مفهوم النص: من الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المكنة.-محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=138
الكاتب: mdahi


 حرر في الأحد 11-07-2010 10:26 أ•أˆأ‡أچأ‡


توطئة:
مفاتيح العلوم مصطلحاتها ومفاهيمها . فبواسطتها يتوسل الباحث إلى منطق العلم ويتوغل في مساربه التيهاء . " فمن ظن أن العالم قادر على أن يتحدث عن العلم بغير جهازه المصطلحي ، فقد ظلمه ما لاطاقة له به إلا أن يتواطأ على امتصاص روح العلم وإذابة رحيقه ، وهذا لمما يصدق على كل معرفة تحتكم إلى أواصر العقل "(1) . ومن ثمة تتضح العلاقة الوطيدة بين المصطلحات والعلم ، ويتبين أنه لامناص من الوجاهة المعرفية والقدرات اللغوية في معالجة المعضلة المصطلحية ، وتحديد المفاهيم ، أو نحتها ، أوسبكها ، أو اقتراضها بدرجات عالية من الدقة والحصافة . وبعد سلسلة من المؤلفات القيمة دخل الأستاذ محمد مفتاح غمار التنقيب أو الكشف المفهومي . لايتبع فيه المعيار التصنيفي المشيد على نسق الحروف الهجائية ، وإنما يتوسل بكل الحقائق العلمية والمنهاجية لضبط مفهوم مركزي ، والإحاطة به من زوايا ومنظورات متعددة بالتحليل والنقد . ولاتجدي في الكتاب(2) القراءة بالطفرة ، لأن قضاياه تتشابك وتتداخل ، وتسير - من فصل إلى آخر- في وتيرة متسلسلة ، وإيقاع تصاعدي. وبما أن الأستاذ محمد مفتاح أصبح الآن يدافع عن مشروع نقدي(3) تتمفصل آلياته في حلقات متواصلة ومتداخلة ، فإنه لامناص للقارئ من معاودة قراءة مؤلفاته لضبط قضاياها ومفاهيمها ومنهاجياتها ، والاستنارة بما هو سابق لفهم اللاحق.
تتردد في كثير من النقاشات العادية أو العلمية عبارة "تحديد المفاهيم" ، وذلك نظرا لكونها تشكل جوهر اللغة الطبيعية ولب اللغة العلمية الاصطناعية. فبواسطة المفاهيم يستطيع المرء أن يفرق بين شيء وشيء ، وكائن وكائن. وقد ازداد الاهتمام بالمفاهيم في الأوساط العلمية والجامعية ، وفي المعاجم والكتب المختصة ، نظرا لكونها تشكل مفاصل النظرية سواء أكانت مفاهيم أولية لها تحديدات جامعة مانعة أم لها تعبيرات مسندة لها توضح علائقها ووظائفها. واتسعت دائرة الحقول المعرفية والعلمية المهتمة بها ، محاولة منها لضبطها ، وتقنينها ، وتحديد أصنافها ووظائفها . وما يزيد من مصاعب تحديد المفاهيم هو اندغامها في نسق نظري يؤطرها ، وارتكازها على خلفيات معرفية محكمة . إن الحديث عن المفاهيم الأولية أو المفاهيم المشتقة يؤدي إلى التساؤل عن مصدرها . فالأجوبة تتعدد بتباين المسلمات المنطلق منها سواء أكانت ميتافزيقية أم أنطولوجية أم فلسفية . وتتحدد طبيعة المفاهيم ومداها على أساس مصدرها " فمن وجهة النظرالعقلانية فإن المفهوم شمولي وضروري ومستقل ، ومن وجهة نظر التجرباني فإن المفهوم مرتبط بشيء ما في وقت ما ؛ ومن ثمة فإنه نسبي وقابل للتحوير والتبديل والإلغاء .. وأما العقلاني التجريبي فيقر بوجود مصدرين للمفاهيم ؛ أحدهما الإنسان في كليته ، وثانيهما السياق في شموليته"ص 8 . وهذان المصدران هما اللذان يزودان الإنسان بالكلمات المتداولة ( اللغة العادية ) ، ويفرزان المفاهيم التي يوظفها الباحث في صياغته النظرية ( اللغة التقنية الاصطلاحية ).
وتخضع المفاهيم إلى التصنيف ، وقد دأبت العلوم التجريبية إلى تقسيمها إلى ثلاثة أنواع ؛ هي المفاهيم الترتيبية ، والمفاهيم المقارنة ، والمفاهيم التكميلية . واختزلتها الأدبيات المعاصرة المختصة بالمجال المفاهيمي إلى مفهومين أساسيين ؛ هما التصنيف والترتيب . واتبع الأستاذ محمد مفتاح بعضا من صنيعها ، فتحدث عن المفاهيم الترتيبية والمفاهيم المقارنة .
أ - المفاهيم الترتيبية : يقوم هذا النوع بترتيب المفاهيم على أساس أنواع العلائق ؛ وهي المشابهة ، والأسبقية ، والاحتواء ، والتبعية . وتتحقق علاقة الرتب بحسب مبادئ ميتافزيقية أو مبادئ أنطلوجية . "فالمبدأ الميتافزيقي الأنطلوجي يجعل تلك التوالدات الترتيبية نابعة من أصل وحيد . والمبدأ الأنطلوجي التجريبي يرى أن تلك التوالدات ينتج عن بعضها بعض " ص10 .
