جدلية الثقافي والنقدي في تجربة الناقد محمد برادة-د.محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=106
الكاتب: mdahi


 حرر في الخميس 10-06-2010 08:24 أ£أ“أ‡أپ

.ليس محمد برادة من طينة المثقفين الذين تقوقعوا في أبراجهم العاجية لمعاينة ما يجري في الواقع من عل أو تمترسوا في خنادقهم مدججين بمسلمات إيديولوجية متعالية، وإنما هو من معدن من انخرط قلبا وقالبا في خضم الصراع الإيديولوجي والثقافي لزرع بذور ثقافة جديدة تسعف على تحقيق مجتمع متحرر وعادل، وتشعر الفرد بمواطنته وإنسانيته وكرامته في منأى عن كل أشكال الضيم والعسف التي كبلت حريته، وكبحت قدراته على الخلق والإبداع.
ويكفي أن نستحضر، من بين أشياء كثيرة، محطات ومسالك مضيئة تشهد على ما اضطلع به محمد برادة من أدوار ريادية وجهود مضنية لاستنبات قيم حداثية في الثقافة العربية، والدفاع عن قيمة الحرية وجدواها في تقدم الشعوب ورقيها([1]).
أ-انخرط محمد برادة ، منذ حداثة سنه، في العمل السياسي النضالي من أجل تعزيز دور الديمقراطية في تحديث البنيات الاجتماعية والثقافية وتطورها، والدفاع عن الجماهير العريضة التواقة إلى الخلاص من براثن الاستغلال والتسلط الطبقيين، ومناصرة القضايا العادلة في المعمور، وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في استرجاع أراضية المغتصبة وإقامة دولته المستقلة.
ب-نهض محمد برادة، رغم كثرة العراقيل والمضايقات، بدور كبير في جعل إتحاد كتاب المغرب منذ تأسيسه سنة 1961 منبرا لجميع الاتجاهات الفكرية والإبداعية، ومجالا لممارسة الحوار الديمقراطي ودعم الثقافة الوطنية. ولقد استطاع محمد برادة ، خلال الفترة التي انتخب فيها رئيسا للإتحاد منذ 1976 إلى 1983، أن يحقق مكتسبات كثيرة كان لها دور كبير في إسماع صوت المبدعين على تعدد مشاربهم وتباينها، وتوسيع إشعاع الأدب المغربي على المستوى العربي، وترسيخ ممارسات ثقافية جديدة، وضمان استقلالية الإتحاد دون تحيز لأية وصاية حزبية أو رسمية.
ج- بعد سنوات من العمل السياسي وكتابة مقالات وبحوث نقدية أدرك محمد برادة أن الرواية هي السبيل الوحيد للتوغل في تضاريس الذات، واستيعاب ما عاشته من مغامرات وراكمته من تجارب. وهكذا مكنه التخييل الروائي من التمرد على اللغة المتخشبة ومواجهة مختلف القيود وأشكال الرقابة، وبلور لديه قناعة " اللجوء إلى حرية الكتابة الإبداعية" لاتخاذ مسافة مع الأحداث المعيشة والتحليلات السياسية الجاهزة، ومحاولة فهم صراع الذات مع المجتمع لتحقيق التوازن المنشود، والتقاط التجارب الحياتية التي تراكمت في الذاكرة وامتزجت بالخيال.
د-سعى محمد برادة، صحبة ثلة من المثقفين المتنورين، إلى التبشير بأدب وثقافة جديدين. وفي هذا الصدد، يعود إليه الفضل في فتح منافذ على الغرب (وخاصة الثقافة الفرنسية) لمواكبة واستيعاب تحولاتها الكبرى في مجالي الحداثة الثقافية والنقد الجديد، وفي حفز الكتاب العرب على ابتداع أشكال أدبية جديدة تسعفهم على التعبير عن قضايا مستحدثة، وإعادة النظر في المسلمات والمطلقات والأحكام المسبقة.
لا يُفهم التصور النقدي عند محمد برادة إلا في علاقته بالسياق الثقافي العام الذي حفزه على اتخاذ النقد وسيلة ثقافية لإرساء دعامات الكتابة المضادة وأركان الثقافة الحداثية ، وإشاعة قيم جمالية جديدة. و ما يثير في تجربة محمد برادة النقدية هو غناها وتنوعها، وقدرتها على مواكبة الإصدارات العربية الجديدة، واستمرارها على الوتيرة نفسها التي تتسم بالعمق والنضارة والجدة. لقد ظل محمد برادة ، ما ينيف على ثلاثة عقود من الزمن، مثابرا على تتبع الإصدارات الإبداعية العربية ومواكبتها ونقدها للفت انتباه القراء إلى ميزاتها الفنية.
