثين المغربين لا نجد لها ذكر في المصادر والمراجع التي تقدم اللسانيات للقارئ العربي أو تحاول أن تطبقها على اللغة العربية . تصفحت كتابا صدر في مصدر منذ بضع سنوات بعنوان مدخل لدراسة الجملة العربية فيه تعريف بكل التيارات التي تناولت الجملة من منظور لساني .لكن ليس فيه أي إشارة لا من بعيد ولا من قريب لأعمال الفاسي الفهري التوليدية حول الجملة ولا أبحاث أحمد المتوكل المتعلقة بالجملة العربية وهي عديدة. في أعمال هذين اللسانيين ابتكار واجتهاد لا يمكن إغفالهما بسهولة. ومقابل هذا الجحود نجد شومسكي وغيره من التوليديين يضعون أعمال الفاسي ضمن مصادرهم .نفس الشيء بالنسبة لأعمال المتوكل الوظيفية التي أضافت الكثير من الافتراضات للنحو الوظيفي الذي وضعه سمون ديك. هذا هو الإسهام الحقيقي للسانيات العربية . س-ما هي ملامح أزمة اللسانيات العربية ؟ ج- ملامح الأزمة عديدة ومتنوعة وتختلف بحسب المنظور والمستوى والقضايا التي ننظر من خلالها للسانيات العربية .إجمالا أقول لك إن أبرز ملمح هو هذا الانفصام الحاصل بين النظرية والتطبيق .كما ذكرت لك سابقا من ناحية السرد النظري هناك كتابات عربية تقدم آخر النماذج اللسانية سواء كانت توليدية أو وظيفية أو شئ آخر.لكن التعامل مع هذه النماذج في علاقتها المباشرة مع اللغة العربية غير متوفر.هناك انتقاء لأمثلة وتعامل ظرفي مع بعض المفاهيم اللسانية. كن التصور المتكامل والشامل القادر على حل إشكالات اللغة العربية نحوا وصرفا أو حتى طرح البدائل المنافسة لتقليد اللغوي القديم .ما زال التصور التقليدي للغة والنحو سيد الموقف حتى في المؤسسات الجامعية التي تقدم في نفس الوقت آخر النماذج اللسانية العالمية، بل ما زالت الأفكار الخاطئة حول اللغة والنحو وكيفية التقعيد رائجة حتى لدى طائفة كبيرة من المتعلمين. وبجملة واحدة التعامل الموضوعي والعلمي الممنهج مع اللغة العربية ما يزال بعيد المنال في ثقافتنا العربية المعاصرة للأسف .إننا لم نتمكن بعد من بلورة فكر لساني قادر على التأثير في الوضع اللغوي العربي أفرادا ومجتمعات..من ملامح الأزمة هذا النفاق العلمي الذي يبديه الدارسون اللسانيون إزاء التراث اللغوي العربي لأسباب إيديولوجية لا علاقة لها بالمعرفة العلمية.إنهم يدركون جيدا أن هناك اختلافات جوهرية بين الفكر اللساني الحديث وبين نظيره القديم شرقا وغربا ، ومع ذلك هناك إصرار متعمد للقول بالانصهار والتماثل والتقارب وما شابه ذلك بين اللسانيات والتراث اللغوي العربي. ويترتب عن هذا الموقف من العمل اللساني تحويله من تحليل البنيات اللغوية إلى إعادة قراءة التراث اللغوي في ضوء النظريات اللسانية. والنتيجة أنه يتم تغيب الواقع العربي المتمثل في اللغة العربية موضوع الدرس اللساني، وهذا شرط ضروري لقيام بحث لساني في المستوى العلمي المطلوب .. ولهذا الوضع ما يشابهه في مجال علم النفس وعلم الاجتماع والانتروبولوجيا في العالم العربي حيث يسود هذه المجالات السرد النظري في إقصاء تام للواقع مما يتنافى مع الأرضية التي قامت عليها العلوم الإنسانية وهو البحث في واقع الإنسان سواء كان هذا الواقع لغة أو مجتمعا أو نفسا أو عشيرة أو ثقافة الخ .. س- ما العوائق التي حالت دون انتقال البحث اللساني العربي من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج؟ ج-سؤالك هذا مرتبط بأزمة اللسانيات العربية والمظاهر المترتبة عن هذه الأزمة . وقد فصلت القول فيها في كتابي الذي سبقت الإشارة إليه . والعوائق كثيرة بعضها موضوعي ولكنها الكثير منها ذاتي . فكثير من العوائق ورثناها عن مراحل سابقة ،وكثير من العوائق تشكل جزءا من التفكير اللغوي العربي الذي لا يريد أن يتنازل عن بعض الأفكار أو يراجعها ،وبعضها يتعلق بواقع البحث العلمي في العالم العربي، وبعضها من نتائج السياسة اللغوية العربية ومن نتائج التدبير الاجتماعي والفكري لقضايا المجتمع والفكر بصفة عامة وليس اللغة وحدها. س-لم مازال الفاعلون التربويون في مختلف ا|لأسلاك التعليمية يتخوفون من استبدال المصطلحات النحوية بالمعطيات اللغوية الجديدة وبالمصطلحات البنيوية والتوليدية التحويلية والوظيفية؟ ج- الواقع أن الأسباب عديدة ومتنوعة وما اشرت إليه من نقص في المجال التربوي مؤشر بارز على الأزمة (طبعا هناك تمييز منهجي ونظري بين اللسانيات في بعدها النظري وبين تطبيقها ). فهناك سلطة التقليد التي تطغى على المجال التعليمي (المؤسسات التعليمية) التي تدور في إطار نخب سياسية. والتقليد يفرض نوع من الهيمنة. ومن المعروف أن الهيمنة الفكرية كما يبين ذلك بوضوح فوكو في حفريات المعرفة، مردها إلى التقليد والتأثير. فالتقليد يتجاهل كل تجديد ويعتبره استمرارا ، كما يسمح باختزال الاختلافات ليردها إلى أصل سابق عليها مما يمنح مجموعة من الظواهر المتعاقبة والمتشابهة وضعا زمانيا واحدا وفريداً. بهذه الكيفية يلغى كل اجتهاد وتسد الأبواب أمامه. وما هذه النزعة المحافظة في مجال اللغة هناك تواطؤ النخب وكسلها في مواجهة الواقع الذي غالبا ما يتناقض مع ما تحمله من أفكار جديدة في مجال اللغة لكنها تحافظ على مكاسبها من خلال التهرب أو الصمت أو التمسك بما هو كائن .كثير من اللسانيين يكتبون تصورات معينة حول اللغة العربية باللغات الأجنبية تكون في مستوى عال من الدقة والموضوعية تدين كلها الوضع اللغوي العربي أو وضع العربية لكنهم يدونون غيرها حينما يتعلق الأمر بالكتابة باللغة العربية مداهنة للقوى المحافظة و تفاديا للاصطدام. على أنه يجب الاعتراف بالفراغ النظري في مجال استثمار اللسانيات تربويا. وأطرنا التربوية غير مؤهلة بما فيه الكفاية للقيام بها الاستثمار. فهي لا تقرا من يجري في الساحة اللسانية من تطورات نظرية مذهلة. و كثير من المعلمين والأساتذة وكذلك المفتشين معرفتهم لا تتلاءم وجسامة المهام التربوية التي يقومون بها في المجال اللغوي وهذا عيب كبير في نظامنا التربوي. و للتأكد من انحصار استثمار اللسانيات في المجال اللغوي ما رأيناه من غياب تام للمبادئ اللسانية واللغوية الحديثة في كتب الدرس اللغوي الجديدة التي يفترض فيها أن تدعم روح الحداثة وتكون في مستوى التصورات اللسانية والتربوية الحديثة في التعامل مع قضايا اللغة العربية .