ب- المفاهيم المقارنة : تنهض على منطق هذا ولا هذا ، وأكثر وأقل، مما أدى إلى القيام بتدريج المفاهيم وترتيبها ، والإقرار بوجود سلسلة من الأشكال الوسيطة بين نوع وآخر. ويقول الأستاذ محمد مفتاح ما يلي لاستدراجنا إلى صلب الموضوع : « بغض النظر عن التقابل بين المنطق الصوري والمنطق المتدرج ، أوبين أرسطو وبداه ، وبقطع النظر عن تبادل العبارات القوية فإن ما يهمنا نحن هو أننا وظفنا مفهوم التدريج فأدى بنا إلى نتائج حسنة مع بعض الأعراض الجانبية ؛ بل إننا اتخذنا شعارا لنا هو: المفاهيم معالم ».ص11
إن أغلب المفاهيم مستقاة من النظريات العلمية التجريبية ، ومع ذلك يمكن الإفادة منها في التحليل الأدبي والاجتماعي بإعطائها منازل جديدة . إن المفاهيم التي اقترحها الأستاذ محمد مفتاح هي مفاهيم حسية تجريبية ممتوحة من النصوص اللغوية التي تتلقاها الحواس البصرية والسمعية / ومن ثمة فهي جزئية وظرفية ، وليست مطلقة . ولا تجرد التجزيئية والظرفية المفاهيم من تقنيتها واستعمالها اليومي . وهذا ما يجعل ممكنا الاتفاق على مصطلحات ومفاهيم ، وتبويبها في معاجم خاصة . وقد تتغير المضامين الاصطلاحية بتعدد الباحثين ، وتباين أغراضهم واستراتجياتهم . وقلما يوظف المحلل التحديد المنطقي الصارم ، وإنما يقيم تحديدات إسمية أو تشييدية باعتماد على المعطيات التجريبية والملاحظة الذاتية . ومن الممكن أن يصبح لهذا التحديد المشيد قوة التحديد الطبيعي المتعارف عليه بين الباحثين في مرحلة زمنية معينة. ويقر الأستاذ محمد مفتاح بمبدأ التدريج متجاوزا الثنائيات إلى رباعيات، وسداسيات ، بل إلى ثمانيات . وقد أفضى به التدريج إلى إقامة تراتب المفاهيم حسب الخاصيات المطلوبة ، وإعداد تدرج للمفاهيم المقارنة بالاعتماد على نظام تسلسلي وتصاعدي . وقد أثبتت نتائج التدريج (4) أن مبادئ البحث توخت البساطة ، لكنها - على جري عادة أهل العلوم المعاصرة - ولدت من مبدأي الاتصال ولانفصال ( عنوانا البساطة ) مبادئ فرعية ومفاهيم متعددة . وتغيا الأستاذ محمد مفناح من كتاب المفاهيم معالم تجنب الآراء الفطيرة والقراءات الاختزالية والمراهنة على الحقيقة الواقعية للتقدم في العلم ، وتأسيس معايير اجتماعية ، ونشر تقاليد جمالية في إطار من الحرية والمسؤولية ، والدعوة إلى دفع الحقيقة المطلقة وآفات النسبانية المتطرفة الفوضوية.
يتمحور الكتاب حول مفهوم النص . جعل له الأستاذ محمد مفتاح طرفين أساسيين ؛ أحدهما مكون من النص الكوني والنص الطبيعي ، وثانيهما مؤلف من شبه النص ، والتناص ، والنصنصة . كما جعله بؤرة للحقائق التالية: الحقيقة المجردة ، والحقيقة الواقعية ، والحقيقة المشيدة ، والحقيقة العلمية ، والحقيقة الجمالية ، والحقيقة الممكنة . وهذا ما سنحاول بيانه في المباحث التالية التي اتخذها الأستاذ محمد مفتاح فصولا لكتابه:
1-مطالب وتدريجات:
نظرا لاختلاف المرجعيات فإن ترجمة المفهوم بالدقة المطلوبة ، تحتاج إلى البحث عما يلائمه في الثقافة المستقبلة ؛ وذلك تجنبا للبس والبلبلة . ومثل الأستاذ محمد مفتاح بمفهوم النص ملقيا الضوء عليه بالبحث التاريخي المقارن لضبط ماهيته ومستوياته الدلالية والتأويلية . ولما نعود إلى الثقافات ذات الأصل اللاتيني نجد أن مفهوم النص يفيد النسيج بما تحمله هذه اللفظة من معنى في المجال المادي الصناعي ، وما تستتبعه من انتظام وانسجام وتعقيد وتشابك ، وما تتغياه من تثبيت المعلومات وتجذير السنن وترسيخ السلوك ، وما تستضمره من حقائق تحتاج إلى التأويل لاستنباطها وتبريزها . أما في الثقافة الإسلامية ، فإن مفهوم النص يعني البروز والظهور، ومنتهى الشيء ، وما لايتحمل التأويل . وهو أخص من الكلام ، ومن الكتاب ، ومن البيان ، ومن البلاغة . لكن لماذا لم تترجم مفردة texte بالكلام أو الكتابة أو النظم لاشتراكهما مع الأصل اللاتيني في التتابع والتماسك والتعالق والتنظيم والتقنين والشمولية ؟ ويحتار القارئ العربي بين مفهوم النص كما هو محدد في المصادر الإسلامية وبين الاستعمالات الاصطلاحية المتداولة الأجنبية ( وخاصة عند تيار مابعد الحداثة ، وتيار فلسفة الظواهر ، والنظريات السيميائية، ونظريات علم النفس المعرفي ، ونظريات القراءة التداولية والوظيفية). وهو ما يستدعي تحديد المفهوم بكيفية مضبوطة ، واستراتجية واضحة المعالم ، وذلك على نحو يراعي ظروف تكونها ، ويواكب ممارستها الثقافية والسياسية . وقد سار في هذا الاتجاه نصر حامد أبو زيد باذلا مجهودا مشكورا في تحديد مفهوم النص ، لكن ما يعاب عليه هو عدم القيام بمقارنات موسعة تمكنه من ضبط معاني المفهوم ومختلف استعمالاته ، واستنتاج أوجه الائتلاف والاختلاف . مما تقدم يتبين أن مفهوم النص يكتنفه الغموض من جراء قلة ضبط شروط انبثاقه الاصطلاحي ، وعدم تحديد مكانته ضمن شبكة من المفاهيم المتداخلة معه .
