التقديم
استقطبت الأهواء مجالات عديدة، بحكم أنها تمس جانبا أساسيا وحيويا في حياة الإنسان، وهو ما يتعلق بحالته النفسية، وما ينتابها من مشاعر وإحساسات متأرجحة بين اللذة والألم.
" ويعد الشعراء أول من يقوم بالخطوات الأولى في مجال سيميائية الأهواء، لأنهم يصيخون إلى تقلبات واضطرابات المعيش قبل أن يؤطَّر خطابيا" (1). يذم الفقهاء ورجال الدين مطلق الأهواء والمفرط منها باعتباره مفضيا بصاحبه إلى ذل القهر، ومفسدا العقل، ومقوضا الإيمان (2). ويعرف الفلاسفة بمحتويات الأهواء ، ويرتبونها في صنافات تبعا لطبيعتها ( على نحو أهي هادئة أم عنيفة، مباشرة أم غير مباشرة؟). ويحدد علماء الأخلاق المعايير القيمية المتحكمة فيها وما تستتبعه من علاقات خاصة بين البشر، ومن فروق جوهرية تميز الإنسان من الحيوان.
لما نعود إلى الأدبيات السيميائية نجد أن الاهتمام بالأهواء يضرب بجذوره في مرحلة مبكرة، إذ سبق لكريماص أن عالج هوى الغضب بطريقة مركبية بعيدا عن التحيليل الصنافي الذي يضطلع به الفلاسفة، واستخلص منه مسارا مكونا من ثلاثة مراحل: الحرمان والسخط والعدوانية (برنامج حكائي)(3). لكنه لم يخضع للتقعيد وإعادة البناء إلا في العقود الأخيرة، إذ خاض فيه بعض السيميائيين بروح علمية، وخصصوا له كتبا مستفيضة(4). ويمكن أن نستخلص منها الملاحظات التالية :
1- تسعى إلى التدليل على استقلالية البعد الانفعالي داخل النظرية السيميائية، وبالتالي وتمييزه من البعدين التداولي والمعرفي بواسطة عدة مفاهيمية خاصة.
2- تستفيد من تصنيف الفلاسفة للأهواء ، ثم تعيد بناءها سيميائيا لبيان قصور التحيليل المعجمي، ودراستها "بطريقة ممتدة" لبيان تجلياتها في خطابات متعددة ومتنوعة، وإغناء النماذج التركيبية، وإدراك تنظيم تمظهر معين في شمولتيه.
4-بعد أن خصصت السيمائية فترة طويلة لدراسة حالة الأشياء (موضوع سيميائية العمل)، أكَبَّت في العقدين الأخيرين على فهم الحالة النفسية (موضوع سيميائية الهوى). ورغم أن سيميائية الأهواء مازالت في بداهة مشوارها، فقد استطاعت أن تشيد لغتها الواصفة، وتعيد الاعتبار للنزعة اللغوية والممارسة التلفظية ( دور الثقافة في وسم الأهواء وشحنها بدلالات خاصة).
سندرس البعد الاستهوائي (dimention pathémique) في رواية الضوء الهارب (5) مركزين على المحاور التالية: تركيب الغيرة، ثم الكفاية الاستهوائية، ثم الخطاطة الاستهوائية المقننة.
1-تركيب الغيرة:
يُعنى بالغيرة معجميا (6) الحمية والأنفة. غار الرجل على امرأته من فلان : أنف من الحمية وكره شركة الغير في صفته بها. وهكذا تستتبع الغيرة تركيبيا علاقة بين ثلاثة عوامل: الذات ( الزوج الغيور)، والذات المضادة (المنافس)، والموضوع ( الزوجة). وما يجعل الزوج العربي يغار على زوجته هو شعوره بالإباء والمروءة والترفع، وعدم استساغة أن يمس غيره كبرياءه وشرفه. وتمتحن الغيرة مدى رسوخ الصفات السالفة في نفسية الغيور. فكلما مُسَّ إباؤه في شخص زوجته إلا وحاول أن يقوم برد فعل انتقامي يعيد إليه الاعتبار داخل المجتمع. وهو ما تتولد عنه أهواء ذات الطبيعة المباشرة والعنيفة ( الافتراق و التهديد بالقتل و التعنيف و الشتم و التحدي..).