سنلقي نظرة على عمليه النقديين([2]) لأخذ فكرة مجملة عن تجربته النقدية في تفاعلها وتلاقحها مع ما هو الثقافي، وبيان الخلفيات المعرفية التي تتحكم فيها.
1- المصالحة الممكنة بين النقد والروية:
سبق للقراء المتخصصين أن اطلعوا على المقالات والدراسات التي يحتويها كتاب أسئلة الرواية أسئلة النقد متفرقة في أهم الملاحق والمجلات العربية خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 1980 و 1993. و ما زاد من نكهتها وجدد نسغها هو جمعها في كتاب مُصدَّر بمقدمة توضح علاقة صاحبه بالرواية والنقد الروائي ، وانخراطه في زحمة الأسئلة المشروعة بحثا عن إنتاج معرفة مسعفة على بلورة هوية الثقافة ومتخيل المجتمع . وبحكم اهتمامه بالرواية كتابة ونقدا خلال سنوات عديدة ، كان من الممكن أن يصدر أكثر من مؤلف نقدي يودع فيه خبراته النقدية الثرة التي نهل من معينها الطلبة المتتلمذون له لإعداد أبحاثهم ورسائلهم الجامعية . لكن لأسباب ومبررات متعددة ، تأتي في مقدمتها انشغالاته بالترجمة والتأطير والصحافة ، وتحمله مسؤوليات لدعم وتقوية المجتمع المدني ، كان يؤثر أن يظل قارئا متتبعا للإصدارات المتميزة ، ويتريث فيما ينشره من نقد ، مكتفيا بجعله منطلقا لدروسه الجامعية حتى يتسنى له من خلال ردود فعل الطلبة ومشاركتهم أن يتعمق في التحليلات . وما يسترعي الانتباه في دراساته ومقالاته أنها تتوخى التواصل مع شريحة واسعة من القراء المتخصصين لحفزهم أكثر على قراءة الأعمال المنقودة ، وإمتاعهم بأسئلة النقد التي تفتح المغاليق ، وتكشف عن إمكانات تطويع الكتابة وتسخيرها لخدمة أهداف محددة ، وتصدر عن مدى الوعي بإنتاج معرفة تسعف على بلورة الهوية الثقافية ، وتكشف عن تحولات النص الأدبي. وتعد مبادرة جمع الدراسات في كتاب متجانس هامة من حيث أنها تبين طريقة برادة في صهر وتذويب مناهج متعددة لإضاءة النص من زوايا وجوانب مختلفة . وبما أن برادة راهن على قراء متعددين ، فإنه تقصد عدم إثقال دراساته بالمصطلحات و الاستشهادات ، وذلك حتى تكون اللعبة ممتعة للطرفين معا ، ومسعفة على خلق تواطؤ حقيقي بينهما كما لو كانا في حفلة تنكرية .