يرى الأستاذ محمد مفتاح بأنه آن الأوان لتجاوز ثنائية الحقيقة/ الاحتمال (ينحت الكلمتين على النحو التالي الحقملة ) لمراعاة الوقائع النصية ، وسياقاتها ، وأنواعها ، وآليات تأويلها بالاعتماد على تدريج إستراتيجيات القراءة ، وتدريج المعنى ، وتدريج المفهوم.
1-فيما يخص تدريج استراتجيات القراءة ، نجد ثلاث إستراتيجيات معروفة ومتداولة ، وهي:
- الاستراتجية التصاعدية ( من الخاص إلى العام ، ومن الجزء إلى الكل).
- الإستراتيجية التنازلية ( من العام إلى الخاص ، ومن الكل إلى الجزء).
- الإستراتيجية الاستكشافية ( الظفر بالمبتغى بعد التجربة والخطأ).
ثم أضاف إليها إستراتيجيات أخرى لمحاصرة عمليات الذهن في القراءة والتأويل ، وهي:
- الإستراتيجية الاستدوانية (استتباع المعنى النووي الأولي معاني متفرعة عنه ، تسايره ولاتناقضه)
- الإستراتيجية الاستقياسية ( المشابهة القريبة والبعيدة).
- الإستراتيجية الاستئطارية ( الانطلاق من المعروف لفهم المجهول).
2-فيما يخص تدريج المعنى ، تم تجاوز ثنائية ( الشفافية/ الاعتام) لإيجاد درجات وسطى بينهما ، لأن النص قد لايكون شفافا أو معتما بالمرة . وكلما توغل المرء في التدريج إلا واعترضته مصاعب التمييز الدقيق ، وإيجاد الأمثلة المناسبة . وقد استعار الأستاذ محمد مفتاح مفاهيم أصولية استخدمت لتأويل نصوص دينية لاستنباط قواعد فقهية ومعايير أخلاقية ، وذلك ليوضح لمن يشتغل على النص وكأنه واضح الدلالة ، بأن هناك درجات تند عن الثنائيات المختزلة والصارمة ، على نحو الواضح ، والمتشابه ، والمليء بالالتباس والتوهيم . " وعليه فليعتبر ، إن أراد ، أن هذه المفاهيم مفرغة من إيحاءاتها ومتنكرة لأصلها ، وأدوات تزوده بإستراتيجيات وحيل ليقوم بتأويلات مشروعة ومقبولة" ص 39.
3- تدريج المفهوم : اقترح الأستاذ محمد مفتاح مفاهيم تدريجية للنص. فهو على الحقيقة يطلق على المكتوب المتسم بتواشج العلاقات وتماسكها . وإذا انتفت منه خصائص التلاحم والاتساق والانسجام أصبح لانصا . ومن خلال ثنائية النص / اللانص تتناسل مستويات أخرى ؛ وهي الشبيه بالنص ، والنصنصة ، والتناص. وما يفرض هذا التدريج هو طبيعة الكتابة المعاصرة التي تجمع أحيانا بين الكتابة والتشكيل والبياض الدال. ولا يتوقف التدريج عند هذا الحد ، بل قد تتناسل من المفهوم الواحد درجات . ومن درجات التناص على سبيل التمثيل ، نجد التطابق ، والتفاعل ، والتداخل ، والتحاذي والتباعد، والتقاصي.
جعل المحدثون العرب مفهوم النص مطابقا للمفهوم الأجنبي ، فصار متداولا على هذا النحو. ومع ذلك لم يؤصل المفهوم ، بل وقعت المطابقة على سبيل التقليد ، وهو مما أدى إلى الجمع بين تحديدات متباينة لا تزيد الوضع إلا فوضى وعماء والابتسار . إن الأمر- والحالة هكذا - يستدعي تدقيق المفهوم داخل مدرسة واحدة أو مدارس متعددة ، ويتوجب القيام بالمقارنات التاريخية للتوقف عند أوجه التشابه والاختلاف للخروج بالتركيب الممكن بين الإرث التراثي والمكتسبات المعرفية المعاصرة. مما تقدم يتبين أن الأستاذ محمد مفتاح انطلق من تحديد مفهوم النص ، فوجد نفسه أمام مفاهيم أخرى متداخلة معه تحتاج إلى تدقيق وتدريج للوقوف على معانيها ، واستعمالاتها ، ودرجاتها ، وبيان أوجه الاختلاف والاتفاق بين المفهوم كما يستعمل في الثقافة الغربية ، وبين معانيها المستضمرة في بطون المصادر الإسلامية.
