إصدار جديد للقاص والشاعر ياسر عثمان
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=133
الكاتب: mdahi


 حرر في الخميس 08-07-2010 08:52 أ£أ“أ‡أپ

وهذا ما يسر التعارف بين الكتاب العرب وتبادل وجهات نظرهم حول مختلف القضايا، وقوّى أواصر الصداقة فيما بينهم سعيا إلى خدمة الثقافة العربية وتوسيع إشعاعها.
لقد كانت علاقتي بياسر عثمان ثمرة لهذا التفاعل الثقافي الذي يراهن، من بين أشياء أخرى، على تقليص المسافة بين مشرق العالم العربي ومغربه. فعن طريق الصحف السيارة والمجلات والإنترنيت تعرفت على مختلف اهتماماته الثقافية والإبداعية. فهو ، بالإضافة إلى ولعه بكتابة القصة، ينظم الشعر، ويتابع، عن كثب، ما تجود به الساحة الثقافية العربية من كتب قيمة.
يسعى القاص ياسر عثمان إلى ركوب غوارب القصة القصيرة، وهو يعلم مسبقا أن الأخطار تحفها من كل جانب، فهي " صغيرة الحجم: تراها من الخارج فتعتبرها مجرد قصة، وقصيرة فوق ذلك. وحتى بعض الأدباء ، يكتبون في البداية قصة أو قصتين، ثم يحلقون شواربهم قبل أن تنبت، ويمرون سراعا إلى الشعر أو الرواية أو المسرح. كبيرة من الداخل: بأحلامها وطموحاتها وباختزانها الصامت للعالم الكبير دون أن يظهر على وجهها في شكل تجاعيد، بهضمها وتمثلها لكل أجناس الأدب الأخرى" ([1]). وهذا ما يتطلب من القاص أن تكون له قدرة على اختزال هموم العالم في لغة موحية ومقتصدة، ويهتم بالظاهراتي و الإحساس أكثر من الإيديولوجية، ويعارك اللغة باستمرار للانتصار عليها وأنسنتها واكتناه أسرارها ( إرنست همنغوي)، ويكشف عن الجغرافية السرية للذات وللتحولات الأكثر دلالة في حياة الأفراد والمجتمعات.
لا ينبغي أن نحاسب قصص ياسر عثمان بمقاييس اختمرت، بعد مخاض عسير، على يد قاصين أفذاذ. كما أن الاحتكام لها وحدها قد يفرغ هذه القصص من خصوصيتها وحمولتها الدلالية، ويعصف بتطلع صاحبها إلى تطويع اللغة وتجريب التقنيات القصصية لتشخيص الواقع بطريقة جمالية، ويقوض ما بذله من مجهود للانزياح عن مسار القصة التقليدية و السير في اتجاه يرسم للقصة ملامح جديدة، قد تخيب توقعات شريحة عريضة من القراء الذين تعودوا على قصة متسلسلة تنتهي بفك العقدة ( النموذج الموباصاني)([2]).
تندرج القصص العشر، التي تضمها هذه المجموعة القصصية، في إطار ما يصطلح عليه جون بيير أوبريت بالقصة-اللحظة (La nouvelle-instant)([3]). ويتعلق الأمر في هذا النوع من الحكي بإدراك ما هو حاسم في اللحظات نظرا لميسمها المثالي، أو عكس ذلك، نظرا لطابعها الاستثنائي. ففي الحالة الأولى يُتخذ موقف مفاجئ ينكشف فيه معنى الحياة بغتة، ويمكن ، في هذا الصدد، التحدث عن القيمة " العظيمة" للحظة. وفي الحالة الثانية تُدرك الشخوص بالتفاتة خاطفة وإضاءة مفاجئة تترك أشياء أخرى في الظل. إن الحاضر ثقيل من جراء ماض يشرحه ويعلله. والحالة هكذا،فإن مركز الثقل ينتقل من الكرنولوجي إلى النفسي، ويهتم القاص بتشعيب السرد على المستوى الأفقي ( الإدارك والوعي) أكثر من اهتمامه ببَنْينَته على المستوى العمودي.كأكثأ تتوفر القصة-اللحظة على الأحدوثة والشخصيات والأمكنة، وتحفل أكثر بالتعدد الذي يتجسد بكثافة في " الوحدة النوعية للحظة".