وينقسم الكتاب قسمين : أحدهما يطرح بعض التساؤلات والافتراضات النظرية ، وثانيهما يفرد لكل عينة من المتن الروائي تحليلا شموليا يترصد أهم مكوناته القاعدية شكلا ومضمونا. خصص برادة القسم الأول لإثارة أسئلة تهم علاقة الرواية بالنقد ، والتعدد اللغوي بوصفه مميزا لبعض الروايات ، وآفاق تطور الرواية العربية . وما يجمع بين مختلف هذه القضايا هو زحزحة مفاهيم التقعيد والمعيارية والاختزال الناجمة عن حشر النصوص في خانات التنظير الاستيتيقي للشكل التاريخي المُعقْلن ، وفتح الطريق أمام احتمالات أخرى لاستكشاف المجهول وابتداع أشكال وطرائق جديدة متماشية مع تغير نمط العيش وتبدل مفهوم الأدب . وقبل مباشرة الأسئلة الثلاث ، أثار محمد برادة سؤال الخانة الفارغة التي تبين أن جنس الرواية وجد قبل أن يتحقق بقرون عديدة ، ولما ملئت بما يلائمها أصبحت الرواية هي الشكل/ السؤال الذي يتوسل به الإنسان في مغامراته اللامتناهية بحثا عن التوازن المتوهم ، واستعادة القيم الأصيلة ، والتلاؤم بين أفعال الروح ومطالبها .ثم بين أن علاقة الرواية بالنقد ملتبسة وصراعية ، بحجة أن النقد لم يستطع أن يتذرع بلغة واصفة قادرة على الإلمام بخصوصية الرواية ، والقبض على جوهر الأسئلة الجديدة التي تولدها الروايات الجيدة . وفي المقابل لا يتوفر الروائيون على كتابات نظرية تسند استراتجيتهم وآفاق عملهم . وهذا ما نتج عنه تدرج النقد العربي من مرحلة الإسقاط الإيديولوجي إلى مرحلة التشريح المختبري مرورا بالدعوة إلى التمذهب. ويعزو برادة التباس حوار النقد والرواية إلى طبيعة المرحلة التاريخية التي مر منها العالم العربي بعد هزيمة 1967 ، ونجم عنهاأدجأأ انهيار كثير من اليقينيات والأجوبة الجاهزة ، وانحسار الحداثة المراهنة على تفكيك البنيات التقليدية . وفي هذا الصدد ، يرى برادة أن سؤال الثقافة العربية هو بامتياز سؤال الرواية بوصفها أداة معرفية ، ومدخلا إلى الديمقراطية الثقافية . ومن المظاهر الشكلية التي تسترعي الانتباه في مجال الإبداع الروائي ، ظاهرة التعدد اللغوي التي لعبت دورا في تغيير مفهوم الأدب وحمولاته الإيديولوجية ، وفي تنويع بنيات النص وتضاريسه اللغوية و رؤياته للعالم. وهي ظاهرة كانت موجودة منذ بداية هذا القرن ، لكن ما يلفت النظر هو بروزها وكثافتها النسبية منذ مطلع السبعينات مقرونة بسياق نقدي يسعى إلى استيعابها وتثمينها . وفي هذا السياق تعتبر رواية "زينب" من أولى الراويات التي استثمرت البعد اللغوي ، وتحررت من النبرة الوعظية الأخلاقية، وبذلك احتفظت براهنيتها ضمن سيرورة الرواية العربية . وإبان الخمسينات ، وفي ظروف مغايرة للسياق الذي ظهرت فيه "زينب" ، ظهرت روايات تحتفي بالتعدد اللغوي ( على نحو" الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي ، وأعمال يحيى حقي ويوسف إدريس ) ، ثم عرفت في العقد الموالي نموا في الكم وتنوعا في الكيف ، ونخص بالذكر أعمال الطيب صالح ، وأميل حبيبي ، وغائبة طعمة فرمان ، وفؤاد التركلي ، وهاني الراهب ، وعبد الله العروي ، وصنع الله إبراهيم ، وغالب هلسا..الخ. " لم تعد اللغة في مثل هذه النصوص جاهزة خارج النص أو شاشة تحجب التبدلات والإسهامات المستعصية على التبليغ ، وإنما جزء من التجربة التي تعاش بين الأشياء والكلمات ، وجزء من مغامرة الكتابة التي لا تتحقق إلا بإعادة صنع اللغة والنفخ فيها لبعث الروح في الأمشاج والشذرات والنتف المستمدة من التذكرات والأحلام والقراءات والمسموعات من ذاكرة النسيان"([3]). ومن بين العوامل التي لعبت دورا في تخصيب ظاهرة التعدد اللغوي ، وبيان أهميتها في إثراء النص ، هناك أولا دور الخطاب النقدي الذي استفاد من سيميائية ميخائيل باختين ، ثم ثانيا اهتمام الروائيين والنقاد بالجوانب التخييلية المستمدة من التراث والأدب الشعبي والمحكيات الشفهية ، وذلك للبحث عن تجديد الشكل واستثمار مكونات المتخيل الجماعي.