2- النص الكوني : الحقيقة المجردة.
من المفاهيم التي استأثرت باهتمام جميع الحقول المعرفية هو مفهوم الحقيقة . وإن تطورت المنظورات إلى الحقيقة ، وطرق البحث عنها ، فقد ظلت النواة البشرية الفطرية والآلات المستمدة منها والمساوقة لها محافظة على جوهرها. وقد مثل الأستاذ محمد مفتاح بمثال دال يجمع بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية وهو ابن البناء . بين ابن البناء مدى صعوبة وضع حد للحقيقة ، فاستبدلها بالرسم بمعانيه الصوفية والمنطقية ، وبوصفه استدلالاً عقليا يجمع بين الافتراض والقياس والاستقراء والمقايسة . وحدد مراتب للوصول إلى المطلوب ؛ وهي مرتبة الحس ، ومرتبة الفكر التخييلي ، ومرتبة العقل الروحي . وتدرك هذه المراتب على التوالي بالتشابه ، وبالتوهم ، وباللزوم العقلي . إن إدراك شيئين بالحس يعني الجمع بينهما بواسطة علاقة المشابهة والتفاعل. وبما أنه تتخلله فنون من الأوهام فإن الأمر يقتضي أن يعزز بالفكر والروية باعتماد على اللزوميات العقلية لرفع الخداع وإبعاد الأوهام وضبط الاعتبارات . وقد تعددت طرق الوصول إلى الحقيقة بالعقل (العلامة ، والرسم ، والبرهان) ، ومع ذلك يبقى عاجزاَ عن إدراكها . و"من ثمة كان لامناص لابن البناء من أن يسلم نفسه إلى الحق لإثبات حقيقته بكلمته ، وكلمة الله هي الوحي ، ومبلغه رسول من عنده " ص62. ويلعب الرسل والأنبياء والأولياء دورا أساسيا في الكشف عن الحقيقة بإزالة غشاوة الحجاب المؤدية إلى تعدد التأويلات والإدراكات والاختلافات. ويستخلص الأستاذ محمد مفتاح مما تقدم أن الطريق إلى الحقيقة لها منازل يسلكها السائر، وهي:
1- الطرق العقلية ( الهداية أو الضلال ، االصواب الخطأ)
2- الفطرة : أ- الذكر حضور الدليل. ب- الذكر الدائم المعقولات المتحررة من الأوهام.
3- الوحي : أ- الرسل والأنبياء الوحي.


ب قوة الروح الشهود الصريح.
لقد كان نسق الحقيقة عند ابن البناء مشبعا بالعلوم العقلية ، وخصوصا العلوم العددية والمنطق . وقد قسم الأستاذ محمد مفتاح هذا النسق قسمين :
1- نسق مغلق يقوم على أزواج ، ومراتب ، ودرجات . ومهما تنوعت أشكاله ، وتعددت التأليفات بين مختلف العلائق ، فهي تنويع لحقيقة واحدة ؛ وهي وجود الله وماعداه باطل.
2- نسق مفتوح : ما تم تأكيده من تناسب وجهات ومراتب هو ما يهتم به البحث العلمي المعاصر. وما يجمع بين القدماء والمحدثين هو البحث عن فهم الحقيقة . ومهما تنوعت مقاصد الباحثين قديما وحديثا فإن نواة الآليات الذهنية واحدة . وتحتم هذه الوحدة على مؤرخ الأفكار أن يأخذها بعين الاعتبار.
3-النص الطبيعي : الحقيقة الواقعية .
