حرر في الجمعة 05-10-2012 04:27 أ£أ“أ‡أپ
ما يسترعي الانتباه في مسيرة النقد المغربي المعاصر نضجه، كثرة مقارباته وتوجهاته ومقاصده، انفتاحه على مقاربات مختلفة. تلتقي جميع المقاربات في ملتقى أساس يميزها عن المنهج التقليدي الذي كان يسقط معطيات خارجية ومتعسفة على النص مشوها خلقته على الطريقة البروكستية. تتفق هذه المقاربات،في مجملها، على تحليل النص على نحو محايث، والتركيز على زاوية معينة بالنظر إلى جدواها وملاءمتها. هناك لفيف من النقاد انتبه مبكرا إلى ضرورة وضع جسور بين معنى النص ومبناه حتى ينظر إليه من خلال كينونته الشعرية، وحركيته الدلالية، وتفاعله مع توقعات القراء وتنظُّراتهم. في حين ظلت ثلة وفية للمنزع البنيوي مؤثرة أن تنكب على استنتاج ما يتضمنه النص من سمات شعرية وقواعد مجردة. ورغم مكاسب النقد لم يرق إلى مستوى استحداث اتجاهات لها أتباع ومريديون يحرصون على رد العجز على الصدر، وضمان الاستمرارية بين الخلف والسلف. ولم يكرس تقاليد علمية للنقاش والمطارحة عوض السجال والاستهجان. وهذا راجع إلى عجز البنيات العلمية والثقافية ، لبواعث متعددة،على احتضان مشاريع تتقوى بالروح الجماعية الوثابة، وتتعزز بالتراكمات والمكاسب المحققة. أي بكل ما يمكن أن يضمن لها التوهج والاستمراية، ويقيها من التلاشي والاندثار بموت رادتها أو خفوت نجمهم. من حسنات النقد المغربي، رغم كثرة العثرات والهفوات، أنه استطاع خلال عقود معدودات أن يفرز اتجاهات نقدية متباينة في مرجعياتها وتوجهاتها. وفي هذا المضمار، يمكن أن ندرج مشروع الباحث حسن المودن الذي يرجع إليه الفضل في ترسيخ النقد النفسي في المغرب وتحسين أدائه وإضفاء روح جديدة عليه بعد أن عاين عطالته وتقادمه مما ترتب عليهما تراجع مده وانحسار إشعاعه على المستوى العربي. وهذا ما حفزه على اتخاذ المسافة النقدية اللازمة مع النقد النفسي التقليدي، وتبني مقاربة جديدة عن وعي وتبصر؛ قوامها التحليل النصي وبؤرة تحليها النص الأدبي. ينهض المشروع النقدي لحسن المودن، وإن كان وحده يصول ويجول دون أن ينافسه أو يؤنسه أحد في ركوب غوارب بحره، على أسس يمكن أن تجمل فيما يلي: · يعيد قراءة تاريخ العلاقة بين التحليل النفسي والأدب منفتحا على النظريات والدراسات الجديدة، ومستأنسا بأسئلة مستحدثة لمعاودة النظر في كثير من المنطلقات والمسلمات، وفي مقدمتها استبدال سؤال من قبيل " هل يمكن تطبيق التحليل النفسي على الأدب" بسؤال أكثر ملاءمة " هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي". · لا يتقيد الباحث حسن المودن بمنهجية صارمة تلزم النص بالامتثال لإرغاماتها وقيودها حرفيا، وإنما ينزع أكثر إلى خلق حوار خلاق بين الصرح النظري والمتن المعتمد حرصا على احترام خصوصية النص، والتوغل في سراديبه الداجية بسلاسة ومرونة احتراسا من النمطية والإسقاط والتعسف، ومقاربته بعدة مفاهيمية مناسبة تسهم في توسيع امتدادات الخطاب وآفاقه ، والتحكم في إمكاناتها وإرهاصاتها غير المتوقعة. · يخترق حسن المودن المناطق الملتبسة في لا شعور النص، ويصغي إلى أصوات الكينونة المغفية التي تصدع بالمحظور والمضمر والمسكون عنه في منأى عن الصخب الإيديولوجي، ويلتقط أصداء الكينونة المتكلمة ( بتعبير محمد برادة) وتداعياتها خارج الإرغامات الإيديولوجية وقيودها الصارمة