x
اخر ألاخبار    الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي : حوار أجراه محمد الداهي       Hommage à Mohammed Berrada : Mhamed Dahi       تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي" ، د.محمد الداهي       النغمة المواكبة .. كتاب جماعي محكم عن المفكر والروائي عبدالله العروي       لكل بداية دهشتها، محمد الداهي       استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء في كتاب " صورة الآنا والأخر في السرد" لمحمد الداهي       مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية- د. محمد الداهي       La fictionnalisation de soi dans le roman arabe Mhamed Dahi       من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات التغيير الثقافي -د.محمد الداهي       تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب. د.محمد الداهي    
يحيى حقي ناقدا روائيا- محمد الداهي

يقترن اسم يحيي حقي بقنديل أم هاشم كأنه لم يكتب غيرها. فهي تعتبر ابنته المدللة المحببة لدى الناس رغم أن لديه أبناء سواها. يصعب أن نصنف يحيى حقي في خانة واحدة لكثرة انشغالاته وميوله التي توزعت بين القصة القصيرة والرواية والنقد والسيرة الذاتية والترجمة. (القاهرة 10-12 يناير 2005 ندوة وجوه يحيى حقي)

إن أي مجال من هذه المجالات إلا ويتطلب مبحثا مستفيضا لاستكناه أسراره وإبراز مميزاته. كما أن مجالا واحدا كالنقد مثلا، يتشعب بدوره إلى روافد مختلفة نظرا لسعة ثقافة يحيى حقي ووفرة تجاربه. فهو لم يكن مشدودا إلى نمط خطابي بعينه، وإنما استهواه الخوض في أنماط خطابية متنوعة بالمتعة والشغف نفسهما. وهكذا لم يقتصر نقده على الأجناس الأدبية التي تدرج عادة في مملكة الأدب ( على نحو الرواية والشعر والقصة القصيرة والمسرح)، وإنما وسع من دائرته ليشمل أنماطا خطابية أخرى من قبيل الأغنية والتشكيل والسينما (1 ).
لقد حرص يحيى حقي خلال مساره النقدي على متابعة المستحدثات الثقافية ومواكبة الإصدارات الجديدة لإبراز سماتها الفنية، واستجلاء ما تحفل به من قضايا وأسئلة. ونظرا لتنوع ممارسته النقدية وغناها، فإن مداخلتنا ستنكب على رافد منها أو بلغة يحيى حقي على فن من فنون القول ، ألا وهو النقد الروائي. سنعرف في البداية بعيينات منه ( 2)، ثم نبدي ملاحظات عليها لإبراز المنطلقات والافتراضات النقدية التي كانت تحكم ممارسة يحيى حقي للنقد الروائي تنظيرا وتطبيقا، وذلك دون فصلها عن السياق التاريخي الذي أطرها.
ا-العينة الأولى: زينب لمحمد حسين هيكل (3 ): بين حقي كيف خلقت الرواية الأولى في الأدب العربي على هيئة ناضجة مثبتة حقها في الوجود والبقاء، ومحتفية بالتقارب الخفي بين التيارات الثقافية في البحر الأبيض المتوسط، وأشار إلى العوامل التي أسهمت في ظهورها، ومن ضمنها أساسا حنين هيكل إلى وطنه، وحرصه على استبقاء الرباط الروحي به في غربته، ورغبته في استعادة منظار الريف المصري ومجال خضرته الناضرة. ولا ترجع مكانة زينب إلى كونها فقط أول القصص في الأدب العربي الحديث، بل لا تزال إلى اليوم أفضل الأعمال الروائية في وصف الريف وصفا شاملا. ومن ميزاتها، في نظر يحيى حقي، الاحتفاء بالنغمة الشاعرية في وصف الطبيعة، ترفع الأسلوب المشرق عن ألاعيب الزخارف والأساليب البديعية، وكتابة الحوار بالعامية. ويؤاخذ يحيى حقي عليها الغلو في الطابع الرومانسي، والتأثر بفلسفات مسيحية غير معروفة، واحتشادها بصور لا يألفها الريف المصري.