بعد أن حدد الأستاذ محمد مفتاح إشكاله في البحث عن ميتافزيقا الحقيقة قسم حياة برس إلى مرحلتين . دعا المرحلة الأولى بالمثالية ، والثانية بالواقعية مع التسليم بوجود مرحلة وسطى بينهما. وتنشطر المرحلة الأولى إلى ثلاثة حقب صغرى ، تأثرت على التوالي بالكانطية ، ثم بالرياضية المنطقية ، ثم بالتطورية . وتمتاز المرحلة الواقعية بالنزعة العلمية ، وبنقد الميتافزيقا ، وبتطويره للمنهاجية الذرائعية التي تبناها منذ 1878. ومن سمات المرحلتين الانطلاق من فرضية اتصال الكون التي تستتبع مفاهيم الاتصال ، والانتظام ، والترابط ؛ ثم افتراض اقتطاع الوجود من حيث جهاته ، ومراتب علاماته ، ومراتب تأويلها ، ومراتب طرق الاستكشاف . وانطلاقا من تصور ميتافزيقي ورياضي حدد برس جهات الوجود ( الأولانية ، والثانيانية ، والثالثانية ) ، وضاهاها بثلاثية دلالية ( الممثل ، والموضوع ، والمؤول). في التراتب الكامل نجد أن الثالثانية هي المتحكمة في عملية التوليد ، وهي العنصر الإدراكي الذي يقع الانحلال عنه والتوليد منه . ويصنف التراتب الكامل لتتوضح قيود الترتيب ومظاهر الانحلال والتنامي . أما التراتب الناقص ، فيتكون من تأليفات في طور الإنجاز ، ويحتوي التراتبات المتعلقة بطرق أنواع الاستدلال وجهاتها ودرجاتها ، وأنواع المؤولات ومجالاتها ومناطاتها. استخلص بعض الباحثين من كتابات برس ثلاثة أنواع من الاستدلال ؛ وهي الاستنباط ، والاستقراء ، والفرض الاستكشافي . وكل نوع منها يتفرع بدوره إلى درجات . أما فيما يخص التأويل ، فهو يشمل مؤولات عديدة ، فيها ما يدخل في إطار تأويل الدليل بالدليل ( المؤول المباشر ، والمؤول الدينامي ، والمؤول النهائي ) ؛ وفيها ما يدخل في نطاق تأويل الدليل بالمؤول ( المؤول الانفعالي ، والمؤول الطاقي ، والمؤول النهائي). وقد قدم الأستاذ محمد مفتاح اقتراحات لملء بياضات نموذج البرسي ، وبين أنه يمكن توفير تماسكه ، وملء ثغراته ، بعدة مبادئ أولها مبدأ التدريج ، وثانيها المبدأ الميتافزيقي ، وثالثها تعديل النموذج بإضافة عنصر رابع .
4-النص : الحقيقة المشيدة .
نبذ الدرائعيون الجدد ( راسل ، فيتجنشتاين ، كرناب ، كواين) والفلاسفة (كلاري ، وبوتنام ، وكودمن ، وروطي) مفهوم الحقيقة المطلقة ، وأفسحوا المجال للكائن البشري لتشييد الحقيقة ( حقيقة التراضي ، والتوافق ، والقبول ) ، وبناء مشروعه بنفسه ضمن حياة عملية . وهم ينتمون إلى إبدال مابعد الحداثة الذي يحوي تيارات فلسفية وعلمية ( التفكيكية ، والبيولوجيا ، والفيزياء ، وعلم النفس المعرفي ) تتفق في نظرية العماء ، وتسلم بوجود تفاعل بين الانتظام والعماء . وتقر نظرية العماء بوجود نظام وانتظام حقيقين انطلاقا من آليتي الطي ( جذب الجذاذب للممارسات المتقاربة) والنشر( تولد المسارات المختلفة والمتشعبة عن الشروط الأولية) . لقد تركت الاتجاهات العلمية والفلسفية أثرها في النصوص الإبداعية . يرى كثير من الباحثين أن الروايات الفيكتورية عبرت عن فكرة التقدم التي تتبناها البيولوجيا في القرن التاسع عشر ، ويرى باحثون آخرون أن رواية " الإكراه" لهنري جيمس كانت "سياحة عمياء". ولم يقتصر التأثر على المستوى التحليلي والإجرائي ، بل تعداه إلى المستوى الأنطلوجي والابستمولوجي الذي يهم التوازي بين النظرية العمائية والنظرية التشييدية . جاءت نظريات الحقيقة المشيدة كرد فعل على الحقيقة المطابقة التي هي أسبق في الوجود ، وأقوى في الاستمرار
خلال حقبة ماقبل الحداثة كانت الحقيقة المطلقة تعني انطلوجيا أن كل ما في الكون يستمد وجوده من حقيقة دائمة منبتة في مخلوقات الكون التي هي دلائل عليها أوعلامات أم مراسم . أما من الناحية الابستمواوجية ، فهي تفيد وجود مطابقة أو مماثلة بين الحقيقة وتمثلها . وخلال حقبة الاتجاهات الوضعية ، أضحت تعني منطقيا إثباتها بالرجوع إلى الواقع (المطابقة) ، أما تجريبيا فتعني أن المقولات مطابقة للواقع الطبيعي ( الاتجاه البيولوجي) ، وأن هناك تفاعلا بين ذاكرة الإنسان والظواهر المدركة لإعادة البناء والتشييد ( علم النفس المعرفي).
يستتبع استعراض مختلف الأطاريح والمنظورات عن الحقيقة مسألة الحتمية . لقد تضارب تصوران حولها ؛ أولهما تصورعلمي ينفي المصادفة وتدخل الغيبيات ، ويقر بالتفسير العلمي اليقيني لبعض الظواهر العلمية ، وثانيهما تصور ميتافزيقي يستبعد التنبؤ بالحقيقة بالوسائل العلمية . إن القول بالحتمية يعني الإقرار بحتمية المطابقة التي تتجلى في مظاهر مختلفة ، على نحو الطبيعة ، والإنسان ، والدماغ .
