بدأ الاهتمام بمجال القراءة في المغرب منذ السبعينات اعتبارا من سنة 1973. كتب أندري آدم في " حوليات إفريقيا الشمالية" مقالتين، وهما: "السياسة الثقافية بالمغرب" و" التعمير والتحول الثقافي بالمغرب". وأنجزت، فيما بعد، أبحاث كثيرة في مراكز التكوين البيداغوجي والجامعات ومدرسة علوم الإعلام وعلى بعض صفحات الجرائد الوطنية. وهي تهم أساسا وضع الكتاب بالمغرب، والسوق الثقافية، وقراءات الطلبة والسجناء والنساء. وبالمقابل هناك دراسات ميدانية ، رغم قلتها، حاولت أن تشخص وضع القراءة بالمغرب اعتمادا على تصور موضوعي لرصد الواقع الثقافي، واستشفاف عادات القراء وميولهم وتوقعاتهم، واستنتاج خلاصات مشيدة على أرقام ونسب ملموسة. ومن ضمنها نذكر أساسا:
§ القراء والقراءة في المغرب لأحمد الرضاوني ومحمد بنيس: تنطلق هذه الدراسة ([1]) من تصور واضح للقراءة تنهض على شروط محددة (الوحدات الفكرية: فهم وقدرة على التداعي أو الإرجاع) لفك شفرات النص وتحويلها إلى مفاهيم ذهنية. واستندت إلى استمارات موزعة على قراء من مدن مغربية مختلفة ( الناظور ووجدة وأكادير وورزازات ومراكش) ومن مستويات ثقافية واجتماعية وتعليمية متفاوتة. واهتمت هذه الدراسة ،التي لامست القراءة من منظورات مختلفة ومتنوعة(نذكر منها: المكان المفضل للقراءة وزمنها- كيفية الحصول على الكتابة- المواضيع المقروءة-جنس المطبوعات)، بالمفارقة الناجمة عن تنامي الاستهلاك الثقافي بالرغم من تدهور الطاقة الشرائية، واستجلت أحوال القراءة بالمغرب ودوافعها وعادات القراء وميولهم وكيفية حصولهم على الكتاب ، وألمت بالملابسات المحيطة بالقراءة والمصاحبة لها.
§ نشر عبد العالي الأزمي بحثا ميدانيا في مجلة " يصدر في المغرب"([2]) مبينا ، من خلاله، كيف يحتك القارئ المغربي بالكتاب، ويتفاعل معه إيجابا أو سلبا. واتضح له أن القراء يطلعون على مصنف ما لأجل المتعة والضرورة، ولا يتعاملون مع القراءة بوصفها عادة متأصلة في سلوكهم وطبعهم. وهم، في غالبيتهم، لا يتوفرون على مكتبة منزلية، ويشتكون من رداءة الخدمات المكتبية لأنها لا تشفي غليلهم من حيث إرشادهم إلى العناوين التي يبحثون عنها أو يمكن أن تفيدهم وتستجيب لتوقعاتهم.
§ أنجز فيرونيك دو بليك Véronique De Blic بحثا قيما حول " سوق النشر بالمغرب"([3]). وقد استوفاه من جوانب عديدة معززة بالأرقام والنسب لبيان صعوبة الاستثمار في مجال النشر بالمغرب لارتفاع تكلفة الكتاب، وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، وانتشار الأمية (52% من مجمل سكان المغرب، بما فيهم 67 % من النساء و47 % من الرجال) التي تقصي 15 مليون مغربي من قراءة الكتب وتداولها ( لا تبقى إلا نسبة ضعيفة 10% تسحن القراءة والكتبة)، و عدم تعميم التعليم (67 % من المتمدرسين في البوادي مقابل 81 % من المتمدرسين في المدن، ناهيك عن الانقطاع المبكر عن المدرسة والهدر المدرسي). تطبع 2000 نسخة من الكتاب ([4])، وتطبع من الأسبوعيات 20 ألف نسخة. ولا يطبع من مجمل الجرائد المغربية إلا 400 ألف نسخة في أقصى الحدود. في حين يميل أغلب الناشرين إلى الكتاب المدرسي الذي يمثل 90 % من مجمل إنتاجهم السنوي بحكم مردوده العام واتساع نسبة التلاميذ ( ما يربو على 6 مليون تلميذ). ويعزى ركود سوق النشر إلى عوامل كثيرة نجملها في مايلي: ضيق الطاقة الاستيعابية للسوق، وقلة التجربة و المهنية، وعدم الاستئناس بلجان القراءة، وعدم التخصص في لون معين من القراءة، وانتفاء توجه عام أو خطة منتظمة للنشر (ligne éditoriale).
