|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
مصطفى القصري في " المناهل"-محمد الداهي
دأب مصطفى القصري إبان عقدي السبعينيات والثمانينيات على نشر عيون ترجماته ومقالاته في مجلة " المناهل" على نحو غير منتظم. وكان يحرص ، أسوة بغيره من الكتاب ، على إثبات حضوره في هذا المنبر الأغر سعيا إلى تجديد نسغ الثقافة المغربية والإسهام في تطويرها وانفتاحها على ثقافات أخرى. اختار مصطفى القصير النشر في مجلة "المناهل" لاعتبارات كثيرة لعل أهمها قيمتها العلمية الرصينة، وشموخ الأسماء التي تكتب فيها، وتنوع مواضيعها وأبوابها وقضاياها. ولما نفحص ما نشره مصطفى القصري يتضح أنه كان ،بين الفينة والأخرى ، يثير قضايا متنوعة في مجالات شتى تبعا لقيمتها وملاءمتها. فهو لم يكن مختصا بمجال محدد، وإنما كان ديدنه أن يفيد القارئ في أي موضوع يراه مفيدا وممتعا. و يمكن أن نقسم ما نشره إلى ثلاثة فئات([1]): 1-الترجمة: نشر مصطفى القصري ، خلال الفترة نفسها، ترجمته لقصيدتي " النحس" لسطيفان ملارمي([2]) و"حوار الشجرة" لبول فاليري([3]). تنقسم القصيدة الأولى إلى جزئين. يقدم الجزء الأول وصفا مأساويا للأنبياء الذين تحولوا إلى أبطال سعداء رغم ما قاسوه من محن وحزن وشقاوة لتبليغ رسالتهم إلى الناس . ويدور الجزء الثاني حول التعساء الذين لم يصلوا إلى المجد ليس بسبب قلة عبقريتهم وعدم اجتهادهم وإنما لحظهم العاثر وطالع نحسهم مما يجعل كرامتهم مداسة وحسرتهم متعاظمة. والقصيدة الثانية عبارة عن حوار وجدال فكري وشاعري حول كينونة شجرة الزان ومعاناتها وتطلعاتها وحركاتها وسكناتها. إن كل متحاور (الحكيم لوكريس والراعي تيتير) يتعامل مع الشجرة من منظور خاص، ويمتلكها على الشكل الذي يراه فيها، فهما يتقاسمان الهواجس المشفوعة بالحب والحمد اللذين تلهمها الشجرة ، ويتخذانها تعلة لإبراز فلسفتيهما المتباينتين من الحياة ، والصدع بآمالهما وتطلعاتهما المتضاربة، والتعبير عن مكنون ذواتيهما على نحو يتقاطع فيه التجريد والرمز والبوح الرومانسي. يمكن أن نتخذ الترجمتين عينتين تمثيليتين لإعطائنا نظرة مجملة عن طريقة القصري في الترجمة بصفة عامة: أ- ينتقي القصري بعناية ما يترجم من عيون القصائد وروائع الآداب العالمية. لم يكن يتورع أو يتوجس من وعورة التضاريس اللغوية في ما يسعى إلى تعريبه . كان وكده، رغم مكابداته وعنائه وإجهاده، نقلُ ما يتضمنه النص الأصلي من معان موحية وعميقة وأحلام مغفية بلغة عربية أصيلة ومنسابة. ومما يدل على هاجس الانتقاء الذي كان يسكن جوارحه هو إقدامه على ترجمة نصوص تتميز بعمقها الوجودي والفكري وترف أسلوبها وروعته مستندا في ذلك إلى سعة اطلاعه، وغزارة فكره، وحسه الشاعري المرهف، وتمكنه من ناصية اللغتين العربية والفرنسية. وفي هذا الصدد نشير إلى أنه ترجم قصيدة " النحس" في صورتها النهائية، بعدما أدخل عليها ملارمي تحويرات متواصلة ومنتظمة طيلة عشرين سنة من نشرها لأول مرة. ب-كان يتردد بين نشر الترجمة العربية بتقديم أو بدونه. إن استغني عن التقديم فسيترك للقارئ العربي غير المتمرس على الأدب الرفيع هامشا رحبا للتفسح والتجوال كيفما يشاء في جنباته الفيحاء . في حين كان القصري، بسبب اعتياص اللغة وعدم انقيادها وكثرة مساربها التيهاء، ميالا إلى تصدير ما يترجمه بمقدمة سعيا إلى مد العون إلى شريحة عريضة من القراء حتى تستطيع فهم ما تقرأه وتمثل بعض أبعاده ومغازيه. ج- تتضح من النصين المترجمين فلسفة القصري في الترجمة. وهي متأصلة في طبعه ونحيزته. فهو كان شغوفا بالترجمة الثقافية التي تقر بوجود قيم إنسانية كونية يتقاسمها الناس على كثرة نحلهم ومللهم ومشاربهم. وكان حريصا على تأصيل ما يترجمه مضفيا عليه الطابع العربي الأصيل([4])، مستلهما ما ظل محفوظا في صدره من آيات بينات، مفتخرا بما ضربه الله من أمثال للعباد لعلهم يتذكرون([5]). 