تسعى، هذه الدراسة ، إلى إبراز منزلة القيم في المنهاج التعليمي المغربي، واقتراح بعض التدابير الكفيلة بتحسين أداء التربية على القيم وتعزيزها حتى تسهم في ترسيخ ثقافتي العدل والسلم في المجتمع الدولي. ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية إن لم يتعبأ مختلف الفاعلين، وفي مقدمتهم أصحاب القرار السياسي، لإصلاح المنظومة التربوية ( نشرت هذه الدراسة في جزأين بالجريدة التربوية العدد49 والعدد50عام 2013-الصورة صاحب الدراسة في فندق كونتنونتال بأبوظبي).
تسعى، هذه الدراسة ، إلى إبراز منزلة القيم في المنهاج التعليمي المغربي، واقتراح بعض التدابير الكفيلة بتحسين أداء التربية على القيم وتعزيزها حتى تسهم في ترسيخ ثقافتي العدل والسلم في المجتمع الدولي. ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية إن لم يتعبأ مختلف الفاعلين، وفي مقدمتهم أصحاب القرار السياسي، لإصلاح المنظومة التربوية، وإعطاء المدرسة دورا جديدا لتكوين مواطن صالح مؤهل للإسهام بفاعلية ونجاعة في التنمية المستدامة، ومتشبع بقيم المشاركة الإيجابية في كل ما يعود بالنفع على البشرية، ومنفتح على الثقافات الأخرى ومنجزاتها.
1ـالمدرسة والقيم:
أـ يصدر المشروع التربوي عن توجه سياسي يحدد الغايات المراد الوصول إليها لتكوين إنسان ومجتمع الغد . ويستدعي هذا البعد المعياري ( ما تجسده الغايات المنشودة) بعدا آخر لا يقل عن سابقه أهمية وقيمة، وهو البعد الإجرائي الذي يتمثل في الاستراتجيات البيداغوجية والتقنيات العملية الكفيلة بتحقيق القرارات والاختيارات الكبرى. وهكذا يتضح مما سبق أن " التربية " غير محايدة"،و تجسد الحقيقة السياسية". كما أنها " تمت بصلة إلى الحياة المدنية والعلائق الاقتصادية والاجتماعية"([1]).
ب ـ علاوة على انكباب المدرسة على إكساب المتعلم القدرات المنهجية والتواصلية والثقافية حتى يكون عنصرا فاعلا داخل الفصل الدراسي وخارجه، فهي أصبحت ـ مع مر الزمن ـ تؤهله ـ بفضل عنايتها بالجانب القيمي ـ إلى تدبير الصراعات والتعامل معها بروح المسؤولية والتعاون، والحرص على صيانة الموارد الطبيعية والبشرية من الاجتثاث والاستئصال. وهذا ما يقتضى من المربين التركيز على التربية الأخلاقية أو المدنية لما لها من دور في ترسيخ القيم النبيلة داخل المجتمع، ودعم تعايش الثقافات وتفاعلها وانفتاح بعضها على البعض بطريقة إيجابية، والإسهام في تشييد حضارة جديدة مبنية، كما يرى آدام كورل Adam Curle، على |"الإنسانية البيئية(Humanisme écologique) "([2]).
ج ـ لا يمكن للمدرسة أن تصبح وسطا حافزا على المبادرة والإبداعية والنقد إن لم تتبن مقاربات وطرقا بيداغوجية بناءة و نشيطة وفعالة ( على نحو الطريقة السوسيوبنائية، والطريقة التفاعلية، وعمل المجموعات، وبيداغوجية المشروع...). إن مثل هذه المقاربات ـ وغيرهاـ تراهن على اعتبار المتعلم القطب الأساس في العملية البيداغوجية، وإشراكه في اتخاذ القرارات الحاسمة التي تهم الحياة المدرسية، وإسهامه في الأنشطة التربوية التي تنمي قدراته الذهنية والمنهجية والتواصلية، وتزوده بالرصيد القيمي لفهم واجباته وحقوقه داخل الفضاء المدرسي وخارجه. ولا يمكن للمتعلم أن يتمثل قيما إيجابية ويمارسها في حياته مادامت المدرسة تكرس ما يجانبها ويناوئها، وذلك على نحو استفحال مظاهر الإقصاء والتهميش والتمييز والغش والعنف . مع العلم أنه توجد عوامل خارجية ( مثل الفوارق الطبقية) تؤثر سلبا في المسار الدراسي للمتعلم، وتشعره بدونيته، وتنتقص من قدراته ، وتجعله يعاين البون العميق بين " قراءة الكلمات" و" قراءة الواقع"([3]).
دـ يرى أوليفيي روبول أن الديمقراطية لا تعلم إلا في الوسط الديمقراطي. وهذا يتطلب دمقرطة الدولة والمؤسسات . ولا يعنى بالدمقرطة اضطلاع المواطنين بالتصويت إبان الاستحقاقات الانتخابية فحسب، وإنما إشراكهم في التسيير والحكم والمراقبة، وتمتيعهم بحقوقهم الفردية وفي مقدمتها حرية التعبير. وفي إطار سيرورة هذه الدمقرطة الشاملة التي تمس القطاعات جميعها، تؤدي المدرسة ـ فضلا عن وظيفتها التكوينية ـ دورا كبيرا في التنشئة الاجتماعية. ويُتوخى من خلالها تعويد المتعلم على " التعايش مع غيره في إطار احترام القوانين الاجتماعية المشتركة والإسهام في ترسيخ قيم العدالة والحرية والمسؤولية"([4]). كما يعنى بالتنشئة ، أيضا، إعداد المتعلمين إلى تحمل أدوارهم الاجتماعية في المستقبل. وهذا ما يحتم على المدرسة تطوير قدراتهم على الإبداعية والمشاركة والنقد واحترام رأي الآخر وثقافته([5])، وحفزهم على اتخاذ القرارات وتبني المبادرات والتعبير عن مواقفهم دون قيد وتحفظ.
4ـ ينبغي تعزيز أواصر التواصل والتعاون بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي والثقافي والبشري والطبيعي. ولا يُتوقع من هذا الانفتاح تحقيق الجودة البيداغوجية وإنما ، أيضا، جعل المؤسسة التعليمية تسهم في التنشئة الديمقراطية والاندماج في الحياة العامة. وهذا ما يقتضي منها فتح أبوابها " أمام الفاعلين التربويين والأكاديميين وهيآت المجتمع المدني، مع التزام صريح بانخراطها في الدينامية الدولية الداعية إلى جعل المتعلم مدخلا لترسيخ قيم الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان."([6]).
