كتاب طريق الأمل، تقديم د. محمد الداهي
صدرت مؤخرا عينة من الكتب تحوم حول الأمل، وهو ما يجعل المواطن، الذي أنهكته الظروف الاجتماعية المزرية، يستشرف آفاقا واعدة، ويتطلع إلى غد أفضل. ومن ضمن هذه الكتب نذكر أساسا كتاب " طريق الأمل" لستيفان هيسيل Stéphane Hessel ( مناضل سياسي وكاتب ) وإدغار موران Edgar Morin (عالم اجتماع وفيلسوف) (منشورات فيار، 2011). نشر هذا المقال بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم الجمعة20 أبريل 2012، العدد10.070).
وهو، في مجمله، يجمع بين إثارة القضايا والمشاكل المقلقة التي تقض مضجع كثير من البشر في المعمور وبين تقديم اقتراحات عملية حتى يسترجع المواطن ثقته بنفسه وبالآخرين وبالمؤسسات، وينعم، كغيره، برفاهية العيش وكرامته.
لا تعيش فرنسا، كغيرها من الدول، في منأى عن المشاكل التي تهدد العالم بأسره. ومن ضمنها انتشار الأسلحة النووية، وتفاقم النزاعات الاثنية والدينية، وتدهور الغلاف الإحيائي biosphère، واستفحال الأزمة المالية."إن الأزمة العظمى للإنسانية تكمن في عدم قدرتها على إدراك الإنسانية" ص8. إن كان العالم قد عاين، فيما يسبق، أزمة المنظومة الشيوعية في تحقيق كثيرا من أحلامها وآمالها، فهو يواكب الآن إفلاس الليبرالية الجديدة، وهو ما ينذر بأزمة اقتصادية واجتماعية في معظم بلدان المعمور. " أضحى كوكبنا مهددا بالموت والانمساخ" ص11. تجلي هذه العبارة المجازية مدى تأزم العالم وتعرضه لمشاكل معقدة ومتفاقمة قد تؤدي به إلى السكتة القلبية أو تشوه معالمه.
تتأرجح العولمة بين منحيين متناقضين. أحدهما فاتن، ويتمثل أساسا في التحام أجزاء الكون فيما بينها في إطار الأرض/ الوطن. وهو ما يشجع على تضامن الشعوب وتحالفها، وتعزيز التعدد الثقافي، والقضاء على كل العوائق التي تؤجج الفتن ومشاعر الكراهية والبغضاء والعنف تجاه الآخر. ومهما كانت إيجابيات العولمة ينبغي التخلص منها. ومن ثمة يتجلى منحاها السلبي التي يقتضي اتخاذ تدابير فعالة لإنقاذ الإنسانية من التشرذم والصراعات، وإرساء دعامات الاقتصاد المحلي والاجتماعي، والحفاظ على التغذية الطبيعية والصناعة التقليدية وتجارة القرب، وتوفير الخدمات الضرورية في المناطق التي تعاني من مصاعب جمة فيما يخص النقل العمومي والتعليم والصحة والثقافة والطاقة الخضراء.
تحتم تعددية الأقطاب على فرنسا الانحياز إلى أوروبا لتعزيز وحدتها واستقلالها، وتقوية إراداتها السياسية. وهذا ما سيمكنها من مواجهة مشاكل العصر سعيا إلى تفهم البشر ( نهج سياسة قائمة على البعد الإنساني)، وإقامة سلم مستدام ( الدفع في اتجاه تناغم الحضارات وتحالفها عوض تصادمها وتنابذها)، واقتراح حكامة عالميةgouvernance mondiale على الأمم الأخرى. ينبغي لأوروبا أن تنهج سياسة مشتركة لإدماج المهاجرين، واستئصال دابر النزاعات المفضية إلى البربرية أينما وجدت واشتعل فتيلها.
