محمد برادة.. مفرد بصيغة الجمع
[تعززت، في المغرب، ظاهرة " المقاهي" الأدبية، التي يتوخى المشرفون عليها إثارة جملة من القضايا الأدبية لمخاطبة جمهور واسع ومتنوع، وحفْزه على اكتساب مهارة القراءة حتى تغدو عادة متأصلة في سلوكه المعتاد. وفي هذا المضمار نظم " أصدقاء المقهى الأدبي" ، يوم الخميس 17 ماي مايو بفندق "بييتري" في قلب الرباط، لقاء مفتوحا مع الأديب محمد برادة لمناقشة مساره النقدي والإبداعي. وفيما يلي كلمة الناقد المغربي الداهي الذي مهد بها الجلسة حتى يعطي نظرة عامة عن مجمل مؤلفات المحتفى به، ويثير شهية الحاضرين لطرح الأسئلة أو المشاركة في خضم النقاش الذي اتسم، عموما، بالغنى والعمق والصراحة] نشرت هذه المداخلة بالملحق الثقافي لجريدة الأحداث المغربية يوم الجمعة 25 ماي 2012 العدد 4673.
أجدني، في الحديث عن محمد برادة، منجذبا إلى صورته المتعددة التي نحتتها تجربته الطويلة في التدريس والنقد والترجمة والإبداع القصصي والروائي والنضال السياسي والعمل الجمعوي.. وهي، في عصارتها، ترسم أسطورته الشخصية التي تنشد الحرية بصفتها شرطا حيويا لإغناء التجارب البشرية ودعم تعايش الأصوات والنغمات المتنافرة، وتطمح إلى تجديد نسغ اللغة والحياة، وترسيخ قيم التغيير والفكر المستنير والمسعى الحداثي.
ليس محمد برادة من طينة من يواكب سيرورة التغيير من عل، وإنما انخرط قلبا وقالبا في يمه ولجته مسهما في تحريك سواكن المجتمع، وزحزحة مفهوم الأدب، وتقليب التربة ، وارتياد الآفاق والأغوار المجهولة. وما يثير في تجربته المتعددة، ركوبُه غوارب المغامرة كما لو كان بطلا إشكاليا يختبر روحه بحثا عن " الكلية التلقائية للكيونة" التي نضبت مياهها، وحفرت في تضاريس العالم شروخا لا تلتئم ( على حد تعبير جورش لوكاش)... ومما أسعف محمد برادة على خوض مغامراته المتنوعة بنجاح وفاعلية رغم كثرة العراقيل والمثبطات توسله إلى العلم بافتراش المدر، وكثرة النظر...وهو ما جعله يحقق جزءا من مطامحه، ويداري ما تبقى منها أو لم يتحقق في قصصه ورواياته وخواطره..
إن المغامرات التي خاضها محمد برادة ومازال يخوضها بعنفوان شبابه ( ما الشباب إلا كلمة على حد تعبير بيير بورديو) حتمت عليه أن يكون في جبهات متعددة سعيا إلى التخلي عن أقمطة المحافظة والتكريس، والإمساك بتلابيب الضوء الهارب. ومن بين الجبهات التي كرس لها محمد برادة وقتا طويلا من حياته جبهة الرواية باعتبارها مدخلا للتعدد اللغوي والثقافي والسياسي، ودعامة أساسية لنقد الذاكرة المحنطة والسلطة المستبدة، ورسم آفاق محتملة للتغيير والعيش الكريم .. وقد كانت هذه الجبهة من أعتى الجبهات بحكم غلبة روح التقليد والمحافظة، والتشبث بالنماذج الجاهزة، ومعاداة ثقافة الاختلاف، والسعي إلى تكريس صوت أحادي يجسد عين الحقيقة المطلقة. وقد بذل محمد برادة جهدا كبيرا حتى يعطي لهذا الفن الوضع الاعتباري المستحق، ويجلي دوره في إنتاج معرفة تسعف على بلورة هوية الثقافة واستجلاء مجاهيل المتخيل الرحب. فإليه يعود الفضل في إدخال مادة الرواية إلى المناهج الجامعية بعدما كان ينظر إليها كوسيلة للتسلية والترفيه، و مفسدة للغة والعقل والذوق. وقد أسهمت كتاباته النقدية وترجماته وإبداعاته في إضفاء الشرعية على الرواية، وتبيان قيمتها وجدواها في المجتمع.