5ـ يرى أرسطو أن الفضيلة ليست معرفة أو ملكة طبيعية، وإنما هي عادة تُكتسب من خلال ما يماثلها من أعمال([7]). ومن ثمة تبدو أهمية التربية الأصيلة التي لا تسعى إلى تطويع الإنسان وتدجينه وشحنه وإنما إلى تكوين إنسان راشد مثقف ومستقل ([8]). وبالتركيز على التكوين عوض التلقين نتأكد من مصداق القول الشهير " التعلم بالعمل( doing by learning)". فمن خلالها يتضح أن " الفضيلة لا تلقن وإنما تكتسب"([9]) بواسطة الأنشطة والأعمال والتجارب التي يضطلع بها الإنسان. ومن مهمات المدرسةـ أسوة بباقي الأوساط التربويةـ توعية المتعلم بالقيم النبيلة وحفزه على التحلي بها في سلوكه وممارسته. وبالمقابل، فهو يكتسب المناعة لتفادي الرذيلة بما لها من خطورة على تكوينه وحياته ومحيطه العائلي والاجتماعي. وهناك من يشكك في وظيفة المدرسة لعجزها عن تكوين إنسان ديمقراطي أو مواطن صالح . فعلى الرغم من استهدافها القيم النبيلة فهي تجد مصاعب لتحقيقها على الوجه الأحسن، وذلك نتيجة تدخل عوامل كثيرة تحول دون الوصول إلى النتائج المنشودة. وهذا يجعل ما يتلقاه المتعلم ضربا من المثالية لكونه يعاين في حياته وتجاربه ما يناقضه ويناوئه.
2ـ منزلة القيم في نظام التربية والتكوين بالمغرب:
بعد فشل كثير من المحاولات الإصلاحية للتعليم المغربي، تكونت لجنة من الخبراء والأساتذة وممثلي النقابات والأحزاب والمجتمع المدني لإعداد ميثاق وطني للتربية والتكوين ([10]) يتضمن المرتكزات الثابتة ومجالات التجديد ودعامات التغيير والاقتراحات البناءة الكفيلة بالنهوض بالشأن التعليمي والتربوي خلال عقد من الزمن (2000ـ2009) وهو ما اصطلح عليه بالعشرية الوطنية للتربية والتكوين لما لقطاع التعليم والتربية من أولوية وطنية بعد الوحدة الترابية، ولما يحظى بأقصى العناية والاهتمام على كل المستويات والمسؤوليات . وما يهمنا من هذا الميثاق، الذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من سنة 2000 بعد مصادقة البرلمان عليه، إبرازُ أولا كيف تعامل مع القيم ( وخاصة التربية على العدل والسلم)، ثم بيان ثانيا كيف ترجمت غاياته الكبرى في الكتاب الأبيض الذي يحدد المواصفات والمؤهلات التي ينبغي للمتعلم التوفر عليها عند نهاية كل سلك دراسي، ثم استجلاء ثالثا التدابير الواعدة للنهوض بقيم المواطنة في البرنامج الاستعجالي 2009- 2012.
أـ الميثاق الوطني للتربية والتكوين:
يتجلى الجانب القيمي في القسم الأول من الميثاق والموسوم بالمبادئ الأساسية. فعلاوة على تركيزه على الإيمان بالله وحب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية ، يراهن على تربية المتعلم على القيم الآتية: الاستقامة والصلاح والاعتدال والتسامح والمشاركة الإيجابية. ومن خلال فحص القيم المنشودة في الميثاق يتضح ما يلي:
ـ يسعى الميثاق إلى تزويد المتعلم بكل ما يحفزه على قبول الاختلاف، والتشبع بروح الحوار، وتبني الممارسة الديمقراطية في ظل دولة الحق والقانون.
ـ يوفق بين الوفاء للأصالة ( التفاعل مع مقومات الهوية في انسجام وتكامل) وبين التطلع الدائم إلى المعاصرة ( التفتح على المعطيات والآليات التي تكرس حقوق الإنسان وتدعم كرامته).
ـ يتطلع إلى تيسير اندماج المتعلمين اجتماعيا، وحفزهم على استيعاب القيم الدينية والوطنية والمجتمعية، وتأهيلهم للإسهام في البناء المتواصل لوطنهم على جميع المستويات.
ب ـ الكتاب الأبيض:
في ضوء تنفيذ إجراءات الميثاق الوطني للتربية والتكوين أكبت لجان مراجعة المناهج التربوية في شهر يونيو 2002 على وضع تصورات لتنظيم الدراسة في كل سلك أو مسلك دراسي، وتدقيق مواصفات المتعلم، واقتراح المحتويات والكفايات وسبل تنفيذها. وفي هذا الصدد سنعتمد الجزء الثالث الخاص بالمناهج التربوية للتعليم الثانوي الإعدادي([11]) بالنظر إلى الحيثيتين الآتيتين:
ـ يعتبر المسلك الإعدادي امتدادا للتعليم الابتدائي الذي تنتظم فيه الدراسة على شكل أنشطة تربوية مندمجة في مناهج تركز على تربية المتعلمين على القيم وتنمية قدراتهم المنهجية والتواصلية والثقافية.
ـ سندرس عينات من الكتب المدرسية الخاصة بمستوى من مستويات التعليم الثانوي الإعدادي لبيان تعاملها مع الجانب القيمي ( وخاصة التربية على السلم والعدل)، وإبراز الخلفيات المتحكمة في تدريسه.
حدد الجزء الثالث المواصفات التي ينبغي للمتعلم التوفر عليها في نهاية السلك الإعدادي، وهي تنقسم إلى فئتين ([12]):
ـ مواصفات من حيث القيم والمقاييس الاجتماعية:
ـ أن يكون المتعلم مكتسبا للقدر الكافي من مفاهيم العقيدة الإسلامية، ومتحليا بقيم الحضارة المغربية وواعيا بتنوع وتكامل روافدها، ومنفتحا على قيم الحضارة المعاصرة وإنجازاتها، ومتشبعا بحب وطنه وخدمته، وبقيم حقوق الإنسان وحقوق المواطن المغربي وواجباته، وبقيم المشاركة الإيجابية في الشأن المحلي والوطني، وبقيم تحمل المسؤولية.
ـ مواصفات مرتبطة بالكفايات والمضامين:
ـ أن يكون المتعلم متمكنا من اللغة العربية واستعمالها السليم ، وقادرا على تداول اللغات الأجنبية والتواصل بها، وملما بالمهارات التقنية والمهنية والرياضية والفنية الأساسية ذات الصلة بالمحيط الجهوي للمدرسة، وحاذقا في تعديل سلوكاته وإبداء رأيه وتوسيع رؤيته لذاته وللآخر.