استشرف محمد برادة آفاق مستقبل الرواية العربية من منطلق تحليلي نقدي يتراوح بين مساءلة التراكمات والإنجازات الحاصلة وبين إبراز الإمكانات المحتملة بترابط مع المحددات السوسيولوجية ، والإمكانات الإبداعية، وأسئلة الواقع الكامنة وراء التحولات الفنية. وبعد تشريح واقع الرواية العربية ، وضبط أهم الإشكاليات والقضايا التي تستأثر باهتمام الروائيين المعاصرين ، حدد بعض السمات البارزة التي يمكن أن ترتكز عليها الرواية العربية مستقبلا . ومن ضمنها الاعتماد على خطاب جديد لاستيعاب التحولات بطرق علمية ، والاحتفاء بالديمقراطية بوصفها شرطا لازما لمواجهة الحوافز المصطنعة ، وإتاحة الفرصة لكل الأصوات الإيديولوجية للتعبير عن مواقفها من الوجود على حد سواء ، وارتياد مجالات الواقع والتاريخ بمفهومهما الواسع والعميق ، وتجريب أشكال حكائية جديدة ، وتوظيف الحوارية للنفاذ أكثر إلى أعماق الوجود ومظاهر الصراع ، وتشخيص اللغات المتعددة لرصد أنماط الوعي وحدة الصراع . "وهذا التوقع "الإيجابي " لمستقبل الرواية العربية مرتبط - كما أوضحنا - بالمحددات الاجتماعية- الثقافية والسياسية التي ستتحكم في مستقبل الأمة العربية . إننا نفترض إن تجارب الحبوط وتبديد القوى والإمكانات ، ستؤدي إلى بروز وعي عربي يضطلع بمسؤوليات في تصحيح مسيرتنا الثقافية والحضارية"([4]).
درس محمد برادة في القسم الثاني إحدى عشرة رواية موزعة على أقطار عربية مختلفة ، ومتفاوتة في مستوياتها الفنية وبناءاتها السردية ، ومتباعدة في فترات إنتاجها ، ومؤطرة في مقامات تاريخية واجتماعية تتسم بالتقاطع والاختلاف .ويمكن أن نجمل القضايا التي استأثرت باهتمامه فيما يلي:
أ-ركز أساسا على الروايات التي ظهرت في عقدي الثمانينات والتسعينات ، لأنه خلال هذه الفترة تزايد الاهتمام بكتابة الرواية ونقدها . ونزع الروائيون والنقاد على حد سواء إلى تجديد الشكل واستيحاء تجارب حكائية متنوعة ، ووعوا بأهمية تكسير أحادية الصوت وبلورة الهوية الثقافية. وما يدل على حصول تطور في سيرورة الرواية هو تنويع طرائق الكتابة ، ونقض الواقعية الملتصقة بضجيج الإيديولوجيات وصخب الواقع ، والانزياح عن النموذج التقليدي لجعل العمل أكثر قدرة على استيعاب ما يحفل به الواقع العربي من ذخيرة حكائية ومحكيات شعبية ورموز وخرافات واستيهامات ، وعلى استثمار حكائية كتب التاريخ والقصص الشعبية والتوليفات الصحفية والسينمائية . وبمراهنة الروائيين إبان هذه الفترة على التحديث ، أصبحت البنيات السردية لأعمالهم معقدة ومجدولة تتطلب من القارئ مزيدا من الصبر حتى لا يصاب بالطيرة . لهذا استهدف برادة في المقام الأول خلق مؤانسة وألفة بين هذه الفئة من الأعمال والقراء ، وحفزهم على الاستمتاع بأجوائها وفتق مغاليقها ، واستجلاء ما تنماز به من خصوصيات وأبعاد جمالية، وتبين الجهد المبذول في الكتابة والبناء ، وإبراز أن التجريب ليس مقصودا لذاته ، بل تتحكم فيه مقاصد وأغراض لتطوير الشكل الروائي وتحريره من الرتابة والاجترار. وما يجعل نقد برادة ممتعا هو التخفيف من وطأة المفاهيم الغلقة ، والإتيان بالأمثلة والشواهد الملائمة ، والاعتماد على لغة مسترسلة في شعريتها ووهجها وألقها ونضارتها وجزالتها ، والقدرة على تسخير ترسانة مفاهيمية تسعف على تفكيك بنيات النص والنفاذ إلى أعماقه لاستيعاب مضمراته وهواجسه التجريبية ومواقفه من الوجود.