2- المقالة: يعد مقال " الطاووسية"([6]) من بين المقالات التي نشرها مصطفى القصري في الفترة ليعطي الدليل، من ذخيرة الثقافة العربية الإسلامية الرحبة، على إعجاب المرء بذاته إلى حد التطاول والتعاظم. وأورد القصري أبياتا وأقوالا وطرفا لإبراز سلوك المتطاوسين([7]) وتصرفاتهم وفي مقدمتهم إبليس أول من تطاوس وتكبر من الخليقة لما أبى أن يسجد لآدم بصفته خليفة الله في الأرض. وفي عداد المتطاوسين نجد جذيمة الأبرش الأزدي صاحب الحيرة في الجاهلية، وقبيلة بني مخزوم التي ينتسب إليها عمر بن أبي ربيعة الذي كان يجر ذيل التبختر أمام عشيقاته والمعجبات به من فتيات مكة، وأبو حيان التوحيدي، وأبو الفضل بن العميد، وعمار بن حمزة الكاتب، والمغني والشاعر عمرو بن بانة ، وشميم الحلي النحوي. وفي السياق نفسه، استشهد مصطفى القصري بشواهد كثيرة تبين ذم الشعراء العرب للمتطاوسين من الوزراء والأدباء والمؤرخين والعلماء. تناول مصطفى القصري في مقال آخر " جزى الله الثلج عنا خيرا يا أبا تمام"([8]) موضوعا طريفا لم يوف حقه من لدن الباحثين رغم وفرته في الحزانة العربية. ويتعلق الأمر بموضوع قد يبدو شاذا من كثرة انشغال الذاكرة الإنسانية بمواضيع تلائم المناخ الصحراوي لشبه الجزيرة العربية، من قبيل الكثبان والجمل والناقة والريح والظمإ . وفي هذا المضمار بذل القصري قصارى جهوده للتدليل على عناية الشعراء العرب بموضوع الثلج وصفا وتشبيها سواء بالاعتماد على الذاكرة أو بتفقد مناطق معينة (خرسان وهمدان ولبنان..). وإن صد الثلج أبا تمام عن مواصلة رحلته عائدا من خرسان، فقد استغل فرصة مقامه عند مضيفه أبي الوفاء بن سلمة بهمدان لتصنيف خمسة كتب في الشعر منها كتاب " الحماسة" إلى حين توقف الثلج عن النزول. وإن استطاع أبو تمام تحويل غضبه إلى نصر إثر مساعدة أبي الوفاء له (أحضره ما يلزم من الكتب)، فإن المتنبي غاض من الثلج لأنه منعه من زيارة أبي علي هارون الأرواجي الكاتب المتصوف ليمدحه ويستجديه. ومن جملة الأبيات التي جادت بها قريحته: بيني وبين أبي علي مثله اهتم القصري بموضوع لغوي " أغلاط وتصويبات لغوية بالرجوع إلى القرآن"([9]) للفت الانتباه إلى كثرة الأغلاط التي تؤثر سلبا في صفاء العربية وسلاستها. وآثر بداية أن ينبه القارئ إلى بعض الألفاظ المتآخية التي تلتبس على القارئ ، فلا يفرق بينها معتقدا أنها مترادفة. ومن ضمنها نذكر: الخلف ( تكون فيما سيأتي) والكذب (يكون فيما مضي)-الأعجمي (لا يفصح) والعجمي(المنسوب إلى العجم)- الغزل( معاشرة النساء والتخلق بما يوافقهن) والنسيب(التشبيب)-الهجنة( في الخيل تكون الهجنة من قبل الأم غير العتاق) والإقراف(ألا يكون الأب من الخيل العتاق، فإذا كانت الأم من العتاق والأب ليس كذلك كان الولد مقرفا). ثم أورد القصري عبارات تلتبس مفرداتها على المرء، واقترح ،في هذا الشأن، الاحتكام إلى القرآن لتبين الاستعمالات على الوجه الصحيح والسليم. وكان سنده الأساس، في هذا المجال، معجم الأخطاء الشائعة لمحمد العدناني. ومن باب التمثيل نورد ما يلي: يقال أفسح له مكانا، والصحيح فسح له مكانا. يقول الله تعالي في كتابه العزيز:" إذا