أعتقد أن عددا لا يستهان به من الأطر التربوية في حاجة إلى إعادة تكوين في اللسانيات وفي معارف حديثة أخرى بطبيعة الحال مثل المناهج الأدبية وتحليل النصوص و السيميائيات وغيرها. س- ما اقتراحاتكم لتحسين الأداء التواصلي للغة العربية في التعليم المغربي ؟ ج- للأسف الشديد يتحدث الجميع عن ضعف المستوى للغة العربية لكن دونما تحديد حقيقي لطبيعة هذا التدني . الأداء التواصلي أو التعبير أو التواصل كما تريد لا يمكن أن يقوم إلا على مادة معرفية معطاة مسبقا. نحن لا نتكلم عن لا شيء هذا يوصلنا إلى إشكالية معقدة وهي أن الأداء التواصلي كما سميته مرتبط بإطار ثقافي وبالتربية على القيام به وفق معايير محددة .وفي التعليم كما في مجالات أخرى لا يمكنك تحسين الأداء إلا باعتماد استراتجية شاملة تبدأ من بداية التمدرس. ثم إذا كانت لديك لغة "محكورة" اجتماعيا وفكريا فكيف تطلب من الأطفال أن يتكلمون بها ؟ إذا كان المعلم والأستاذ نفسه في جل المواد المدرسة لا يستطيع أداء جملة بالعربية الفصحى دون أخطاء نحوية كيف تريد من المتعلم أن يفعل ما هو أحسن؟إذا كان المربون لا يملكون الوسائل التربوية الضرورية للتلقين الجيد فماذا عساك أن تنتظر ؟أنت تعرف أن نظامنا التعليمي قائم على تلقي سلبي وليس التلقي التفاعلي .التلميذ / الطالب لا يتكلم إلا نادرا داخل الفصل عليه أن يتلقى المعرفة من الأستاذ ليردها إليه كما هي .التلميذ يسمع القليل من العربية داخل الفصل باللغة الدارجة. لا يتكلم لا يقرأ ، التلميذ /الطالب المتلقي يعيش نوعا من الانفصام في واقعه اللغوي بين دارجته و فصحاه ولغات أجنبية تشنف مسامعه صباح مساء . والتلميذ المغربي لا ينمي قدراته اللغوية خارج المدرسة عن طريق المطالعة؟إسأل التلاميذ في جميع المستويات كم يقرؤون من كتاب في السنة ؟ من هنا يجب أن يبدأ أمر تحسين الأداء التواصلي وكذلك بالاهتمام المعنوي باللغة العربية.هل يعقل أنه في بلد عربي مثل المغرب أن المهندس والطبيب والتقني وغيرهم من المهنيين وهم نتاج المدرس المغربية يجدون أنفسهم غير قادرين على تحرير رسالة باللغة العربية الفصحى؟ س- ما تقويمكم للواقع اللغوي في المغرب ؟وكيف يمكن للسانيات العربية أن تسهم في تبديد ما يعتريه من لبس أو تشويش ايديولوجي ؟ ج-من الناحية الموضوعية لا يمكنني أن أقدم تقييما للوضع اللغوي في المغرب في غياب دراسات شاملة ودقيقة عن هذا الواقع.فنحن لا نملك سوى انطباعات عامة عن هذا الواقع اللغوي بكل مكوناته .ما الحدود الفاصلة بين مستويات أداء اللغة العربية والدوارج واللهجات ؟ وكيف يتم الانتقال من مستوى إلى آخر؟ وما هي العلاقة بين هذه المستويات من حيث التاثير والتغير على آخر ؟ كل هذا لا نعرف عنه سوى القليل جدا في غياب أبحاث ميدانية سيكواجتماعية مرتبطة بالبحث اللساني للغة العربية واستعمالاتها إلى جانب الدوارج واللغة الفرنسية.في نظري يتعين أولا تشخيص الوضع وفق المعايير المتداولة في البحث السوسيولساني ونضع الخريطة اللغوية الحقيقة بكيفية موضوعية تكون شاملة وتامة وبعدها يمكننا أن نستخلص ما يمكن استخلاصه.