تثار مسألة الحقيقة بإلحاح في أوساط المؤرخين . وتتعدد التصورات حول تقويمها وتحديد معالمها . ومن بين هذه التصورات نجد الواقعية الميتافزيقية التي تقر بوجود حقيقة مطلقة يمكن التوصل إليها بالأدوات العلمية، ثم تيارات مابعد حداثية تنفي الحتمية والتنبؤ ، وتعتبر الحقيقة غير موجودة بصفة مسبقة أو نهائية ، ثم الواقعية العلمية التي تؤمن بنسبية معتدلة ناتجة عن تفاعل الذات مع المحيط ، وترى أن الموضوعية التاريخية أو التحليلية مشوبة بمواقف المؤرخ وانفعالاته وافتراضاته . ويستند هذا التصور الأخير على مشروع التقليد الذرائعي الأمريكي الذي أرسى دعائمه ش.س . برس وأتباعه.
قد يقال إن هذه المواقف مستوردة من الحقل الغربي ، وأنها انتعشت في حقل مخالف لشرطنا الحضاري . لكن هذا الزعم مردود من ناحيتين : أولاهما هي أن العربي جزء من الحضارة الكونية والأنساق العالمية التي يتفاعل معها، وثانيتهما هي الإقرار بوجود جوهر واحد ( تضمن الذهن البشري للآليات نفسها) وبدور المجتمع في برواز الفوارق الحضارية ( هذا متقدم ، وهذا في طريق النمو).
5-شبه النص : الحقيقة العلمية.
يقصد بشبه النص الـتأريخ الثقافي ، وهذا ما يستدعي تجزئة المراحل ، والتركيز على المفهومين الجوهريين المتحكمين فيها ؛ وهما الاتصال والانفصال . تبنى الأستاذ محمد مفتاح تحقيبا ديناميا للثقافة المغربية ، أملته ظروف عالمية وجهوية وداخلية . وتوجد نواة موجهة تتحكم في زمام الحقب رغم اختلاف ظروفها السياسية والاجتماعية . ويعتبر الاتجاه السائد التحقيب معطى يتحدد بالمواضعة الاجتماعية والأدبية ، ويخدم مقاصد إيديولوجية ، ويضطلع بوظائف اجتماعية ، وذلك على عكس الاتجاه الاسطغرافي الذي يراهن على وصف الحقيقة كما كانت عليه بنوع من الموضوعية . تضرب قضية الانفصال / الاتصال بجذورها في التاريخ ، إذ كان هناك طرف يعتبر أجزاء الكون متناغمة ، ويقابله طرف يعتبرها منفصلة . وانضافت إليها مفاهيم مابعد حداثية على نحو الاستمرار ، والنسق ، واللانسق ، والنظام ، والتشتت ، والانقسام ، والتطور السريع. إن مفكري وفلاسفة مابعد الحداثة تعاملوا مع هذه المفاهيم العلمية بكيفيات مختلفة ، ووظفوها في مجالات معرفية شتى . وحصر الأستاذ محمد مفتاح مختلف المواقف في مسألة الاتصال والانفصال في ثلاثة ؛ وهي موقف القطيعة المطلقة ( بودريار ومدرسته) ، وموقف الاتصال المتطور ( تيار مدرسة فرانكفورت) ، وبينهما يوجد موقف التوسط ( ميشيل فوكو).
مما تقدم نلاحظ أن مفتاح يبحر في شطآن غربية ، ومُبرِّراهُ في ذلك الإيمان بمبدأ الشمولية ( اشتغال المفاهيم الكونية بكيفية متطابقة ) ، ومراعاة مبدأ الخصوصية ( احترام طبيعة كل ظاهرة محللة ). وفي إطار هذه الجدلية بين الكوني والخصوصي ، يقدم تحقييا للثقافة المغربية ، معتبرا إياها نسقا ديناميا يتفاعل مع المحيط ، ويسير في شكل دوري ، وينتقل من العماء الحقيقي إلى الانتظام فإلى عماء منظم ناتج عن تسارع التطورات ؛ ومحددا حالاتها الأولية التي تتشخص في شكل نواة موجهة لسيرورة الزمنية عبر حقب متعددة ( الجهاد أو الاصطدام مع الأجنبي). قد يسخط بعض المؤرخين على هذا النوع من التحقيب لكونه اختزاليا في معالجة ثقافة ثرة ، وممتدة في الزمان والمكان . لكنه يتضمن خلاصات ويقدم عبرا ؛ وتكمن في وجود ناظم بين مختلف الحقب ، وضبط مقدار التحولات ، وتوظيف مفاهيم شموالية فعالة ، وتشييد حقائق عملية لفهم الماضي واسشراف آفاق المستقبل(5).
6-التناص : الحقيقة الجمالية.
إن الحقيقة الجمالية مكتفية في الشعر ومودعة فيه . وبتعدد المقاربات تباينت الزوايا والمستويات لفهم هذه الحقيقة . وإذا تشكل برج بابل من التعددية المنهجية ، فإن لكل باحث منارته الخاصة به يطل منها لفهم الخطاب الشعري، وأبعاده الانتربولوجية ، وشرطه الإنساني . وتستند رؤية الباحث محمد مفتاح إلى تجاوز الثنائيات المختزلة والمبتسرة ، وإعداد مخطط معالمه الرئيسية من السيميائيات ، والدليلية ، وتدقيقاته من علم النفس المعرفي ، ونظرية العماء ، وإثبات التعالقات بين عناصر الكون ؛ ومنها التعالق بين عناصر النص . وانطلق من منهاجية دليلية ترتكز على مفاهيم جوهرية ومفاهيم متدرجة منها، وتشتغل على متن محدد مكون من دوانين للشاعر رفعت سلام ؛ وهما: " إنها تومئ لي " ثم "وهكذا قلت للهاوية" .
