حرر في الثلاثاء 08-06-2010 08:18 أ£أ“أ‡أپ
صدر مؤخرا كتابان للدكتور محمد الداهي. يحمل الأول عنوان سيميائية الكلام الروائي ( منشورات المدارس، الدار البيضاء 2006)([1])، أما الثاني فموسوم ب التشخيص الأدبي للغة في رواية الفريق لعبد الله العروي (منشورات دار الأمان، الرباط 2006). صدَّر الناشر الكتاب الثاني- الذي سنحاول بيان بعض مفاصله في هذا المقال- بشهادة للدكتور عبد الله العروي تحت عنوان " الفريق وجاذبية الواقع". وفيها بين المفكر والروائي عبدالله العروي الملابسات العامة التي أوحت له بكتابة رواية الفريق (1996) التي تعتبر، في نظر النقاد، من بين الروايات العربية الشاملة التي استطاعت بنياتها أن تستوعب تحولات اجتماعية، وتواكب تأثير الخطابات الإيديولوجية في نفسية البشر وتطلعاتهم. " كان المشروع إذن، من البدء تقنيا، بمعنى أن المراهنة كانت على اللغة والأسلوب. والتعامل مع اللغة، على مستوياتها المختلفة، هو الذي جعلني أنقاد كليا للواقع.. منذ البداية لفت انتباهي عدد اللاعبين على الميدان، أحد عشر بعد الحارس.رقم ساحر ما ذكرت بعض الأسماء ( محمد، علي، الحسين) حتى استتبعت السلسلة كاملة، سلسلة الأئمة وكان الإغراء قويا أن أسحب مكارم الاسم على المسمى. أنقذني من " الخطأ" هم الواقع بقيت أصداء من الميل العابر قد تؤثر في شعور بعض القراء النبهاء. لا تنافي ، إذن، بين الواقعية والرمزية، بل خطر الرمز كامن في الواقع المجرد. واجب الكاتب هو الممانعة. وهذه لا تتحقق إلا إذا شحنت الرواية بأكبر قدر ممكن من دقة وصف وكمال" ص4. يدور الكتاب حول سؤال جوهري يتعلق ليس بدور اللغة في نسخ الواقع وتشخيصه وإنما في قدرتها على جعل القارئ يعتقد بأنها تنسخه أو تشخصه. ويقصد بالتشخيص الأدبي للغة ذلك الوعي الذي يتسم به بعض الروائيين لتمييز الشخوص لغويا وفق انتماءاتها الاجتماعية والطبقية ومواقفها الإيديولوجية. وفي هذا الصدد يستبدل عبدالله العروي مفهوم الأدب المساوي للواقع بمفهوم علائقي يفترض إعادة تشخيص الواقع عبر الكلمات والأخيلة والرموز. وهذا ما يضفي على الكتابة بعدا لعبيا يكشف عن هموم الكاتب وأحلامه وأسئلته. تناول محمد الداهي معضلة التشخيص الأدبي للغة ( أو ما يصطلح عليه كذلك بمعضلة صورة اللغة) بمنهجية سيميائية واجتماعية(Socio-sémiotique).فبعد أن عرض محمد الداهي تصور كريماص وبيير زيما لهذه المنهجية، خلص إلى التركيب الآتي : 1-تشخيص الظواهر الاجتماعية على المستوى اللغة التخييلية، والتعامل مع البني الخارجية للنص بوصفها بنيات لغوية. 2-إضفاء مسحة اجتماعية على المفاهيم السيميائية حتى تتخلص من الطابع السكوني أو البنيوي الصرف. ويتكون الكتاب من الفصول الآتية: 1-الأشكال الأولية للسرد: قدم فيه محمد الداهي نظرة مجملة عن التحول الجوهري في الرواية، ورصد التنظيم التركيبي وما يستتبعه من جهات أساسية وبرامج سردية وبرامج سردية مضادة وآليات الوصل والفصل. واستعان بمقولتي الظهور والكينونة للكشف عن أوجه الشبه بين مدلول المظاهرة ( ما حدث في الدار البيضاء) ومدلول البركان (ما حدث في ميسور). 2-التمفصلات الدلالية للزمن: حاول التوفيق بين التقنيات الزمنية وأبعادها الدلالية؛ وذلك بالتركيز على موضوعاتية الزمن المتواترة، وتزمينها سيميائيا، وبيان تجلياتها الخطابية، وتدارك ما لبعض المفاهيم الزمنية من حمولات موضوعاتية ودلالية، واستثمار بعض تصورات ميخائيل باختين حول الكرنطوب، وجعل التجربة الزمنية مرتبطة بالمتلفظ بوصفه ذاتا اختبارية أو ذاتا نصية تثمن الزمن من الوجهة الاجتماعية. 3-التناص: تعامل محمد الداهي مع التناص بوصفه آلة لامتصاص اللغات الشفهية والمكتوبة، والتصرف فيها بإدخال تحويلات وتعديلات عليها، وإعطائها منزلة خاصة داخل الراوية. وقد مكن التناص الباحث من تشخيص الوضعية الاجتماعية واللغوية، واستنتاج اللغات الاجتماعية التي كانت سائدة في المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها (1986-1985). 