|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
أوهام الذات المُركَّبة- محمد الداهي
كان عبد القادر الشاوي سباقا إلى تصنيف بعض أعماله ضمن ما يصطلح عليه بالتخييل الذاتي، وذلك وعيا منه بملاءمة المفهوم، رغم اعتياصه وزئبقيته، على استيعاب تجاربه الحقيقية والمفترضة، واحتواء ماضيه الشخصي وأحلامه المنفلتة والوهمية. لقد جرب المفهوم في " دليل العنفوان( نشر الفنك،1989 )" قبل أن تتحدد معالمه وتتضارب الآراء حول هوتيه ومنزلته، ثم جنس عمليه ( دليل المدى(الفنك، 2003) ومن قال أنا( الفنك ،2006)) ضمن التخييل الذاتي سعيا إلى تبريز كيف يتداخل الواقع والتخييل في صنع " الحقيقة الداخلية" للمؤلف، والنفاذ إلى أعماق اللاشعور لزحزحة ما تراكم فيه من أحلام محبطة واستيهامات مغفية، ومحاكمة الذات والآخرين في غفلة عن العقل وتوجيهاته الصارمة. أ- من خلال العنوان يتضح أن عبد القادر الشاوي يشكك في وجود مطابقة بين أناه وذاته، ويهيء القارئ للتعامل مع طرف ثان لا يمت بصلة إلى نفسه إلا من باب الصدفة والاحتمال. ولما نقرأ النص يتضح أن الشاوي يتحدث عن ضعفه ( صورته الخادعة Simulacrum) إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة: لم يتحدث الشاوي عن ذاته بطريقة مباشرة إلا في الفصل الأخير مبينا سر انجذابه إلى كتابه " دليل العنفوان" ( يجد فيه راحته المؤقتة) وإلى الفتاة الشقراء المشرفة على ترتيب زيارات المتوافدين على المصحة لمعاينة حالته الصحية عن كثب، ومعترفا بأنه لم يجن من الحياة الدنيا إلا الإحباطات والخيبات التي صيرته، مع الزمن، عليلا ومصابا بمرض خطير، وداحضا تفسير منار السلمي لنهاية علاقتهما، ومرهصا بنهايته من جراء إجراء عملية " لم يبق أمامي إلا الموت الزؤام أو الحياة الكريمة، لأنني كنت على مشارف المرحلة الأخيرة التي يستسلم فيها الطبيب الجراح، بكل ارتياح، بدنك المتهالك" ص103. أما في الفصول الأولى ، علاوة على المقدمة، فقد أشرك السارد أصواتا محتملة لمكاشفة ذاته، ومساعدته على فهم ما غمض واعتاص في حياته، ومحاسبة التجارب السلبية التي اكتنفت ماضيه الشخصي. واضطر إلى توزيع الأصوات المختلفة على النحو الآتي: *- أسند كتابة المقدمة إلى صديق حميم ( ضعفه أو شبيهه) لإبراز الاعتبارين اللذين تحكما في كتابة المؤلَّف برمته. يتمثل الاعتبار الأول في كون عبد القادر الشاوي عود قراءه على المغامرات الجميلة. وفي مقدمتها مغامرة سرد جزء من تمزقاته الوجودية بكل اللغات والأحاسيس الممكنة. ويتجلى الاعتبار الثاني في كون عمله يشكل نقدا نابعا من مرارة خاصة في رؤية الأشياء ومقاربتها والتعليق عليها، ومتحللا من جميع القيود المفترضة كأنه يكتب مرثاة وداعه الأخير. ب-ينطلق عبد القادر الشاوي من تجربة مرض السرطان لمساءلة وجوده وتجربته في الحياة. وقد اضطر إلى إشراك أصوات أخرى ( أحمد الناصري، منار السلمي، زوار المصحة) لمعاينة ذاته من زوايا ومنظورات مختلفة. فكل صوت يشكل مرآة تعكس جانبا من ذاته ( النضال والحب والواجب والاستيهام والصراع بكل أشكاله النفسية والاجتماعية والوجودية). ولما نعيد تركيب شظايا هذه المرايا تبرز بعض إرهاصات حقيقته الداخلية، وتتمثل في خجله وانعزاله وإحجامه وحبه لذاته. وهي تدحض الصورة التي يتوهمها الناس عنه أو توحي لهم بتكبره المصطنع " لم يكن، بالطبع، تكبرا مصطنعا بل هي نفسيته على تلك الحالة من الابتعاد والانكفاء فقط" ص26. ج-يزاوج الشاوي في عمله بين الواقع والخيال، والذاتي والموضوعي لتوجيه النقد للأوساط التي لا تناصب العداء للصوت المختلف والمتنوع باعتباره خارج الجماعة، وممارسة النقد الذاتي بكلمات وأحاسيس تستمد نسغها من جراحه وكبواته وآلامه. فهو، لما يسترجع صورا متشظية من حياته تحت وقع تألمه من المرض العضال الذي استبد بجسمه، يعاين التصدعات التي تشق كيانه، وخسائر الأيام التي خلفت آثارها في نفسيته. د-يتحرر الشاوي من مواضعات الميثاق السيرذاتي لإطلاق العنان لخياله واستيهاماته واستبطاناته، والكشف عن آلامه وأحلامه المحبطة، والصدع بالمشاعر المرهفة التي تنتابه وهو على مشارف توديع الحياة، وتوجيه اللوم لمن يهنأ برحيله المفاجئ. وهو، بهذا الصنيع، يتعامل مع ذاته كما لو كانت شخصية خيالية تتفاعل مع أصوات مفترضة لفهم سر الوجود وعبثيته " هل يصح أن نبقى هكذا إلى ما لا نهاية" ص28، والبحث عن أصول العلة ( الجسدية والنفسية) ومستتبعاها بالنظر إلى مكائد الحياة وتقل أطوارها.
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأربعاء 19-05-2010 05:40 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 2839 التعليقات: 0
|