تولدت الغيرة لدى فاطمة لما حدثتها أمها بإعجاب عن العيشوني، فقررت أن تنتزعه منها، ثم تستكمل صورتها من خلال التعرف إلى عشيق شبابها . وقد تحقق لها ذلك لما اقتحمت عوالمه، واستطاعت أن تثيره بنضج تصرفاتها وحساسيتها، وتنتزع منه الاعتراف بجمالها وشخصيتها، وتحفزه على التحدث عن التجارب التي تقاسمها مع أمها. وهكذا يتضح أن فاطمة تؤدي دورا استهوائيا ( المنافس) لإبعاد أمها( الغيور المفترض) من شرك العيشوني (الموضوع). ولا تتسم الغيرة في الضوء الهارب بالقلق والخوف والحذر ، لأن الظروف باعدت بين العاشقين ، وجعلت كل واحد منهما منشغلا بهمومه الخاصة ، ولا يكترث بشؤون الآخر، أو يتعلق به، أو ينافس الآخرين في عشقه. وهذا ما سهل مأمورية فاطمة التي نفذت خططها بحرية وطلاقة ، ودون منافسة أو رقابة. وإن استطاعت بذكائها أن تشغل الفراغ الذي تركته أمها في بيت العيشوني، فهو لم يستطع أن ينسى تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع " المرآة العزيزة-المكروهة". فهي التي أدخلته إلى لعبة الحب، وجعلته يعيش عشقا حميميا. ولما غادرته تركته مثل ضفدعة "تشتغل وهي فارغة" ص51. ويمكن أن نستنتج من العلاقة التي جمعت بين الفواعل الثلاثة ما يلي:
1- قلبت رواية الضوء الهارب الأدوار الاستهوائية للغيرة المعتادة لدى القراء بحكم تواترها في أغلب النصوص والوقائع( Faits divers ). فغالبا ما يتنافس رجلان على امرأة واحدة، ويحاول كل واحد منهما أن يثبت حقه وجدارته في كسب ودها وامتلاكها. وتتضمن مدونة الغيرة على إمكان تنافس امرأتين على رجل بعينه. وهذا ما شخص محمد برادة بعض معالمه في الضوء الهارب. والأدهى في الأمر أن فتاة تنافس أمها في حب رسام. وبما أن غيلانة أصبحت مشدودة إلى عالمها الخاص لضمان لنفسها ولابنتها حياة كريمة بطنجة، وباعدت الظروف بينها وبين العيشوني، فقد تجردت من تحمل الدور المفترض للغيور. وهو ما فسح المجال لابنتها لتنفيذ خططها دون أن تجد المنافسة أو المواجهة اللتين يفترضهما البرنامج الحكائي للغيرة. وقد ترتب على شغور دور الغيور أو تعطيله إفراغ مفردة الغيرة من المقومات التي تقترن بها معجميا ( الأنفة والحمية والإباء)، وشحنها بمقومات سياقية من قبيل : اللامبالاة والتجاوز والرضى. ولما صارح العيشوني غيلانة بزيارة ابنتها فاطمة لبيته، لم يصدر عن أمها أي موقف يشف عن الغيرة أو يبين كبرياءها أو خوفها من افنقاد العاشق الذي تربطها به علاقات حميمة. واكتفت فقط بمعاتبة بنتها على عدم تجسيد التحدي الذي تصدع به على أرض الواقع لتحقيق جزء من الآمال المعقودة عليها.