ترجم محمد برادة كتاب " الرواية المغربية(1971.)" لعبد الكبير الخطيبي نظرا لقيمته باعتماد مناهج متطورة ( التقنيات البنيوية، والمنهج الظاهراتي، والنظرية الماركسية) لنقد الرواية المغاربية المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، واستجلاء تضاريسها الداخلية، وتعليل علاقاتها الجدلية بالتحولات السياسية والاجتماعية. ثم ترجم بعد سنوات " الخطاب الروائي(1987)" لميخائيل باختين بالنظر إلى راهنيته لفتح عيون النقاد العرب على ما تزخر به الرواية من تنوع اللغات والأساليب والأجناس المتخللة والأصوات الفردية والجماعية، وما تطرحه من إشكالات بصدد التشخيص الأدبي لكلام الآخر واستحضاره في سياقات مختلفة لأغراض دلالية وإيديولوجية معينة.
وما يسترعي الانتباه في تجربة محمد برادة النقدية(أسئلة الرواية أسئلة النقد(1996)، فضاءات روائية (2003)، الرواية ذاكرة مفتوحة(2007)، الذات في السرد العربي(2011)، الرواية العربية ورهان التجديد(2011)) هو أنه يعد من أكثر النقاد مقاربة للجنس الروائي بحكم العدد الهائل من الروايات التي حللها، ومن صفوة الباحثين الذين واكبوا، بالنظر إلى سعة نظرهم وثقافتهم، مسيرة الرواية العربية مستجلين خاصياتها الفنية والجمالية ومبينين الخيوط التي تربطها بالرواية العالمية. وتتسم الممارسة النقدية لمحمد برادة عموما بما يلي:
ا-لا يثقل محمد برادة التحاليل بالمصطلحات والاستشهادات تجنبا للتشويش على القراء، و حرصا على استدراجهم لإقامة التواصل مع الفضاءات الروائية، والاستمتاع بعوالمها التخييلية.
-ب-يحرص، دوما، على ممارسة النقد في منأى عن الضجيج أو الصخب الإيديولوجيين، وإحداث قطيعة مع النقد الإيديولوجي الذي يؤكد حقائق جاهزة وأحكام مسبقة، وهو ما يحول دون ملامسة الجوانب الفنية في النص، وتعرُّف كينونته، والإنصات إلى نبضاته.
ج- يراهن محمد برادة، في إطار دفاعه عن الحداثة الثقافية، على دور الرواية بوصفها أداة لتجاوز وظيفتيْ الدعاية والتبرير الإيديولوجيين، ونقد التصورات المغلوطة، وتجسيد رموز وعلامات المتخيل الشعبي ، و استيحاء كل ما يمت بصلة إلى الصراع والتجابه وتعدد الرؤى. إن اضطلاع الرواية، في نظر محمد برادة، بالإسهام في تشكيل معالم الحداثة رهين بإزاحة كل أشكال الرقابة والمنع والمصادرة التي تكبح الخيال وتعيد إنتاج البنيات الاجتماعية والثقافية السائدة. ولهذا تكتسي الديمقراطية ، في تصوره، مكانة خاصة لكونها تضمن حرية التعبير والتنوع الثقافي، وتحفز على استكشاف الأصقاع المجهولة داخل المجتمع العربي، وتنمي لدى الفرد الوعي بكرامته ومواطنته.
د- يركز محمد برادة في تحليلاته على مفهوم التعددية لقياس مدى انزياح المجتمع العربي عن مظاهر الامتثالية والتكريس والتبرير. وفي هذا الإطار قارب محمد برادة روايات عربية يعي أصحابها بدور اللغة في التقاط تحولات العالم العربي، وتشخيص الأصوات والعلاقات بطريقة أدبية. لقد انتقلت الرواية من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة لتجريب تقنيات جديدة تمكن من استيعاب التعدد الثقافي و أوجه الصراع الاجتماعي والإيديولوجي. وهذا ما اقتضى من الناقد محمد برادة الاستفادة من تحليلات ميخائيل باختين لبلورة لغة واصفة ( على نحو الحوارية، والتشخيص الأدبي للغة، وتعدد الأصوات، والتعدد اللغوي..) تسعف على تبيُّن التضاريس اللغوية في الرواية واستجلاء خلفياتها الإيديولوجية، و تبين الطفرات التي حققتها الرواية العربية من جراء تنوع بنياتها السردية واللغوية لرصد التحولات الاجتماعية العميقة، واستثمار بعض مكونات المتخيل الشعبي، و زحزحة الخطاب الرسمي لفائدة الفئات التواقة إلى تغيير البنيات الاجتماعية والثقافية ودمقْرطتها.
