أصدر إمبرتكو إيكو كتابا موسوما ب " اعترافات روائي شاب"(2013 ) للتحدث عن تجربته الروائية. وعلى الرغم مما راكمه من روايات، وما حظي به من شهرة عالمية مازال يعتبر نفسه روائيا ناشئا يكد بحثا عن السبل الممكنة لإثبات جدارته الفنية واستغواء الغراء. ومن يطلع على الكتاب سيعاين ما تتطلبه " الصنعة الروائية" من جهد وصبر ووقت حتى تستوفي الرواية شروطها الفنية والجمالية، وتؤدي وظيفتها الاجتماعية على الوجه المطلوب. ( نشر في الملحق الثقافي لجريد لاتحاد الاشتراكي يوم الجمعة 1 نونبر 2013).
أصدر إمبرتكو إيكو كتابا موسوما ب " اعترافات روائي شاب"(1) للتحدث عن تجربته الروائية. وعلى الرغم مما راكمه من روايات، وما حظي به من شهرة عالمية مازال يعتبر نفسه روائيا ناشئا يكد بحثا عن السبل الممكنة لإثبات جدارته الفنية واستغواء الغراء. ومن يطلع على الكتاب سيعاين ما تتطلبه " الصنعة الروائية" من جهد وصبر ووقت حتى تستوفي الرواية شروطها الفنية والجمالية، وتؤدي وظيفتها الاجتماعية على الوجه المطلوب.
إن اعترافات إمبرتو إيكو بأسرار التجربة وخباياها ومصاعبها يمكن أن تصلح أيضا لإسداء نصائح عملية للمبتدئين الذي مازالوا في بُداهة مشوارهم. ويعتبر كل الروائيين، في نظر إيكو، كتابا ناشئين لأنهم يعملون في أوراش مفتوحة وواعدة بالعطاءات المتجددة، وينجزون أعمالا غير منتهية، ويحرصون على الدقة والاستقصاء والتحري تفاديا للخلط والفجاجة والخطإ.
يتكون الكتاب من أربعة فصول ، كانت، أصلا، عبارة عن محاضرات ألقاها إيكو في جامعة إيموري بأطلنطا عام 2008 (الكتابة من اليسار إلى اليمين، الكاتب والنص والمترجمون، ملاحظات عن شخوص التخييل، لوائحي). وحرصا على التقيد بموضوع المحاضرات اضطر إلى التركيز على تجربته الإبداعية دون سواها.
************************* رغم أن إيكو يبلغ إحدى وثمانين سنة ونشر ، لحد الآن، ست روايات، فهو يعتبر نفسه روائيا شابا مازال بمقدوره أن ينتج أعمالا روائية جديدة في خضم الورش المفتوح الذي يعد بعطاءات واعدة. لا تمنعه قلة تجربته في المجال الروائي من تبيان طريقته في الكتابة.
بدأ كتابة الروائة منذ طفولته. كان يكتب صفحات معدودات بالكاد مقلدا نصوصا مطبوعة، فينفد زاده ثم يتوقف عن الكتابة. لهذا يعتبر كل أعماله قمما إبداعية غير منتهية على نحو سيمفونية شوبير غير المنتهية. لما بلغ ست عشرة سنة بدأ ينظم الشعر كما هو حال أقرانه المراهقين.
غالبا ما يوضع حد بين الكتابتين الأدبية والعلمية. ما يميز بين روايات سرفانتيس وأعمال لاكان؟ هل يمكن لكتابة لاكان أن تكون أكثر إبداعية مما كتبه سرفانتيس؟ لا أحد يمكن أن يجادل أن كتابات غاليلي مفعمة بالشحنات الفلسفية والعلمية لكنها تدرس في ثانويات إيطاليا بصفتها أمثلة عن الكتابة الإبداعية الجيدة أو باعتبارها من قمم الإبداع لبراعة أسلوبها.
إن كتب ليني أو داروين عن القردة فهما يقدمان حقائق علمية عنها. ولما يكتب عنها ملفيل، فهو يدعي قول الحقيقة، بل يبدع قردة غير موجودة، ولا تمت إلى الواقع بصلة. نبحث في أي عمل نظري عن إعطاء جواب لمشكل خاص. وعندما نكتب نصا إبداعيا فإننا نتمثل الحياة في نعومتها وطهارتها.