والمتعسفة. من ثوابت مشروع حسن المودن أنه مهتم ( ولا أقول متخصصا) بتجارب روائية معينة وفي مقدمتها تجربة الطيب صالح.. ما يغلب على الممارسة النقدية العربية ذات المنحى الأكاديمي هو دراسة روايات كثيرة سعيا إلى استخلاص ثوابتها المشتركة وقواعدها المجردة العامة. وقلما تجد ناقدا متخصصا في تجربة كاتب ما على النحو المعمول به في الغرب إلى حد غدا، مع مر السنين ، تقليدا يحتذي به ويضرب على منواله. ويمكن أن نعاين، في المنحى نفسه، تخصص مجموعة من الباحثين في دراسة أعمال كاتب من زوايا ومنظورات مختلفة، وسعيها أيضا إلى إعادة طبع مؤلفاته وإصدار مخطوطاته في حلل قشيبة ومنقحة تيسيرا لقراءتها من لدن أجيال جديدة على نحو منتظم. ويعتبر حسن المودن من صفوة المثقفين المغاربة الذين لهم حضور متميز في الساحة الثقافية بمتابعاتهم النقدية ومشاركاتهم المنتظمة في مختلف اللقاءات والندوات ذات الصبغة الوطنية أو الدولية. وأينما حل وارتحل يحمل معه زاده ومتاعه من المقاربة النفسانية للتعريف بمستحدثاتها وإفادة المتلقين بامتداداتها وتوغلاتها في الطبقات الباطنية للنص الروائي . ويأتي كتابه " الرواية والتحليل النصي"([1]) تتويجا لمتابعاته المنتظمة للإصدارات الجديدة. وهو ما جعله متنوعا في متنه، متفاوتا في إيقاعه ووتيرته، مستحضرا القراءات الطرية ، مستثمرا الملاحظات النفاذة. استهوتني القراءة العمودية بحثا عن خيط رابط غير ما توقعه المؤلف وارتضاه لتوجيه بوصلة القراءة. ما شدني أكثر هو موضوع "الألم والكتابة" الذي أهله أكثر إلى استثمار العدة النفسانية لبيان ما يستضمره لا وعي النص من أهواء واستيهامات، وما ينتجه من هذيانات وتداعيات مكرسة عنف الكتابة وقسوتها. أ- تناول موضوع عنف الكتابة في " الخبز الحافي" لمحمد شكري. لا ينقل هذا العمل عنف العالم وإنما يدخل في اصطدام عنيف معه. عاش محمد شكري في عالم محفوف بمخاطر الجوع والحرب والجفاف، وفي أسرة مثقلة بهموم الفقر والقمع والتهميش. ارتضى محمد شكري أن تكون الكتابة زوجا له . وفي هذا الصدد يعتبر المحللون النفسانيون العلاقة بين الريشة والصفحة البيضاء كالعلاقة الموجودة بين فم الطفل وثدي أمه.إن الصفحة البيضاء شبيهة بثدي يشعر المؤلف بألم لما ينفصل عنه. لما يعود شكري إلى الكتابة فإنما يعود إلى فضاء رمزي(فضاء الأم) يقيه من عنف الأب الوحشي. ما يجعل شكري يقبل بنهم على الكتابة هو إحساسه بعقدة الأب وكراهيته له. كما أن تعامله بقسوة معه أيقظ شهوات دفينة حفزته على الارتماء في أحضان العاهرات. ويتشخص عنف الكتابة عند محمد شكري في تداخل الأجناس واصطدامها؛ مما يجعل النص هجينا " يبطن لذة خاصة، يسميها بعض الدارسين المعاصرين لذة التدمير: تقوم الرواية الأتوبيوغرافية على أساس تدمير الحدود بين جنسين أو أكثر" ([2]). ب- لم يهتم حسن المودن، في مقاربته لرواية " لعبة النسيان" لمحمد برادة، بأوجاع الكتابة وآلامها، وإنما بألم الكتابة ومحكياتها المتناسلة. تألم الهادي من فقدان أمه للا الغالية، وتحسر أيضا على فقدان زوجة خاله سيد الطيب. كان مفتونا بجسدها الجميل الأبيض بياضا بنصاعة الجير، ومنجذبا إلى شعرها الفاحم الطويل. ترمز ثنائية الأبيض/ الأسود ، في النص، إلى العلاقة القائمة بين الكتابة والورقة البيضاء.. يوحي السواد بالحياة والدفء، ويقترن البياض