ب- يسترسل القارئ في قراءة كل دراسة على حدة كما لو كان يسير على طريق سواء ، لا تفاجئه المنعرجات و الوُهْدان . ومرد ذلك إلى قدرة صاحبها على إفراغها في سبيكة متلاحمة ومتراصة ، وتطويع المعرفة الأكاديمية للتحاور مع فئات عريضة من القراء المتخصصين . ولما نعاود قراءة الدراسات والمقالات المجموعة في الكتاب ،الذي نحن بصدد قراءته، نجد تذويب وصهر مناهج متعددة في بوتقة موضوعاتية متماسكة . فما يتوخاه برادة هو جعل العدة النقدية في خدمة النص ومتحاورة معه ، وليست متعالية عليه ، أو ممارسة عليه عنفا بروكستيا([5]). وقد أملت عليه مقامات النشر وطقوسه أن يضع في الحسبان مخاطبة دائرة واسعة من القراء المتخصصين ، لذا ركز، في المقام الأول، على الكشف عن البنية الدالة للنص . ويعتبر هذه المرحلة من التحليل عتبة أساسية لتقريب القراء من فضاءات النص الهيباء ، وإسعافهم على اختراق مسالكها التَّيْهاء وإرشادهم إلى تبين معانيها الغلقة . ونظرا لصولة وجولة برادة في النقد الروائي ، فقد تمتع بالقدرة على التوليف المنهجي وتشبيك منهجين فأكثر لإضاءة النص من زوايا متعددة.
ج- فمن خلال المفاهيم المشغلة يتبين ارتكاز برادة على مرجعيات متباينة ( التحليل الموضوعاتي ، والسرديات ، وسيميائية باختين ، والبنيوية التكوينية )، ولا يكتفي بتشغيلها على النحو الذي عرفت به ، بل يولد منها مفاهيم ذات منازل جديدة . ويتوخى من هذا الصنيع بيان أن الممارسة النقدية ليست اجترار المفاهيم والتقوقع في شرنقات نظرية ، بل هي محاورة النص لتقييمه وتأويله ، والمراهنة على إنتاج معرفة لإفادة القارئ وحفزه على قراءته بمتعة وكلف ، وربط الكتابة بمجموعة من الأسئلة الثقافية التي تهم الذات والمجتمع والتاريخ ، وتثير الرغبة في مقارنة النص بنصوص أخرى للتوقف على المتشابه والمختلف.
د- ما يجمع بين نصوص المتن هو وعي أصحابها بأهمية وملاءمة التعدد اللغوي . وهذا ما جعل برادة يعطي لهذه الظاهرة اللغوية أهمية كبيرة. فالتعدد اللغوي ليس لعبة لفظية مجردة ، بل هو تعميق وتنويع للأفق اللساني ، وتشخيص أدبي للعوالم الإيديولوجية والصراعات الاجتماعية . وركز عليها برادة لبيان إمكاناتها في توسيع المتخيل ، وتغيير الشكل وتجديده ، وتشخيص الرؤيات للعالم المتضاربة والمتصارعة ، ورصد متغيرات المتخيل الجماعي ، وإنعاش روح مبادرة فحص الواقع وإعادة تشكيله على نحو يجلي التنوع الثقافي، ويبدد الصوت الأحادي المهيمن ، ويعيد الاعتبار إلى الأصوات المقهورة والمهمشة ، ويكشف عن هموم الذات ورغباتها المكبوتة و أوعائها المغفية .
2-المراهنة على القراءة التأويلية:
إن ميزة كتاب فضاءات روائية- شأنه في ذلك شأن كتاب أسئلة الرواية أسئلة النقد - هو توثيق المادة وجمعها لتكون رهن إشارة الباحثين والمهتمين، وإعطاء صورة عن رهانات النقد المغربي خلال فترة زمنية معينة، وإبراز خلفياته المعرفية وعلاقته بالنقد الأدبي الحديث، وإسهاماته في إنتاج معرفة تسعف على بلورة الهوية الثقافية واستيعاب أسئلة العصر وتمثلها.
وتتوزع محتويات كتاب فضاءات روائية على محورين: أحدهما يثير أسئلة نظرية حول الأفق الروائي، وثانيهما يحاور ويحلل متنا تخييليا يمتد من سنة 1978 ( الطبعة الأولى لرواية "اليتيم" لبعد الله العروي) إلى سنة 2002 (" خفق الأجنحة " لمحمد عزالدين التازي).