4-اللغات الاجتماعية: اشتغل محمد الداهي على جملة من الخطابات الاجتماعية ( الخطاب الليبرالي، الخطاب الديني، خطاب السلطة، خطاب الرأي العام، خطاب الجمعية الرياضية..) مبينا مقوماتها المعجمية والدلالية، ودورها في تعميق الهوة بين التطلعات والواقع، وتشخيص عوائق التحديث في المجتمع. 5-اللغة الثالثة: أفرد محمد الداهي فصلا للغة الثالثة التي تعتبرها رواية الفريق نموذجا للغة المحكية، ذولك للتوقف عند بنياتها التركيبية والنحوية والمعجمية والصوتية، واستخلاص الإيحاءات الطبقية والإقليمية منها. 6-إيحاءات اسم العلم: اعتبر اسم العلم دليلا لغويا، مشددا على بعده اللغوي ومساهمته في إغناء التعدد الصوتي والدلالي للرواية. وقد اتضح، من خلال التحليل، الوعي الكراتيلي بالأدلة عند الكاتب. فهو اختارها بناء على ما تتضمنه من تعليلات صوتية وصرفية واشتقاقية، وما تخضع له من قواعد منطقية وجمالية وإيديولوجية. 7-ملاءمة الكلام في البنية العاملية: أبرز الباحث مدى أهمية الكلام في تحريك البرامج الحكائية، ونقل الفعل من العالم الطبيعي إلى العالم السيميائي، وتمييز القوى الفاعلة حسب قدرتها على التواصل والإقناع (وهو سيتوسع فيه في كتاب سيمائية الكلام الروائي). من خلال هذه الكتاب نخرج بالتأملات الآتية: 1-حاول كتاب محمد الداهي أن يعيد الاعتبار لدور الأصوات الإيديولوجية والذات الفاعلة والأنساق الثقافية في إنتاج النص الروائي وإضفاء الحركية عليه. ولهذا تحرر الباحث نسبيا من التصور البنيوي الذي كان يبحث عن العلاقات الشكلية في النص على نحو يجردها ويفرغها من حمولاتها الدلالية. 2-أعاد النظر في بعض المفاهيم حتى تكون منسجمة مع تصوره النقدي ( التوليف بين المقاربة السيمائية والمقاربة الاجتماعية). فهو، في غياب تحليل اجتماعي للوضعية الاجتماعية اللغوية، لم يتعامل معها بوصفها معطى خارجيا، وإنما استنتج معالمها الكبرى من بنية النص الروائي، وحصرها في لغات اجتماعية تبين موقف بعض الفئات الاجتماعية من التحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب خلال الفترة الزمنية المتحدث عنها. كما أنه استبدل مفهوم الرؤية للعالم باللغة الاجتماعية(Sociolecte) التي تعتبر بنية خطابية يتحكم فيها مفهوم الملاءمة في اختيار الألفاظ وتنظيمها في شكل تشاكلات دلالية. وهكذا بدلا من يسقط معطيات اجتماعية وإيديولوجية على النص عمد على استنتاجها منه معززا أطروحة مفادها أن البنيات الاجتماعية ملازمة لعوالمه الداخلية وأن العلاقة بين الاجتماعي والأدبي تتشخص على المستوى اللغوي ( من خلال التهجين، والأسلبة، والتنويع، والمحاكاة الساخرة، والأجناس المتخللة)، ومدعما المحايثة النصية في تقاطعها التحولات الاجتماعية التي تحكمت في إنتاج الرواية، وتفاعلها مع الذوات الفاعلة ( الأصوات المتعددة) التي أسهمت في تنويع بنياتها بالتعدد اللغوي و العينات الإيديولوجية(Idéologèmes). 3-لقد أسعفت اللغات الاجتماعية المستخلصة من الرواية على إبراز عوائق التحديث في المجتمع المغربي، واستجلاء تصاعد المد التقليدي في مختلف أشكاله و تجلياته. وتتمثل عوائق التحديث في عدم قيام الوسائط الاجتماعية ( وفي مقدمتها الجمعية الرياضية) بدورها التأطيري، واستغلالها من ذوي النزوع التقليدي لتسريب قيم قديمة والحض على " الجهاد"، وتهافت الناس على الانخراط فيها ليس اقتناعا بمحتوياتها وإنما لإدراك مآربهم الشخصية ( كل شخصية يحذوها أمل في تحقيق غرض من الأغراض الشخصية) ، وإحياء أشكال الترابطات الاجتماعية التقليدية ( التضامن القبلي والعشائري). وهذا ما جعل شخصية واحدة ممن راسلتهم لجنة المساندة تقاطع المشروع الرياضي بمدينة الصديقية بدعوى أنه يقوم على إثارة التنابذ والعصبية القبلية بدلا من إذكاء روح التعاون