§ أنجز طلبة " مسلك مهن الكتاب" (كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق) بحثا ميدانيا تحت إشراف الأستاذ قاسم باصفو([5]) لتقويم أداء المعرض الدولي للكتاب والنشر سنة 2010. ولهذا الغرض وزعوا 600 اسثمارة على الزواء و177 استمارة على العارضين. ومن السلبيات التي توقفوا عندها ضعف الاستقبال (177)، وغلاء الكتب (274)، وعدم انتظام التغطية والمواكبة الإعلامية، وضعف الإخبار بالأنشطة الثقافية (306)، وقلة علامات التشوير لإرشاد الزوار إلى الفضاءات المرغوب فيها ( مرحاض-مقهي- رواق- قاعة - الصحافة..). ومن بين الإيجابيات نذكر جودة مواضيع الجلسات والأنشطة الثقافية(111)، وحسن تنظيم الأروقة(166 جيد، 359 مستحسن)،وتيسير الاتصال بالناشرين والكتاب (73)، وفاعلية التنشيط الثقافي(97). واستخلصوا أن مصنفي الرواية(271) العلوم الإنسانية(297) يحظيان بحصة الأسد من مقتنيات الزوار.
مما تقدم يمكن أن نستخلص الملاحظات الآتية:
§ لا تنشر الأبحاث الميدانية واستطلاعات الرأي على نحو منتظم لتشخيص وضع القراءة بالمغرب، وتعرف ميول القراء واهتماماتهم والمصاعب التي تعترض سبيلهم، وتعيق ولوجهم إلى الثقافة. وهذا راجع إلى عدم وجود مراكز أو بنيات للبحث والمتابعة والتقويم تهتم بالقراءة وتقدم اقتراحات للرفع من نسبها وجودتها وتحسين مردودها وأدائها (على نحو مركز علم اجتماع الوقائع الأدبية عام 1960، الذي أسسه روبير إسكاربيت وتحول في عام 1978 إلى معهد علوم الإعلام والتواصل).
§ لا يتوفر أغلب قيّمي الخزانات والمكتبات على مؤهلات علمية تؤهلهم إلى بيان عدد المنخرطين، وتحليل بطاقات المنخرطين وتوصيل الكتب المقتناة والمستعارة ، وضبط البيبوغرافية الوطنية، وبلورة برامج فعالة للتنشيط الثقافي والنهوض بالقراءة العمومية، ورصد الأعطاب التي تحول دون إقامة صناعة ثقافية، والرفع من نسب القراءة، وترويج المتنج الوطني على نطاق واسع، وتحسين الخدمات في عين المكان وعن بعد.
§ يصعب حصر موضوع القراءة لكونه يمتد عبر مجالات عديدة نذكر منها التأليف والنشر والتوزيع والاستهلاك. كما تتحكم فيه اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وقانونية وإعلامية. وهذا ما يتطلب، إبان إعداد أي خطة للنهوض بالقراءة، إشراك الجهات المختصة والمتدخلة من مؤسسات الدولة وفي مقدمتها وزارة الثقافة، والمؤسسات الجامعية والتعليمية، ودور النشر، ومكونات المجتمع المدني ذات صلة وثيقة بالشأن الثقافي، ومراكز ومجموعات البحث المعنية بالقراءة.
§ تركز الأبحاث على المصنفات المطبوعة في حين تغفل الدعامات السمعية البصرية رغم أهميتها في نشر المعرفة والعلم، ودورها في تطوير مؤهلات الفرد وتنمية معارفه ومعلوماته، وتحقيق مجتمع المعرفة، وتوفير السبل لحفز قاعدة كبيرة من الناس على الولوج إلى الثقافة والاستفادة من الخدمات الثقافية . لا ينبغي، في ظل الانفجار المعلوماتي، أن تظل الثقافة حكرا على فئة محدودة في حين مازالت غالبية الساكنة لا تتمتع بأدنى حقوقها ، وبخاصة الحق في التعلم والحق في المعرفة، والحق في التنمية.
2-القراءة ومجتمع المعرفة:
كانت الأمية، إلى حد قريب، تعني عدم إجادة القراءة والكتابة، ثم أصبحت مرادفة لمن لا يتقن إلا لغة واحدة. أما الآن فأضحت مقترنة بمن لا يحسن استعمال الحاسوب والولوج إلى الإنترنيت. وهذا ما جعل الفجوة الرقمية تتعمق بين الفئات الاجتماعية والجهات والأسرة الواحدة، وتحكم على فئات عريضة وضمنهم نسبة كبيرة من المتعلمين بالتهميش والإقصاء لعدم توفرهم على مؤهلات تقنية للاستفادة من الثورة التكنولوجية ، والمعارف الجديدة، والخبرات المادية والمعنوية.