ما يجمع بين الدراسات النظرية هو تعاملها مع الرواية بوصفها أفقا مشرعا على مختلف الأشكال وسجلات اللغة ومستوياتها، ومسعفا على توليد أسئلة عن ماهية الكتابة والتخييل وتداول النص في سياقات سيوسيو-ثقافية مختلفة. أضاء محمد برادة الأفق الروائي الرحب بمعالجة جملة من القضايا يمكن أن نجملها فيما يلي:
1-تعزز " زمن الرواية" بتحقق إنجازات نصية تكشف عن إمكانات أخرى في السرد والوصف والتخييل، وبقدرة الروائيين على توليد المعرفة، ومنافسة أشكال التخييل الجماهيري في استكشاف مجاهيل النفس البشرية، وتقديم صور أخرى عن الحياة .
2-أكدت الرواية حضورها نتيجة تجريب تقنيات تخييلية جديدة، وتطوير أدواتها وأشكالها، والتحرر من القوالب الإيديولوجية الجاهزة.
3-يسعف جرد موضوعات الرواية على رصد التحولات الاجتماعية والسياسية، وتجديد المتخيل الاجتماعي، وفهم القضايا التي تستأثر باهتمام الإنسان، وتحفزه -كما يرى الروائي الأمريكي إيدايك- على " مهمة التحريك النقدي والإبقاء على جذوة الثورة الفلسفية لمواجهة قرن جديد" ([6]).
4-يشخص الروائي، بوعي وقصد، اللغة لتفريد الشخصيات وتمييزها حسب انتماءاتها الاجتماعية و السياسية والجهوية، ومجابهة اللغة الواحدة والآمرة، ورصد عوائق التحديث، وزعزعة الأجوبة الجاهزة والمنغلقة.
انكبت القراءة التأويلية على نصوص تخييلية متباينة في تجنيسها(الرواية، والسيرة الذاتية،والقصة القصيرة)، أصدرها كتاب ينتمون إلى أقطار مختلفة، وإلى أعمار وطرائق فنية متباينة. أغلبها مكتوب باللغة العربية باستثناء نص واحد ( أولاد الأزقة الضيقة لعبد الحق سرحان). ويتكون المتن التخييلي من أحد وعشرين نصا، تشغل ضمنها النصوص المغربية نسبة47.61 % في حين لم تتعد في كتاب أسئلة الرواية أسئلة النقد نسبة 9.09%. وقد دعم محمد برادة دراساته النظرية بأمثلة من الرواية العربية والعالمية. وهو ما يدل على سعة اطلاعه، وافتراشه مدر القراءة وإدمانها. وبما أن محمدا برادة يتوجه إلى دائرة واسعة من القراء المتخصصين فقد اعتمد طريقة تتدرج من البسيط إلى المركب، ومن بنية محايثة إلى بنية أوسع منها. وتتكون هذه الطريقة من عتبتين:
ا- يقدم محمد برادة، في العتبة الأولى نظرة مجملة عن العمل ويعيد تجنيسه وتركيب خيوطه الحكائية. ثم يعيد بناء معانيه باستخلاص الموضوعات الدالة، وإبراز برامج الشخصيات والعلاقات التي تجمع فيما بينها.
ب-لما يتنقل محمد برادة إلى العتبة الثانية، يتوغل في بنية النص لإبراز ما يتميز به من سمات جمالية وفنية. ونظرا لطبيعة العلاقة الملتبسة بين اللغة الواصفة والموصوف، فإن برادة يخلخل جملة من المفاهيم لكونها(الانعكاس، والواقعية، والالتزام) أصبحت عاجزة عن ملامسة كينونة النص وخصوصية الكتابة الأدبية. ويستبدلها بمفاهيم جديدة أملتها الإبدالات المعرفية والنقدية ( على نحو التشخيص، واللاتشخيص، ولغة الكشف، وشعرية المجهول، ترميز الواقع، التذويت، التخييل، والحوارية). وفي ضوء عمليتي التحليل والتفكيك يصنف محمد برادة العمل ضمن اتجاه فني أو نمط روائي ، أو يبين مكانته ضمن انتاجات صاحبه أو ضمن سيرورة الرواية العربية.