وفي السياق نفسه علينا أن نبث في النفوس السلوك الإنسانويhumaniste ، والديمقراطية الحقيقية، واحترام حقوق الإنسان.إن ارتداد العالم إلى الهاوية، تجلى في مظاهر مختلفة ومتباينة في مختلف مناطق العالم. ومن تجلياته اندلاع ثورات الربيع العربي، وتأجج المظاهرات الاجتماعية في إسبانيا واليونان وانجلترا وإسرائيل والهند احتجاجا على تردي الخدمات الاجتماعية، وتناسل مشاكل الفقر والرشوة والتمايز الاجتماعي والتهميش والإقصاء والحقارة .
ومن بين المظاهر السلبية التي أضحت سوسا ينخر في كيان البلدان الغربية، نذكر أساسا عزلة الفرد ووحدانيته، وانحسار أساليب اللباقة في تعامله وتوصله مع الآخرين بل حتى مع أفراد عائلته وجيرانه وزملائه في العمل. وهو مما أسهم في إصابة المواطنين بأمراض نفسية وعضوية مزمنة، وتعاطيهم للمخدرات، وإدمانهم الكحول، وتنامي مشاعر الكراهية والحقد حيال الآخر. انحسرت المحبة بشكل مهول مما ينذر بانهيار أركان المجتمع، وتصدع بنياته ومؤسساته. وفي هذا السياق نورد تأكيد أكسيل هونيتAxel Honeth على المحبة بوصفها شكلا ساميا للاعتراف بالآخر" فبفضل المحبة يمكن للفرد أن يسترجع ثقته بنفسه" ص21.
أصبحت ظروف العمل صعبة بسبب عوامل المنافسة والترشيد مما يثقل كاهل العمال، ويعرضهم إلى أمراض ومتاعب كثيرة، ويعجل بطردهم أو إحالتهم على المعاش المبكر. وفي هذا السياق ينبغي مراجعة السن المحدد للتقاعد وذلك بإعداد تقارير منتظمة عن الحالة الصحية والنفسية للعامل. ويجب، علاوة على ذلك، توفير الأجواء المناسبة للعمل، وتمتيع العامل بجودة الحياة حتى يشعر بإنسانيته وكرامته، ويحس بالطمأنينة التي تحفزه أكثر على الإنتاج والابتكار والإبداع . ولا يمكن أن نغيثه عند الحاجة فحسب، وإنما يجب أن نقدم له مساعدات عمومية ونوفر له أعمالا اجتماعية حرصا على إدماجه في النسيج الاجتماعي، واستمتاعه، على غرار غيره، بالعيش الكريم.
إن إحداث هذا التحول في نمط الحياة والعيش يقتضي الانتقال من الدولة المسعفةétat assistanciel أو الراعية état providence إلى الدولة المستثمرة اجتماعيا، التي تصبو إلى ضمان جودة الحياة للمواطنين بفضل تطوير العمل الجمعوي والتعاوني والتعاضدي في مجال الإنتاج والاستهلاك والعمل، وسن قوانين تشريعية ومالية جديدة لتمويل مشاريع القرب، وخلق مناصب الشغل، وتعزيز أشكال التضامن الاجتماعي.ويجب في الاتجاه نفسه توزيع منح للعائلات المعوزة أو المحتاجة ( على نحو ما هو معمول به في البرازيل (المنحة العائلية Bolsa familia) حتى تتوفر على الوسائل المادية اللازمة التي تكفل لها تربية أبنائها وتعليمهم وإسعافهم.