وسع الأستاذ محمد مفتاح الدليل البرسي ليشمل ما يحويه الكون ، ومقسما إياه إلى دليل أكبر ( جماع من التراتبيات والبنيات المنبثقة عن الوحدة) ودليل أصغر (اضطمام العناصر في تعالقات منظمة). ونظر إلى الدليل في علائقه المتدرجة (التطابق ، والتداخل ، والتحاذي ، والتباعد ، والتقاصي ) ومن خلال درجاته (النص الواضح ، والنص البين ، والنص الظاهر ، والنص المحتمل ، والنص الممكن ، والنص العمي). وفيما يخص المدلول ، قدم الأستاذ محمد مفتاح إستراتيجية قرائية ، ودرجات تأويلية ، واستبدل الدلالة العامة للنص ب"القلب" ( قلب المعاني السائدة ، وقلب المفاهيم المتداولة ، وقلب تراتب الجمل ) . وتعامل مع الدال بوصفه أيقونة ومؤشرا ورمزا ، وهذا ما جعله يعالج لعبة البياض والسواد ، وجدلية التوازي الظاهر والتوازي الخفي . إن الكشف عن التدلال المرجعي يحتم التعامل مع العلاقة بين الخطاب الشعري والمرجعية بكونها ضرورية وطبيعية ، وليست اعتباطية . وتم التدقيق في هذه العلاقة بوضع مفاهيم متدرجة ؛ وهذه المفاهيم هي الأيقون المطلق ، والأيقون المتماثل ، والأيقون المتشابه ، والتعالق ، والتعاقد ، والتواطؤ.
مما تقدم يتضح أن الأستاذ محمد مفتاح ارتكز على منهاجية تدليلية موسعة ومدمجة ، وهو ما يمكن أن نعاينه من التوليف بين مفاهيم ممتوحة من مناهج وحقول معرفية متعددة ( السيميائيات ، وعلم النفس المعرفي ، ونظرية العماء ) . كما أنه اضطلع بتعديل وتحوير بعض منها ( على نحو توسيع مفهوم الدليل ليشمل الدال ، والملول ، والتدلال المعنوي ، والتدلال التداولي المرجعي) ، وتجاوز انبنائها وتعالقها في ثنائيات مختزلة باقتراح تدريجات وتقسيمات سداسية ، وبرهن على إمكانية البحث عن النظام وراء مظاهر الفوضى والعماء ، واستخراج القوانين الشمولية التي تتحكم في الكون.
7- النصنصة ( أوالنص المركب ): الحقائق المتعددة.
يطرح كتاب الحب لمحمد بنيس ( كغيره من النصوص المعاصرة) إشكالية التجنيس لكونه توليفا بين نظامين سميائيين متباينين ( الشعر والتشكيل). وهذا ما يصطلح عليه الأستاذ محمد مفتاح بالنصنصة التي يحدد شكلها مضمونها ، وتعين بنيتها وظيفتها . وتقوم ميتافزيقا النصنصة على إمكانات النمو في مسارات مختلفة . وهي هنا مشيدة على نظامين ؛ أحدهما يختزل المتعدد ( التشكيل) ، وثانيهما يفصل الموحد ( الشعر) . وتداخلهما يفسح المجال لكل طرف بأن يفسر ويؤول الآخر، ويعضد التعبير عن رسالة مشتركة ؛ وهي مأساوية العالم العربي على وجه التحديد. وقدم الأستاذ محمد مفتاح شكة من المفاهيم لتوصيف الأنظمة السيميائية المركبة . وهذه المفاهيم هي : التطابق ( الاستنساخ) ، والتحاذي ( محافظة المستنسخات على بنياتها دون أن يلحقها أدنى تغيير) ، والتداخل ( تحوير وتغيير النصوص المضمنة)، والتفاعل ( تماسك النصوص واتساقها كما لوكانت نصا واحدا ) ، والقلب ( تصوير الرسالة لوضع مقلوب). ويخلص الأستاذ محمد مفتاح إلى أن وراء فوضى الكتاب وتشتته وانقطاعه تكمن خاصية النظام والانتظام ، وبين أن المابعد حداثي في العالم الغربي يرى أن العماء تَجَل لبنيات مركبة ومعقدة ، في حين أن الرسام والشاعر العربي يعيشان في عالم ماقبل حداثي موسوم بعماء من نوع خاص.
