حرر في الأحد 11-07-2010 08:54 أ•أˆأ‡أچأ‡
وتجمع تلك التأملات بين الرهافة الشعرية التي تضفي مسحات من التخييل على الموصوف وبين البحث عن المعطيات من مظانها، ونقلا عن رواة كرسوا حياتهم جلها لفتن متلقيهم بأروع الحكايات الشعبية وأبدعها. ويتكون الكتاب من ثلاثة محاور: تحديد معنى الفناء ، ثم التعريف بالحلقة، ثم تقـــديم الصـــــور الشــخصية (Auto-portraits) لبعض الرواة المتألقين. 1-يستهل عبد الرفيع جواهري الكتاب بمحاولة القبض على المعنى التداولي للفظة "الفناء". فهي قد توحي للمرء بالموت والعدم، لكنه لما يزور الساحة التي تقترن بها في مراكش، يعاين الحيوية والضجيج والهيجان، أي عكس ما تتضمنه اللفظة معجميا. واضطر عبد الرفيع جواهري إلى تشغيل الاستعارة (المشابهة بين الساحة والحشر الأعظم) محاولة منه إيجاد لغة تسعف على نقل صورة تكدس الناس بجامع الفناء، وتدافعهم بالمناكب، وصياحهم، وتواصلهم بلغات متعددة. ويكرس جواهري المقومات المعجمية ل"لفناء" لإيداع الواقع في سحر الخرافة، وبيان مدى رحابة ساحة جامع الفناء لاستيعاب وتبديد الفوارق الاجتماعية بين ذرية آدم وحواء. 2- تشكل الحلقة شكلا ما قبل مسرحي، له بلاغته الخاصة. ويتطلب من صاحبها ( الحلايقي) أن يكون موسوما بمؤهلات لغوية وذهنية و تخييلية حتى يشنف مسامع رواده، ويدغدغ مشاعرهم، ويستجيب لرغباتهم وتطلعاتهم. « لنتصور هذا الكائن الذي لا يلفت شكله الانتباه يتسلل إلى جامع الفنا باحثا عن زحمة الساحة عن مكان فارغ يؤطره بدائرة بشريه وسط ضجيج أبواق بائعي الأدوية الشعبية وصيحات أولاد أحماد أموس ودقات طبول كناوة وتداخل غناء أحواش والحوزي. يقف هذا الكائن (الحلايقي) أعزل إلا من لسانه وحكاياته ومواجها عزلته الوجودية الحادة" ص21. فهو لا يملك في إلا حكايته التي تعادل إضافة حلقة من الحياة. فكلما كانت مشوقة ممتعة إلا وضاقت حلقته بالمتفرجين الذين يدرون عليه بما جادت به جيوبهم. وكلما خيبت ظنهم كلما انسحبوا إلى حلقات لعلهم يجدون فيه ضالتهم. ولكي يتجاوز العزلة الوجودية أو تهيب المتفرجين يتوقع ردودهم، ويهيئ مروياته مضفيا عليها أصباغا محلية ومفاجآت الإثارة والتشويق. وتتميز الحلقة العادية من حلقة الرواة، بكون الأولى عبارة عن دائرة مكتملة، وبكون الثانية مخرومة. "فالرواي يحتاج إلى ممر يستعمله للحركة أثناء السرد ويكون على شكل ثغرة في دائرة الحلقة ويسمى " الخلخال" ويقع دائما خلف الراوي حيث يسمح له بالقهقرى والاندفاع إلى الأمام" ص22. ويجمع أصحاب الحلقة على قواعد، أهمها قاعدة ذهبية تتكون من أربعة حروف : الجيم ( يرمز إلى الجرأة)، ثم التاء ( الثبات وتجنب الوقوع في شرك الاستفزاز)، ثم الميم ( المركة: انعدام الخجل)، ثم القاف ( القباحة أي الوقاحة). ويستعملون لغة مشفرة ( الغوص) للتواصل فيما بينهم، وتنبيه بعضهم حتى لا يدرك المتفرجون مقاصدهم. ففي حالة تسرب لصوص إلى الحلقة يستعملون " أولاد علي". ويسمون المخبرين ب" السراسر"، والكذب ب"سيدي منصور"، والجمهور ب"النبور"، والفاتحة الصغرى ب"التشليلة"، والفاتحة الكبرى ب" الجهمة"، ومائة درهم ب"عين موكة"، وعشرة دراهم ب"طازونة". ويلتقي الحلايقية بمقهى خاص بهم هو مقهى "أبا مادان"( ويطلقون عليه بلغتهم "الجوقة") ، وذلك للاسترواح ،وشرب الشاي، وتهيئ وجبات الأكل، وتبادل الخبرات والطرف فيما بينهم، وجدولة الجولات الربيعية ( الغيبة) في بعض المدن المغربية. 3-وإن ترسخت بعض الأسماء في متخيل الناس، فهي قابلة للتعرض إلى النسيان مع تقدم السنين. ويأتي كتاب جواهري- في تساوق مع مبادرات أخرى- للتعريف بها، والإشادة بمجهوداتها، وإعادة الاعتبار لها. أغلب الرواة فارق الحياة، وإن مازالت قسماتهم عصية على النسيان. ولم يبق منهم إلا الأقلون الذين يعدون على رؤوس الأصابع. وقسمهم جواهري إلى صنفين. أولهما صنف يشكل الجيل القديم. ويمثله ثلاثة رواة : أحمد التمعيشة ( من مواليد 1930 على الأرجح، راوي الحكايات الشعبية)، و مولاي أحمد الفطن (من مواليد 1926 ، مداح يحكي القصص المنظومة مستعينا بالموسيقى)، وسي امحمد الجابري ( من مواليد 1935، رواي القصص والغزوات ). وثانيهما صنف الجيل الجديد. وفي هذا الصدد ركز جواهري على اسمين متألقين ، وهما : عبد الرحيم الأزلية، ثم محمد بلهاشمي باريز. فقد ساعدهما التمدرس على كتابة النصوص وتقطيعها وترتيبها، والانفتاح على نصوص حديثة. واللافت للنظر في تجربة محمد باريز أنه ارتاد آفاقا لم يدركها غيره. فإلى جانب أنه اشتغل على نصوص إدمون عمران المليح، وابن رشد، وبورخيص، أقام حلقته بجامعة سيام 3 في فرنسا على هامش الاحتفال بذكرى ابن رشد سنة 1998، وقد شد انتباه المهتمين بطريقة تعامله مع نص عالمي لبورخيص وموهبته في السرد والإلقاء والابداع. وفي الأخير، يدعو جواهري الجهات المسؤولة (وزارة الثقافة والاتصال، ووزارة السياحة، والمؤسسات البلدية بمراكش) أن تولي ساحة جامع الفناء عناية خاصة حتى تحافظ على وظيفتها الثقافية الفرجوية بعيدا عن مظاهر المسخ والشعوذة. ويحاول أن يوقظ لجنة إنقاذ مدينة من سباتها المعيق لتفتح عيونها على هذه الساحة التي تعتبر قبلة للسياح والزوار ، ومصدر إلهام كثير من المبدعين، ومسلاة تعيد السلوى والطمأنينة إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وتستحق عن جدارة أن تصنف ضمن التراث الثقافي الشفهي للإنسانية. -------------- * عبد الرفيع جواهري، جامع الفنا... الصورة وظلالها، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث،ط1،2001. يقع الكتاب في95صفحة. وينضاف إلى الكتب القليلة التي ازدانت جنباتها وأغلفتها بالصور الفتوغرافية
|