ج- البرنامج الاستعجالي:
يوجه هذا البرنامج([13]) نقدا لاذعا للمدرسة المغربية بحكم أنها أصبحت في العقود الأخيرة مرتعا لتنامي مظاهر العنف وانعدام الاحترام وبصفة خاصة بين المتعلمين والمدرسين. وتولد عن هذه الوضعية نفور المتعلم من المدرسة وتدهور بنياتها التحتية. وبالمقابل، يقترح البرنامج تدابير واعدة، على الصعيدين المحلي والجهوي، من أجل التأسيس لثقافة الاحترام داخل المؤسسات التعليمية. ومن ضمن هذه التدابير نذكر أساسا ما يلي:
- وضع ميثاق يتضمن حقوق وواجبات كل الأطراف داخل كل مؤسسة على حدة. وتكمن الغاية من هذا الميثاق في تحديد وإبراز مسؤوليات كل الفاعلين في المنظومة التربوية.
- إحداث آلية للوساطة للمساهمة من خلال الاستماع والحوار في التخفيف من حدة التوترات والتقليل من حجم السلوك العدواني.
- ترسيخ " سلوك مهني" للمدرسين بواسطة التكوين، من أجل إعطاء التلاميذ صورة عن الصرامة النموذجية والانسجام مع المبادئ المعلنة للمدرسة، علاوة على عقد شراكات مع السلطات ( الأمن الوطني والقوات المساعدة و الدرك و العدل) لتنظيم حملات تواصلية وحملات للقضاء على العنف.
3ـ سبل تنفيذ المنظومة القيمية:
سنحاول معاينة سبل تنفيذ وتعليم المنظومة القيمية من الزاويتين البيداغوجية والديداكتيكية:
أـ الزاوية البيداغوجية:
وهي تهم كل الترتيبات والتدابير التي اتخذتها وزارة التربية الوطنية بتنسيق أو تعاون مع وزارات أخرى أو مع مكونات المجتمع المدني لتوعية المتعلم بالقيم النبيلة وحفزه على التحلي بها في سلوكاته ومواقفه في الحياة العامة. ومن ضمنها نذكر ما يلي:
ـ إعداد دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان بتعاون مع وزارة حقوق الإنسان([14]).
ـ اعتماد التربية على القيم وتطوير الكفايات مدخلا بيداغوجيا لمراجعة مناهج وبرامج التربية والتكوين.
ـ وضع دفاتر التحملات
الخاصة بتأليف الكتب المدرسية، تتحدد بموجبها المعايير الواجب توفرها في الكتب المصادق عليها، بما فيها التنصيص صراحة على مفاهيم ومبادئ وقيم حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية.
ـ إحداث مادة جديدة " التربية على المواطنة" في السلكين الابتدائي والثانوي الإعدادي.
ـ إدماج مبادئ القانون الدولي الإنساني في مناهج وبرامج بعض المواد الدراسية كالاجتماعيات واللغة الفرنسية.
ـ إحداث مرصد للقيم لدعم وتعزيز جهود مديرية المناهج في مجال إعمال القيم الوطنية والحضارية والإنسانية في المناهج الدراسية، وتتبع أجرأة توجهات واختيارات قطاع التربية الوطنية في هذا المجال.
ـ تأسيس نوادي التربية على حقوق الإنسان، ونوادي التربية على المواطنة، ونوادي التربية على المساواة بين الجنسين، ونوادي التربية على البيئة، ونوادي التربية الصحية.
ـ استحداث اللجنة المركزية لحقوق الإنسان والمواطن..
ـ تعزيز وتوسيع الشراكة والتعاون مع مكونات المجتمع المدني للنهوض بثقافة حقوق الإنسان ( وُقِّعت قي غضون سنتين تسع اتفاقيات مع كل من: الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، ومنتدى المواطنة، ومركز حقوق الإنسان، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وجمعية جسور، وملتقى النساء المغربيات، وحركة الطفولة الشعبية، والرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة ،وإتحاد العمل النسائي).
ـ تنظيم ما يربو على 36 دورة تكوينية في مجال حقوق الإنسان لفائدة التلاميذ والمكونين والأساتذة ومؤلفي الكتب المدرسية([15]).
ـ إدماج مفاهيم مدونة الأسرة في المناهج التربوية([16]).
ـ إصدار دليل للتربية على حقوق الطفل([17]).
ـ تقديم حصيلة قطاع التربية والتكوين في مجال النهوض بثقافة حقوق الإنسان([18]).
ـ جمع ما ينيف على اثنين وعشرين مذكرة صادرة منذ سنة 2001 في مجال المواطنة وحقوق الإنسان والشفافية([19]).
ـ إعداد منهاج التربية على حقوق الإنسان ([20]).
بعد عرض بعض المبادرات والتدابير المتخذة من لدن الوزارة الوصية لنشر ثقافة حقوق الإنسان في المؤسسات التعليمية وتوعية الفاعلين ، وفي مقدمتهم المتعلمين، بأهميتها في ترسيخ القيم النبيلة داخل المجتمع، نبدي الملاحظات الآتية:
أـ ما يلفت النظر في العقد الأخير هو تراكم الأدبيات التربوية والبيداغوجية التي تعنى بثقافة حقوق الإنسان، وحرص الوزارة الوصية على استحداث بنيات تشرف على توثيقها وتعميمها واقتراح سبل تنفيذها وتتبعها. وما حفز الفاعلين التربويين على الاهتمام بنشر الثقافة الحقوقية وقيمها هو تزايد موجات الإرهاب والتعصب والانغلاق بما تحمله من أخطار تهدد استقرار البلاد وتزعزع أمنها وطمأنينتها. وإثر وقوع بعض الأحداث الإرهابية المؤسفة، تداول الفاعلون التربيون والمثقفون، من خلال نقاشات عمومية ومفتوحة، في أمر مراجعة المناهج التعليمية والتربوية تفاديا لكل ما يمكن أن ينمي مظاهر التطرف والتعصب ، وتعزيزا لكل ما يمكن أن يدعم ويرسخ قيم التسامح والمشاركة الإيجابية والصلاح والانفتاح.
