تكمن ملاءمة المؤلف الذي حققه الباحث عبد الغني أبو العزم (أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة) في كونه يحفل بمعلومات غنية عن أصناف الطبخ وأنواعه، ويكشف عن المظاهر الحضارية المغربية-الأندلسية في العصر الموحدي.
ويمكن المهتمين بالطبخ أن يستفيدوا من وصفات الأطعمة التي يتضمنها الكتاب، ويتعرفوا على منافعها وأثرها على صحة الإنسان ونفسيته، ويطلعوا على أصالة بعض المصطلحات العربية المتداولة في مجال الذواقةla gastronomie . بلغ عدد الوصفات التي تضمنها الكتاب خمسمائة واثنتي عشرة وصفة، لكنها لم ترد مبوبة ومصنفة، إذ تتداخل في ما بينها وتتكرر أحيانا، وتتفاوت في أهميتها وقيمتها وأنواعها.
اعتمد الباحث عبد الغني أبو العزم في تحقيق الكتاب على نسختين. إحداهما عثر عليها في المكتبة الوطنية بباريس في بداية السبعينات، وثانيتهما صادفها ضمن مخطوطات الخزانة العامة بالرباط ( قسم الوثائق) بعد أعوام، وهي مكتوبة بخط مغربي جميل. يشترك المخطوطان في عدم ذكر اسم المؤلف، ويختلفان في ترتيب الأبواب، وأسلوب معالجة الموضوعات. ويعود ذلك إلى أن ناسخ المخطوط (ب) توخى الاختصار كما أشار إلى ذلك في الورقة (83). إن الفارق الزمني بين المخطوطين هو أزيد من قرنين ونصف. يشير ناسخ المخطوط (ب) إلى أنه انتهى من نسخة ضحوة يوم السبت الثالث عشر رمضان سنة اثنتي عشرة وألف 1012 هـ ، أي الموافق لعام 1604، وفرغ ناسخ المخطوط (ب) من نسخة في ليلة الثلاثاء لثمانية عشر من ذي القعدة عام 1272هـ الموافق لعام 1864. ويعود تاريخ المخطوط الأصل إلى القرن السابع الهجري أيام دولة الموحدين. ويرى الباحث المحقق عبد الغني أبو العزم بأنه" من الصعب تحديد طبيعة النسخة الأصلية، وإن كلا من النسختين المتأخرتين اعتمدتا على نسخ لا توجد بينهما اختلافات كثيرة، إلا ما كان من محاولة تغيير بعض المصطلحات ذات الطبيعة المحلية، وهذا ما نجده في مخطوط (أ) الذي تم نسخه، مما لاشك فيه، في رحاب مدينة مراكش".
وقد بذل الباحث عبد الغني أبو العزم مجهودات كبيرة للاهتداء إلى صاحب الكتاب، مستقصيا بعض المصادر العربية، وما كتب عن الأطعمة وفنون الطبخ في العصر الموحدي. ولم يعثر لا من قريب ولا من بعيد على ذكر لهذا المؤلف. واضطلع باستقراء النص والتمعن فيه لاستخراج القرائن التي تدل على شخصية المؤلف، وتسعف على تحديد المرحلة التاريخية التي حبر فيها الكتاب. كان المؤلف غير متمكن من ناصية اللغة العربية بالنظر إلى الأخطاء النحوية والتركيبية التي تخللت كتابه، وطباخا ماهرا من الدرجة الأولى، وملما بفنون الطبخ وألوان الأطعمة، وعلى علاقة مباشرة بأمراء وملوك الدولة الموحدية بالأندلس والمغرب، وعلى اتصال بفقهاء وعلماء وأطباء عصره. ولا يتوفر الكتاب على معلومات تهم فقط علم الصيدلة ومزايا الأغذية، وإنما يبرز جبانا هاما من الحضارة الأندلسية والمغربية في المجال الفلاحي والاقتصادي والعلوم وعلم النبات والحيوان. "إنه تعبير عن مظاهر حضارية بارزة، اتسمت بالذوق السليم، والمعرفة الدقيقة لطبيعة مواد الأغذية ومدى فعاليتها، وتأثيرها على الأجسام والعقول". ويفترض الباحث عبد الغني أبو العزم أن المؤلف الذي تنطبق عليه بعض المواصفات والمعلومات المحصلة، ومما جاء في كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة يمكن أن يكون هو أبو الحجاج يوسف يحيى بن إسحاق الإسرائيلي الفاسي المغربي المتوفى سنة 623هـ ، ويعلل أبو العزم هذا الافتراض في ما يلي :" إذ نجد له كتابا يدور حول " ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها" بالإضافة إلى أنه اهتم بشرح أقوال أبقراط، إذ أن بعضها وارد في الكتاب، كما أنه عاش بمصر حيث اشتغل بالطب على الرئيس موسى بن ميمون الإسرائيلي القرطبي، وانتقل فيما بعد إلى الشام واستقر بحلب، ولاشك أن معاشرته لأهل الشرق جعلته ملما بأنواع أطعمتهم، مع التأكيد أن هذا مجرد افتراض لا غير".