ب-العينة الثانية: عذراء دنشواي لمحمود طاهر حقي(4 ).
ظهرت هذه الرواية سنة 1906 وأعيد نشرها سنة 1963 باعتبارها من خزائن المكتبة العربية المندثرة. يروي السارد كيف وقعت الواقعة في قرية دنشواي معتمدا على شخصيات مستلهمة من صميم الواقع، ومستثمرا وصف المؤرخ أو الصحافي. ويرى حقي أن سمو هذه الرواية عن فنون أخرى يكمن في قدرتها على إثارة الخيال والتحدث بصراحة عن الحب، والارتباط بوجدان الشعب في معاصرة واقعية. وأمضى خطوة أخرى معتبرا إياها أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين، وتصف حياتهم ومشاكلهم، وتنقل لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم. فهي البذرة التي مهدت لمحمد حسين هيكل أن يكتب زينب سنة 1912. ويكمن الفرق بين الروايتين في كون الأولى تمسكت بأطراف أهداب الواقعية، في حين أن الثانية غرقت في رومانسية شاعرية. ورغم سذاجة الرواية، في نظر يحيى حقي، فهي تتوفر على بوادر إحساس غريزي بمقومات الفن القصصي في مفهومه الحديث، وتنوع أساليب المعالجة، والتنقل بين الوصف والحوار والمنولوج، والمواءمة بين الفصحى والعامية. وفي الأخير يثير يحيى حقي جملة من الأسئلة لمحاولة معرفة أسباب تجاهل النقد لأعمال محمود طار حقي وعدم ذكر اسمه في الكتب التي تؤرخ لفن القصة والرواية والمسرحية.
ج-العينة الثالثة: الاستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ(5 ). انطلق يحيى حقي في هذه الدراسة من تقسيم الفنانين إلى نمطين: أحدهما النمط الديناميكي الذي تعكس أعماله وهج المعركة، وثانيهما النمط الستاتيكي الناجي من خوض المعارك، عدته التأمل بلا انفعال أو ثورة. ولا يفصل يحيى حقي بين النمطين، فكلاهما يفضي من طريقه إلى حد الكمال في التعبير الفني. ويرى أن انضمام الكاتب لأحد النمطين ليس من إملاء مزاجه، وإنما يكون من إملاء الموضوع الذي يعالجه.
اختار يحيى حقي روايات نجيب محفوظ لامتحان إجرائية النمطين، ومن فينة إلى أخرى يورد أمثلة من الأدب العربي أو الأجنبي لدعم افتراضاته ومنطلقاته النظرية. ويعلل سبب اختياره لنجيب محفوظ لكونه أصلح شاهد على الفروق بين خصائص النمطين، ولاعتبار أنه وظف النمطين معا في رواياته.
أبرز يحيى حقي الجانب الستاتيكي في روائع نجيب محفوظ قبل إصدار رواية اللص والكلاب، وبأر تحليله على الثلاثية لبيان تجليات النمط الستاتيكي فيها. ويتثمل أساسا في العناوين المعمارية، وتوزيع الفصول، والتتبع الزمني، واستبعاد الأحلام، والعناية بالتفاصيل الدقيقة، والازدواجية ( تكرار التجربة)، والاستوائية.
وتشكل رواية اللص والكلاب تحولا ( ميتامورفوز) من خلقة إلى أخرى أي من نمط إلى آخر. وتتشخص فيها تجليات النمط الديداكتيكي فيما يلي: اختيار اللفظ بحكمة و وعي، وإدراك ذرة الانفعال، وعدم الاهتمام بالتفاصيل، وإحلال القفزات الزمنية محل المصاحبة الزمنية، وإضفاء شحنات وأطياف جديدة على اللغة، وتوظيف تقنية الخلاصة.