ب ـ تتخذ ثقافة حقوق الإنسان صبغة احتفالية وموسمية. فهي تصبح، بين الفينة والأخرى، ملحة لبواعث سياسية، ولتخليد أيام ذات دلالة عالمية ( على نحو الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة أو باليوم العالمي لحقوق الإنسان)، أو للتنديد بأحداث مؤسفة ( الأحداث الإرهابية في المغرب أو القتل الجماعي للمدنيين في فلسطين والعراق). ورغم موسمية هذه الأنشطة ، فهي ، في مجلها، تراهن على توعية المتعلم بالأخلاق الفاضلة، والتشبث بالمواطنة، وقيم التسامح والتضامن، وحفزه على المشاركة في تظاهرات ثقافية ومعارض فنية ووقفات تضامنية سعيا إلى تربيته على قيم الكرامة والحرية والمساواة ، وتعزيز ممارسته للمواطنة الكاملة، والإسهام في نهضة الوطن ورقيه.
ج ـ في تساوق مع النقطة السابقة، نلاحظ مدى تعثر تعميم تطبيق منهاج التربية على حقوق الإنسان على جميع المؤسسات التعليمية. فرغم صدور مذكرة في هذا الصدد ( تحدد الأهداف والمواصفات والمبادئ العامة لإنجاز درس حول أحد المفاهيم الجوهرية لحقوق الإنسان) ، فهي لم تخضع للتجريب إلا في نطاق محدود وفي فترة زمنية قصيرة، ولم تصبح موضع مساءلة ومناقشة لتبين نتائجها، والتدخل لتصحيح مكامن قصورها، وتجاوز المعيقات التي تسبب تباطؤها وتعثرها.
دـ تم التركيز أساسا على ما يعزز لدى المتعلم الانتماء إلى الوطن، والمشاركة الإيجابية في مؤسساته، والعيش في وئام وعزة وكرامة، وقبول الاختلاف والتسامح. ومما استبعد من القيم نذكر أساسا العدل والسلم وإن كانا مضمنين في كثير من التصرفات والأعمال المستحضرة. فهما ، على خلاف قيم أخرى، لا يتمتعان بمنزلة خاصة على نحو يجعل المتعلم يستوعب معانيهما، ويستحضر مغازيهما وأبعادهما في أنشطته المدرسية، ويتعود على تمثلهما وتبنيهما في ممارسته اليومية.
ب ـ الزاوية الديداكتيكية:
تعتبر مراجعة الكتب المدرسية من الدعامات التي اعتمد عليها لإصلاح المنظومة التعليمية، وتطوير معارف وقدرات المتعلم. وقد عززت الوزارة الوصية مبدأ المنافسة بين الناشرين وفرق التأليف لإحداث قطيعة مع احتكار الكتاب الوحيد و تبني اختيار تعددية الكتب في المادة نفسها وللمستوى عينه. وهكذا تكونت لجنة التقويم والمصادقة للنظر في مشاريع الكتب المعروضة عليها، واختيار أكثرها توفرا على المواصفات المطلوبة والمحددة في دفتر التحملات ، ثم المصادقة عليها لتنشر وتصبح مبرمجة على الصعيدين المحلي والجهوي. وبعد المصادقة المبدئية على الكتب التي توافرت فيها الشروط المتوخاة ( يركز في هذه المرحلة من التقويم على الجوانب البيداغوجية والتقنية والفنية)، يأتي دور لجنة القيم ( وهي ، علاوة على لجنة اللغة والمجموعة الفنية، تشكل لجينة التقاطعات) للتدقيق في مدى انضباطها لمجموع المعايير المرتبطة بمبادئ وقيم حقوق الإنسان الواردة في دفتر التحملات، وتقديم ملاحظات وتعديلات ينبغي للجان التأليف إدخالها للحصول على المصادقة النهائية. إن عمل هذه اللجنة " ينحصر بالضبط في مراقبة مشاريع الكتب المدرسية من زاوية مدى حرصها على عدم تمرير كل ما هو مناف لقيم ومبادئ حقوق الإنسان والمواطنة في جميع المواد الدراسية دون استثناء، وقد مكنت عمليات التدقيق هذه من تنقية مشاريع الكتب المدرسية وتنقيحها من العديد من الشوائب، وهي بذلك تعتبر بحق آلية من آليات تصريف حقوق الإنسان والمواطنة بالقطاع"([21]).
نظرا لتعدد الكتب المدرسية فإننا سنختار عينة من الكتب المصادقة عليها، والتي تهم مواد بعينها (التربية الإسلامية والاجتماعيات واللغة العربية) في مستوى دراسي معين ( السنة الأولى من التعليم الثانوي الإعدادي).
أـ التربية الإسلامية:
من خلال محتويات الكتاب المدرسي ([22]) يتضح أنها متمحورة حول ثلاث قضايا أساسية، وهي المتعلقة بالجانب العقدي والقيمي وممارسة الشعائر الدينية. وما يهمنا هو الجانب القيمي الذي عولج وفق آداب الإسلام وأحكامه. وتستوعب الوحدات الدراسية ( وحدة التربية الاقتصادية والمالية، ووحدة التربية الأسرية والاجتماعية، ووحدة التربية الصحية والوقائية، ووحدة التربية التواصلية والإعلامية، ووحدة التربية الفنية والجمالية، ووحدة التربية البيئية) دروسا تروم محاربة الرذائل ( على نحو الغش والرشوة والكذب والغيبة والنميمة) من جهة، وترسيخ الفضائل (العفة والصدق والأمانة والحياء والنظافة والرفق بالحيوان وجمال البدن وجمال السلوك وجمال البيئة) من جهة ثانية. ويسعى الكتاب، من خلال التركيز على الجانب القيمي، إبراز أثر الفضائل الحميدة ( كل صفة جميلة من قول وفعل لا يخالف الشرع) في انتشار الخير والاطمئنان والعدالة داخل المجتمع، والتحذير من الصفات الذميمة والمحرمة صونا للمجتمع من الانحراف والتفرقة والضعف.
ب ـ الاجتماعيات:
يتكون الكتاب([23]) من ثلاثة أبواب ( مادة التاريخ، ومادة الجغرافية، ومادة التربية على المواطنة). ومن خلال فحص الباب الثالث، الذي يمت بصلة إلى موضوعنا، يتضح ما يلي:
ينطلق مؤلفو الكتاب من كفايات وقدرات محددة تروم تربية المتعلم على مفاهيم المواطنة وعلى رأسها مفهوم الكرامة. ويُعالج هذا المفهوم الجوهري في نتاسقه مع مفاهيم أخرى ( على نحو الحرية والديمقراطية والمساواة والتضامن) وفي علاقته بالمرجعية الإسلامية وبمقتضيات المواثيق والعهود الدولية التي صادق عليها المغرب.