والتعارف. " لقد جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. ما قال: لتناحروا ولتمايزوا. لو قلتم هذه جمعية سكان لإذكاء روح التعاون لكانت فكرة حميدة. لكن قلتم هذه جمعية أولا والفرق لايحتاج إلى توضيح. لا يحق أن نرجع إلى عهد التنابذ بعد أن هدينا إلى كلمة سوء. لست منكم ولا أنتم مني. والله يحكم بالحق بين القوم الظالمين" ص109. وهكذا، يتضح أن الرواية ترهص بتنامي التقليدية الجوهرية ( بتعبير جورج بالاندييه G. Balandier) التي تتجسد في الجمود اللغوي والثوابت الفكرية المستوحاة من الماضي. وتعمل هذه اللغة الاجتماعية على تدريب اللاعبين على الجري فجرا عبر أهم أضرحة المدينة مرددين شعارات دينية وصوفية (على نحو الله حي الله حي..)؛ وذلك لإعدادهم بدنيا وذهنيا للمباراة المصيرية التي ستجرى على أرضية الملعب الشرفي في البيضاء ( شكل من أشكال المجاهدة). كما أنها تشحن المنخرطين في النادي بالتعاليم الرياضية سواء أتعلقت بالجسد أو النفس المطمئنة. ويستسيغ المنخرطون هذا الخطاب لكونه يستجيب لتطلعاتهم ويخاطب وجدانهم. في حين يجدون صعوبة كبيرة في فهم خطاب معقلن على نحو المحاضرة التي ألقاها سرحان بالنادي عن العقلية الأمريكية. علقت الجماهير آمالا عريضة على الفريق الجديد لإعادة أمجاد الماضي وبطولاته، ونسيان الفريق القديم الذي لم يكن في مستوى تطلعاتهم وأمانيهم. وبالمقابل، كانت السلطة تنتظر تعثر الفريق الجديد للتدخل لحله، ومحاسبة المؤطرين على نوياهم وسلوكاتهم، وإعادة التوازن إلى الحياة الاجتماعية. خانت " البركة" الفريق الجديد في المقابلة المصيرية، وخابت آمال الجماهير التي رفعت شعارات " دينية" منددة بمستواه الضعيف، واحتجت في مظاهرة عارمة ومدمرة اضطرت الشرطة للتدخل واعتقال المدبرين المعروفين لديها ( وخاصة شعيب ذو النزوع التقليدي وصاحب فكرة تأسيس فريق جديد في الصديقية، وسرحان ذو النزوع الليبرالي الذي انضم إلى الجمعية الرياضية لتحقيق غرضه الشخصي ( تنظيم مهرجان العيطة)). 4-لا يمكن أن نفهم مدلول المظاهرة إلا بربطه بمدلول. فالحدثان معا وقعا في التوقيت عينه. فكل حدث يحيل على الآخر، ويفسره، ويبين أبعاده الرمزية والدلالية. فما أراد الروائي أن يوصله إلى القراء هو أن ما حدث في البيضاء ( وما سبق أن حدث في الصديقية ومدن أخرى) هو بركان اجتماعي يضرب بجذوره في أعماق نفسية البشر. فمن الفينة إلى الأخرى تطفو على السطح مظاهرات/براكين غير متوقعة تقلب كل الحسابات والتحليلات السياسية رأسا على عقب، وتبين ضعف التأطير السياسي والمدني وهشاشة التنظيمات الوسائطية . وتردد الجماهير الغاضبة في مثل هذه التظاهرات شعارات التقليدية الجوهرية التي تمتح من معين السلف الصالح، وتستعين بالصالحين والأوليا لجلب النصر ودفع الهزائم المتكررة والمفجعة. 5- تنتهي الرواية بإخفاق فردي وجماعي. فعلى المستوى الفردي خابت أمال الشخصيات التي رغبت في تحقيق أغراضها الشخصية. وعلى المستوى الجماعي تم الاحتفاظ بالمدبر ( شعيب) رهن الاعتقال، و فتح ملف قضائي لمحاكمة الجمعية الرياضية بدعوى أن ما حدث ليس نتيجة الصدفة، وحل الفريق الجديد." قلت مرارا آن أن تنطق حل الفريق وحرم اللعب. خمدت النار وعاد السكون، همدت الأرض، واستقر الكون" ص367. وبتفكيك الفريق انتهى حلم أغرام المراهن على الانتخابات، وخاب أمل سرحان في تنظيم مهرجان للطرب الشعبي. وبانفجار المطبخ يمكن أن تتأزم العلاقة بين خميطة وعلي نور. وتأزمت نفسية المختار وشان إن لم نقل إنها وصلت إلى حد الانهيار النهائي لأنه لم يجد من يساعده على إيجاد حلول لمشاكله المزمنة. وانتهت قصة ذات العينين الزرقاوين بتورط عمر في مصيبة أخلاقية.
******************** 1-يحلل الكلام الروائي في أربع روايات عربية : ذات لصنع الله إبراهيم وشطح المدينة لجما ل الغيطاني وبرج السعود لمبارك ربيع والضوء الهارب لمحمد برادة.
|