شعر إمبرتو إيكو، مع مر الزمن، بطاقته الإبداعية، فحاول أن يمتحنها بطرقتين: بسرد القصص على أطفاله، وإضفاء الطابع السردي على كل عمل من أعماله. آخذ عليه أستاذ، أثناء مناقشة أطروحته عن جمالية سانت توماس الأكويني ، بأنه كتب بحثه على طريقة البحث البوليسي. وهو ما أوحى له بفكرة جوهرية مفادها " أن كل بحث ينبغي أن يسرد بهذه الطريقة.. وهو ما قمت به في كل أعمالي العلمية اللاحقة" ص14.
في بداية 1978 طلبت صديقة تشتغل في دار نشر صغيرة من غير الروائيين ( فلاسفة، علماء الاجتماع، الساسة) أن يكتب كل واحد منهم قصة بوليسية. أجابها إيكو، في الحال، أنه غير مؤهل للكتابة الإبداعية. وفي حال إقدامه على المشروع سيضطر إلى كتابة عمل من 500 صفحة، تدور مجمل أحداثه في أحد أديرة القرون الوسطى. لما عاد إلى بيته عثر في أدراج مكتبه على مسودة، فكانت بداية تفكيره في تحضير رواية تحمل عنوان "اسم الوردة".
لما عرف الكتاب نجاحا منقطع النظير، علل كل ناقد سبب ألقه ورواجه وشهرته. قد يكون إلهاما نورانيا أو وصفة سرية أو برمجة معاوماتية. فند إيكو كل الإدعاءات مبينا أن الرواية كتبت قبل ظهور البرامج المعلوماتية في عقد الثمانينات، وأنه فرغ منها في ظرف سنتين لدرايته الواسعة بجمالية القرون الوسطى. كما أنه اضطر إلى تفقد الأمكنة ( الأديرة الرومانية، والكاتدرئيات الغوطية، والكنائس العتيقة) التي تدور فيها الأحداث حتى يكون ملما بملامحها ومواصفاتها ومواقعها.في حين أن الروايات اللاحقة استغرقت منه سنوات عديدة ( ثماني سنوات بالنسبة لرقاص فوكو، وست بالنسبة لجزيرة اليوم السابق وبودلينو، وأربع في ما يخص الشعلة الغريبة للمكلة لوانا ص19). وهو ما يبين أن العمل الروائي يحتاج إلى جهد وتأن واستقصاء حتى يؤدي الأهداف المرجوة، ويستوفي الشروط المتوخاة في أي عمل فني.
لما ينهمك في الكتابة يضطر إلى جمع المعلومات والوثائق اللازمة ورسم الخرائط والتصاميم. " لما كنت أكتب رواية "رقاص فوكو" قضيت أمسيات بتمامها وأنا تجول في ممرات مرصد الفنون والمهن حتى إغلاق أبوابه، حيث تدور أحداث هامة. لأتمكن من وصف المشي الليلي لكاصوبون في باريس ، من المرصد إلى برج إفيل مرورا بساحة لفوزج، قضيت ليالي عديدة وأنا أذرع المدينة ما بين الثانية والثالثة صباحا هامسا في مسجلة صغيرة لتدوين رؤوس أقلام تهم ما أعاينه والحرص على عدم الخطإ في إثبات أسماء الأزقة والملتقيات." ص20.
عندما أراد أول مخرج سينمائي ماركو فريري تحويل رواية "اسم الوردة" إلى فيلم لاحظ أنها مسعفة على استنتاج سيناريو ملائم نظرا لطول الحوارات. لم يفطن إيكو إلى ذلك فيما قبل. لكن تبين له أنه قبل مباشرة الحوار رسم متاهات وتصاميم التي تعطي فكرة عن الوقت الذي يمكن أن يستغرقه شخصان في اجتيازها وهما يتحدثان.
بعد أن أصدر رواية" جزيرة اليوم السابق" طلب منه ناشر ألماني تصميما للسفينة/ المتاهة التي تدور فيها الأحداث. لم يفكر إيكو في ذلك أصلا على عكس ما اعتاده في تحضير باقي رواياته. راودته فكرة أن يظل القارئ تائها على نحو البطل دون أن يهتدي إلى الطريق المناسب.
أرغمته رواية "جزيرة اليوم السابق" على تفقد بحر الجنوب وبالضبط في الأمكنة التي تستقطب أهم الأحداث حتى يتمكن من معاينة لون البحر والسماء في مختلف أوقات النهار، واستجلاء التدرجات اللونية للأسماك والشعب المرجانية. قضى سنتين أو ثلاث في دراسة رسومات ونماذج السفن المستخدمة في تلك الفترة حرصا على معرفة حجم الممرات والحجرات، وضبط الوقت الذي يمكن أن يستغرقه شخص في التنقل من واحدة إلى أخرى.