إن المراهنة على توطين مجتمع المعرفة يقتضي ما يلي:
§ إن توفير البيئات التمكينية يمكن أن يسهم في توسيع مجال الحريات، وبناء المؤسسات الحاضنة، وصوغ التشريعات القانونية الداعمة لمرتكزات مجتمع المعرفة وآفاقه. كما يمكن أن يعزز دمقرطة الثقافة بتوفير البنيات التحتية المناسبة والمجهزة والمفتوحة (butinage)([6])، وتطوير مؤهلات الرأسمال البشري بالمهارات التقنية الجديدة، واستنبات آليات الصناعة الثقافية، والنهوض بالقراءة الموضوعية باعتبارها لبنة أساسية لبناء مجتمع المعرفة ومواكبة التحولات الثقافية السريعة والعميقة، ورقمنة المصنفات حفاظا على الذاكرة الجماعية وحرصا على جودة الخدمات العمومية حتى تصبح الثقافة في متناول الجميع ( يضم فهرس المكتبة الوطنية سبعة ملايين مرجعا على الخط، ويحتوي بنك (gallica) على آلاف المصنفات المرقمنة يمكن أن تحمل مجانا).
§ تراوحت الإصدارات المغربية بمختلف أصنافها بين 900 و 2000 كتاب خلال المدة الزمنية الممتدة من عام 2000 إلى 2010. وهي كمية ضعيفة بالنظر إلى عدد سكان المغرب الذي يفوق 34 مليون نسمة، وبالنظر إلى التحديات الكبرى التي تراهن على الولوج إلى الثقافة وبناء مجتمع المعرفة. وهذا ما يقتضي تحيين مرسوم دعم نشر الكتاب (فاتح نوفمبر 2000) بشروط متفق عليها في دفتر التحملات، وبصيغ فعالة لضمان رواج الكتاب المغربي على نطاق واسع، وتنظيم لقاءات منتظمة حوله، ورقمنته، فيما بعد، بعد ضمان الحقوق المادية والمعنوية لصاحبه.
§ ينبغي تبسيط المعارف العالمة وتذليلها (vulgarisation) حتى تستفيد منها شريحة واسعة من القراء، وتكييف مصنفات معينة مع مستوياتهم الإدراكية والعمرية والتعليمية ( على نحو مصنف "دون كيخوتي" لثرفانتيس الذي طبع في أشكال وأصناف مختلفة بالنظر إلى سن المخاطب وتوقعاته).
§ إن توطين المعرفة فعل مركب يشمل الترجمة والتربية والتدريب، ويستوعب كل المعارف الجديدة التي تحول المستورد إلى مستنبت. وهو يستدعي إقامة بنى جديدة في المحيط الاجتماعي، والتوفر على موارد مالية ضخمة للاستثمار والإنتاج، وتنمية مهارات جديدة في العمل، وتوظيف المعرفة في بناء الاقتصادات الجديدة.
3- القراءة و رهانات التربية:
تلعب المدرسة دورا كبيرا في حفز المتعلم على القراءة وتنمية معارفه وقدراته. وفي هذا الصدد نثير الملاحظات الآتية:
§ يعاني الوسط المدرسي من آفات تسهم في تفاقم الأمية، ومن ضمنها الانقطاع عن الدراسة، والهدر المدرسي، وإخفاق البرامج التربوية في تحقيق أهدافها واستجلاب المردود المتوخي. كما يعاني ذا الوسط أيضا من قلة المكتبات الوطنية (10 % على الصعيد الوطني) والفضاءات التي يمكن أن تحفز التلاميذ على القراءة والقيام بأنشطة ثقافية وفنية موازية. ووما يؤسف له أن أغلب المكتبات عبارة عن قاعات غير صالحة وغير مجهزة، وتتعرض للنهب والسرقة، وتسير غاليا من لدن قيمين غير أكفاء، ولا تتوصل بالكتب الجديدة، ولا تشملها حملات التفتيش إلا نادرا جدا لتقويم محتوياتها وتعرف أحوالها . و يستفحل وضع القراءة بالموئسات التعليمية أكثر إذا ما اعتمدنا مؤشرات جديدة لقياس مدى توفر المتعلمين وغيرهم على مؤهلات لغوية ومعرفية ومنهجية وتقنية لبناء مجتمع المعرفة.