ملاحظة هذا الواقع اللغوي من خلال الاقتصار على الأدبيات المكتوبة وحدها مثلا لا يعطينا صورة صادقة وحقيقية عن الواقع اللغوي . س- كيف يمكن للسانيات العربية أن تشيد لغو واصفة تمكنها ليس فقط من تقديم وصف جديد للغة العربية ،وإنما أيضا من تحسين آداءها التواصلي والارتقاء بصورة علامتها Image de marque في السوق اللغوية العالمية حسب تعبير بيير بورديو ج- ليس للسانيات أن تشيد لغة واصفة خاصة بها ، فهي جزء من النظرية اللسانية العامة .ولا يمكننا أن نتصور بحثا لسانيا في المستوى العلمي المنشود خارج إطار النظرية اللسانية العامة بكل مواصفاتها ومتطلباتها ومنها امتلاك اللغة الواصفة الدقيقة والمضبوطة التي تشكل أساس كل صورية . في نظري، ما مطلوب من الدارسين اللسانين العرب هو الالتزام التام بمبادئ البحث اللساني في جزئياته وتفاصيله و حينها ستحل هذه المسألة التي أشرت إليها أي ستصبح لنا لغة واصفة مضبوطة .فإذا اختار الباحث إطار نظريا ما عليه أن يحترم ما يقدمه هذا الإطار من مبادئ عامة ومفاهيم ومصطلحات للتعبير عن القضايا اللغوية وبهذا يمكننا أن نتجاوز حالة الخلط والالتباس بل والتناقض الذي نلاحظه في كثير من الكتابات اللسانية العربية .قد تجد كثير من العناوين الجذابة والمقدمات الرنانة مقاربات وظيفية ومقاربات بنيوية و... و .. ولكنك لا تجد في الصفحات الموالية سوى كلام قديم لا هو لغة من لغة القدماء ولا هو من كلام المحدثين، يتم التحايل عليه بمفاهيم ومصطلحات وتحاليل لا علاقة لها بالإطار النظري المذكور. لنحترم الأسس النظرية والمنهجية التي تقوم عليها النظريات اللسانية ولنطبقها على لغتنا العربية أولا وقبل أي شيء آخر أو لا نفعل.أما بالنسبة لتحسين الداء التواصلي فقد تحدث عنه في سؤالك السابق وأجبتك بما فيه الكفاية. أضيف فقط أن الصورة التي تتحدث عنها لا يمكنها أن تحصل في واقع عربي متآكل ومنهار ومتخلف سياسيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا.اللغة مرآة لثقافة أهلها وعقليتهم و وعيهم .لنعط للغة العربية الصورة التي تستحق والمكانة اللائقة بها في مجتمعاتنا العربية أولا قبل أن نفعل ذلك بالنسبة للغير. إذا كنت في بلدك تنظر للغة العربية على أنها لغة التخلف الثقافي والاجتماعي ولغة من لا تكوين له فكيف نبحث عن انتشار اللغة العربية بدون بعد فكري واجتماعي وسياسي ناهظ ؟ التطوير الحقيقي لا يأتي إلا من الداخل وبالاعتماد على النفس.
-------------------------------------------------------------------------------- [1] Bloomfield :le Langage, p 15 [2]- يمكن الرجوع للترجمة العربية التي أنجزها سعد عبد العزيز مصلوح ووفاء كامل فايد لمؤلف ميلكا بعنوان :اتجاهات البحث اللساني المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 1968 الطبعة 2/ 2000 498 صفحة والكتاب في أصله مكتوب باللغة الصربية وصدر سنة 1963 ومنها ترجم إلى الإنجليزية 1965 ومنها إلى العربية كما ذكرنا.
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: السبت 22-05-2010 01:54 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 6724 التعليقات: 0
|