حرر في الجمعة 17-09-2010 11:53 أ•أˆأ‡أچأ‡
ومن أهم رواد الطب العربي فى فترتى الترجمة والتأسيس الطبيب والمترجم العربى حنين بن إسحاق الذى أرسى دعائم مدرسة علمية فى الترجمة والطب معاً فى بيت الحكمةــ ساهم معه فيها علماء وأطباء وتراجمة من العديد من الجنسيات العربية وغير العربية ــ وأبو بكر الرازي ( 251ـــ311هــ/865ـــ923م) الذى اعتبر طبيباً سريرياً لا يبارى، وهو صاحب أكبر موسوعة طبية عرفت منذ العصور الوسطى والمتمثلة فى كتاب الحاوى، وابن سينا أمير الأطباء وأسطورة الطب العربى الإسلامى، صاحب أكبر وأهم كتب الطب قاطبة فى العصور الوسطى وحتى العصر الحديث وهو كتاب القانون فى الطب ، الذى أثر فى كل الكتابات الطبية العربية والغربية على السواء. ولا يقل عن هذا أثراً أبو القاسم الزهراوى (326ـــ427هـ/937ــ1035م) رائد علم الجراحة والذى طبقت شهرته الآفاق، أو ابن النفيس ( 607ــ687هـ/1210ــ1288م) الذى امتد تأثيره إلى الغرب بلا حدود ، وغيرهم كُثر . إن إسهامات هؤلاء ونظرياتهم العلمية تحتاج من الباحث أن يفرد صفحات وصفحات لكشف النقاب عما أضافته بحوثهم من ناتج معرفى ومنهجى للبشرية ، قبل أن تصحو أوروبا من غفوتها . إن العلم العربى الإسلامى يزخر بإبداعات علمية هائلة زودت البشرية بكنوز المعرفة العلمية فى فترة مهمة من فترات تألق الحضارة العربية الإسلامية ، وبصفة خاصة فى الفترة الممتدة من القرن الثالث الهجرى وحتى أوائل القرن الخامس الهجرى/ الحادى عشر الميلادى . كان ابن سينا ظاهرة فريدة فى عصره ، وكان معاصروه أيضا متفردين فى إبداعاتهم الطبية . كان هناك على بن العباس ، صاحب "الكتاب الملكى" ، والزهراوى صاحب كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وابن الهيثم صاحب "كتاب المناظر". تلك إبداعات علمية متكاملة انتجت للبشرية أروع انجاز علمى فى فترة تدهور العلوم الأوروبية، مما جعل أصحابها هم الأوائل بين العلماء فى مجال العلوم الطبية. ومع أن ابن سينا يحتل مكانة مهمة فى التفكير الفلسفى ، وشغل الفلاسفة فى الشرق والغرب قرونًا طويلة ؛ إلا أن كتاب القانون فى الطب يعتبر من أهم كتبه العلمية ، كما يعتبر ثروة قومية للعرب والمسلمين، وقيمة فاعلة بالنسبة لتاريخ الطب العربى إن فى الشرق أو الغرب . وفى رأينا أن الذين شُغلوا وشُغفوا بفلسفة ابن سينا أضاعوا وقتهم سدى ولم ينتجوا ، إذ الجانب المهم فى حياة هذا العالم والفيلسوف إنما يكمن فى القانون فى الطب . تُرجم كتاب القانون إلى اللاتينية والعديد من اللغات الأجنبية الأخرى، وأثر فى الفكر العلمى الأوروبى بصورة قوية ، وكان من نتيجة هذا التأثير أن انطلقت أوروبا فى مجال علم الطب بخطوات واسعة إلى آفاق التطور العلمى والنهضة العلمية وترك الأوربيون للعرب والمسلمين فلسفة الرجل أو بضاعته الأقل أهمية . وعلى الجانب الآخر لم تكن الاستفادة العربية الإسلامية من كتاب القانون فى الطب على مستوى الفعل الأوروبى . وربما جاز لنا القول أن فعل الاستفادة من كتاب القانون فى أوساط العرب والمسلمين عامة، وقف عند مستوى الشروح التى عملت على بعض أجزائه . ومن ثم لم تتجاوز المسألة نطاق الشروح إلى التطبيق العملى والإكلينيكى فى الفترات التى تلت عصر ابن سينا : نعم كانت هناك شروح أوروبية لكتاب القانون فى الطب لابن سينا ، على ما سوف نبين ذلك ، لكن الفعل الأوروبى سرعان ما تجاوز مسألة الشروح إلى الجوانب الإكلينيكية والسريرية ، مما أدى إلى إحداث نقلة نوعية فى الطب فى أوروبا فى نهاية العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث . ومع هذا لم تحدث قطيعة معرفية فى الأوساط الطبية والعلمية فى الغرب مع كتاب القانون فى الطب ، على ما سوف نبين هذا بالدليل . ولكن إذا كان كتاب القانون فى الطب من الكتابات الطبية المهمة التى أثرت بصورة كبيرة فى أوروبا فترة العصور الوسطى، لكونه قد أتى على المعارف الطب فى عصره ، فإن هذا يفسر لنا سبب شهرته غير العادية فى كل أوروبا، نظراً لما امتاز به من التنظيم وحسن التبويب ، ورقى المنهج العلمى الذى اعتمد عليه ابن سينا، وبصفة خاصة أن منهج ابن سينا يجمع فى متنه بحوث القدماء التى أجراها الأطباء الذين سبقوه ، بالاضافة إلى الابتكارات التى أحدثها ابن سينا والتى أتت على الطب فى عصره . وهو ما جعل