وعلاوة على تركيز المؤلفين على تمكين المتعلم من التمييز بين حقوقه وواجباته، فهم قد راهنوا على جعله قادرا على قراءة وثائق تمت بصلة إلى المجال الحقوقي، وعلى إعداد ملفات وتقارير تهم حياته اليومية، وتحفزه على اتخاذ قرارات سليمة (تدبير نزاع واقتراح حلول لفضه، والإسهام في أعمال تضامنية، وتبني اختيارات مسؤولة).
ومن خلال المحاور المقترح تدريسها، يتضح أن المؤلفين ـ انسجاما مع دفتر التحملات ـ خصصوا حيزا هاما لقيمتي العدل ( المحور الرابع) والسلم ( المحور الثامن). ولما نطلع على إجراءات التطبيق يتضح أنهم ، في تعاملهم مع قيمة العدل، اعتمدوا على مرجعيات متنوعة (رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والقضاء المغربي، ومقتطف من خطاب الملك الحسن الثاني) لإبراز قيمة العدل في الإسلام والقانون الدولي، وإطلاع المتعلم على مبادئ القضاء المغربي. واعتمدوا، فيما يخص قيمة السلم، على وثائق وخطاطات متنوعة لتبين قيمة السلم في الدين الإسلامي والمواثيق الدولية، وإبراز دلالتها في إقامة الأمن والطمأنينة بين الشعوب، والمراهنة على دورها في المحافظة على خيرات الأرض وموردها وعلى العنصر البشري نفسه.
ج ـ اللغة العربية:
لما نطلع على أحد كتب اللغة العربية المصادق عليها ([24]) نلاحظ أن المؤلفين ركزوا في وحدة القيم الوطنية والإنسانية على ما يعزز حب المتعلم لوطنه وانتماءه إليه، وما يوعيه بحقوقه ( الكرامة والحرية والطمأنينة) وواجباته ( احترام القانون وعدم تعذيب وإذاية وإهانة غيره). و لم تتضمن وحدتا المجال الاقتصادي والاجتماعي والمجال السكاني على مواضيع وأنشطة ([25]) تبين للمتعلم دور التنمية المستدامة وأهميتها في ضمان حق الأجيال المقبلة في الاستفادة من خيرات الأرض وثرواتها ومواردها الطبيعية.
من خلال هذه العينات يتضح ما يلي:
أـ أصبح الجانب القيمي، في العقود الأخيرة، مطلبا ملحا في مراجعة الكتب المدرسية وتأليفها وتقويمها. لكن الحيز الزمني المخصص لاضطلاع فرق التأليف بإعداد مشاريع كتبها ونهوض لجنة التقويم بفحص المشاريع المصادق عليها مبدئيا لا يسمح بإعطاء المنظومة القيمية الأهمية التي تستحقها لتربية المتعلم على فضائل تعديل سلوكه على نحو يؤهله إلى المشاركة بفاعلية في ترسيخ القيم الكونية المشتركة وصيانة محيطه وبيئته من الدمار والتلوث والإتلاف.
ب ـ تُستحضر القيم في الكتب المدرسية بطريقة تجريدية ( في شكل مفاهيم مجردة لا تشرك المتعلم في إخضاعها للتجريب أو ممارستها) ومبعثرة ( لا تنتظم في علاقتها بمفاهيم أخرى، كما أنها تدرس في حصص متفاوتة زمنا و وظيفة)، أي أنها لا توظف بطريقة نسقية، ولا تستثمر في شكل أنشطة منتظمة وهادفة ( على نحو وضع المتعلم أمام وضعيةـ مشكلة أو مطالبته بإعداد ملف عن قيمة السلم بين الشعوب أو إشراكه في ورشات أو أعمال جماعية لإنجاز لافتات وملصقات وشعارات أو جداريات تندد بأخطار الحروب وشرورها..).
ونستثني نسبيا من هذه الملاحظة كتاب الاجتماعيات الذي حاول مؤلفوه ، ولو في نطاق محدود، وضع المتعلم أمام وضعيات ـ مشاكل لامتحان قدراته السلوكية على تدبير الصراعات اليومية، واقتراح حلول مناسبة لها،والتواصل والتفاعل بشكل إيجابي مع المخلوقات والمحيط.
و لا يمكن للحصص الدراسية وحدها أن تحقق المرامي المنشودة من التربية على القيم وفي مقدمتها العدل والسلم إن لم تتعبأ المدرسة ، مع شركائها و مكونات المجتمع المدني، في إدراج أنشطة منتظمة ، ضمن برنامجها الثقافي والتربوي، لتنمية السلوكات الإيجابية لدى المتعلم، وحفزه على الاندماج داخل المدرسة وخارجها، والإسهام في استجلاب كل ما يعود بالنفع عليه وعلى غيره.
وفي
هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى صدور مذكرات ([26]) تحفز على تكوين أندية داخل المؤسسات التعليمية لما لها من دور في تكوين شخصية المتعلم، وصقل مواهبه، ومشاركته في اتخاذ القرارات والمواقف التي تهم الحياة المدرسية. لكن نتيجة نفور أغلب المدرسين من تكوين هذه الأندية و تأطير المنخرطين وتوجيههم بحجة عدم إثقال كواهلهم بأعباء جديدة، فبعضها يستغل من ذوي التوجهات الإيديولوجية لشحن عقول التلاميذ وأفئدتهم بمحتويات تنعش التطرف و الانغلاق والتعصب. وهو ما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى انزياح هذه الأندية عن وظيفتها التربوية الساعية إلى نشر القيم النبيلة في المجتمع، وإلى تبعيتها إلى إيديولوجية معينة بهدف خدمة أغراضها التعبوية أو الدعوية أو الانتخابوية.
ج ـ لم تعتمد العينات ودلائل الأستاذ ،في إحدى مكوناتها أو مفرداتها أو حصصها، على استثمار التوجهات العامة التي تقترحها المذكرة الخاصة بتعميم منهاج التربية على حقوق الإنسان([27])، وخاصة ما يتعلق بالإجراءات الآتية:
ـ إبراز الكفاية المستهدفة المزمع تنميتها لدى المتعلم أو المتعلمة.
ـ الإدماج التلقائي والعضوي للمفهوم الحقوقي الذي سيُركز عليه أثناء الإنجاز دون إقحام أو تكلف.