2- ما يضفي الدينامية على الغيرة هو الأزمة الاستهوائية التي تتمثل في الشك. فعندما يشك الغيور في شريك حياته يترصد خطواته لعله يفلح في ضبطه متلبسا. وهذا ما حذا بسليمان الحكيم إلى تشبيه الغيرة بالقبر في قسوته، وحفزالعقاد على مماثلتها ب"السم الذي تكفي قطرة منه لتكدير " أوقيانوس" من الهناء والراحة والصفاء"(7). تنتفي الأزمة الاستهوائية في الرواية لأن الغيور لم يعد منشغلا بشؤون العشيق بعد أن باعدت الظروف بينهما وحتمت على كل واحد أن يغرق في عالمه الخاص : هو في عالم الرسم بحثا عن الضوء الهارب منه باستمرار، وهي في عالم العهارة وجمع المال لتأمين حياتها مستقبلا. ولو ظلت العلاقة بينهما متوطدة لتحملت غيلانة دورها الاستهوائي المعهود ( الغيور)، في حين تؤدي فاطمة دور المنافس الذي يزعم أحقيته في امتلاك الموضوع. ويعيش العيشوني فراغا يمكن أن تشغله أي امرأة تثيره وتعجبه وتدغدغ مشاعره. وما يهم فاطمة من زيارة العيشوني في بيته ، هو قضاء معه فترة للاستمتاع بألق الحب ونشوته، وحفزه على تسليط مزيد من الأضواء على الجوانب المدجية في شخصية أمها. ولهذا السبب لم تعان فاطمة من الألم أو الضغط الذي غالبا ما ينغص العيش على الغيور، وهو يبحث عن انفراج الأزمة وإبعاد المنافس من حلبة الصراع، وإرجاع الشريك إلى جادة الصواب، وكسب مودته وثقته.
3-منح محمد برادة للغيرة منزلة خاصة مبتدعا مدونة مشرعة على احتمالات غير متوقعة. ولا تتضح هذه المنزلة إلا بمقارنتها بالنسق المكبر(macrosystéme) الذي يتشخص على النحو التالي(8):
التعلق الشخصي الاحتراس المشوب القلق الحب
بالشك الشك أو الكراهية
النظرة الشخصية
العاطفة
التقويم الأخلاقي
لم يحترم برادة هذه الخطوات بسبب انتفاء الأزمة الاستهوائية ( أزمة الثقة crise fiduciaire)، وإشراع الأحداث على احتمالات جديدة. فقد أفضى تعلق فاطمة بالعيشوني إلى الحب مباشرة مرورا أساسا بالنظرة الشخصية، ثم العاطفة، ثم التقويم الأخلاقي. ونظرا لعدم احتدام الصراع بين المتنافستين فقد تجردت الغيرة من الكراهية. وتظهر هذه العينة الاستهوائية في تمفصلات حكائية لا علاقة لها بالغيرة ، وإنما تجلي رغبة فاطمة في التمرد على النموذج السلطوي للأم ، والتخلص من رقابتها ووصايتها لبناء شخصيتها وتحديد موقفها من الوجود. وتتلاقح المراحل السابقة مع مراحل محتملة (الإفتان و الإعجاب و الاستمالة) على الشكل التالي:
التعلق الشخصي الإفتان لتحقيق
الحب البرنامج الحكائي الإعجاب الشخصية
(معرفة سوابق الأم وماضيها) الاستمالة
العاطفة
التقويم الأخلاقي
2-الكفاية الاستهوائية:
ينبغي للذات أن تتوفر على كفاية استهوائية تؤهلها إلى الاضطلاع بالبرنامج الحكائي وتحقيق المراد. وتشغل فاطمة كفاية الفتنة لإيقاع العيشوني في أحبولتها. وتتضمن معجمية الفتنة التمظهرات التالية: الإعجاب والاستمالة والوله. وتتشخص خطابيا بواسطة العناصر التالية:
أ- التطويع الانفعالي:
ما أثار العيشوني في فاطمة قبل تلفظها هو حسنها وجمالها (وجهها يكتسي غلالة ناعمة ومثيرة. العينان عسليتان مضيئتان ، قصة شعرها الكستنائي على طريقة الغلمان)، وطريقة لباسها على نحو يبرز نتوءات جسدها وملامح رشاقتها ( الجلباب منسدل عل جسد تبدو ملامح رشاقته عبر نتوءات الصدر والخصر). وما زاد من دعم الأثر التطويعي هو معرفة فاطمة ما يدغدغ مشاعرالعيشوني ويستجيب لتوقعاته، وقدرتها على التحدث بتلقائية ومودة وانسياب، والمزاوجة بين روعة الجسد وحلاوة اللسان. وهذا ما أهلها إلى كسب مودته وثقته، وانتزاع الإعجاب بها، واقتحام عالمه دون أن تتلقى أدنى رد فعل سلبي.