أثار كتاب الطبخ الذي يلي مباشرة كتاب أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة، أسئلة كثيرة حول صحة نسبته إلى الأمير إبراهيم بن المهدي. وقد اعتبر الباحث ديفيد وينز نسبة الكتاب إلى إبراهيم بن المهدي بن المهدي مجرد إكرام له، ونتيجة لما كان يسمع ويعرف عنه من اهتمام بالطبخ في العصر العباسي. ويعزز الباحث عبد الغني أبو العزم هذا الطرح بدعوى أن الإشارات المتعددة الواردة في الكتاب منسوبة إليه خطأ ( على نحو المركاس والصنهاجي والزلابية والك *** و واللمتونية)، وأن المصادر العربية التي تتناول حياة إبراهيم بن المهدي بتفصيل لم تشر إلى كتاب الطبخ.
وفي ما يلي بعض الملاحظات على الكتاب المحقق:
ا-قارن الباحث عبد الغني أبو العزم بين المخطوطين سطرا فسطرا، موضحا ما غمض وانبهم، وشارحا ومعلقا، وسالكا أسلم سبيل وأقومه لجعل منهجية التحقيق ممارسة علمية وميلا موضوعيا. وفي كل ذلك نجده يحتكم إلى السياق لتقويم ما اعوج، وتحري سلامة النص وانسجامه.
ب-سيرا على نهج المحققين، وظف عبد الغني أبو العزم بعض الرموز لتيسير مهمة المقارنة بين المخطوطين، وإثبات الأصح منهما، والكشف عن المطموس في أحدهما، وتوضيح دلالة النص وخطواته وإشاراته. وما يلفت النظر أن المحقق اعتمد على رموز محدودة تجنبا للتشويش على القارئ وتحريا للدقة والوضوح.
ج-وظف المحقق تجربته المعجمية لوضع معجم موسع في نهاية الكتاب لشرح المصطلحات الواردة في المخطوط والإتيان بما يقابلها في اللغات الأجنبية، والتعريف بالوصفات والأطعمة، وإبراز منافعها ومقاصدها.
د-شكل عبد الغني أبو العزم بعض المصطلحات الغامضة. وبما أن الكتاب ليس موجها فقط إلى الوسط الأكاديمي، كان حريا بالمحقق أن يشكل المصطلحات جلها التي تتعلق بفنون الطبخ، وذلك لتعويد القراء على التلفظ بها بنطق سليم خال من اللحن، خاصة وأن معظمها ما زال متداولا في مجال الطبيخ والذواقة.
*********
هامش:
-صدر الكتاب المحقق عن منشورات دراسات الأندلس وحوار الحضارات1 ، نصوص ودراسات،ط1، مطبعة النجاح الجديدة، 2003.
ومن مقدمة الكتاب نقتطف ما يلي:
"عثرت على هذا المخطوط في المكتبة الوطنية بباريس تحت رقم 7009 في بداية السبعينات، ضمن أوراق ومخطوطات كانت في ملك الأستاذ كولان، وعندما تصفحته أثار اهتمامي، وبدأت في نسخه، إلا أنني سرعان ما اكتشفت وأنا أطالع أعداد "مجلة المعهد المصري" أن المستشرق الإسباني أمبروزيو أويثي ميراندا قد أنجز دراسة للمخطوط تحت عنوان "الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين" في المجلد الخامس (ص 137 - 155 في القسم الإفرنجي) وقام بترجمته إلى اللغة الإسبانية، ثم نشر فيما بعد النص الكامل في المجلد التاسع والعاشر، من المجلة المذكورة 1961-1962.
غير أنني احتفظت بما نسخت، وصورت من المخطوط نسخة كنت أعود إليها من حين لآخر، وفي نفسي شيء منها، وصار مدار حديث مع زملاء وباحثين، ولم أعد أرى فائدة في تحقيقه، ما دام لا توجد منه نسخ أخرى، وكنت أيضا من حين لآخر أهيئ بعض وصفاته للأهل والأصدقاء كلما كانت الفرصة مواتية لأكتشف قيمته ووصفات الأطعمة التي يتضمنها.
ومرت أعوام وبينما وأنا أراجع فهارس مخطوطات الخزانة العامة بالرباط قسم الوثائق، إذ صادفت مخطوطا تحت عنوان: "أنواع الصيدلة في ألوان الأطعمة" مكتوب بخط مغربي جميل، وكانت دهشتي كبيرة عندما، وقفت عليه، فوجدت أنه نفس المخطوط، الذي أملك منه نسخة مصورة، وهو الذي نشره الأستاذ ميراندا، كما نبهني الزميل الدكتور شوقي بينبين إلى أن هناك نسخة من الكتاب موجودة بالمكتبة الملكية، إلا أنني اكتشفت أنها مصورة عن نسخة الموجودة بالخزانة العامة.
وحسب علمي فإن كل من اهتم بكتب الطبخ والأدوية لم يشر لا من قريب أو من بعيد إلى هذه النسخة المصورة التي كانت في ملك السيد الشرعي عبد اللطيف، وتقدم بها إلى جائزة الحسن الثاني للمخطوطات سنة 1970، ونال بها الجائزة الأولى، وهو بالمناسبة أحد معارفي وجيراني بالزاوية العباسية بمدينة مراكش، حيث يوجد ضريح سيدي أبي العباس السبتي.
هكذا قر عزمي على تحقيق المخطوط، مادمت أمام نسختين منه، تفسح المجال للمقارنة والضبط العلمي، مع العلم أن ما نشره الأستاذ ميراندا لم يكن تحقيقا، بقدر ما كان نسخا للأصل، مع وجود بتر في المخطوط المنشور في أوله وآخره، وخرومات متعددة، وبياضات كثيرة، كما سوف يلاحظ القارئ من خلال المقارنة"