د-العينة الرابعة : غصن الزيتون لمحمد عبد الحليم عبدالله (6 ).
من خلال هذه الرواية اكتشف يحيى حقي حقيقة لم يعرفها فيما قبل، وهي أن محمد عبد الحليم عبدالله يعد زعيما من زعماء فن القصة في مصر. ومن بين القضايا التي أثارت إعجاب حقي بالعمل نذكر اعتداله ( لا إطناب ولا اقتضاب) وتماسكه في إطار فني بديع، وتضمنه لكثرة التشبيهات، واشتغال الحواس الخمس للإلمام بكل مكونات الطبيعة أكانت جمادا أم حيوانا أم إنسانا. وفي السياق نفسه يقارن حقي بين هذه الرواية ورواية عذراء أسيوط لكوستى ساجاراداس لاشتراكهما في طابع الحزن. لكن هذا الطابع يتخذ شكلا خاصا في كل رواية على حدة . ففي الرواية الأولى "لا يؤلم النفس ويشقيها لأن أفقها الثقافي والروحي فسيح"(7 ). في حين يضطلع في الرواية الثانية بطعن الفؤاد طعنة خنجر(8 ) . ويختم دراسته بدعوة وزارة التربية والتعليم إلى ترجمة هذه الرواية -بالإضافة إلى نخبة مختارة من ذوي المواهب البينة- للفرنسية والإنجليزية وذلك لإبراز الشخصية العربية في الميدان الأدبي.
ه- العينة الخامسة: بنت قسطنطين لمحمد سعيد العريان (9 ).
ينبه يحيى حقي القارئ إلى أنه سيتفادى تلخيص القصة كما يفعل النقاد عادة. فمن الخير له أن يقرأها بنفسه. واكتفي يحيى حقي بالإلماع إلى محتوياتها الجوهرية وإثارة بعض الأسئلة لحفز القارئ المفترض على الاستمتاع بعوالمها الخيالية. وتأتي في مقدمة القضايا التي اعتنى بها محمد سعيد العريان الوصف التاريخي، وجودة الأسلوب وبلاغته، وبراعة الحوار، وتهذيب النفوس وتقويم الألسن. و مما يؤاخذه يحيى حقي على الروائي أنه اتبع الترقيم الغربي في نهاية أغلب الفقرات ( ما اصطلح عليه بالعلامة الأوروبية)، ولم يعتن بعواطف الشخصيات درسا وتحليلا، ولم يفلح في المزاوجة بين الوصف والحوار ( ينطبق عليه مثل من أضاع عنب الشام وعنب اليمن)، ولم ينفض الغبار عن الألفاظ العربية وينفخ فيها هواء متجددا.
تقصدنا التمثيل ببعض العينات لإدراك الطريقة التي كان يتبعها حقي في مواكبة الإصدارات الروائية ، واستجلاء الجوانب الجمالية التي كانت تستأثر باهتمامه. ومن خلال هذه العينات يمكن أن نستنتج ما يلي:
1-خصص يحيى حقي، في مقالاته وتعليقاته النقدية، حيزا للنقد الروائي. وإن كان كلفا بمتابعة الإصدارات الروائية المصرية لتحسيس القراء بمكوناتها الفنية وإثارة شهيتهم لاقتنائها وقراءتها ، فهذا لم يمنعه من الانفتاح على الرواية العالمية لإبراز نضجها واكتمال عناصرها ومقارنتها بمثيلتها المصرية التي كانت ، وهي في بداهة مشوارها، تبحث عن استيفاء المقومات الفنية واستنبات بذورها في التربة المحلية. ولم يستسغ يحيى حقي أن تكون الرواية العربية نسخة مكرورة عن الرواية الغربية، وأن تثقل بنيتها بأساليب البديع. وبالمقابل، كان يدافع عن فكرة تأصيل الرواية العربية حتى " تصبح فنا شعبيا صادق الإحساس" ( 10)، " يجمع بين الطابع المحلي، والمعاني الإنسانية.. التي تسمو على فروق المكان، والجنس، واللغة"( 11). كما دعا إلى " التحرر من التقليد واقتباس الأخيلة من الغير"( 12)، وإلى ضرورة تكييف هذا النوع من الكتابة مع طبيعة المجتمع المصري وبنياته الاجتماعية،حتى يكون خير معبر عن خصائصه( 13) وأحاسيسه الذاتية والشعبية.