تستمد معظم التحاليل نسغها من الشعرية بمختلف اتجاهاتها ومشاربها. لا يعتمد محمد برادة عليها لضبط القوانين والسمات التي تشترك فيها طبقة من النصوص الروائية، وإنما يستثمر مفاهيمها لإبراز خصوصية النص، وإصدار تأويلات تنسجم وطبيعته ووظيفته. وهذا ما يبين أن محمد برادة ما زال محافظا على سلطته النقدية التي أسعفته، بالتجربة والممارسة، على بلورة القراءة التأويلية. وهي قراءة تحرص على " خلق المسافة النقدية" مع الموضوع، واستخدام "أدوات الانفصال" وبناء الأحكام على فهم الوقائع وتمثلها؛ وتحترس من " سجن النص في معنى أحادي أوفي دلالة ثابتة" ، و" إخضاعه لنوايا صاحبه"([7]).
وبالجملة، تتسم الممارسة النقدية في كتاب فضاءات مستقبلية بالسمات الآتية:
ا-لا يثقل محمد برادة التحليل بالمصطلحات والاستشهادات تجنبا للتشويش على القراء، و حرصا على استدراجهم لإقامة التواصل مع الفضاءات الروائية، والاستمتاع بعوالمها التخييلية.
ب-يحرص دوما على ممارسة النقد في منأى عن الضجيج أو الصخب الإيديولوجيين، وإحداث قطيعة مع النقد الإيديولوجي الذي يؤكد حقائق جاهزة وأحكام مسبقة، وهو ما يحول دون ملامسة الجوانب الفنية في النص، والتعرف على كينونته، والإنصات إلى نبضاته.
ج- يعد محمد برادة من المدافعين عن الحداثة في النقد. وتتواتر مفردة الحداثة في سياقات مختلفة داخل الكتاب. إذا لم يتسع هامش حرية التعبير والإبداع، وتنبذ أساليب التكميم والوصاية. لا يمكن للأفق الروائي أن ينتعش بالأصوات واللغات والأجناس التعبيرية " وأظن أن الرواية العربية تستطيع،مستقلا، أن تدعم مسيرة تجديد المتخيل الاجتماعي، وبلورة القيم التي تنقل مرجعية الصراع الاجتماعي وقوانينه وقراراته من السماء إلى الأرض"([8]).
استنتاجات عامة:
مما تقدم يتبين أن التصور النقدي لمحمد برادة يستند إلى خلفية ثقافية. فهي التي تؤطره وتحدد موقعه داخل المشهد الثقافي العربي. ويمكن أن نجمل العناصر التي يرتكز عليها فيما يلي:
أ-الحداثة: يراهن محمد برادة، في إطار دفاعه عن الحداثة الثقافية، على دور الرواية بوصفها أداة لتجاوز وظيفتي الدعاية والتبرير الإيديولوجيين، ونقد التصورات المغلوطة، وتجسيد رموز وعلامات المتخيل الشعبي ، و استيحاء كل ما يمت بصلة إلى الصراع والتجابه وتعدد الرؤى. إن الرواية، عموما، تضطلع بدور مزدوج " لانتقاد القديم والسائد وابتداع الأشكال والصيغ والأسئلة التي تحفز المخيلة والإرادة لتشييد الجديد"([9]). وفي هذا الصدد، ينبغي إبراز دور محمد برادة في إعادة الاعتبار إلى الرواية التي كانت إلى حد قريب تعتبر رديفا للتسلية والمتعة ، وإعطائها المنزلة المستحقة لوضع الإيديولوجية المهيمنة موضع تساؤل، واستيعاب الأصوات المتصارعة في المجتمع مصحوبة بخلفياتها الأيديولوجية والثقافية، و ابتداع أشكال وصيغ تمكن من التجديد والمغايرة، والتغلغل في نفسية الشخصيات ورصد ألامها وأمالها. إن اضطلاع الرواية، في نظر محمد برادة، بالإسهام في تشكيل معالم الحداثة رهين بإزاحة كل أشكال الرقابة والمنع والمصادرة التي تكبح الخيال وتعيد إنتاج البنيات الاجتماعية والثقافية السائدة. ولهذا تكتسي الديمقراطية ، في تصوره، مكانة خاصة لكونها تضمن حرية التعبير والتنوع الثقافي، وتحفز على استكشاف الأصقاع المجهولة داخل المجتمع العربي، وتنمي لدى الفرد الوعي بكرامته ومواطنته.