ه- لقد حتم تبدل العالم، في كل المجالات، تغير مفهوم الأدب و وظيفته داخل المجتمع. وهكذا انتقل الأدب من الجمعي إلى الذاتي، وغدا ، أكثر من أي وقت مضى، مطبوعا بالتذري(Atomisation) وسط عالم يخضع للتقنين والمراقبة، وأصبح ينزع إلى التحرر من التبعية الإيديولوجية. ولم تعمل هذه البواعث إلا على تعزيز دور الرواية داخل المجتمع بحكم اتساع بنياتها لاستيعاب مختلف الصراعات الإيديولوجية والتناقضات الاجتماعية، وبالنظر إلى قدرتها على مناهضة الخطاب الرسمي، واستنطاق مكنون الذات وأغوارها، وبلورة لغة الكشف والمُسارَّة لمخاطبة وجدان القارئ واستنطاق متخيله.
و-لما بوَّأ محمد برادة، في تساوق مع ثلة من الباحثين العرب، الرواية العربية المكانة التي تستحقها ، تغيرت نظرة العرب إليها، إذ أصبحوا يتعاملون معها بوصفها أداة إبداعية ومعرفية لإعادة إنتاج الواقع ومساءلة الإيديولوجيات السائدة. وما يميز تجربته ، عموما، تعاملُه مع الرواية باعتبارها أداة لدمقْرطة الثقافة، ونبذ كل ما يمت بصلة إلى أشكال التسلط والاستبداد والمصادرة.وهذا ما جعل تحليلاته لا تركز على الجانب التقني فقط، وإنما أيضا تهدف إلى إشاعة قيم جمالية جديدة قوامها الحوارية، والتعدد اللغوي والثقافي، وشعرية المجهول، والحقيقة الملتبسة والمتعددة، ولغة الكشف والبوح، وحرية التعبير، والأصوات والرؤيات المتعددة، وديمقراطية الثقافة...الخ.
ز- إن النقد العربي، في نظر محمد برادة، لم يعط للتخييل Fiction ما يستحقه من اعتبار رغم دوره المركزي في إعادة تشخيص الواقع وإدراكه في نِسبيَّته، وفي تشييد بناءات رمزية على أنقاض ما هو جاهز ومباشر. وتعامل محمد برادة مع التخييل بوصفه ذاكرة مفتوحة تستجمع عناصر متباينة مستوحاة من أزمنة مختلفة.
لم يكتب محمد برادة النص الروائي إلا بعد أن خبر أغوار القصة القصيرة وأشكالها متفاعلا مع " النص العام" في مختلف تجلياته وملامحه، معيدا النظر في كثير من المفاهيم المتعلقة بالواقعية والالتزام، حريصا على تمييز الإبداع عن كثير من الخطابات السائدة. و هو، في كل ما كتب، يسعى إلى فهم ذاته ومساءلتها من زوايا متعددة.تتوارى " أناه المستترة" في أدغال النص وتضاريسه متنكرة في صور وأشكال مختلفة.وهي، وإن حرصت على التقاط تفاصيل اليومي والقيم المنهارة والأحلام المحبطة، تسعى إلى تشخيص " الحقيقة الداخلية" وإبراز تلويناتها وتجلياتها في "مرايا متقابلة".