لم يستقر يحيى حقي على مفهوم واحد لوسم هذا النوع من الكتابة. فهو تارة يسميه بالقصة، وتارة يطلق عليه الرواية. كما أنه يجنس بعض المسرحيات ( على نحو أهل الكهف لتوفيق الحكيم) ضمن القصة لكونها كتبت أصلا للقراءة فقط، وهي في غير حاجة إلى تمثيل أو ممثلين. وهكذا يرى ، أسوة بأنصار المدرسة الفنية، أن النص المسرحي لا يكتسب حيويته وحركيته، ولا يمكن الحكم على مقدار نجاحه إلا إذا مثل فوق خشبة المسرح.
2- يغلب يحيى حقي كفة النص على كفة صاحبه، ويحرص على خلق المسافة النقدية مع الموضوع المدروس حتى لا تتأثر أحكامه وتعليقاته بمؤثرات خارجية ، وفي مقدمتها الصداقة التي كانت تجمعه ببعض الروائيين.وإن كان يتعامل مع النص فهو يؤاخذ على النقد الحرفي الحديث ( أي النقد البنيوي) " حصر كلامه داخل العمل الأدبي، إنه عنده " هو ما هو" أو " هو في ذاته لذاته". فهو اتجاه يميل إلى تغليب الناحية الجمالية على الناحية النفعية أو الأخلاقية"(14 ). إن اهتمام يحيى حقي بالنص لم يكن على حساب صاحبه. فهو يستعين بمعطيات سيرية لإضاءة بعض الجوانب النصية وتعليلها، والسعي إلى معرفة مزاج المبدعين. ويرى أن الغلو في التطبيق أفضى إلى " صرف الاهتمام عن صاحب الأثر إلى الأثر ذاته" . " فليس في الوجود شيء قائم بذاته يسمى الفن، بل الموجود هم الفنانون وليس غير، هم العباقرة الأفذاذ الذين ينشرون النور في هذه الأرض، في جمجمة كل واحد من الأسرار والقوى ما يماثل في الروعة جلائل المعجزات الخارقة" (15 ).وهكذا يتبين أنه لم يكن مقتنعا بتنحية المؤلف وبوجود عمل قائم بذاته.ولهذا السبب يحلل أعمالهم لإدراك مزاجهم وتحديد الأثر الذي تلقوه من العالم الخارجي ويسعون إلى تركه في نفوس القراء، واستدعاء خواطره الخاصة منهم. وتتباين حدة هذا الأثر من رواية إلى أخرى حسب طبيعة مزاج الروائي وإحساساته الذاتية.