قيل لكم افسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم". يُذكَّر الكأس في حين أن اللفظ ورد مؤنثا في القرآن: " يطاق عليهم بكأس معين بيضاء لذة للشاربين". يقال الوارث والوريث. واللفظ الأول هي الأصح مصداقا لقوله تعالي " وعلى الوارث مثل ذلك". من بين الملاحظات التي عنت لنا بصدد ما نشره القصري من مقالات نذكر ما يأتي: أ-كان القصري، بفضل حسن انتقائه وسلامة ذوقه ولطافة حسه وجودة خاطره، يتناول مواضيع طريفة ومستملحة لجذب اهتمام القراء وإفادتهم. واضطر، في هذا الصدد، إلى الاعتماد على المصادر ليوفي الموضوع حقه من جميع الجوانب، ويدعمه بالحجج والشواهد المناسبة، ويقيم المقارنات الضرورية عند الاقتضاء. ب-يوازن في مقالاته بين الجانبين الأكاديمي والصحفي حرصا على التوثيق والرصانة العلمية من جهة، وسعيا إلى الترويح على القارئ وإطراب جوانحه. فهو، في الجانب العلمي، يعود إلى المصادر للإلمام بالموضوع في منتهى الدقة والفاعلية. أما في الجانب الصحفي، فيسعى إلى التخفيف من الحمولة المرجعية مستغنيا عن الهوامش والإحالات، مستطردا في الموضوع، مكثرا من الطرف والملح. وكان يتقصد الصنيع الثاني ويغلب كفته حرصا منه على مخاطبة شريحة واسعة من القراء، وحفزهم على قراءة ما يكتبه دون عناء يذكر. ج-يستحضر القصري فيما يكتبه البعد البيداغوجي وعيا منه بملاءمته في تهذيب نفوس القراء وخاصة الشباب منهم، وحفزهم على استلهمام العبر المناسبة للاهتداء بها في حياتهم. وفي هذا الإطار يدعو الباحثين إلى انتقاء الأدب الطريف في حلة عصرية ميسرة حتى يطلع عليها الشباب ويستفيدوا منها نظرا لضخامة الكتب الصفراء المكتنزة، واعتياصها على أفهامهم ومداركهم، وغلاء ثمنها. 3-الدراسات : نشر مصطفى القصري دراسة موسومة ب" مدخل لدراسة المتنبي الأعلام الجغرافية في شعره"([10]) . ينطلق فيها من أشعار المتنبي لإبراز مدى عنايته بذكر الأعلام الجغرافية ، واستحضارها بدقة وفنية. فقصائده ، على كثرتها وغزارتها، تحفل بأسماء المدن والثغور والمدن والحصون والغزوات والعواصم والأنهار. وهذا ما جعل منها أداة تشهد على ما عاشه عصر المتنبي من أحداث جسام، وتكشف ما يثور في نفسه من الأهواء والمشاعر، وتبين أسفاره عبر الأصقاع بحثا عن الدعة والطمأنينة المفتقدتين. وعلاوة على إرفاق مصطفى القصري دراسته بخرائط حرصا منه على بيان المواقع الجغرافية المتحدث عنها، فهو كان يتوسع في شرح بعضها مستندا إلى المصادر الأدبية والتاريخية. وهو، بهذا الصنيع، ينزع ، من حيث لا يعلم، إلى النقد الثقافي الذي يهتم بالممارسات الثقافية والأبعاد التاريخية والاجتماعية في النص بالرجوع أحيانا إلى " الوثائق" التي تعضد مسعاه وتؤكد مرماه. نجد ،في أحد أعداد مجلة المناهل، دراسة للقصري معنونة ب" زهور الورد في المصادر القديمة"([11]). ورغم صعوبة البحث في أصل الورد ومنبته الأصلي، فإن المستطلع للأمر يميل إلى القول بأن إيران هي مهد الوردة الأصلية، وبعد ذلك انتقلت إلى آسيا الوسطى، ثم إلى اليونان، ثم إلى العراق، فسوريا وفلسطين. ولم يظهر للورد أثر في الآثار الفرعونية ، وفي الكتب الدنية الهندية القديمة. وهو ما يبين أن المصريين القدامي، أسوة بالبطالسة واليهود والآشوريين، كانوا يجهلون الورد. وقد نسجت حول الورود أساطير غنية برموز وإيحاءات لا تخلو من الإشادة بما تتمتع به من عطر نافذ وأريج زكي وجمال بارع. وتعتبر دراسة " الورد في الأدب الفارسي "([12]) امتدادا لما نشره القصري في العدد الآنف