غالبا ما يهتم النقاد بالقضايا الأساسية في الرواية. وهو ما يجعلهم يغضون الطرف عن بعض الجزئيات رغم حمولاتها الدلالية والرمزية. وفي هذا الصدد يمكن أن نستحضر علاقة الهادي ، في "لعبة النسيان(1987)"، بشخصية ف.ب ثم علاقة حماد بأم فتحية في "مثل صيف لن يتكرر". ما يهم، في العلاقة الأولى، هو أن شخصية ف.ب، بحكم فاعليتها وحركيتها ، تتجسد في أكثر من موقف ولغة ومشهد. وتجلي العلاقة الثانية عدم قدرة الفرد أحيانا على التعبير عن مشاعره حيال الآخرين في الوقت المناسب لبواعث متعددة.وهو ما حدث لحماد مع شخصية أم فتحية.أراد أن يعبر لها بعد سنيين من مغادرة القاهرة عن المحبة والتقدير اللذين يكنهما لها. لكنه لم يفلح في توثيق الصلة بها من جديد وهو ما ترك في نفسيته حسرة كبيرة. يتضح، من خلال ملاحقة ظلال "الأنا المستترة" أن محمد برادة يتقن لعبتيْ التخفي والتعتيم، وهو ما يجعل القارئ متحيرا من أمره.. أهو أم ليس هو؟ وما يهم في اللعبة ، التي يتقن قواعدها الكتاب الكبار، ليس البحث عن المطابقة بين المؤلف وضعفه الخيالي، وإنما بيان القدرة التي يتحلى بها المبدع لمعاينة ذاته من زوايا متعددة سعيا إلى إضاءة جوانبها الداجية، وفهم أسرارها المغفية، واستجلاء صورها المتناسلة.
ينتدب محمد برادة، في "لعبة النسيان"، شخصية الهادي لاستجماع عينات سيرذاتية تتقاطع مع الذاكرة الجماعية (استحضار صورة الأم " لالة الغالية"، ترتيب الأفكار والمشاعر المتناسلة، الارتداد إلى عالم الطفولة)، ومساءلة اللغة السياسية المتخشبة، والكشف عن هموم الذات وإحباطاتها المختلفة، والتسلح بأدوات التحليل النفسي لفهم مركبات الإنسان العربي وعقده قبل الصدع بالتغيير ( وهو ما يوحي به استفسار الهادي ثلة من المناضلين عن مصير أمه في اجتماع حزبي).
يفوض محمد برادة في " مثل صيف لن يتكرر(1993)"، شخصية خيالية تحمل اسمه المستعار لاسترجاع الحياة الحقيقية أو المفترضة.اختار برادة، في هذا العمل، إستراتجية حكائية (التخييل الذاتي Autofiction) مازالت تشغل بال النقاد قصد التعريف بها، وتحديد سماتها ومميزاتها. ولم يصبح لها وضع اعتباري في النقاشات والجدالات الأدبية إلا في العقود الأخيرة. ويصر دعاة " المعنى الحصري" لمفهوم التخييل الذاتي على اضطلاع شخصية خيالية تحمل اسم الكاتب أو ما يحيل إليه بسرد قصة حقيقية عن ماضيه الشخصي. وما يميزها عن السيرة الذاتية أن الكاتب يختلف عن هذه الشخصية الخيالية، ويبرم ميثاقا تخييليا مع القارئ ( يصنف عمله ضمن المحكيات أو الرواية) وإن كان يوهمه بسرد حياته الخاصة كما عاشها. لقد تكلف حماد بإعادة تشخيص حياة المؤلف ومساره التعليمي والفكري والعاطفي مضفيا عليه مسحات من الخيال والوهم.
يرصد حماد (قناع من أقنعة المؤلف) مساره التعليمي والفكري الذي توطد بنيانه بأرض كنانة. وإن ركز على الفترة الذهبية التي قضاها بها (1955-1960) فقد ألحقها بالزيارات المتكررة لها لإعداد أطروحته عن محمد مندور، ثم المشاركة في المناسبات الثقافية بعد أن انتزع الاعتراف به كمثقف شاب يثير أسئلة مستحدثة ومستفزة لمقاربة مختلف القضايا الأدبية والفكرية. وهذا لا يعني بأن المسار الفكري يخضع لترتيب زمني منطقي، وإنما هو عبارة عن ارتدادات واستباقات يتداخل فيها الماضي بالحاضر وبالمستقبل. وكانت ذاكرة حماد - بين الفينة والأخرى - تقفز إلى المدارس التي ارتادها بالمغرب قبل أن يلتحق بمصر.