بالحب والحنان.. وعلاوة على الدور الجنسي الذي تضطلع به الكتابة( موقد الرغبة ومصدر اللذة بتعبير فرويد)، فهي ، أيضا، تؤدي دورا تطهيريا لمساعدة الذات على نسيان الألم واستعادة الرعشة المفتقدة، واستحضار الذكريات الهاربة والمنفلتة، ومقاومة الموت والحداد. ج- بين حسن المودن ما يجمع، في رواية " أشجار القيامة" للبشير مفتي بين الحب والشهرة من جهة وبين الاغتراب والألم من جهة ثانية. تحكي الرواية عن السارد الذي استرجع صوابه بعد غيبوبة طويلة. ما يتوخاه من ، استرساله في الحكي ، هو " فتح الجرح وتشريح الجثة وقول الحقيقة"([3]). توخى خصومه ، من الإقدام على قتله ، طمس تاريخه ومحو ذاكرته. ولم يكن يدرك ما يتعرض إليه داخل غرفة الإنعاش/ الزنزانة من تعذيب وتنويم وقمع. انغمر في هذياناته وتداعياته للصدع "بالألم وقسوة الحب وعنفه : حب الثورة، حب المرأة، حب الكتابة" ([4]). يمكن أن نختزل السمات العامة التي تطبع المشروع النقدي للباحث حسن المودن في النقاط الآتية: أ-يهتم حسن المودن بألم الكتابة وعنفها مبينا مدى قدرتها على الاصطدام بالواقع. وهو ما يزيد من درجة دهشتها وعزلتها وتوترها. إن كل كتابة، وإن كانت لها طريقة خاصة في تشخيص الألم واستجلاء بواعثه، تتفق مع غيرها في بيان ما يخلفه الألم من جراح وآثار تدميرية متفاوتة في الجسد والنفس على حد سواء. مازالت الكتابة تعنى باختراق دهاليز النص ومجاهيل الروح سعيا إلى استنطاق مكبوتاته وتَعرُّف إحباطاته وتطلعاته، والإمساك بتلابيب الحقيقة الذاتية الملتبسة في منأى عن أشكال الوصاية الإيديولوجية وإكراهاتها. ب- سارت الدراسات النقدية في العقود الأخيرة على هدى الرؤية المنسجمة للنص ، فأضحت، بالتالي، منشغلة بالتدليل على ما يدعم أطروحة الانسجام والتماثل. وهو ما حول أنظارنا عما يحفل به النص من اختلاف وتعدد. انتبه دومنيك مانكونو بحذق إلى هذه الملاحظة مبينا سداد الطرحين المتناقضين في استجلاء وجهي النص المؤتلف والمختلف بما يناسبهما من أجهزة مفاهيمية مناسبة([5]). يتبنى حسن المودن،انسجاما مع طبيعة الشحنة النفسية التدميرية والمفجرة للنص ، طرح الاختلاف وهو ما يجعله يولي أهمية بالغة لما يتميز به النص من تشظ وتفكك وتعدد. لم يتناول هذه الظاهرة من منظور تقنويtechniciste صرف وإنما بهاجس ثقافي يروم تعزيز الربط الجدلي بين المعطيين الدلالي والبنيوي، وتعليل مظاهر التعدد والاختلاف من المنظور النفسي، والتعامل مع الظاهرة النصية بصفتها رحما لتوليد الأشكال المتعددة والمتداخلة. وفي السياق نفسه، يبدو أن حسن المودن لا يستسيغ التتابع والتماسك باعتبارهما خاصيتين للرواية التقليدية، فاضطلع باستبدالهما بمفهومين آخرين(التجاور والتناظر) يستمدان نسغهما من النزوع الما بعد حداثي الذي يكرسهما، علاوة على التشتت والعمى والاختلاف واللاتجانس والتنافر والتنابذ والتعدد، لفضح الوحدة الميتافزيقية والحقيقة المتعالية اللتين ترجحان كفة الفكر الأحادي والمتناغم على حساب كفة الفكر المتعدد والمختلف." في رواية عبد الله زايد لم تعد البنية السردية خاضعة لذلك الإحكام السردي المألوف، ولم تعد محكومة بمنطق التتابع أو التماسك بالمعنى السائد في الرواية التقليدية، قدر ما هي تتأسس على منطق جديد: منطق التجاور والتناظر، فالرواية تتكون في الغالب من محكيات