ـ تحقيق التوازن بين الجانبين المعرفي والحقوقي، والتعامل بشكل إيجابي مع مواقف التلاميذ والتلميذات خلال مراحل الدرس، والدفع بالعلاقات السائدة داخل الفصل نحو إشاعة حقوق الإنسان بالمؤسسة التعليمية وبمحيطها الخارجي.
وفي هذا السياق نشير إلى ارتكاز كتاب المختار في اللغة العربية ( دليل الأستاذ) ([28])على مذكرة تعميم منهاج التربية على حقوق الإنسان وعلى الجزء الثالث من الكتاب الأبيض([29]) لتدريس مفهوم المواطنة في حصتي القراءة المنهجية (وطني المفدى لبطرس البستاني) مع مراعاة إدماجه بطريقة تدريجية:
ـ الاكتشاف : يُحفز المتعلم على تعرف مفهوم المواطنة ، والارتقاء به إلى المواطنة المشاركة ( تعرف حقوقه وواجباته، والإسهام في الحياة العامة بفاعلية وحماس).
ـ رد الفعل: بناء الموقف اعتمادا على تعليمات الأستاذ/ المنشط، وانطلاقا من الزاوية البيداغوجية المركز عليها.
ـ الفعل: حفز المتعلم على تبني ما اكتسبه في سلوكه اليومي.
دـ من الإيجابيات اعتماد التربية على المواطنة في التعليم المغربي، ومن سلبياتها عدم تعميمها وتقويم أنشتطها وسبل تنفيذها لتعرف مواطن قوتها وضعفها. وإن كان تدريس هذه المادة مقصورا على مادة واحدة وموزعا على حصص محدودة، فهي تلعب دورا في تربية المتعلم على القيم النبيلة حتى يكون واعيا بحقوقه ووجباته تجاه ذاته وحيال الجماعة، ومنخرطا اجتماعيا في اتخاذ المبادرات والاضطلاع بالمسؤليات المنوطة به، ومشاركا في الحياة المدرسية ( المواطنة المدرسية)([30]) وفي الحياة العامة ( المشاركة المواطنة)([31]). وقد خصص الجزء الثالث من الكتاب الأبيض حيزا لبيان منطلقات وأهداف منهاج التربية على المواطنة ، وإبراز مرجعياتها وشروطها وسبل تنفيذ تدريسها([32]).
هـ ـ تراهن هذه الكتب المصادق عليها وغيرها، انسجاما مع الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية، تنمية كفايات محددة ([33]) لدى المتعلم حتى يتوفر على المواصفات المطلوبة التي تؤهله إلى الانتقال إلى السلك أو المسلك لموالي.
وفيما يلي ما يمكن ملاحظته بصدد بناء الكفايات المستهدفة :
ـ التباسها بالأهداف السلوكية الإ جرائية وعدم انسجامها وتكاملها على المستوى العملي.
ـ عدم اضطلاع اللجنان المشرفة على إعداد المناهج التعليمية بجرد وضبط الكفايات المتوخاة من كل سلك أو مستوى بالنظر إلى المستوى العمري للمتعلم ومراعاة لحاجاته وتطلعاته ( ما يصطلح عليه بقاعدة الكفايات Le socle de compétence).
ـ إهمال فرق التأليف استثمار الكفاية الاستراتجية([34]) التي تهم المنظومة القيمية عن كثب، وذلك إما لغموضها أو لصعوبة إيجاد أنشطة وسلوكات ومواقف تجسدها بيداغوجيا وديداكتكيا.
من خلال ما تقدم نخرج بخلاصات عامة للنهوض بالتربية على القيم في الفضاءات المدرسية، ويمكن أن نجملها في المحاور الآتية:
أـالبيداغوجية والمجتمع: لا يمكن للتربية على القيم أن تؤدي وظيفتها على الوجه الأحسن إلا في وسط يتبنى الديمقراطية سلوكا وممارسة. ولذا ينبغي للمدرسة تفادي أساليب العقاب والإهانة والوصم ، وإعطاء الكلمة للمتعلم للتعبير عن آرائه بحرية، وضمان مشاركته في بناء الدرس وإعداد الأنشطة الموازية. فبفضل مشاركته في أداء أدوار داخل المدرسة وخارجها يصبح للديمقراطية معنى . وفي السياق نفسه، يجب على المجتمع أن يعطي للمتعلمين أمثلة مشجعة تحفز على ممارسة الديمقراطية والإسهام في تجسيدها وتكريسها. لكن عندما تصبح وسيلة لترقي النخب وتحقيق أغراضها الشخصية، وتنافسها على شغل مواقع متقدمة في التراتبية الاجتماعية ، فهي تؤدي إلى نتائج سلبية مناقضة لأهدافها النبيلة. وهذا ما ينعكس سلبا على تكوين المتعلم والمراهنة على إعداده ليكون مواطنا صالحا ومسهما في تنمية بلاده. إنه ـ في هذه الحالة ـ سيعتبر القيم المنشودة مجرد شعارات جوفاء لتحقيق المصالح الشخصية. وهو ما يحفزه على إضفاء الشرعية على كل الأعمال المذمومة ( على نحو الغش في الامتحانات) سعيا إلى تحقيق مآربه ولو بالطرق غير المشروعة والمستحبة ( العمل بمدأ المثل الشهير: الغاية تبرر الوسيلة).
ب ـ المثلث التفاعلي : كان فدريكو مايور Federico Mayor ، خلال سنوات عديدة، يلح على أهمية وملاءمة المثلث التفاعلي (triangle interactif) (السلم والديمقراطية والتنمية) في تقدم الشعوب وتعايشها في وئام وطمأنينة. " لا وجود لسلم مستدام دون ديمقراطية وتنمية. ولا وجود لديمقراطية مبنية على حقوق الإنسان دون سلم وتنمية. ولا تنمية ذات بعد إنساني دون سلم وديمقراطية"([35]). وعوض أن يسير العالم في هذا الاتجاه، فهو ينحو أكثر إلى التفرقة والتمزق والتناحر ، مما يغذي النزاعات والصراعات بين الشعوب والأمم، وينمي مشاعر الحقد والكراهية بين الأفراد. وهذا ما يحتم بناء السلم بوصفه شأنا ثقافيا للتخلي إلى الأبد عن التسلح، وزع قيم نبيلة في أذهان الناس، واستئصال الظلم والحيف. " إن عدو السلم ليست الحرب، وإنما الظلم. ولا يمكن تحقيق سلم حقيقي ومستدام إلا بإقامة العدل"([36]).
