لكل بداية دهشتها، محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=460
الكاتب: mdahi


 حرر في الإثنين 19-01-2015 05:37 أ£أ“أ‡أپ

القصة في شغب الذاكرة عبارة عن شظايا متناثرة يتلقاها القارئ كما لو كانت قطعا من المربكةPuzzle . وإن تجشم عناء إعادة ترتيب القطع ووضعها في مواضعها، تبقى أحداث منفلته وطائشة وغير معللة من جراء كثرة الحذف  أو التشذيب الذي لحق بالنص، وأثر سلبا على بنيانه العام واتساقه الحكائي.


يمكن للقارئ أن يقرأ النص من أية محطة دون أن يفقد البوصلة لتعرف ما سبقها وما لحقها. وكل محطة هي عبارة عن لوحة يعرض فيها السارد تجربة من تجاربه في الحياة، ويجلي مواقفه وانفعالاته حيال ما يحدث في الواقع، ويستثمر تقنيات تيار الوعي ( على نحو التداعي الحر، والتشظي، والهذيان، والاستبطان) حرصا منه على تشخيص ألامه وأماله في مجتمع عنيد ومقاوم وجشع، والبحث عن الطمأنينة الهاربة منه باستمرار.


وهو، عموما، يمثل جيلا من الشباب ترعرع وتعلم في ظروف قاسية ومحبطة، يطبعها الحرمان والكدح والفقر المدقع. ورغم بعد المدرسة ورتابة المقررات الدراسية وثقلها على النفس أصر على مواصلة المشوار الدراسي متحديا صروف الدهر وتقلباته إلى أن حقق جزءا من أحلامه وأمانيه.


لما أصبح في عداد الموظفين شعر بإحباط أكبر نظرا لارتداد كثير من الأحلام والتطلعات إلى الدرك الأسفل، واستفحال مظاهر التمايز والتحايل والتقاعس، والاحتكام إلى أساليب الخداع والتزلف والنفاق باعتبارها وسيلة من وسائل الترقي والاغتناء وكسب مودة الرؤساء وثقتهم ." أنت إنسان طيب، ولا ينقصك في العمل إلا أن تظهر رضاك. سلوكك لا يعبر عن ارتياحك. حاول أن تكون عند حسن الظن، وسترى كيف سيعاملك السيد المدير" ص66.


منذ طفولته وهو يشعر بهول المفارقة بين من هو على شالكته ومقاسه فقيرا ومحتاجا ومحروما وبين من يجد في فمه منذ ولادته  ملعقة من ذهب. حكم على أمثاله أن يقاسوا  ويعانوا من النعلة السيزيفية في حين تجد طينة من البشر كل الوسائل متوفرة وكل السبل معبدة لتحقيق ما تصبو إليه وشغل مناصب عليا دون أن تتوفر غالبا على المؤهلات المنشودة.


لما ولج السارد إلى الوظيفة العمومية وجد نفسه أمام مدير متنطع ومفروض على الجميع. يبني علاقاته الإدارية ليس على أساس الكفاءة والمردود وإنما وفق معياري التزلف والولاء. وأي موظف يتحلى بالنزاهة والجدية أو يتسم بالحماس النضالي يرسل بلباقة إلى " مصلحة الدراسات والأبحاث" للتخلص منه، واستنزاف مؤهلاته المهنية، وإرغامه على الموت البطيء.


يبدو السارد صوتا ناشزا في الإدارة. لا يساير الجماعة في غيها وضلالها ونفاقها, ينظر إلى الحياة من منظور مخالف، وهو ما جعل زملاءه ينعتونه بالحالم والمتشائم والعدمي. يعير عكسهم، أهمية كبيرة للثقافة باعتبارها أداة للخروج من نفق التخلف، ونفض الأفكار البالية والمتكلسة، في حين يكثرت غيره ( على نحو شعيب) لتلوين الحياة بما يروقه من ألوان حرصا على استجلاب المتعة المرجوة. مما حفز السارد على نعتهم بالمتوهمين الذين لا يتعاملون مع الواقع كما هو وإنما يضفون عليه أوهاما وأصباغا إرضاء لنزواتهم العابرة والظرفية. ولذا حرضهم على ترك الأصباغ جانبا  وتبديد الأوهام  تطلعا إلى  الواقع كما هو دون تزييف وتصنع. يتحدث بصوت مرتفع متطلعا إلى حياة أفضل تسعف البشر على التواصل والتفاهم فيما بينهم، وردم الهوة بين الذات ومطالبها، واسترجاع " الكلية الخفية" التي تسم العالم الملحمي.