3-يتضح من خلال تلك العينات أن يحيى حقي لا يثقل تحليلاته بالمصطلحات والاستشهادات، ولا يتبجح بذكر المدارس النقدية وأعلامها، ولا يحتمل اعتياص النقد وغموضه و"تقوقعه داخل أنظمته الخاصة" (16 ) .وهذا لا يعني بأنه لا يستند إلى لغة واصفة (على نحو الحوار الثنائي، الحوار الداخلي، الاستاتيكي، الدينامي، الإيهام بالواقع، مزاج المؤلفين، الأخيلة، الفلاش باك...) تسعفه على قراءة النص والكشف عن مواطن قوته وضعفه. لقد كان ملما بالمجال الذي يتحرك فيه ، متحكما في الأدوات التي يستعملها، مقاربا النص الروائي بالمفاهيم التي تنسجم مع طبيعته ووظيفته، حارصا على إعطاء المفاهيم البلاغية واللغوية منزلة جديدة في تحليلاته. يمكن أن نستنتج من متابعاته النقدية تصوره الخاص لقراءة النص. فهو أقرب إلى " الخلق والتفكير الأصيل"( 17) لكونه يجمع بين تذوق النص والنظرات والتأملات العقلية، ويذوب المواقف والانفعالات الذاتية في الأحكام والتعليقات الموضوعية، ويشق آفاقا للفكر والتأمل تغري بقراءة النص. ويرى محمد مندور أن هذا النوع من الكتابة عظيم النفع لمن يتصدى للنقد " لأنها تعلم القراءة.. والقراءة الجيدة هي بالبداهة أول مرحلة النقد، وجودة القراءة سرها في ثقافة القارئ، فبمقدار ثقافته سيعثر عند كبار الكتاب على أضعاف ما يعثر به القارئ الفقير الثقافة، لأن كبار الكتاب يوحون عادة أكثر مما يفصحون، ولا يمكن أن يتم نفع القارئ بما يقرأ إلا إذا استطاع تسقط ذلك الوحي والإيحاء"(18 ).
4-يصنف يحيى حقي ممارسته النقدية ضمن النقد التأثري الاجتماعي الذي يتمحور حول عنصرين جوهريين، وهما الدلالة الاجتماعية ومزاج المؤلف. ينتقد يحيى حقي النقد الحرفي الحديث الذي يرى بأن الدلالة الاجتماعية توجد داخل العمل الأدبي.فهذا الأخير، في نظره، هو شهادة عن ملامح الوضع الاجتماعي الذي انبثق منه أيا كانت قيمته الفنية. وهكذا يسند إلى الأديب وظيفة اجتماعية تكمن في الالتحام بالمجتمع، وتبني قيادته الظاهرة والباطنة، والإلمام بقوانينه الأخلاقية والسماوية والعرفية، وتتبع تحولات اللغة من فصحى وعامية(19 ).
فيما يخص المزاج، يسعى يحيى حقي إلى تأمل وجه المؤلف الذي أمده بغذاء العقل والروح، والاتصال به وجدانيا لمعرفة أسرار قلبه وجمجمته، وإدراك طبعه ومزاجه، واعتداله وانحرافه، وقصده وحيلته (20 ). ولهذا ينكب على استخراج صورة المؤلف من خلال إبداعاته، ورصد تكوينه الفني عوض تكوينه الذاتي والاجتماعي. وهكذا يرد حقي الاعتبار للمؤلف بعد أن حاول بعض النقاد طمسه " لانعدام تقديرهم للعنصر الإنساني وراء العمل الفني"(21 ). ولا يكتفي بمحاجتهم لتفنيد دعواهم بل يسخر منهم مبينا الدور الإيجابي الذي يضطلع به المؤلف ." ولكن مهلا، إن هذا المختفي يضحك عليهم، فهو يدعي الاختفاء ولكنه-لمن يرى-ظاهر كل الظهور في قصته باختياره للموضوع، بتفضيله لنماذج، بإلحاحه بفكرة أو عقيدة، بطريقة تشبيهه، باعتماد وصفه على حاسة من الخمس، بالتزامه لألفاظ معينة لها دلالة على طبعه، بنصرته وإشادته بركن واحد من الثالوث الذي ينقسم إليه البشر: لذة العقل ولذة الروح ولذة الحس، ظاهر حتى في تركيب جمله، تدل عليه رشاقته ونصاعته، أو تعقده وغموضه"(22 ).