ب-سلطة الجسد:
تشغل فاطمة سلطتها الجسدية لإفتان العيشوني؛ وذلك بارتداء الملابس المكشوفة التي تبرز مفاتن جسدها، وإرضاء غرائزها، وإشباع استيهاماته، والاستجابة لطلباته، وتفجير القوى الشيطانية الحبيسة في أحشائه، وجعله غارقا في متاهات التذكر والتداعيات المنثالة عليه أسرابا أسرابا.
ج-التجربة:
تنهل فاطمة من معين تجربتها لإطراء العيشوني، وإرضائه، والتجاوب مع مزاجه وانشغالاته. كما أنها لا تعطيه ما تذخره من جمال ونزوات وخبرات دفعة واحدة، وإنما تقتره، وتدفعه في شكل أقساط لإطالة الإقامة معه، وإضفاء مزيد من الغموض على شخصيتها. وقبل أن تزوره أخذت صورة عنه، واتخذت الاحتياطات الكافية لتكون عند حسن ظنه، وتتجنب ما يقلقه.
د-الصمت:
فإلى جانب أنها تنتقي العبارات المناسبة والمؤثرة لتوفير الجو المناسب للجلسة وتمديد أطوارها، فهي تلوذ بالصمت أحيانا لتجديد إيقاعاتها ،وتبديل وتيرتها، وتدبر ما يزيدها بهجة وإثارة ومتعة، والاسترواح واسترجاع النفس، وإتاحة هامش لجليسها ليستمتع بشلال من الذكريات والاستيهامات والتخيلات.
3-التمظهرات المعجمية والدلالية للفتنة:
أ- الإعجاب:
يدرج هرمان باريت هذه العينة الاستهوائية (pathéme) ضمن الأهواء الحماسية (enthousiasmique). ويعنى بالمتحمس اشتقاقا ذاتا مفرغة من ذاتها، وأن الآخر هو الذي يمثل الأنا(9). وتتشكل تلك الوحدة تركيبيا من العوامل التالية : المعجب ( ذات 1)، والمعجب به ( ذات2)، و موضوع الإعجاب. ويضطلع فاعل واحد بالدورين العاملين الأخيرين ( الذات2 والموضوع). ويستتبع العجب معنيين متناقضين : أحدهما إيجابي يهم الانفعال النفساني الذي يعتري المرء عند استعظامه واستطرافه أمرا ما ، وثانيهما سلبي يخص إنكاره ما يرد عليه .و يتلاءم المعنى الإيجابي مع سياقات الرواية ، لأنه رغم تحفظ العيشوني من بعض تصرفات فاطمة، فهو لم يجد بدا من الاستسلام لمناوراتها والإعجاب بمواصفاتها الجسمانية ومؤهلاتها الحكائية و الذهنية .وإن صرحت في أكثر من مرة بإعجابها به، فهي تخفي حيلها ومناوراتها لتحول أنظاره إليها ، وتنتزع إعجابه بها. فهي تسعى إلى أن تحل محل أمها، وتتربع وحدها على عرش حب عشيقها العيشوني.
" -لا تتعب نفسك. أنا معجبة كما قلت لك وجئت لقضاء السهرة معك هل يضايقك وجودي؟ ما عجبتكش؟
- أستغفر الله.. زينك ما يفوقه زين" ص12.
وهكذا يتضح من هذا الحوار أن فاطمة توظف السؤال الإنكاري مدركة فحوى الجواب الذي يمكن أن يستتبعه، ومتأكدة من إعجاب العيشوني بجمالها. وفي هذا الصدد يعد الإعجاب مرحلة أولية لإحداث أثر الافتتان.