ذكره بخصوص أصل الورد. وفي هذا الصدد، بين مدى عناية ملوك الفرس القدامى بالورود في بساتينهم. كما أبرز افتتان الشعراء الفرس ( على نحو حافظ الشيرازي، فريد الدين العطار، سعدي الشيرازي،أبو منصور محمد بن أحمد دقيقي، أبو عبد الله جعفر بن محمد رودكي..) بجمال الورد ورشاقته وأريجه وألوانه. وبعد أن قسم القصري مبحثه إلى أربعة محاو(الربيع والجمال، البلبل والوردة، الشطحات والتجليات الصوفية، الحكم والأمثال والعبر)، بين ما يستوعبه كل محور على حدة من الشواهد الشعرية التي اضطلع بترجمتها من الفرنسية أوالإنجليزية إلى اللغة العربية. ولم ترقه الترجمات العربية المتوفرة لركاكتها ورطانتها ومعاكستها المعنى. وما يلفت النظر في هذه الدراسة، مقارنة مع سابقتيها، هو عناية القصري بالإحالات والحواشي والتعليقات، وحرصه على ضبط المراجع المعتمدة. وفيما يلي بعض الملاحظات التي تهم دراساته: أ-انزاح عن المواضيع المكرورة ، واهتم بمواضيع لم تطرق من قبل. قد تبدو، ظاهريا، بسيطة أو عبارة عن تحصيل حاصل، لكنها، في العمق، تكشف عن رحابة الأفق والموروث الإنساني من جهة، وتبين ما يتمتع به القصري من فطنة وذكاء في لفت انتباه القراء إلى قضايا مهملة ومستبعدة رغم قيمتها الثقافية ورمزيتها التاريخية. ب- اهتم القصري، في كل دراسة على حدة، بموضوع محدد، ثم استقصى المصادر للتوسع فيه من جوانب متعددة، ودعمه بالشواهد والحجج المناسبة. وكان يتناول الموضوع نفسه من زوايا مختلفة مركزا على ما يستضمره من أنساق ورموز ، وما يوحي به من أساطير وإيحاءات. فما كان يهمه من إثارة موضوع الورد هو بيان كيف تفاعل المرء معه نفسيا وثقافيا، وما أنسله من إيحاءات ورموز وأهواء وقيم. وما كان يتوخاه من جرد الأعلام الجغرافية هو إبراز ما استوعبته من صراعات ومشاحنات سعيا إلى تكريس منطق الأقوى وثقافته وتطلعاته. ج- يتضح، من خلال الإحالات والهوامش والشواهد، ما بذله القصري من جهود لاستقصاء موضوع ما وغربلة مواده وإعادة ترتيبها. وهو، في كل ذلك، يستند إلى المصادر والمراجع الضرورية، ويورد التعليقات والإحالات المناسبة، وينفتح على مجال عريض من الاهتمامات دون التقيد بخلفية منهاجية صارمة. وبالجملة، يمكن ، مما تقدم، أن نعاين مدى غزارة فكر القصري وزاده، وذكائه في تناول القضايا الطريفة التي تستحق الاهتمام أكثر من غيرها. وقد أسعفه تكوينه اللغوي على التنقل بحرية ودون عناء بين اللغتين العربية والفرنسية في أفق تعزيز تلاقح الثقافتين وتحالفهما وتقاربهما، وإيجاد التكافؤات والتقابلات التي تناسب طبيعتيهما وبنيتيهما. وقد حرص فيما يكتب أن يتحاشى الاغتراب والاستلاب، ويعانق القضايا المشبعة بالروح الإنسانية والمشرعة على الأفق الكوني، ويكتب أو يترجم تحت إصرار إثبات عروبته وأصالته وصفاء لغته. ولم يسغ ، في مسيرته الثقافية والعلمية، ركوب السنن المألوفة، وإنما كانت تستهويه مجازفات امتطاء غوارب البحث والتنقيب سعيا إلى إرواء غُلَّته من غيث المعرفة الغرّاف، والتوفيق بين ألوان الأصالة وأصناف الحداثة.
-------------------------------------------------------------------------------- [1] -1- نص الكلمة التي ألقيتها في رحاب كلية الآداب ظهر المهراز بفاس إثر تنظيم يوم دراسي تكريما للكاتب والمترجم مصطفى القصري الخميس 8 أبريل 2010
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: السبت 22-05-2010 03:36 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 2442 التعليقات: 0
|