سافر إلى القاهرة سنة 1955 لمتابعة دراسته لأن التعليم بالعربية في المدارس الحرة المغربية يتوقف عند عتبة البكالوريا. فنسج مع علاء وبرهوم (الفرسان الثلاثة) علاقات متينة دامت خمس سنوات، ثم استمرت فيما بعد من خلال الصداقة والذكريات المشتركة.وفي موازاة مع رحلة التكوين والبحث بدأت تجربته الوجدانية والسياسية تفتح آفاقا وامتدادات جديدة. ففيما يخص تجربته الوجدانية دفعه الفضول إلى اكتشاف القاهرة اللاهية والفاتنة، وبدأ ينزع أكثر إلى فهم الجنس اللطيف وتفجير رغائبه الداخلية. وإلى جانب أن هذا الجنس يحظى بمكانة خاصة في قلبه، فهو يشغل لحظات متألقة في مخزون ذاكرته. فالأنثى تفتح شهيته للبوح بالكلام الجميل والمنساب، وتبعث استيهاماته من مراقدها. أما التجربة السياسية فتطبعها أحداث جسام ( تأميم قناة السويس، العدوان الثلاثي، استقلال المغرب، توتر العلاقة بين الدولة والتنظيمات اليسارية، هبّة 1968 بفرنسا)، وشخصيات استثنائية( على نحو عبد الناصر والمهدي بنبركة).
اختار محمد برادة، في الضوء الهارب(1993)، التعبير عن ذاته بحرية مطلقة على نحو يتصالح فيه الحلم بالواقع، ويختلط فيه الصدق بالكذب. يقدم العيشوني صورة مزيفة ووهمية عن صانعه مشخصا ما يهجس ويحلم ويحس به، ومستحضرا ما يستضمره من أوهام وأضغاث أحلام واستيهامات، ومبينا طبيعة العلاقة الاستعارية التي تجمع بين طرفي التشبيه: طرف جلي يهم حياة العشوني الذي ازدادت إحباطاته جراء عجزه عن إسكان الضوء الهارب في قماش اللوحة وطرف مستتر يجتر الأحلام المحبطة التي خلفت جروحا في الذاكرة، ويصر، مع ذلك، على ملاحقتها والإمساك بتلابيبها. وهو ما يتجسد روائيا(الكلية الخفية) في شكل الحنين إلى العصر الملحمي حيث التلاحم بين الذات ومطالباها ومتمنياتها (على حد تعبير جورج لوكاش).
تزاوج رواية " امرأة النسيان(2001)" بين الطابعين السيرذاتي والتخييلي في مواكبة مسارين مختلفين وإن حصل تقاطع بينهما على مستوى الوظائف الإدماجية: مسار شخصية ف.ب التي انتزع المؤلف نبتتها من روايته " لعبة النسيان" ليمنح لها روحا ووضعا جديدين مركزا على عيشها في محبسها بحي " فيردان" بالدار البيضاء مستسلمة ومنتظرة لحظة الموت. راكمت تجارب ومغامرات عديدة، جعلتها تشعر دوما، رغم وشك شبح الموت، أن لكل الأشياء بدايات متجددة.. وهي تظل حائرة أمام الأسباب والبواعث الغامضة التي قادت قدميها إلى سكة الانحدار. ثم مسار المؤلف الذي يستحضر عينات سيرذاتية يمكن التحقق من صدقيتها وصحتها لكنه أحاطها بغلالة من التخييل حتى يمنح لنفسه هامشا رحبا من الحرية لنقد الوضع الذي آل اليه الحزب الذي ينتمي إليه بعد أن أصبح يتحمل المسؤولية في حكومة التناوب، ومعاينة كيف ظهرت مظاهر الرخاء والنعم على عينة من المناضلين الذين كانوا، بالأمس القريب، يحلمون بتطهير البلاد وإصلاح العباد. إن مجمل هذه التحولات والارتجاجات التي وقعت في المجتمع جعلت السارد يشعر من جديد بالوحدة والغربة كما لو كان كائنا غريبا في مجتمع تتصدع قيمه وتتلاشى أحلامه الوردية وتستفحل فيه مظاهر العنف والفساد والترقي الاجتماعي غير المشروع. ويعلل السارد، في شرنقة الصمت والتردد، هذا النوع من المفارقات التي طبعت حياة المناضلين وهم يستقبلون عهدا جديدا بكون كل مسار من مساراتهم تتساكن فيه الصلابة الإيديولوجية إلى جوار هشاشة الروح والجسد.