ب- الاستمالة :
يفيد الميلُ الرغبة في الشيء وحبه. وبإضافة الحروف الزائدة (ا.س.ت) إلى الحروف الأصلية ( ميل) أصبحت المعجمية تعني بذل الجهد لتقريب الآخر وكسب مودته . وهذا هو المعنى الذي ينسجم مع سياقات الرواية. ففاطمة تضطلع بمجهودات وتسخر مؤهلاتها لإمالة العيشوني، وحفزه أكثر على التعلق بها وحبها. وعلى عكس الإعجاب فإن الاستمالة قد لا تتوقف عند حدود النظرة، وإنما تحتاج إلى تحويل استيهامي للانتقال من حالة الفصل إلى حالة الوصل. وقد يتم هذا التحويل بواسطات الحركات الجسمانية ( غمزة العين، هزة البطن أو الردف، ابتسامة، تسلسل الأفعال ) أو المقتضيات المعرفية (استثمار الفاعل للمعارف والتجارب التي يتوفر عليها لإدراك مبتغاه) أو الانفعالات ( الإثارة و الإغراء و التطويع الاستهوائي). وقد شغلت فاطمة كل الأبعاد السيميائية ( البعد التداولي و المعرفي و الانفعالي) لإحداث التحول الاستيهامي الذي سيمكنها من كسب مودة العيشوني وثقته والإعجاب بها. وبمجرد أن يفضي التحول إلى حالة الوصل المنشودة، ستبادر فاطمة إلى تنتفيذ برنامجها الحكائي ( حفز العيشوني على إطلاعها على سوابق أمها).
ج-الوله:
تفيد المعجمية التعلق الشديد بالآخر إلى حد فقدان العقل أو الصواب. لم تتقصد فاطمة توليه العيشوني والهيام بها، وإنما أرادت أن يعجب بها فقط، ويبادلها العواطف والإحساسات نفسها، ويقضي معها أوقاتا جميلة، ويشعرها بأنوثتها، ويدرك ارتجاجة أعماقها، ويسعفها على إشباع فضولها من استكمال صورة أمها. كما أن العيشوني غير مهيأ للتوليه لأنه محصن بغنى التجارب التي جمعته بنساء عديدات، ومشدودٌ إلى المرأة التي أدخلته إلى لعبة الحب (غيلانة)، ومشغول وشغوف بملاحقة الضوء الهارب منه باستمرار. ويشتغل الضوء الهارب في الرواية بوصفة استعارة نصية يتثمل مدلولها الأول في بحث العيشوني عن إسكان القماش اللوحة التي ترضيه وتستحضر بعض مشاعره المذخرة وأحلامه الغافية، ويحيل مدلولها الثاني على سعيه- كأي مخلوق على وجه البسيط- إلى تحقيق طموحاته وآماله في الحياة، والتي غالبا ما تتخذ شكل أسراب تغري بملاحقتها كقابض يده على الماء ، فلا يحكم منه على شيء (10). إن الجري وراء الضوء الهارب- رغم ما يسببه من عذاب وقلق وإرهاق- يضفي على الحياة ألوانا من التجدد والمتعة والحيوية. وهكذا يتضح أن " لدى الفنان مسؤولية أعظم تجاه حساسيته في علاقتها مع مواده مما لديه تجاه أية مجموعة من المعرفة التجريدية. فالإيديولوجية لا تفرض على المواد، وإنما تنمو من داخل مواد الفنان وأية محاولة لفرضها عليها ينجم عنها إخفاق فني" (11)
4-الخطاطة الاستهوائية المقننة:
على غرار الخطاطة الحكائية المقننة التي تستوعب الأفعال البشرية المحتملة في سيميائية العمل ، توجد خطاطة استهوائية مقننة تختزل الأهواء البشرية، وتضبط سيرورتها من المجرد ( مستوى ما قبل شروط الدلالة niveau des préconditions de la signification) ) إلى الملموس ( التخطيب niveau de discursivisation). وهي "عبارة عن نموذج مستقل يتسم بقيمة استكشافية خاصة" (12). وتتكون من المراحل التالية : التكون، ثم التأهب، ثم الصوغ الاستهوائي، ثم العاطفة، ثم التقويم الأخلاقي. وقد قابل فونتاني هذه المراحل بما يماثلها في سيميائية العمل على النحو التالي :
الخطاطة الحكائية المقننة// الخطاطة الاستهوائية المقننة
- الميثاق / التطويع // التكون
-الكفاية //التأهب
-الإنجاز // الصوغ الاستهوائي
- النتيجة// العاطفة
- الجزاء// التقويم الأخلاقي
يستدعي هذا التوازي بعض الملاحظات. في البداية : لماذا خطاطة إضافية؟ ألا تكفي الخطاطة الحكائية المقننة لفهم التنظيم المقولب للمتوالية الاستهوائية؟ أتقدم الخطاطة الاستهوائية المقننة إضافة إلى متغيراتها المصطلحية؟ يكمن الجواب فيما يلي: يتعذر على الخطاطة الحكائية المقننة إدراك تنظيم المتوالية الاستهوائية وذلك في نطاق أن مصطلحيتها شيدت لفهم معنى العمل (13)، كما أن الحالة النفسية تستدعي خطاطة مغايرة تسعف على مقاربتها وفهمها. وهذا ما تأتى بفضل المجهود الذي اضطلع به السيميائيون لوضع ترسانة مفاهيمية تخص المجال المتعلق بالأهواء.