التزم ياسر عثمان بالميسم العام للقصة-اللحظة في القصص التي انساق فيها إلى ما يمليه لا شعوره من أحاسيس وانطباعات عن قيمة اللحظة وما تستتبعه من مفاجآت وانكسارات وأحلام محبطة تستمد نُسغها من عوالم الطفولة . وتنحسر معالم هذا الميسم ، إن لم تختف، في القصص التي أراد فيها القاص أن يكون شاهدا على عصره كما لو كان إخباريا (Chroniqueur) يعتني بجمع الأخبار أكثر من بيان تأثيرها على نفسية الشخوص وتطلعاتها. وفي هذا الصدد، تنغلق منافذ اللاشعور التي كانت تنفث أحلاما بريئة، واستعارات باذخة، وانطباعات ساخرة، ويتحكم العقل في زمام الحواس مقلصا الهوة بين الوهم والحقيقة، بين الذاتي والموضوعي.
ما يلفت النظر في قصص ياسر عثمان المتحررة من الرقابة الذاتية هو اعتناؤها ب" التافه" مضفية عليه دلالة جديدة ووظيفة مغايرة، ومانحة له بلاغة خاصة. وهذا ما جعل عمل القاص شبيها بعمل المصور ( الفوتغرافي) الحاذق الذي يتصيد المناظر المنفلتة، ويشعرنا بقيمة الأشياء التي نلمسها أو نمر بها يوميا دون أن تثير فينا أي إحساس. فهي، بالنسبة للإنسان العادي، تبدو مبتذلة ورتيبة. في حين أن المصور يطلعنا على سر من أسرارها لا ينفذ إليه إلا من له دراية بقيمة الأشياء ووظائفها في الكون.
وهذا ، بالذات، ما حاول ياسر تشخيصه بطريقة فنية في بعض قصصه. فسارد قصة " الثقوب التي تتكرر" يهتم بأمور جزئية وتافهة ( الثقوب) قد يتقزز ويمتعض الناظر من مشاهدتها، يحدق النظر فيها ليس لعدها ومعرفة حجمها وملابساتها، وإنما لفهم أسرارها ودلالتها في الحياة، والارتقاء بها من المستوى التقريري إلى المستوى الإيحائي.".. وكلاهما -الآن- لا يستطيع سد تلك الثقوب التي امتلأت بها الأمكنة بما تحويه من ناس وأشياء". وفي قصة ( صور الهلالي سلامة) تصبح لجزئية ( صور مثبتة على الجدران) قيمة دلالية أكثر من الموضوع المعالج ( الحالة النفسية والاجتماعية للشخصية الرئيسية)، وقد تم التبئير عليها في العنوان بوصفها موضوعة جوهرية وأثيرة، تبين ما يتسم به البطل الشعبي من أنانية وفحولة وعنصرية وقوة، وتقدم إضاءات عن سبب انكسار الشخصية الرئيسية التي تموت موتاَ عاديا أو مدبرا تاركة وراءها ست بنات وصور "الهلالي سلامة" محرومات ممن يغدق عليهن حنان الأبوة. وفي قصة أخرى ( الباذنجانة لم تنفجر بعد) يتوهم سائق الشاحنة العسكرية الباذنجانة الملقاة عليه كما لو كانت قنبلة، فيفقد صوابه ويسبب في قتل ضباط وجنود إسرائليين، ويصاب آخرون بجروح خطيرة." ولم تزل الباذنجانة منزوعة العنق ...ملقاة على الأرض.. مغطاة بالأتربة لم تنفجر بعد !!!". وفي قصة ( الأحمر القاني) يبين السارد الأثر الذي يخلفه لون الدم في ذهنية الناس ومتخيلهم. فهو يرتبط لديهم بشرف المرأة ( فض البكارة)، ويؤشر على النزعة الرجولية لدى الطفل ( الختان)، ويستحضر رموز التضحية الضاربة بجذورها في المتخيل الجماعي ( الذبيحة في عيد الأضحى). مر حسين وجميلة بفترات عصيبة وهما يستجمعان قوتهما، ويغالبان الخوف الذي يهد كيانهما. ولم يطمئن حالهما إلا بعد رؤية بقع حمراء " تزين الملاءة البيضاء فوق سريرهما الذي كان يتوسده القلق المرعب قبل لحظات"
ومن بين المستويات الفنية التي استثمرها القاص بذكاء، نذكر أساسا ما يصطلح عليه ميخائيل باختين بالتشخيص الأدبي للغة أو معضلة صورة اللغة
( الهُجنة اللغوية، المحاكاة الساخرة، التنويع، الأسْلبة..). فهو إلى جانب حرصه على اقتناص المشاهد المنفلتة واستكناه أسرار وجودها، يصغي جيدا إلى ما تتلفظ به الشخوص من لغات فردية واجتماعية، ورطانات ولكنات. ولا يرمي من إعادة تشخيصها إلى ممارسة لعبة لغوية مجردة، بل يتوخى استيعاب الفروق الاجتماعية واللغوية للشخوص، وبيان انتماءاتها الاجتماعية والقطرية وامتداداتها الإيديولوجية. وهكذا اضطر القاص إلى تهجين اللغة (المزج بين الفصحى والعامية المصرية) وتوظيف الأجناس المُتخللة ( أشعار، وأغانٍ شعبية) حتى تتضح صورة المتكلم الاجتماعية والنفسية من خلال كلامه، ويستثمر التعدد اللغوي في تمييز الشخوص، وتنويع أصواتها الإيديولوجية، وتشخيص أبعادها الاجتماعية والطبقية.