ب-التعددية: يركز محمد برادة في تحليلاته على مفهوم التعددية لقياس مدى انزياح المجتمع العربي عن مظاهر الامتثالية والتكريس والتبرير. وفي هذا الإطار قارب محمد برادة روايات عربية يعي أصحابها بدور اللغة في التقاط تحولات العالم العربي، وتشخيص الأصوات والعلاقات بطريقة أدبية. لقد انتقلت الرواية من كتابة المغامرة إلى مغامرة الكتابة لتجريب تقنيات جديدة تمكن من استيعاب التعدد الثقافي و أوجه الصراع الاجتماعي والإيديولوجي. وهذا ما اقتضى من الناقد محمد برادة الاستفادة من تحليلات ميخائيل باختين لبلورة لغة واصفة ( على نحو الحوارية، والتشخيص الأدبي للغة، وتعدد الأصوات، والتعدد اللغوي..) تسعف على تبيُّن التضاريس اللغوية في الرواية واستجلاء خلفياتها الإيديولوجية، و تبين الطفرات التي حققتها الرواية العربية من جراء تنوع بنياتها السردية واللغوية لرصد التحولات الاجتماعية العميقة، واستثمار بعض مكونات المتخيل الشعبي، و زحزحة الخطاب الرسمي لفائدة الفئات التواقة إلى تغيير البنيات الاجتماعية والثقافية ودمقرطتها.
ج-تغير مفهوم الأدب:
لقد حتم تبدل العالم في كل المجالات تغير مفهوم الأدب و وظيفته داخل المجتمع. وهكذا انتقل الأدب من الجمعي إلى الذاتي، وغدا ، أكثر من أي وقت مضى، مطبوعا بالتذري(Atomisation) وسط عالم يخضع للتقنين والمراقبة، وأصبح ينزع إلى التحرر من التبعية الإيديولوجية. ولم تعمل هذه البواعث إلا على تعزيز دور الرواية داخل المجتمع بحكم اتساع بنياتها لاستيعاب مختلف الصراعات الإيديولوجية والتناقضات الاجتماعية، واستنادا إلى قدرتها على مناهضة الخطاب الرسمي، واستنطاق مكنون الذات وأغوارها، وبلورة لغة أخرى " لغة الكشف والبوح والحوار لتحريك مخيلة القارئ ووجدانه وفتح كوة وسط سديم اليأس والعجز والاستقالة.."([10]).
د-إشاعة قيم جمالية جديدة:
لما بوأ محمد برادة الرواية العربية المكانة التي تستحقها بعد جهود متواصلة، تغيرت نظرة العرب إليها، إذ أصبحوا يتعاملون معها بوصفها أداة إبداعية ومعرفية لإعادة إنتاج الواقع ومساءلة الإيديولوجيات السائدة، وتطوير القدرات التواصلية والمنهجية والثقافية للقراء. وهذا ما شجع على ارتفاع نسبة نشرها وقراءتها من جهة، وإدراجها في المقررات الدراسية من جهة ثانية. لقد حتم هذا التغير في الذهنية العربية الانفتاح على ثقافة الآخر والاستفادة من تجاربه. وما يميز تجربة محمد برادة في هذا الخضم العام هو تعامله مع الرواية باعتبارها أداة لدمقرطة الثقافة، ونبذ كل ما يمت بصلة إلى أشكال التسلط والاستبداد والمصادرة.وهذا ما جعل تحليلاته لا تركز على الجانب التقني فقط، وإنما أيضا تهدف إلى إشاعة قيم جمالية جديدة قوامها الحوارية، والتعدد اللغوي والثقافي، وشعرية المجهول، والحقيقة الملتبسة والمتعددة، ولغة الكشف والبوح، وحرية التعبير، والأصوات والرؤيات المتعددة، وديمقراطية الثقافة...الخ.
----------------------------------------------------------
الهوامش:
[1] - قدم محمد برادة شهادات حية عن الأدوار التي اضطلع بها. انظر كتابه : سياقات ثقافية ( مواقف، مداخلات، مرافئ)، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003 ، ص-ص283-307.
[2] - أسئلة النقد أسئلة الرواية، منشورات الرابطة، ط1، 1999
-فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003.
[3] - محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.سا ص-ص 36-37
[4] -المرجع نفسه، 81.
[5] -نسبة إلى أسطور بروكست .
[6] - محمد برادة: فضاءات روائية، م.سا ص91.
[7] -محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.سا ص8.
[8] -محمد برادة: فضاءات روائية، م.سا ص91.
[9] - محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.سا ص68.
[10] -محمد برادة: فضاءات روائية، م.سا ص14.



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009