المستشرق الألمانى طبيب العيون ماكس مايرهوف يذهب إلى أن أهمية هذا الكتاب تتضح من شدة الطلب عليه، الأمر الذى جعل طبعاته متتالية ، وكذا ترجماته التى استمرت حتى القرن السادس عشر. وهذه بلا شك مسألة جديرة باحترام العقل الإسلامى فى تجلياته وإبداعاته . وكتاب القانون في الطب لابن سينا(370هـ/428هـ) هو أحد الكتابات الطبية العربية المهمة التي عُملت لها ترجمات عبرية ولاتينية وفرنسية وألمانية وإنجليزية وغيرها عبر فترات ومراحل مختلفة كما ذكرت . أما الترجمة اللاتينية الأولى فهى من عمل جيرارد الكريمونى فى القرن الثانى عشر الميلادى ، وأعاد أندريا الباجو ، فى القرن السادس عشر النظر في الترجمة مرة ثانية ، على أساس ترجمة الكريمونى، وظهرت هذه الترجمة بعد وفاة الباجو. وأما الترجمة العبرية فقد مرت بمراحل متعددة على ما سوف نبين فى هذه الدراسة . لقد لقي كتاب القانون في الطب لابن سينا رواجاً كبيراً في أوروبا على مدى قرون ، واستمر طبعه حتى النصف الأخير من القرن السادس عشر، بل ولدينا طبعات له ترجع إلى القرن التاسع عشر . وربما لم يُكتب من قبل كتاب كان مثله موضع دراسة طويلة دائبة كما يذكر ماكس مايرهوف . ومن ثم فإن شهرة كتاب القانون لابن سينا وانتشار ترجماته في أوروبا ، تفسر لنا مدى تقدير ابن سينا وكتابه في الأوساط العلمية الأوروبية . جاء اشهار كتاب القانون فى الثقافة الأوروبية من خلال الترجمة اللاتينية والترجمات الأخرى التى عملت له وتم تداولها بين أيدى الصفوة من رجال الفكر والأطباء ، وظلت هذه الترجمات مقصد الدارسين والباحثين من علماء أوروبا. وفى الثقافة العربية صادف كتاب القانون فى الطب شهرة أوسع من خلال الطبعة العربية التى صدرت فى روما 1593م ، وكانت هذه الطبعة بمثابة الإشهار الرسمى والعالمى لأول كتاب عربى طبع على المطبعة الحجرية فى مطبعة ميديتشى بعد الكتاب المقدس، فكان هذا الإشهار حدثاً له قيمته العلمية الفائقة فى عالم الطباعة فى الغرب ، ثم فى العالم الإسلامى عبر مصر بعد أقل من ثلاثة قرون ، وبعد أن دارت رحى أول مطبعة عربية فى مصر، والتى عرفت باسم " مطبعة بولاق"، جاءت الطبعة الأولى فى القاهرة ، وقد شكلت نقطة تحول مهمة فى التصورات العلمية العربية ، وللأجيال التى باتت ترى الكتب مطبوعة بأعداد هائلة بدلاً من نسخها باليد . وكان هذا هو الإشهار الثانى لكتاب القانون فى الطب بحروف أول مطبعة عربية . نتناول أليات إشهار كتاب القانون فى الطب لنبرز قيمة تراثنا العلمى الإسلامى ، ونكشف للأجيال القادمة كيف أن الأوائل شكلوا درعاً قوياً للثقافة العربية الإسلامية ، مهما اختلفت اتجاهاتهم العلمية ، ومذاهبهم الفكرية . ولنبين مواطن القوة فى تراثنا العلمى لنقتدى بها، ونعمل على تفعيلها من منظور جديد ، وفق مقتضيات التطور العلمى والتكنولوجى، فى عصر باتت فيه المتغيرات متلاحقة . كما علينا أن نعرف مواطن الضعف لنتجنبها، ولنقيم جسوراً فاعلة بين ثقافتنا الراهنة وثقافة أسلافنا الذين اجتهدوا فأصابوا وأخطأوا ، وحسبهم أنهم اجتهدوا فى وقت ندُر فيه التقدم التكنولوجى والمعرفى . تتناول هذه الدراسة إذن الإشهار الأول والثانى لكتاب القانون فى الطب لابن سينا ، بالرسم العربى واللاتينى والعبرى، فى الثقافتين الغربية والعربية، على اعتبار أنه أول اشهار دولى ورسمى لكتاب عربى على المستوى العالمى، غربيا وعربيا . وما ترتب على هذا من الناحية المعرفية فى الثقافتين العربية والغربية ، وهذه خطوة مهمة على طريق بيان كيف كنا الأوائل . ويبدو أنه من المناسب أن أشكر أصحاب الفضل خاصة الأخ والصديق المفكر المغربى الدكتور محمد الداهى الذى دفع إلى بفكرة الإشهار . كان من المقرر أن أساهم معه فى دوة دولية مغاربية بعنوان "ندوة أليات اشهار الخطاب ورهاناته " التى عقدت فى رحاب كلية الآداب بعين الشق بالدار البيضاء فى الفترة 24-25 مارس 2009 ، وقد تلقيت دعوته الكريمة وأرسلت له ملخص هذه الدراسة فى 14/9/2008 بعنوان " كتاب القانون فى الطب لابن سينا بين أليات التوثيق والإشهار فى الثقافتين العربية والغربية" ، ولكن حالت بعض الظروف دون مشاركتى فى الندوة فى حينه. إلى محمد الداهى خالص شكرى وعرفانى . د.ماهر عبد القادر محمد أستاذ تاريخ العلوم وفلسفتها جامعة الاسكندرية. الإسكندرية فى أول نوفمبر 2008
|