غالبا ما يطرح عليه سؤال من قبيل: ما الفكرة والتصميم الأولي اللذين تنطلق منها في كتابة رواياتك؟ لما شرع في كتابة رواية "رقاص فوكو" تبادرت إلى ذهنه صورتان: صورة رقاص ليون فوكو الذي سبق أن قرأ له وأحدث رجة قوية في نفسيته، ثم صورة تهمه شخصيا " كنت أنفخ في البوق أثناء تشييع جنازة المقاومين الإيطاليين . ولهذا قررت أن تستهل الرواية برقاص فوكو وتنتهي بنافخ البوق في مقبرة ذات صباح مشمس. لكن ما السبيل لوصل المسافة بين الصورتين؟ كان حريا بي أن أقضي ثماني سنوات للإجابة عن هذا السؤال؟" ص25.
بمجرد أن تحدد الفكرة الرئيسة في ذهن الروائي تتناسل خيوط القصة بعفوية. لكن هذا لا يكفي؟ لا بد من إكراهات تحتم اختيار هذا العنصر و استبعاد آخر. اضطر إيكو في "رقاص فوكو" إلى إجبار الشخوص على معايشة انتفاضة الطلبة عام 1968. تنهض "جزيرة اليوم السابق" على سلسلة من الإكراهات. على البطل روبيرتو أن يقيم بباريس يوم وفاة شخصية ريشليو. حضوره لن يغير أي شيء. يمكن أن يستغنى عنه. " لكنني لما أقحمت هذا الإكراه لم تكن لدي أي فكرة عن وظيفتها المحتملة. كنت أرغب فحسب في عرض احتضار ريشليو لمجرد نزوة سادية" ص34.
لاحظ كثير من النقاد أن إيكو يستعمل تقنيات ما بعد الحداثة. وعى، في هذا الصدد، باستعمال تقنيتين، وهما: السخرية التناصية والسرد الواصف. وما يصطلح عليه المهندس المعماري شارل جنكزCHARLES JENCKS بالتشفير المزدوج. " أعترف أن الكاتب الذي يستعمل تقنية التشفير المزدوج يقيم نوعا من التواطؤ الصامت مع القارئ المثقف، في حين من يفتقد هذه الصفة يشعر، لعدم قدرته على التقاط الإشارة الثقافية، أن أمورا كثيرة تستسغلق على فهمه. لا أظن أن الهدف الوحيد للأدب هو الإمتاع والمواساة. لهذا أعتقد أن التشفير المزدوج لا يمت بصلة إلى العادة الارستقراطية لكنه يشكل ، بالنسبة للكاتب، طريقة للتعبير عن احترامه ذكاء القارئة وحسن إرادته" ص 40
غالبا ما يطرح عليه مترجموه بعض الأسئلة من قبيل: كيف يمكن لي أن أترجم هذا المقطع لكونه مبهما؟ يتيح إمكانات قراءته بطريقتين مختلفتين؟ ماذا تقصد بالضبط؟
اقترح إيكو ثلاث أجوبة للسؤال جسب طبيعة الحالة:
1- لم يقترح، فعلا، التعبير المناسب. ويطلب من مترجمه أن يتفادى اللبس المحتمل. ويعد إيكو بأن يأخذ بالملاحظة نفسها في الطبعة الإيطالية المقبلة.
2- لقد تقصد أن يكون مبهما لذا يجب على المترجم أن يحافظ على الإبهام.
3- لم يخطر على باله أن المقطع مبهم. وبصفته قارئا فهو يجد الإبهام مفيدا ومخصبا للنص لذا وجب على المترجم أن يحافظ عليه.
لو كان إمبرتو إيكو في عداد الموتى لتصرف المترجمون في تأويل نصه وترجمته كما يروق لهم. إن النص آلة خاملة لا تسترجع حيويتها إلا بفضل تأويلات المتلقي التي تفضي في نهاية المطاف إلى قراءة خاصة . لقد سبق لإيكو أن استثمر في كثير من مؤلفاته " التدلال اللامحدود"، وهو يهم الدلائل وليس السيرورات. عندما نبحث عن مفردة في المعجم سنجد أنفسنا أمام كلمات جديدة. إن التأويلات اللامحدودة لا يعنى بها أن التأويل عديم الموضوع. فكل تأويل ينبغي أن يفضي إلى نهاية سعيدة. يصح أن نقول إن هذا التأويل مقبول وأن الآخر شاذ.