ج ـ المواطنة الحية: لا يمكن للمدرسة أن تؤدي وظيفتها الحديثة إذا لم تسترجع دورها باعتبارها عاملا من عوامل تكوين الفرد وتأهيله للمواطنة الحية أو المواطنة المشاركة. إن تهيئ المتعلم لتحمل أدوار في الحياة العامة والتأثير فيها، وفي تدبير شؤونها، والقيام بمبادرات تسعى إلى تحقيق المنفعة العام، يقتضي إشراكه في النهوض بمسؤوليات داخل الفضل وخارجه، وإبداء رأيه في المجالس التعليمية التي يحفها الصمت ويخيم عليها المسكوت عنه ( على نحو مجالس الأقسام ومجلس الانضباط...) ([37]). وفي هذا السياق لا يمكن للأخلاق أن تأتي ثمارها إذا لم يقدم المدرس " مثالا حيا عن النزاهة الفكرية، والإصغاء إلى الآخر، والحزم المتسم بالرفق، واحترام نفسه"([38]).
دـ القيم المُدرسَّة: كما لاحظنا، من خلال الوثائق والكتب المدرسية المعتمدة، مازال تدريس القيم يطرح مصاعب جمة سواء على مستوى انتقائها أو برمجتها أو تدريسها أو تقويمها. وهي، مجملا، تحتاج إلى تدخل جهات بيداغوجية وحقوقية ومدنية لاستحداث بنيات لتتبع التربية على القيم في المؤسسات التعليمية وتقويمها والتدخل لتصحيح مكامن الخلل وتعزيز مواطن القوة من جهة، ولتفادي تسرب انزلاقات وصور نمطية متداولة في الكتب المدرسية تحول دون تحقيق الأهداف المنشودة من جهة ثانية. ونشير في هذا الصدد إلى كثرة الهفوات التي عاينها فرق من الفاعلين التربويين والحقوقيين([39]) في عينات من الكتب المدرسية على الرغم من خضوعها للتقويم من لدن لجان مختصة قبل حصولها على المصادقة النهائية. فهي ، على ما بذل فيها من جهود ، تتضمن أحكاما ونعوتا نمطية تكرس اللامساواة بين الجنسين.
هـ ـ القيم والجراح الرمزية: من خلال الكتب المدروسة نلاحظ أن المؤلفين انتقوا نصوصا تتضمن الجراح التي أحدثتها تصرفات المعمر تجاه المغاربة. وهم ، بهذا الصنيع وإن كانوا يقصدون تعزيز الوفاء للوطن، يدعمون الذاكرة الجريحة التي أصبحت ـ مع مر الزمن ـ " أرشيفا يختزن الجراح الرمزية التي تستدعي تضميدها. فما يعد مجدا وفخرا بالنسبة لطرف يعد خزيا وإذلالا للطرف الآخر. و كل احتفاء بحدث يقابله مقت وازدراء في الجهة الأخرى([40]). إن الذاكرة ، لما تسخر في خدمة البحث عن الهوية والمطالبة بها، تؤدي إلى الإفراط والتفريط بالتركيز عن أحداث معينة ونسيان أخرى لبواعث معينة. إن مراهنة الشعوب على هويتها يقوي لديها الاعتزاز بذاتها . وهذا ما يزيد من حدة العنف الرمزي للأحداث الماضية التي تُروَّج بوصفها نماذج للحياة وعبرا ودروسا أخلاقية ( ما يصطلح عليه بأدْلجة الذاكرة). إن الشعوب جميعها مطالبة اليوم بإقامة مصالحة مع تاريخها وذاتها ومع غيرها تفاديا لكل أشكال التصادم التي تحفر جراحا غائرة في المخيلة الشعبية، وسعيا إلى توفير شروط السلم المستدام وثقافته في المجتمع الدولي . ومن ضمن هذه الشروط نذكر أساسا: تعزيز أواصر الصداقة والتعاون والتسامح بين الأمم، وإقامة عدالة اجتماعية، وتحقيق المساواة بين الناس في ما يخص حقوقهم وواجباتهم.
-------------
[1] -Olivier Reboul: la philosophie de l'éducation, PUF, 4 édition,1976,p81.
[2] - لا تتحقق إلا بالسلم وتفادي كل ما يمكن أن يدمر نعم الأرض وخيراتها ومواردها حتى تستفيد منها الأجيال القادمة. انظر في هذا الصدد:
José Tuvilla Rayo:" Pour une approche globale des valeurs en cause" in Valeurs démocratique et finalités éducatives, collection thématique, numéro 4,CIFEDHOP,Juin 1996,P110.
[3] ـ يرى فرير أن الطفل ينبغي أن تتاح له الفرصة ليس " لقراءة الكلمات" فقط وإنما، أيضا، " لقراءة الواقع". انظر:
Iza Guerra-Labelle: "Valeurs éducatives et justices sociales" in Valeurs démocratique et finalités éducatives,op.cit,p 65.
[4] -Vérone Truchot: "L'école et les valeurs démocratiques" , op.cit, p88.
[5]ـ ما يصطلح عليه بالتربية البين-ثقافية (éducation interculturelle): وهي تهدف إلى تنمية مواقف المتعلم و سلوكاته لاحترام مبدأ الاختلاف بروح التفتح والمشاركة. وقد اتضحت ملاءمة هذه الثقافة في وقت تصاعدت فيه حدة الكراهية والتعصب والعنصرية. انظر المرجع نفسه ص 88.
[6]ـ دليل المدرسة المواطنة، منشورات منتدى المواطنة، 2007، ص 60.
[7]- Olivier reboul: la philosophie de l'éducation, op.cit p 122.
[8] - Ibid p 131.
[9] - Ibid p 127.
[10] ـ اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين: الميثاق الوطني للتربية والتكوين، يناير 2000.
[11] ـ وزارة التربية الوطنية، لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض الجزء 3 ، المناهج التربوية للسلك الإعدادي، ربيع الأول 1423ـ يونيو 2002 .
[12] ـ للمزيد من الاطلاع انظر المرجع نفسه ص ـ ص 1ـ 2.
[13]- وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي: من أجل نفس جديد لإصلاح منظومة التربية والتكوين، مشروع البرنامج الاستعجالي 2009-2012 ، القرير التركيبي، يونيو 2008، انظر فيما يخص القيم : المشروع العاشر: تأسيس "مدرسة الاحترام"، ص37.
[14] ـ وزارة التربية الوطنية ووزارة حقوق الإنسان، اللجنة المشتركة المكلفة بتنفيذ البرنامج الوطني للتربية على حقوق الإنسان، دليل مرجعي في مجال حقوق الإنسان، مطبعة المعارف الجديدة الرباط،[ د.ت].