على المستوى السردي، استمثر القاص بنيات ذهنية ذات صلة بالمتخيل الاجتماعي العربي الرحب، ووظف منظورين سرديين متباينين ( الرؤية من خلف، والرؤية مع) داخل القصة نفسها. فأحيانا يتخذ السارد ([4]) مسافة مما يحكيه، مكتفيا فقط بوصف الأشياء الخارجية أو النفاذ إلى أعماق الشخوص لنقل أحاسيسها وانطباعاتها، و أحيانا أخرى، يضطلع([5]) بسرد أطوار القصة على لسانه لكونه طرفا أساسيا فيها ومسهما في أحداثها.
عندما يعي القاص بأن القصة عمل فني يتطلب جهدا على مستوى السرد والبناء، نجده يشذب الأطراف الزائدة معتمدا على تقنيات التكثيف والحذف والترميز والإيحاء، وهذا ما يفضي به إلى قصة مستوفية شروطها الفنية. في حين لما يترك الأحداث تتعاقب على عواهنها تنزاح القصة نسبيا عن السكة المحددة لها. ونظرا لما يتوفر عليه ياسر عثمان من مؤهلات وقدرات، فهو يتدارك الأمر بحصافة وحذق محافظا على تكامل مستويات القصص العشر وانسيابها في إيقاع متوازن.
أعرف مسبقا أن كثرة الوسائط قد تفسد المتعة الفنية على القارئ. وما يهم ، أساسا، هو إثارة شهيته ، وفتح الطريق أمامه للاستمتاع بما يقرأه. يحق له أن يؤجل قراءة هذا التقديم حتى لا يحرمه من الإبحار في يمِّ المجموعة على هداه وسجيته. وقد تسعفه سباحته على إيجاد ما لم يكن متوقعا. وفي جميع الأحوال، فهو مدعو إلى الذهاب إلى الأبعد والأعمق، وربما الأبسط.
والأبسط هو ما يحيط بنا من كل جانب دون أن نعطيه القيمة التي تليق به. ومن وظائف الفنان والمبدع أنه يلفت انتباهنا إليه، و يقدمه لنا في حلة فنية تكشف عن أسراره وخباياه، ويجعلنا نعيد النظر في كثير من الأشياء التي تحف بنا.
--------------------------------------------------------------------------------
* باحث وناقد من المغرب.
[1]-أحمد بوزفور، الزرافة المشتعلة، قراءات في القصة المغربية الحديثة، منشورات المدارس، ط1، 2000،
[2] - نسبة إلى القاص الفرنسي كي دي موباصان Guy de. Maupassant .
[3] -يرى جون بيير أوبريت أن القصة القصيرة تدرجت من القصة ذات الحبكة إلى اللاقصة (L'anti-nouvelle) مرورا بالقصة اللحظة. انظر في هذا الصدد إلى:
Jean-Pierre Aubrit, Le conte et la nouvelle, Armand Colin / Masson , Paris , 1997 , PP90-94.
[4] -يكون السارد هنا متبايناً حكائيا Hétérodiégétique
[5] -يكون في هذه الحالة متماثلاً حكائيا Homodiégétique



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009