ومن بين المشاكل الاجتماعية الملحة التي ينبغي معالجتها بالحزم والحرص اللازمين نذكر أساسا:
أ-التعليم:
لا يمكن أن يحصل تقدم في التعليم إذا لم ينخرط المدرسون في تكوينات مستمرة للتزود بالمؤهلات المهنية الجديدة، وإن لم تحدث المدرسة قطيعة مع أساليب التلقين التقليدية. تسعى الطرق الفعالة في التعليم إلى تدريب المتعلم على المهارات الضرورية التي تسعفه على مواجهة المشاكل وحلها، وتحسين سبل تواصله مع الآخرين، ومواكبة سيرورة الحداثة العلمية والاجتماعية، والانخراط في الديمقراطية المعرفية(تمكين المتعلم من القدرات العلمية والتقنية حتى يستطيع حل المشاكل المعقدة والعصية)، والقدرة على تنظيم المعارف واستثمارها على الوجه المطلوب داخل الفصل الدراسي وخارجه.
ب- تخليق الحياة:
ينبغي توعية المواطن بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه وبواجب التضامن في وقت تنامت فيه مظاهر العبث والتحايل والارتشاء. وهذا ما يحتم إنشاء مجلس حكومي للأخلاق ( مكون من أعضاء الحكومة والمجلس الأعلى للمحاسبة والمجلس الأعلى للقضاء، وشخصيات وازنة تعنى بالجانب الإنساني ) يسهر، من بين مهمات أخرى، على توعية المواطنين بواجباتهم ومسؤولياتهم، ويقترح برامج لتخليق الحياة العمومية وترسيخ المواطنة في المجتمع.
ج- الاستهلاك: يدعو المؤلفان إلى إنشاء مؤسسة عمومية للاستهلاك تضطلع بتوعية المستهلكين والدفاع عن مصالحهم، ومراقبة الإشهار والحد من ظاهرة تلوثه، والإلحاح على توفير التغذية الطبيعية، ومحاربة الزراعة وتربية المواشي الصناعيتين، وتوحيد جهود جمعيات المستهلكين في إطار رابطة حتى يكون لمطالبهم وشكاواهم وقع لدى الجهات المختصة.
د- الثقافة الجمالية:
كثيرا ما نغفل دول الجمال في حياتنا(الموسيقى والأدب والتشكيل). لا مفر لأي سياسة للعيش الراقي من الاعتناء بشعرية الحياة بكل ما تستتبعه من المشاركة العاطفية، والإعجاب والتأمل والافتتان. بالجملة كل ما يسعف المرء في أن يعيش حياة شعرية تشعره بمواطنته وإنسانيته، وتطرب إحساسه ، وتخاطب وجدانه. إن العالم الذي يحفنا عجيب ورهيب في الآن نفسه." إن الجمال يسعفنا على الإعجاب بأنفسنا..." ص53. ولا يجب أن تظل شعرية الحياة حكرا على فئة دون غيرها، وإنما يجب أن ينعم بها الجميع حتى يشعروا بأجمل اللحظات والمشاعر، ويتعرفوا على ما تحويه الطبيعة من محاسن ومفاتن.
لا يمكن أن تحل مثل هذه المشاكل إلا في ظل دولة ديمقراطية تباشر إصلاحات شاملة ( إصلاح السياسية والمجتمع و الفكر ونمط العيش) وتعني، في المقام الأول، بالبعد الإنساني لحفْز الإنسان على الخروج من شرنقة العزلة، والاستمتاع بالمواطنة والكرامة والحرية، والسعي إلى رفاهية العيش. لا يتوخى المؤلفان (ستيفان هيسيل وإدغار موران) من إصدار بيانهما المشترك تأسيس حزب جديد أو الانتماء إلى حزب قديم وإنما تبئير اهتمامهما على أربع قضايا جوهرية ، وهي: الحريات الفردية، وتطوير المجتمع، والأخوة الجماعية (التضامن الاجتماعي)، والطاقة الحية ( بما فيها التغذية الطبيعية). يمكن لهذه القضايا أن تتفاعل مع قضايا أخرى تدعمها الدولة التي تستثمر في الجوانب الاجتماعية سعيا إلى توفير الخدمات الضرورية للمواطن (ما يعزز لديه جودة الحياة ورفاهَتها) حتى يؤدي واجباته ومسؤولياته على الوجه الأحسن.