متجاورة قد تتحدث عن الشيء نفسه، لكن من منظورات متمايزة، مما يجعل المحكي الواحد في تناظر مع المحكي المجاور. فنحن أما بنية سردية تحكمها علاقات التجاور والتناظر عامدة إلى التخلي عن الوحدة التقليدية، وذلك بإقامة مجموعة من علاقات التجاور التي ترهف الجدل بين المتناظرات" ([6]). " لم يعد النص الروائي في الكثير من النماذج يخضع لعوامل كانت جوهرية في الكتابة الروائية: الانسجام والتناسق والتطابق، وأصبح النص يتفجر إلى وحدات متعددة ومتنافرة، تتعدد سطوحه ومستوياته، ويبطن الازدواج والتعدد والتتناقض، ويؤلف بنية من الشبكات الدالة التي تجعل المعنى الأدبي متعدد التحديد" ([7]). ج-حتمت المقاربة النفسانية على الناقد حسن المودن العناية أكثر بالجانب الموضوعاتي لكونه يسعف أكثر من غيره على استنطاق لا وعي النص وبيان ما يعتوره من أهواء واستيهامات وأحلام مغفية. ويضطر أحيانا ، حسب طبيعة الإرغامات المنهجية، إلى بيان ما تستتبعه بعض المواضيع ذات الشحنة النفسية من تدمير على المستوى السردي واللغوي والإيديولوجي. د-كان ، إلى حد قريب، ينظر إلى علم النفس بنظرة قدحية ( علم بورجوازي ويهودي وغربي)([8]). أعاد عبد الكبير الخطيبي الاعتبار إلى هذا العلم في العالم العربي منتقدا الخطابات الثلاثة المهيمنة ( التراثي والسلفي والعقلاني) ومبينا سلبياتها التي تحول دون فهم واقع التخلف العربي وتقديم حلول ناجعة لتداركه وتصحيحه. وإن كان عبد الكبير الخطييبي يؤثر الخطاب العقلاني لكونه يعلي من شأن العلم فهو يؤاخذ عليه عدم اكتراثه للاشعور([9]). لقد فتح الخطيبي، بهذا المنحى، أبوابا لفهم عوائق التحديث من المنظور النفسي لنبذ الاختلاف الوحشي (الزائف) و الهوية العمياء والحقيقة المطلقة. ظلت هذه الأبواب موصدة بسبب عدم ممارسة النقد المزدوج وهيمنة الخطاب الميتافزيقي بمختلف ألوانه وأطيافه. ويندرج جهد الباحث حسن المودن، ضمن جهود باحثين آخرين في مجال علم النفس بمختلف فروعه ، في خضم فتح مزيد من المسارب لفهم النفسية البشرية، والتوغل أكثر في مناطقها المعقدة والغامضة،و استجلاء ما يجعلها أكثر تبرما من الواقع واصطداما معه. [1] - حسن المودن، الرواية والتحليل النصي قراءات من منظور التحليل النفسي، الدار العلمية للعلوم ناشرون/ دار الأمان/منشورات الاختلاف،ط1،2009. [2] - المرجع نفسه ص/ص34-35. [3] -مقتطف من رواية " أشجار القيامة" للبشير مفتي (ص16/ 2005). مستشهد به في " الرواية والتحليل النفسي"، م.سا ص104. [4] -المرجع نفسه ص109. [5] -يندرج في اللاتجانس تعدد الأصوات، النفي، الخطاب المنقول، وظائف الاستشهاد، التناص، الخطاب الواصف للمتكلم، السخرية ( ينظر إلى صفحات الكتاب أسفله من127إلى 151 ). ومن بين ما يعزز تماسك النص التدرج الموضوعاتي، الاستدلالات، الإحالات،التنظيم المادي للنص (ينظر أيضا من الصفحة 210 إلى 227). Dominique Maingueneau, L'Analyse du Discours introduction aux lectures de l'archive, Hachette,1991. [6] - حسن المودن، الرواية والتحليل النصي، م.سا ص219. [7] - المرجع نفسه، ص 224. [8] - ينظر ، في هذا الصدد، إلى الحوار الذي أجراه الطاهر بنجلون مع عبد الكبير الخطيبي. عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، دار العودة، بيروت،1980، ص35. [9] - المرجع نفسه ص 10.
|