أ- التكون:
هو بمثابة المرحلة الأولى التي تبرز فيها الذات الاستهوائية في الخطاب: يتشكل العامل بوصفه ذاتا استهوائية عندما " يدرج داخل حالة" لمعرفة هوى معين (14). تكونت الذات الاستهوائية لفاطمة لما حدثتها أمها عن العيشوني بإسهاب، فقررت أن تنتزعه منها. وما زيارتها له بطنجة إلا محاولة لتنفيذ الحلم الذي راودها منذ مدة." لا أريد أن أكرر عليك ما تعرفه لأنك حكيته لي عندما زرتك ببيتك، لكنني أقول لك بأنها تحدثت عنك بإعجاب ولد لدي ساعتئذ، بذور الغيرة فقررت أن أنتزعك منها. ومرة أخرى أتبين غرارتي" ص113.
ب- التأهب:
"إنه - الذات الاستهوائية متأهبة ل...- يمثل المرحلة التي تتلقى الذات، من خلالها، المحددات الضرورية للشعور بهوى أو بنوع منه وليس غيره"(15). و"يشبه التأهب الكفاية الحكائية في نطاق أنه يستقطب موجهات كينونة الذات التي تعد ضرورية لتكوين هوى ما"(16). لما قررت فاطمة زيارة العيشوني قامت بالترتيبات التالية : التعرف إلى مزاج العيشوني وانشغالاته، والاتصال به هاتفيا، والاعتناء بمظهرها الخارجي، وممارسة لعبة التخفي لتشويقه وإثارته.
ج-الصوغ الاستهوائي:
يمثل المرحلة التحويلية الأساسية للمتوالية التي ستغير الحالة الانفعالية للذات، وتجعله يتعرَّف بالجملة القيم الانفعالية التي يرهص بها التكون أو التأهب. وتتشخص هذه المرحلة باعتبارها تحقيقا للهوى الذي يجعل الذات تكتشف -من بين أشياء أخرى- سبب ضجرها الداخلي » (17). وفي هذا الصدد لا يمكن أن تتحدد الفتنة إذا لم تطفو معالمها على مستوى سطح الخطاب.و سبق لنا أن أشرنا أنها يمكن أن تتحقق إما تداوليا أو معرفيا أو انفعاليا. ولقد جربت فاطمة هذه الأبعاد كلها لإحداث الأثر المتوخى في نفسية العيشوني.
د-العاطفة :
تحيل إلى الفرد وجسمه. فإذا كانت المراحل السابقة تترك جسم الذات في راحة، فإن هذه المرحلة تظهره في نشاطه الانفعالي( رعشة، تشنج، رجفة، ضجر) الذي يتشخص في شكل رد فعل جسماني قابل للملاحظة والمعاينة ، والقبول واالرفض من لدن الآخرين (18). فرغم أن فاطمة تقحمت عالم العيشوني ، فقد استطاعت أن تثيره وتعجبه بتوظيف مؤهلاتها وأساليبها التطويعية والاستغوائية. وامتحنت فاطمة في عاطفتها لما طرقت باب العشيوني، فقد افترضت سيناريهوات ثم نفذتها بتلقائية ومودة ودقة حتى لا يتطير منها، ويردها من حيث أتت خائبة ومنكسرة. وأول ما أثار العيشوني هو مظهرها البارع والجذاب (وجهها الصبوح والناعم والأليف ، ثم التماعة العينين العسليتين ، ثم قصة الشعر الكستنائي ، ثم طريقة لباسها على نحو يبرز مفاتنها ومحاسنها).