5-يعتني يحيى حقي في تحليلاته بالعامية مبرزا الغاية الجمالية من توظيفها في النص الروائي. فهو لم ينسق مع المتوجسين من العامية لكونها تفسد اللغة العربية الفصيحة وتشوهها. يضع حقي نفسه في منزلة وسطى بين غلاة الكتابة بالعامية وأنصار الفصحى. فما يهمه بالدرجة الأولى هو الدقة في التعبير سواء في الفصحى أو في العامية. ويرى أن طبيعة المؤلف أو مزاجه هي التي تملي عليه متى وأين يكتب بإحدى اللغتين. لقد كان يحيى حقي من الرعيل الأول الذي وعى بأهمية التهجين اللغوي لتشخيص مواقف المتكلمين وفق مستواهم التعليمي والثقافي وانتمائهم الاجتماعي. ولم يستسغ يحيى حقي موفق التصالح الذي يشترط كتابة السرد بالفصحى و كتابة الحوار بالعامية . لقد غابت عن أنصار هذا الموقف مسألة فنية عويصة، وهي أن السرد ( الحوار الداخلي) يمكن أن يتضمن كلمات عامية. و يشترط يحيى حقي في المبدع أن يكون متتبعا لتحولات اللغة من فصحى وعامية. فالفصحى تستوعب كلمات جديدة تحل محل كلمات غير متداولة أما التحول في العامية فهو أسرع منه في الفصحى. " ففي خلال سنوات قليلة جد تحول قول الكومساري في الأوتيبيس للراكب من يابك، إلى ياحضرة، إلى يا سيد، إلى يا محترم، وإلمامه بهذه المسائل كلها متوقف بطبيعة الحال على مدى الاتساع في محيط الدائرة"(23 ).
حاولنا فيما تقدم استجلاء بعض القضايا التي استأثرت باهتمام يحيى حقي، وإبراز طريقته النقدية التي تعامل بها مع النص الروائي دون فصلها عن الظرفية التاريخية التي تتحكم فيها وتؤطرها. ما يثير في تلك الطريقة أن يحيى حقي- وإن " لم يخرج عن دائرة النقد التأثري أي النقد القائم على الحساسية الجمالية في اللغة قبل كل شيء"(24 )- استطاع أن يبتدع تصورا نقديا(25 ) يجمع بين الأحكام
الموضوعية والارتسامات الذاتية، وبين الحاسة الجمالية والفطنة البارعة لأساليب التعبير، وبين القسوة والحساسية المرهفة، ويتجاوز القيمة الجمالية للعمل الأدبي إلى دلالته الاجتماعية، ويعيد الاعتبار إلى العنصر الإنساني في الكاتب من خلال مزاجه وتكوينه الفني (26 ).
ويعلل يحيى حقي قسوته على بعض الكتاب لكونه نشأ في معارك نقدية لا تترفع عن حدة اللفظ والتجريح( 27). لكن لما تقدم به العمر اعترف باعتدال لهجته ملتمسا، بلباقته الديبلوماسية المعهودة وتواضعه العلمي، أن يصفح عنه كل من غضب منه. " إنني نادم الآن ومستغفر لربي على اشتطاطي في القسوة على بعض من تناولتهم بالنقد، وعلى أسلوب وخز الإبر الذي دلس نفسه على أنه دعابة مقبولة.. لا سخرية مرذولة، وماذا كنت أفعل وأنا وريث دواوين شعر نصفها " قال يمدح" ونصفها " قال يهجو".."( 28). ومع ذلك مازالت هذه التطبيقات النقدية المبكرة تشهد على الدور الذي اضطلع به يحيى حقي للفت انتباه القراء إلى أنماط كتابية جديدة وحفزهم على قراءتها، كما أنها " تمثل في جوهرها الجذور الأساسية لرؤيته العامة، برغم ما طرأ عليها من تطوير وتعميق في مسيرته النقدية والإبداعية. إنها تعبر عن التوجه الوطني الشعبي الكامن ور-اء رؤيته النقدية التي لم تتوقف دعوتها إلى أدب مصري صميم تنبع فنيته من ذاتية مبدعيه، ومن خصوصية واقعة الشعبي والقومي"(29 ).

-------------------------

الهوامش:

 
 1 - انظر في هذا الصدد إلى يحيى حقي ، في محراب الفن، إعداد ومراجعة فؤاد دوارة، الهيئة  المصرية  العامة للكتاب،2000.