إن تعرُّف القارئ النموذجي مقصدية النص يقتضي تعرُّف استراتجية سيميائية. وكل قراءة هي تفاعل معقد بين كفاية القارئ( كفايته الثقافية والموسوعية) وبين جنس الكفاية الذي يقترحه النص حتى يضاعف من نسب قراءته وفهمه والاستمتاع به.
لا يؤول القارئ الاختباري النص وإنما يعتبره كما لو كان صدى ليومياته وتجاربه، واستجابة لنزواته الشخصية. وفي هذا الصدد، قام طالبان من معهد الفنون والمهن بدور القارئ الاختباري الذي يسعى إلى التأكد من صحة الأحداث المروية في باريس. تتبعا خطوات بطل كاصوبون والتقطا ألبوما من صور الأمكنة التي عبرها في أوقات معينة. " لقد سعيا إلى تحويل باريس "الحقيقية" إلى مكان يوجد في كتابي...مما عايناه في بارس لم يحتفظا إلا بالجوانب التي تلائم المواصفات المقدمة في نص روايتي" ص56. لم يريا فيها إلا ما يلائم مواصفات الأمكنة المثبتة في الرواية. أطلعا إيكو على موقع حانة سبق له أن ذكرها في الرواية. لم يكن على علم بوجودها. قد يكون مر بجانبها دون أن يعرها أدنى اهتمام.
أثار إيكو أيضا تجربة صديق له في قراءة إحدى رواياته (رقاص فوكو). لما فرغ من قراءتها كاتبه مبرزا له أن ما حكاه فيها ينطبق بالتمام على ما جرى لعمه وعمته. أجابه إيكو أن العم شارل والعمة كاترين هما عضوان من عائلته. وما يعلل تشابه القصتين هو أن المآسي التي عاني منها جيل قد تضرر منها كثير من الأعمام والعمات.
لما يطلع الكاتب، وهو على قيد الحياة، على مختلف التأويلات، لا يمكن له أن يحسم في أيهما الأصح، ولكن من حقه أن يبين الفروق بين مقاصده ومقاصد النص. اقترح إيكو لروايته الأولى عنوان اسم الوردة متوقعا منه أساسا كثرة التأويلات وتضاربها. " مازال الكتاب يروج في العالم، وما على الكاتب الاختباري إلا أن يلتزم الصمت" ص60.
وقد يحيل العنوان إلى عنوان آخر يستوعب محتويات القصة نفسها. قبل أن تترجم مترجمة روسية كوستوكوفيتش ELENA KOSTUKOVICH اسم الوردة إلى اللغة الروسية كتبت مقالا تشير فيه إلى رواية تحمل عنوانا مشابها "وردة براتيسلافا" (1946). تدور القصة حول البحث عن مخطوط محفوف بالأسرار، وتنتهي بحريق المكتبة. لم يطلع إيكو على الرواية ويقر أن كثيرا من الروايات تتشابه صدفة في استيعاب المواضيع المبتذلة والتجارب المشتركة.
ذكر أمثلة كثيرة من هذا القبيل لإثبات عدم ملاءمة الكاتب الاختباري وإثبات حقوق النص. كما لاحظ أنه لا يعير كبير اهتمام للكاتب الاختباري. في حين أن شهادته تؤدي وظيفة هامة
ليس لفهم النص فحسب وإنما لمساعدة القراء على فهم المجرى غير المتوقع لسيرورة الإبداع. وهذا ما يحفز على فهم الاختلاف بين استراتجية النص و قصة تطور النص.
كثير من القراء لا يميزون بين الواقع والخيال. يعتقدون أن الشخصيات هي من لحم ودم. ما السبب الذي يجعل كثيرا من القراء ، رغم مستواهم الثقافي، تهمي عيونهم على انتحار كارنينا في حين لا لا يذرفون دمعة واحدة حيال موت شخصية عمومية بارزة؟ لم يتناول إيكو موضوع الانتحار من الزاوية الانطلوجية وإنما من الزاوية السيميائية. يحاول الكاتب دوما إيهام قرائه بأن ما يحكيه هو عين الحقيقة حاثا إياهم على أخذ مسعاه مأخذ الجد.