§ يُعتمد في أغلب الحصص، رغم موجات التجديد التربوي، على الإلقاء وهو ما يحرم المتعلم من تطوير قدراته على مختلف أنماط القراءة (على نحو القراءة الكلية والقراءة التفاعلية...) والنقد والبحث والمساءلة ومعالجة المعلومات والتحليل والتأويل والتركيب. ويحوله إلى آلة خاملة تكتفي باستظهار المحتويات الملقنة واجترارها. وفي السياق نفسه، تعتمد نسبة كبيرة من الطلبة على المقررات الدراسية، ولا تدعمها بالرجوع إلى مراجع أساسية يمكن أن تسعفها على توسيع مداركها، وتنمية معارفها، وصقل مؤهلاتها المنهجية. ومما ترتب على هذه الوضع ركود السوق الثقافية نتيجة عدم إقبال الطلبة على اقتناء الكتب لعوامل كثيرة نذكر منها ما يلي: غلاء الكتب، وعدم التعود على القراءة، وعدم إرشاد الطلبة إلى المراجع الأساسية، وعدم مواكبة سيرورة قراءة هذه الكتب من لدن الأساتذة والمؤطرين، وضعف الخدمات المكتبية في الخزانات البلدية والجامعية...).
§ رغم صدور كثير من المذكرات التي تحث على تكوين أندية في المؤسسات التعليمية سعيا إلى تحسين جودة الحياة المدرسية ، وتحقيق المشروع المحيط المحلي للأندية التربوية، فهي مازالت قليلة وغير مجهزة من الناحية اللوجستيكية ( انعدام وسائل العمل ،والتجهيزات، و فضاءات الاشتغال، والموارد المالية، وعدم وجود حوافز مادية ومعنوية) وغير مؤهلة لأداء دورها التربوي والثقافي لتبادل الخبرات والتعلمات، والانفتاح على المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والسعي إلى تزويد المتعلم بمهارات جديدة يكون لها الفضل على نمو شخصيته وصقل مواهبه.
مما تقدم يتضح حجم المصاعب التي تحول دون دمقرطة الثقافة وتوسيع قاعدة القراءة في المغرب بسبب انتشار الأمية، وتفاقم مشاكل التعليم والتربية، وانحسار السوق الثقافية وضيق بنياتها الاستيعابية، وتراجع الاستثمار في مجال النشر، وضعف نسب اقتناء المصنفات المطبوعة أو تحميل المصنفات المرقمنة، وقلة البنيات التحتية وضعف تجهيزاتها باستثناء حالات محدودة...وهو ما يتطلب إصلاحا شموليا يمس جميع القطاعات لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وتمكينهم من الخدمات الضرورية ( بما فيها الخدمات الثقافية والمعرفية)، والارتقاء بذوقهم ومستواهم التعليمي والثقافي.كما يستدعي من جميع الجهات المتدخلة أيضا إعداد مخطط وطني للقراءة والثقافة يشخص المشاكل الكبرى، ويقدم مقترحات عملية للتغلب عليها وتذليلها على نحو يسعف على إنعاش سوق النشر والكتاب، ويدفع الناس، على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، إلى اقتناء المصنفات، بمختلف دعاماتها وأنواعها وأجناسها، وتدالها والاستفادة من محتوياتها.
----------------------------------------------------------
[1] - القراءة والقراء في المغرب، مجلة الكرمل العدد11، 1984، ص-ص238-271.
[2] - Il parait au Maroc, n°1,Mars, 1977.
[3] -Véronic De Blic ; « Le marché de l'édition au Maroc », sous la responsabilité de Thierry Wetzel ;revue par Charles Couffin, poste d'expansion économique de Casablanca, Décembre 2000.
[4] - ارتفعت نسبة القراء في اقتناء عينة من الكتب التي طبعت مرات عديدة، على نحو الخبز الحافي لمحمد شكري، و تزمامارات : الزنزانة رقم 10 لأحمد المرزوقي و كتاب "Les plantes médicinale au Mghreb et soins de base " لجمال بلخضر..الخ.
[5] « Salon international de l'édition et du livre Casablanca 2010 Enquête filière « Métiers du Livre » Faculté des lettres et des Sciences Humaines, Salemn Kabous et autres sous la direction du Kacem Basfao , 2011.
[6] - يعنى بها تفقد القارئ مختلف الأروقة وتصفح المصنفات لأخذ فكرة عنها. وتسمى هذه العملية باللغة الانجليزية (Browsing