يهيمن المحكي الذاتي في "رواية حيوات متجاورة(2009)" على مجمل المحكيات المضمنة في الرواية. أسعفت رقعته على استشفاف الحياة الداخلية للشخوص ( البوح والاستبطان والاستطراد والتحليل الذاتي)، و تلاقح السيرذاتي والتخييلي، وتنامي حركات الوعي وتموجاته، وتناسل العوائق النفسية التي تحول دون تحقق المراد بسبب تعمق الهوة بين صفاء السريرة وزيف الواقع، وبين الضجيج الإيديولوجي وارتداد المشاريع الفردية والجماعية، وبين الأفكار الحالية والأفكار المنصرمة.
يكشف سميح ، في مذكراته، عن الظروف التي أسعفته على التعرف إلى الشخصيات الثلاث ( نعيمة آيت لهنا وولدهنية و الوارتي)، وحفزته على تعزيز أواصر الصداقة مع كل واحدة منها، ودفعته إلى البحث عن ارتياد عوالمها الحميمة من خلال استجابتها طوعا للبوح بأسرارها ومغامراتها في الحياة. تعرف إلى نعيمة، على متن الطائرة، لما كان عائدا يوما ما من باريس، وتوطدت العلاقة الحميمة بينهما ما يربو على عشر سنوات. وتجمعه علاقة ود وصداقة بولد هنية منذ مطلع الطفولة إذ كان يتردد على زيارة أخته التي كانت خادما لدى والدة سميح. وكان سميح يعرف الوراثي عن بعد بوصفه مثقفا وموظفا ساميا وشخصية مرموقة. وتذرع بإجراء حوار معه يلحقه بكتاب يشمل عشرين شخصية بارزة أثرت في تاريخ المغرب خلال القرن العشرين. لكنه كان يسعى، في العمق، إلى التعمق في المعلومات التي كشفت عنها نعيمة بصدد علاقته بها والسهرات التي كان ينظمها في منزله، وفهم طبيعة شخصيته المبهمة والمحيرة.
ضمَّن سميح -الذي يمثل وجه من وجوه المؤلف-في محكياته عيِّنات سيرذاتية لاسترجاع مساره التعليمي بطريقة مقتضبة ومتقطعة، ورصد تجربته في الحياة والنضال ومساءلتها، والكشف عن تأملاته إزاء التحولات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي شهدها المغرب بعد حصوله على الاستقلال، واستجلاء العلاقة الملتبسة بين الواقعي والخيالي، وبين السياسي والعاطفي، وبين الجماعي والشخصي. وهكذا ينتعش، من جهة، التخييل بين ثنايا النص وتضاريسه اللغوية والسردية لرصد مسارات شخصية فريدة وإعادة تركيب خيوطها وبعث ما تحتويه من استيهامات وأوهام وتطلعات وإحباطات. ومن جهة ثانية، يعاد تشخيص الواقع أدبيا وفنيا لإبراز الصراع المرير وغير المتكافئ الذي خاضه مجايلو سميح مع السلطة العتيقة التي كبحت جماح الحرية و الانعتاق وفرضت أحادية الرؤية والتوجه في الحياة. وعليه، لم يجد سميح بدا من الاحتماء بالإبداع حتى " يزعزع مقاييس الأخلاق الموروثة"، ويبرز ما يكتنف المجتمع من مفارقات تعمق الهوة بين ما هو ظاهر وعياني و باطني وخفي، ويقاوم الضجر والرتابة اللذين يشعر بهما المرء أمام حربائية الأيام وغدرها، وتبدل القيم واستحالتها إلى موجات من السراب الخادع، ويرتاد عوالم "المحرمات" حيث تنكشف مظاهر الرياء والفسوق، وتتحرر النفس البشرية مؤقتا من أعين الرقابة والتلصص، وتتخلص من أسر الوصاية والحجر.
يتضح، مما تقدم، أننا حاولنا رصد صورة من صور برادة المتعددة، فتبين لنا أن الصورة التي حاولنا استنباط أسرارها تتذرى، بدورها، إلى صور أخرى سعى محمد برادة إلى ارتيادها والتنكر في مختلف أشكالها وهيئاتها سعيا إلى توسيع هامش الحرية والمناورة حتى يتمكن من رؤية ذاته متشظية في مرايا متقابلة، ومساءلة الواقع من زوايا ومنظورات متعددة، ورسم آفاق جديدة للمكاشفة والمصالحة والتواصل ، ودمقْرطة العلائق بين البشر بحثا عن السبل الممكنة للعيش الكريم.