لا يجد ذاته إلا في الحانة حيث تحل لغة البوح محل لغة الخشب. يتخلص نسبيا من سلطة الأوامر ليصغي إلى أناس مثله مقهورين ومعدمين لفظتهم الحياة إلى هذا الفضاء كقطع غيار غير قابلة للاستعمال. و لكنهم، مع ذلك، ينعمون مؤقتا بجملة من القيم الأصيلة ( المساواة والمحبة والحرية) التي تقض مضجعهم، ويصدعون بما يشاؤون عكس ما ما يعانونه في واقع أخرسهم وأفحمهم بما يحفل به من مفارقات فادحة .


ما يلفت النظر في النص هو تواتر لفظ " المفتاح" إفراد وجمعا مؤديا  -حسب رولاند بارث في دراسته القيمة الموسومة ب " التحليل البنيوي للسرد"- وظيفتين متكاملتين:


أ‌-       وظيفة توزيعية: لا يكتسب المفتاح قيمته الدلالية ووظيفته السردية إلا بعد استعماله. استعمل أكثر بالمعني الاصطلاحي. يستعين السارد بالمفتاح للانتقال من العالم الخارجي إلى بيته لاستمتاع بحميميته وقضاء حاجاته ونزواته. ثم استعمل بالمعنى المجازي. ويقصد به ارتياد المجهول وفتح الأبواب الموصدة سعيا إلى استرجاع بصيص من الأمل، والمراهنة على تحقيق المآرب والأغراض الشخصية أو الجماعية.


ب‌-  وظيفة إدماجية: يستدعي فهم وظيفة " المفتاح" ضرورة الانتقال إلى مستوى آخر، أي العبور من السرد إلى الرمز أو الإيحاء. وفي هذا الصدد يكتسي اللفظ معاني رمزية وإيحائية تدل ، مجملا، على فتح الأبواب المغلقة، وتذليل المصاعب، والانتقال من المعلوم إلى المجهول، والسعي إلى تحقيق الأهداف المرجوة. يجد السارد المفاتيح المناسبة ليس لتحقيق مآربه الشخصية فحسب وإنما لتوسيع دائرة الأمل، والانخراط في الحياة بمحبة وشغف أكبر. وما يزيد من بؤس الإنسان عدم اهتدائه إلى المفاتيح المناسبة أو اقتصاره على المفاتيح ذات الصلاحيات المحدودة. ويظل، في مثل هذه الحالة، مقتصرا على المفتاح الذي يفضي به إلى بيته البئيس والمغلق، معلقا آمالا عريضة على المفتاح الذي يمكن أن يفتح له آفاقا جديدة، ويسعفه على استرجاع الأمل في الحياة.


عموما، يفتح هذا النص ، الذي يتقاطع فيه السيرذاتي والروائي، آفاقا واعدة لصاحبه شريطة أن يفترش مدر الكتابة، ويداري غدرها ومكرها وخداعها، ويستوعب دهشة البداية ومزالقها ومغامراتها، ويلاحق ما ظل عصيا وسرابا في تجربته الأولى لعله يمسك به ويطوعه ويسكنه المنزلة المستحقة.


غالبا ما تكون البداية مثقلة بهواجس التردد والشك والخوف من الإحباط والإخفاق. ولقد استطاع عبد الله العكوشي، بفطنته وتواضعه، أن يخلق حدثا لباكورته السردية، ويحفز ثلة من القراء على قراءتها وإعادة تشكيل عوالمها. إن الغاية من أي عمل هو أن يقرأ ويروج. وفي حال العكس يظل جثة هامدة أو آلة خاملة. ومن بين حسنات شغب الذاكرة  جمع ثلة من القراء المتشوقين لقراءتها، والتفاعل إيجابا مع محتوياتها،ومنح صاحبها المفاتيح التي بإمكانها أن تورطه أكثر في الكتابة السردية بصفة عامة.



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009