[15] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، حصيلة برنامج التربية على حقوق الإنسان والمواطنة لقطاع التربية الوطنية، الرباط 8 شتنبر 2006.
[16] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، إدماج مفاهيم مدونة الأسرة في المناهج التربوية، دليل التكوين، نشر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( اليونسف، مكتب الرباط)، منشورات الألوان الجميلة، فبراير 2005.
[17] ـ وزارة التربية الوطنية، إعداد أمينة لمريني الوهابي بمساهمة مليكة غفران، دليل بيداغوجي للتربية على حقوق الطفل، منشورات الألوان الجميلة، 2003.
[18] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، التربية على حقوق الإنسان والمواطنة في منظومة التربية والتكوين (صيغة أولية)، يناير 2007.
[19] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، المذكرات الصادرة في مجال المواطنة وحقوق الإنسان والشفافية، [د.ت].
[20] ـ المذكرة رقم 117 الصادرة بتاريخ 25 أكتوبر 2002 حول تعميم منهاج التربية على حقوق الإنسان. وهناك مذكرة أخرى تهم إدماج مبادئ مدونة الأسرة وقيمها في المناهج التربوية، صدرت بتاريخ 5 أكتوبر 2004 تحت رقم 126.
[21] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، التربية على حقوق الإنسان والمواطنة في منظومة التربية والتكوين ، م.سا ص 15.
[22] ـ أحمد أيت إيزة وآخرون: واحة التربية الإسلامية ، منشورات المدارس ، ط4، 2008 . تمت المصادقة أيضا على كتابين آخرين، وهما: في رحاب التربية الإسلامية، مكتبة السلام الجديدة والدار العالمية للكتاب، وفضاء التربية الإسلامية، المعارف الجديدة.
[23] ـ محمد عبد الرحماني وآخرون: فضاء الاجتماعيات، مكتبة المعارف، ط5، 2008. تمت المصادقة على كتاب آخر: في رحاب الاجتماعيات، مكتبة السلام الجديدة والدار العلمية للكتاب، طبعة 2008.
[24] ـ اعتمدنا :عبد الرحمان البحياوي وآخرون: الرائد في اللغة العربية، دار النشر المغربية، طبعة 2004. وصادقت اللجنة على كتابين آخرين وهما: المختار في اللغة العربية، دار النشر والتوزيع المدارس، والمفيد في اللغة العربية، دار الثقافة.
[25]ـ وهو ما يحث عليه دفتر التحملات الخاصة المتعلق بتأليف وإنتاج الكتاب المدرسي ، المستوى الأولى من التعليم الثانوي الإعدادي، أكتوبر 2003. في رقم 18 من المواصفات الخاصة بالمحتوى ثم الإلحاح على ما يلي: " تضمين الكتاب المدرسي قضايا جديدة أو حينية تتعلق بالتربية على التنمية المستدامة ( الصحة والبيئة والمواطنة..)"|.
[26] ـ على نحو مذكرة : تفعيل الأندية التربوية بالمؤسسات التعليمية، تحت رقم 158، بتاريخ 20 رمضان 1422، الموافق ل:6 دجنبر 2001.
[27] ـ مذكرة : تعميم منهاج التربية على حقوق الإنسان، تحت رقم 117، بتاريخ 18 شعبان 1423، الموافق ل 25 أكتوبر 2002.
[28] ـ ميلود عثماني وآخرون: المختار في اللغة العربية ، دليل الأستاذ، مكتبة المدارس ـ الدار البيضاء، ط1، 2004، ص/ص 39ـ41.
[29] ـ وزارة التربية الوطنية، لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض الجزء 3 ، م.سا ص ـ ص 40ـ41.
[30] ـ من التزامات المدرسة المواطنة : حب الوطن، وممارسة الحقوق، والقيام بالواجبات، والمشاركة في الحياة المدرسية، واحترام الآخر وثقافته، واحترام الالتزامات، والتشبع بروح التضامن، والمساهمة في التنمية، والمحافظة على البيئة. انظر في هذا الصدد: دليل المدرسة المواطنة، م.سا، ص 60.
[31] ـ لكي يكون المتعلم مواطنا فعالا يجب عليه القيام بمجموعة من السلوكات واحترام جملة من الإجراءات:
ـ أن ينخرط في الهيآت المهتمة بالشأن العام وفق قناعته الشخصية.
ـ أن يلتزم بالقوانين التي يتم سنها في بلده بطرق شرعية وقانونية.
ـ أن يعارض ما يعتبره منافيا للقوانين، وأن تكون معارضته مسؤولة وبناءة وبالطرق البعيدة عن التطرف أو العنف.
ـ أن يقر باحترام حقوق الآخرين وأفكارهم رغم اختلافه معها.
ـ أن يؤدي واجباته المختلفة ولا بتهرب منها.
ـ أن يساهم في تخليق الحياة العامة سلوكا وممارسة.
ـ أن يساهم في الاستحقاقات التي يعرفها بلده، ويعمل على الحصول على المعلومات الضرورية في أي موضوع يهم الشأن العام ويريد أن يتخذ بشأنه قرارا ما.
انظر المرجع نفسه ص ـ ص 23 ـ 24.
[32] ـ وزارة التربية الوطنية، لجان مراجعة المناهج التربوية المغربية للتعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، الكتاب الأبيض الجزء 3 ، م.سا ص ـ ص 38ـ47.
[33]ـ تأتي في الدرجة الأولى الكفايات الآتية: التواصلية والمنهجية والثقافية. ثم تليها الكفايتان الاستراتجية والتكنولوجية.
[34] ـ يعنى بها : معرفة الذات والتعبير عنها، والتموقع في الزمان والمكان، وتعديل السلوكات الفردية وفق ما بفرضه تطور المعرفة والمجتمع والعقليات، والقدرة على التكيف مع المؤسسات الاجتماعية والبيئية بصفة عامة.
[35] ـ Anaisabel Prera Flores & Patrice Vermeren: Philosophie de le culture de la paix , L'Harmattan, 2001, P14.
[36] - Ibid p 28.
[37]- George Roche: Quelle école pour quelle citoyenneté,ESF éditeur 1998,91.
[38]- Ibid p 90.
[39] ـ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي ، قطاع التربية والنكوين ـ رابطة التربية على حقوق الإنسان: نتائج قراءة الكتب المدرسية الجديدة من زاوية حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، التقرير النهائي، المعارف الجديدة، 2005.
[40]- Paul Ricoeur : La mémoire, l'histoire et l'oubli , éd Seuil, 2000,p96.