خاتمة:
مما تقدم يتضح أن الأستاذ محمد مفتاح قدم صنافة مفهومية تشييدية تنطلق من مفهوم مركزي (النص ) لتبديد التشويشات والاضطرابات ، وعرض الترتيب التالي : اللانض ( النص الكوني والنص الطبيعي ) ، وشبه النص ، والتناص ، والنصنصة . ومن خلال هذا الكشف المفهومي ، يتبين أن الأستاذ محمد مفتاح تقصد معالجة النص من زوايا متعددة ، والتعامل معه كنسق في حد ذاته ، وفي علاقته مع أنساق سيميائية أخرى ، ومع المحيط ، وضبط الحقائق التي يستضمرها ، وحصر العلائق التي تجمعه بالمفهوم الأصلي اللاتيني ، وبالمفاهيم العربية القريبة منه. إن هذه المعالجة التركيبية والنسقية لاتسعف فيها المنهاجية الواحدة ، ولايجدي فيها المجال المعرفي الأوحد ؛ مما اقتضى الأمر توظيف منهاجية تدليلية موسعة ومدمجة (السيميائيات ، وعلم النفس المعرفي ، ونظرية العماء) ، وتوسل الحقيقة باستراتجيات قرائية وتأويلية متعددة ، والانفتاح على تيارات معرفية وعلمية مختلفة. ومن الأمور التي راهن عليها الأستاذ محمد مفتاح ، ضبط المفاهيم بالنحت ( الحقملة والنصنصة ) ، والمقارنة (بين مفهوم النص في الحقل الغربي وبين مثيله في المصادر الإسلامية) ، والتدريج ( تجاوز الثنائيات المختزلة ) ، والتحديد ( على نحو التعاريف التي أعطاها للتطابق ، والتحاذي ، والتداخل..) ، وتجنب الدخيل ( إيجاد مقابلات عربية للاصطلاحات الغربية) ؛ وتبني التحليل النسقي الشمولي ، والتدليل على مسألة الفطريات والجوهرانيات التي تتقاسمها الشعوب بغض النظر عن الجنس والزمكان(6) ، وتأويل الأعمال البشرية وإبداعاتها بطريقة واقعية. تستدعي هذه الفكرة الأخيرة والمثبتة كعنوان فرعي قراءة فلسفية وابستمولوجية للكتاب . فالمتتبع لمشروع مفتاح يعاين في كل حلقة من حلقاته ثقافته العلمية ، وانفتاحه على مرجعيات جديدة متقاطعة مع المرجعيات المتعامل معها . ارتكز في هذا الكتاب على دليلية برس ، وحاورها لتمثل مفاهيمها الكونية ، وتوسيع مجالها ، وإدخال تعديلات عليها لتكون مسعفة على فهم النص بشمولية ونسقية . وهذا ما يحفز على ضبط مفهوم الواقع عند برس(7) ، وتعيين مثيله عند الأستاذ محمد مفتاح ، ثم المقارنة بينهما لبيان كيفية تعامل كل واحد معه ، واستنتاج أوجه التشابه والاختلاف ، وإبراز جدلية الكوني والخصوصي.
----------------------------------------------------
الهوامش:
1 - عبد السلام المسدي ، " صياغة المصطلح وأسسها النظرية" ، في : تأسيس القضية الاصطلاحية ، بيت الحكمة ، قرطاج ، 1989 ، ص30
2- محمد مفتاح ، المفاهيم معالم نحو تأويل واقعي ، المركز الثقافي العربي ، ط1 ،1999.
3 - أنظر في هذا الصدد إلى: " من التعددية المنهجية إلى نسقية الثقافة" .
4 -لقد سبق لمحمد مفتاح أن وظف مبدأ التدريج . اقترح مفاهيم مرتبة تدريجيا من الكثرة إلى القلة على القياس والتقريب. أنظر في هذا الصدد إلى التشابه والاختلاف ، المركز الثقافي العربي ، ط1 ، 1996 ،ص44.
5 -خصص محمد مفتاح الفصل الرابع من كتابه التشابه والاختلاف لتحقيب الأدب المغربي بمنهاجية نسقية تفترض تمحوره حول وظيفة الدعوة إلى الاتحاد والجهاد وخدمة المقاصد السياسية ، وتقتضي التعامل معه بوصفه نسقا فرعيا من نسق مجتمعي عام.
6 - تبين لمحمد مفتاح من خلال تحليل عينات من المؤلفات الإسلامية على اختلاف مجالاتها وأجناسها ، أن كثيرا من القضايا التي عالجتها ، مازالت حديث الساعة ، ويوجد ما يماثلها في الحضارة الغربية رغم التفاوت الزمني ، وانعدام قنوات التأثير والتأثر. ويبرر محمد مفتاح ذلك بوجود آليات كونية إنسانية وإبداعات فنية فطرية . والفرق بين البشر ليس في الطبيعة ، بل في الدرجة . ويرتهن التقدم أو التأخر بطبيعة المجتمع وعقليته. ورغم توصل العلماء المغاربة إلى حقائق علمية ساطعة ، لم يكن من الممكن تطويرها لحالة المجتمع .
لمزيد من التفصيل ، أنظر إلى التلقي والتأويل مقاربة نسقية ، المركز الثقافي العربي ، ط1 ، 1994.
7 - يستمد تصور برس للواقع من تأثره بمثالية وظاهرية كانط ، و من نقضه للتصورات النفسانية . ويختزل برس تصوره في النقط التالية :
أ-لا نملك قدرة الاستبطان ، وإنما تتفرع كل معرفة عن العالم من إدراك الوقائع الخارجية بالبرهنة الافتراضية.
ب-لانملك القدرة على الحدس ، بل إن كل معرفة تتحدد منطقيا بمعارف سابقة.
ج-لانملك القدرة على التفكير بدون أدلة.
د-لانملك تصورا عن المجهول المطلق
أنظر إلى جيرار دولادال ، ش .س .برس الظاهراتي والسيميائي ، منشورات جون بنجمان ، أمستردام/فيلادفيا ، 1987 ،ص16.


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009