هل يمكن لإثبات تخييلي(انتحرت كارنينا برمي نفسها تحت القطار) أن يكون حقيقيا على نحو الإثبات التاريخي(انتحر هتلر وحرقت جثته بنفق في برلين ). غريزيا يمكن أن ما يقال بصدد كارنينا هو محض خيال، في حين ما وقع لهتلر هو عين الحقيقة. بالاستناد إلى الحقائق الموسوعية المشتركة والمتواضع عليها نقر بأن انتحار هتلر حدث حقيقي أكده مختصون في الموضوع. ومع ذلك تحتاج الحقائق العلمية إلى مراجعة عندما تظهر وثائق جديدة تدلي بمعطيات مغايرة. وهذا ما يصدق على موضوع انتحار هتلر. هناك مؤرخون شككوا فيه بدعوى أن هتلر فلت بجلده وهرب إلى الأرجنتين. ولم يتؤكد بعد ما إن حُرقت جثة هتلر أو جثة إنسان آخر.
كل إثبات ينبغي أن يبنى على الشرعية الاختبارية الخارجية. أعطيني الدليل الملموس الذي يبين أن هتلر انتحر فعلا. بالمقابل يستند في تعليل خبر انتحار أنا كارنينا إلى الشرعية النصية الداخلية لأنه ليس في حاجة إلى تجريد النص لتوكيده. ومع ذلك هناك من يقلب الحقائق التخييلية. أنجز في هذا المضمار فليب دومينك PHILIPPE DOUMENCبحثا بوليسيا لإثبات أن مدام بوفاري قتلت عكس ما روج بصدد انتحارها بالسم.
يمكن أن نعتبر الآلهة الأسطورية خرافة وتخييلا، في حين يؤمن آخرون بوجودهم. وفي السياق نفسه يعتبر البوذي إله الإنجيل شخصية خيالية. يؤمن الإنجليز بأن شخصية شرلوك هولمز شخصية حقيقية. ومن ثم أصبحت كثير من الشخصيات الأسطورية أبطالا روائية. وبالمقابل، أصبحت شهرة الأبطال الروائيين تضاهي شهرة الشخصيات الأسطورية. وهو ما يبين أن العلاقة بين الطرفين أصبحت أكثر التباسا. أكثر من ذلك تعطي الشخصيات الروائية المثال السامي عن الشرط الإنساني " الحقيقي".
تربى إيكو، في نشأته الكاثوليكية، على استظهار والإصغاء إلى جملة من الصلوات التي تقوم على ترديد لائحة من صيغ الابتهال للعذراء. واضطر، في كثير من تجاربه الروائية، إلى إعداد لوائح مهما كلفته من جهد وجلد.
وتنقسم اللوائح قسمين: لوائح علمية تستوعب ما نحتاجه من مقتنيات، وجردا للكتب، ووصفات الأكل. وهي، في مجملها، ذات طبيعة مرجعية تحيل إلى أشياء بعينها. ثم لوائح شعرية مفتوحة تسعى إلى اقتراح ما لا نهاية النصوص والأشياء والأحداث لاعتبارين، وهما: 1-يعي الكاتب بصعوبة تسجيل العناصر لكثرتها وسعتها، 2- يستمتع الكاتب بتعدادها اللانهائي ( أحيانا تكون مجرد متعة سمعية).
لما بدأ كتابة روايته "اسم الوردة" استعار من الكتب الإخبارية القديمة أسماء مختلف أصناف المشردين والمتسكعين سعيا على التعبير عن الخلط الاجتماعي والديني الذي ساد في القرن الرابع عشر بإيطاليا.
عندما كان منهما في كتابة "جزيرة اليوم السابق" عاين أن رصيده اللغوي لا يسعفه على وصف الألوان البراقة للسمك في بحر الجنوب. وهو ما حفزه على البحث عن الأوصاف والمفردات المناسبة مستعملا الوصف المؤثر.
هناك لوائح منسجمة وأخرى فوضوية. نعاين تجلياتها في كتابات جويس وبورخيص ورامبو ونيرودا وبريفير.. وهي لا تخلو، في آخر المطاف، من الانسجام لأنها تعيد تشخيص العالم مقيمة روابط وعلاقات بين مكوناته. لم يستعمل إيكو هذا النوع لأنه خاص بالشعر، في حين يكون الروائي مجبرا على تمثيل أحداث وقعت في زمكان محدد.
----------
1 -Umberto Eco , Confessions d'un jeune romancier, , trad de l'anglais François Rosso Grasset, Paris 2013.