ج-التقويم الأخلاقي:
"تشخص في المرحلة الأخيرة بوصفها تركيبا للجوانب المتوترة، الفردية والجماعية للهوى. فلما تصل الذات إلى النهاية تكون قد أظهرت لنفسها وللآخرين نتيجة التحول الاستهوائي. تحدث العاطفة حدثا استهوائيا ملاحظا ، وقابلا للتقويم والقياس، ومن ثمة، فهي تشيد ملاحظ محتمل للمتوالية برمتها. فهذا الملاحظ هو الذي يُقوَّمُ الهوى أخلاقيا سواء باسم الثقافة التي يمثلها أو باسمه الخاص ؛ وذلك في نطاق أنه مورط أو قابل للتوريط داخل المشهد الاستهوائي"(19). ولم تتوضح العدوى الاستهوائية في الرواية إلا بعد أن توصل العيشوني برسالة فاطمة بعد عام ونصف. كشفت له عن شخصيتها، وصرحت له بمقاصد الزيارة وخلفياتها، وعرفته بسوابقها وتجاربها. " أقرأ وأنا لا أكاد أصدق: كل تلك الحساسية وذلك التمزق وتلك القدرة على الشيطانية! أحسست بفزع إزاء ذلك العنف المتعدد الأشكال الذي تواجهه فاطمة في فرنسا، متحايلة ، جارية وراء ما أعتبره أوهاما ربما لأنني من المحظوظين بنعمة « الاستقرار » ص 168. لم تمكنه تلك الأيام التي قضاها مع فاطمة من معرفة شخصيتها لأنها كانت تمارس لعبة التخفي لتحقيق برنامجها الحكائي الخاص، وتضطلع بدور المتلقي "السلبي" الذي يستجيب لما يؤمر به، ويشحن ذاكرته بما يبث له. ولم تقوم اللقاء من منظورها الخاص إلا بعد أن باعدت الظروف وتعمقت المسافة الضرورية بينهما، وتمكنت من تنفيذ برنامجها الحكائي : استكمال صورة الأم ، ثم الانتفاضة عليها بحكم أنها أرادت أن تحملها دور الدمية الوديعة التي تسير في الاتجاه المرسوم لها سلفا. ولقد فوجئ العيشوني بالشخصية الحقيقية لفاطمة ( الحساسية المفرطة و التمزق والشيطانية والتحايل)، وتأسف عن سيرها في طريق محفوف بالمخاطر والأوهام.
الخاتمة:
مما تقدم يمكن أن نستنتج الملاحظات الثلاث التالية:
أ- تتعلق الملاحظة الأولى بالطابع المنهجي. لقد شيدت سيميائية الأهواء عدتها المفاهيمية الإجرائية لدراسة الحالة النفسية للفواعل ( جهة الكينونة modalité de l'être))، ورصد التدلال الاستهوائي من البنية العميقة إلى البنية السطحية ، ومن مرحلة تكونه إلى مرحلة تقويمه أخلاقيا. وتتكامل سيميائية الأهواء مع سيميائية العمل في إطار ما يسميه كريماص وفونتاني بالبعد السيمائي للوجود المتجانس(20)؛ وذلك للنظر إلى علاقة الإنسان بالعالم من خلال ما يضطلع به من أفعال للانتقال من حالة الفصل إلى حالة الوصل، وما يشعر به ويتخذه كرد فعل للتعبير على ما يتلقاه ويرد عليه.
2-أما الملاحظة الثانية فتخص المنزلة السياقية للغيرة في رواية الضوء الهارب. فلقد أسهمت هذه الوحدة الاستهوائية في انطلاق البرامج الحكائية، وإضفاء الدينامية على العلاقة التي تجمع بين الفواعل الثلاثة ( غيلانة والعيشوني وفاطمة)، وحفزها على التسارّ والمكاشفة والنبش في الماضي الشخصي. ومنح محمد برادة للغيرة منزلة خاصة مفرغا إياها من المقومات المعجمية العربية، ومشيدا من مراحلها الأصلية والمفترضة مدونة غير متوقعة. وإذا كانت الغيرة تقترن بالأزمة الاستهوائية ( الشك)، فهي ، في الضوء الهارب، تنهض على الهدنة ما دام أن الموضوع ( العيشوني) مجرد ذكريات يخفت ضوؤها مع مر الأيام ( بالنسبة لغيلانة) ، وذريعة لاقتناص اللحظات الهاربة ، والانتفاضة على أساليب الرقابة والتدجين ( بالنسبة لفاطمة).