 2 - اعتمدت على الكتب الآتية: عطر الأجباب،دار الكتب، 1971، فجر القصة المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، خطوات في النقد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976.
 3 -فجر القصة المصرية، الفصل الثاني، م.سا ص/ص41-55.
 4 -المرجع نفسه ص/ص155-173.
  5- عطر الأحباب، م.سا ص/ص84-109.
 6 -خطوات في النقد، م.سا ص/ص149-154.
  7-المرجع نفسه ص150.
 8 - المرجع نفسه ص 150.
  9- المرجع نفسه ص/ص72-77.
  10- فاروق عبد المعطي، يحيى حقي الأديب  صاحب القنديل، دار الكتب العليمة،ط1،1994، ص197.
11  -خطوات في النقد، م.سا ص5.
12- فاروق عبد المعطي، يحيى حقي.. م.سا ص197.
 13- " ثم قفزنا بعد ذلك سريعا إلى مطلب  أهم، أن تكون لنا قصة مصرية لحما ودما، تنبع من خصائصنا وتدل علينا" انظر إلى : يحيى حقي، أشجان عضو منتسب سيرة ذاتية بقلم يحيى حقي، في : الأعمال الكاملة، ج1، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص15.
 14 -يحيى حقي، عطر الأحباب، م.سا ص31.
15 -المرجع نفسه ص23.
  16-المرجع نفسه ص25.
17 -محمد مندور، في الأدب والنقد، دار نهضة مصر للطباعة والنشر،1978، ص110.
18 -المرجع نفسه ص/ص110-111.
 19 -يحيى حقي، عطر الأحباب، م.سا ص35.
 20 -المرجع نفسه ص41.
21  -المرجع نفسه ص43.
22-المرجع نفسه ص 43.
 23- المرجع نفسه ص36.
  24-محمد مندور، " يحيى حقي ناقدا " في :النقد والنقاد المعاصرون، دار القلم [د.ت]،ص167.
 25 - يعترف يحيى حقي بأنه لا يستند على منهج نقدي واضح لأنه لم يلتحق بالجامعة. وما يهمه من النقد ليس ذكر المذاهب وإنما تأدية رسالة نافعة والاهتداء ، ولو من  بعيد، إلى إنشاء مذهب في النقد. وفي حالة عدم تحقق ذلك يجب البحث عن الأسباب. انظر في هذا الصدد إلى  خطوات في النقد،م.سا ص10.
  26- يحدد، مثلا، التكوين الفني لعباس محمود العقاد على النحو الآتي: " فمن خلال قصة سارة لأستاذنا  الكبير عباس محمود العقاد، لمست أكمل صورة لتكوينه الفني، إنه قائم   على صرامة المنطق العقلي، أحال عاطفة الحب والغيرة إلى مقدمات ونتائج، له قدرة فائقة على استخلاص المبادئ والتفريع منها، والقصة خالية من الفكاهة، ولكنك إذا جلست إلى المؤلف، كما أفعل وهو في مبادله ه، لرأيته محبا للفكاهة والدعابة يضحك ملء شدقيه، ويخيل إليك أن  عنصر الطفولة لا يزال ناضرا في قلبه، وهذا هو الفرق الذي قصدت لبيانه بين التكوين الفني والتكوين الذاتي" ، عطر الأحباب، م.سا ص43.
27-انظر، يحيى حقي، خطوات في النقد، م.سا ص8.
28 -المرجع نفسه ص5.
29  -فاروق عبد المعطي، يحيى حقي الأديب صاحب القنديل، م.سا ص198-199

 

الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأحد 16-05-2010 02:43 أ£أ“أ‡أپ  الزوار: 4612    التعليقات: 1

العناوين المشابهة
الموضوع القسم الكاتب الردود اخر مشاركة
تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأربعاء 25-02-2015
لكل بداية دهشتها، محمد الداهي مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 19-01-2015
استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 24-11-2014
مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الثلاثاء 18-11-2014
من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأحد 09-11-2014