3- وتهم الملاحظة الأخيرة تجلي المحفل الاستهوائي على مستوى الكتابة ( الوصف و الحوار الداخليو التسارّ و حرف العينات الاستهوائية و إبعاد المسكوكات اللغوية التي ينتفي فيها الجسد بحمولته الجمالية) ، وقد شحنها الكاتب بالنزوع الدلالي للغيرة أو ما يدخل في إثرها من صور متشاكلة تبين مدى حفول النص - مقارنة مع نصوصه الروائية الأخرى- بالأهواء المختلفة والمتنوعة. وما يلفت النظر في هذا الصدد أن الفواعل الثلاثة ( العيشوني وغيلانة و فاطمة) تتمتع أساسا بالقدرة على التشخيص الخطابي للشبيه أو بعبارة أخرة تعرف كيف تستخدم جهتي إتقان الحكي( savoir-raconter ) وإتقان التشخيص (savoir-représenter) لنقل أحاسيسها ومشاعرها، وتبادل وجهات نظرها وتجاربها، وممارسة التطويع الانفعالي لإمالة المخاطب وإبرام ميثاق استيثاقي معه ( كسب ثقته ومودته).
***************
الهوامش:
1- لايذم الفقهاء الأهواء في حد ذاتها لأنها بمثابة ميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، وإنما يذمون المفرط منها ، وهو ما يزيد على جلب المنافع ودفع المضار. أنظر في هذا الصدد إلى كتاب : أبو الفرج عبد الرحمان بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي، ذم الهوى، صححه وضبطه أحمد عبد السلام عطا، دار الكتب العلمية، بيروت،ط2 ، 1993، ص/ص 18-19.
2-Hénault ( Anne) , Pouvoir comme passion ,PUF, 1994,p6.
3-Greimas (A.J) , » De la Colère » in Du SensII,Seuil , 1983,pp245-255
4-Parret (H) , Les passions essai sur la mise en discours de la subjectivité,
Mardaga , Liége, 1986.
Greimas (A.J) et Fontanille (J), Sémiotique des passions, Seuil , 1991.-Hénault (Anne) , Pouvoir comme passion , op.cit.-
5-محمد برادة، الضوء الهارب، نشر الفنك، ط1، 1993.
6-اعتمدنا على لسان العرب (ابن منظور، دار الجبل ودار لسان العرب،1988) في استنتاج معاني الوحدات الاستيهامية التالية : الغيرة، الفتنة، الإعجاب، الاستمالة، الوله.
7-عباس محمود العقاد ، "الغيرة" في ساعات بين الكتب،منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا 1991، ص/ص 46-47. إبرز العقاد ما يجمع بين كتابي عطيل لشكبير و الزنبقة الحمراء لأناتول فرانس من تشابه في الهوى والمزاج ( الغيرة)، واستخلص منهما أن الغيرة ثمرة الحب والإثرة والخوف. " وهذه العناصر الثلاثة تثمر في طبائع النساء ما ليست تثمره في طبائع الرجال. فهؤلاء وهؤلاء يغارون. ولكن أحرى الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق وأخسر صفقة في الضياع" ص51.
8- Greimas (A.J) et Fontanille (J), Sémiotique des passions, op.cit ,p 268-
9-H.Parret , » Eléments pour une typologie raisonné des passions » , Actes
sémiotiques-Documents , IV, 37, 1982, p25
10- أستحضر هنا الآية الكريمة " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لايستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه" 14، الرعد.
وأستحضر كذلك الملاءمة بين الإيديولوجية وإخفاق الحساسية في أعمال إرنست همنغوي وعبدالله العروي.
11-وليام فان أوكونور، اشكال الرواية الحديثة، ترجمة نجيب المانع، دار الرشيد للنشر، سلسلة الكتب المترجمة، 1980، ص133.
12-Fontanille (J) , « Le schéma des passions » , Portée, Vol 21,n°1 , 1993p32.-
13-Ibid p 33.
14-Ibid p36.
15 -Ibid p 38.
16-Ibid p 39.
17-Ibid p 41.
18-Ibid p44.
19-Ibid p 45.
20-Greimas (A.J) et Fontanille (J), Sémiotique des passions, op.cit p14.