الكاتب: mdahi
|
حرر في الأحد 06-06-2010 08:56 أ£أ“أ‡أپ
ومن ثمة يبدو التعيين الجنسي الذي صدر به عبدالله العروي المؤلف ملائما من حيث توجيه أولئك القراء إلى جوانب خاصة من حياة إدريس ، وهي التي تتعلق أساسا بمساره الفكري والوجداني. فعبدالله العروي لم يسم عمله رواية أو سيرذاتية ، وإنما اختار له منزلة خاصة ضمن النصوص المدرجة تحت يافطة السيرة الذهنية . وهذا يدخل في نطاق التجريب الذي يمارسه في كل تجربة تخييلية fictionnelle بوعي وتبصر. ففي كل عمل من أعماله الإبداعية قدم تجربة خاصة. ففي الغربة (1980،ط2) جرب تقنية التعارض المسرحي. وفي اليتيم(1980،ط2) شخص الهاجس الجمالي . وفي الفريق (1986) اعتمد على متون الصحف وقصاصات الأخبار. وفي غيلة (1998) وظف اللغز البوليسي، وفي خواطر الصباح (2001) استثمر اليوميات. أما في أوراق([1]) فقد شغل تقنية تراثية مستلهمة من كتاب الأوراق لأبي بكر بن يحيي الصولي([2]). تتطلب أوراق من قرائها مجهودات مضاعفة لتحيين ما تراكم لديهم من أجناس أدبية ( المناظرة ، والقصة القصيرة، والمقالة، والسيرة الذاتية، والرسالة ، واليوميات ، والخاطرة) ، وتركيب ما نهلوه من الفلسفة والتاريخ والأخلاق والتربية الوطنية والسياسة . وهكذا تبدو الأهمية التركيبية لهذا المؤلف الذي يجمع بين دفتيه معلومات من مصادر متنوعة ،تحفز القارئ المفترض على تشغيل خلفياته المعرفية ما تراكم لملء البياضات والفرجات ، وقد تصرفه عن قراءة مؤلفات أخرى بسبب غناها وشموليتها وطريقة عرضها في قالب تخييلي. ولهذا المؤلف أيضا أهمية أخلاقية تكمن في ترسيخ الحس الوطني وشحذ الإرادة والعزيمة لدى الناشئة. كما لا ينبغي إغفال أهميته التربوية التي تكمن أساسا في حفز جيل اليوم على عقد مقارنة بين مستواهم الثقافي والتعليمي وبين المستوى الثقافي والتعليمي لجيل الأمس ، وبين التيارات الفكرية والإيديولوجية التي تستهويهم وبين مثيلاتها التي كانت تجذب مجايلي إدريس . 1-جنسية مؤلف أوراق. تفضي معرفة جنسية مؤلف أوراق إلى المسالك التي ينبغي إتباعها للخروج من المتاهة ، والاهتداء إلى المفاتيح المسعفة على فهم معانيه العصية ، واستجلاء بنياته الداخلية . فقبل أن يصدر عبدالله العروي عملا تخيليا ، يتروى فيه لينتج تجربة منزاحة عما هو متداول. فقد أدرج جنسية أوراق ضمن السيرة الذهنية التي تعد يافطة تستوعب طبقات من النصوص القديمة والحديثة ، القومية والعالمية . لم تصنفها الشعرية بعد لمعرفة ثوابتها ومتغيراتها ، ولم ينهال عليها النقد لاستجلاء خصوصيتها ومواطن قوتها وضعفها([3]). وما يسترعي الانتباه أن الكتاب سباقون للتعريف بهذا الجنس من خلال المقدمات التي يصدرون بها مؤلفاتهم ، وواعون بأنهم يكتبون في إطار جنسي مخالف للسيرة الموضوعية أو الذاتية . وفي هذا الصدد ، يكفي أن نستشهد بقولتين يثبتان مسعانا: يقول ميخائيل نعيمة :" أعطيهم من زاد قلبي وفكري ، إذا ما خُيل إلي أن فيه زاداً صالحا لقلوبهم وأفكارهم . أما حياتي " الخاصة": من أين أرتزق ، وما ذا آكل وأشرب وألبس ، وكيف أنام وأقوم وأعمل. ومن هم أبي وأمي وإخواتي وأخواتي ، وأجدادي وأعمامي وعماتي ، وأخوالي وخالاتي ، وخلاني وأعدائي ، وكيف عاملتهم وعاملوني ، وماذا كان بيني وبين نساء أحببتهن وأحببني ، وكيف ، ومتى حزنت وبكيت ، ومتى فرحت وضحكت . أما هذه الأمور كلها ، وكثير من نوعها . فما ظننت يوما أن للناس أي نفع في معرفتها لذلك أهملتها الإهمال كله في كتاباتي ... لكن فضول قرائي - وهو فضول مغفور ومشكور- يأبى الاكتفاء بمشاركتي في حياتي الفكرية ، إنهم يريدون أن يعرفوا التربة التي نبتت فيها هذه الأفكار ، والأجواء التي فيها تبلورت ، والأسس التي تقوم عليها ، والعقبات التي واجهتها وذللتها ، والتي واجهتها ولم تذللها بعد. وإلى أي حد تساير حياتي أفكاري. وإلى أي حد تغايرها"([4]). نجد في هذه القولة تمييزا دقيقا بين " الحياة الخاصة " و"الحياة الفكرية" . وهذا ما يبين أن ميخائيل نعيمة كان واعيا بأنه يكتب في جنس مخالف لجنس السيرة الذاتية ، لذلك أهمل ما يتعلق بطبعه وأسلوبه في الحياة بدعوى أن القراء لا يستفيدون منه أي شيء ، واكترث بما يمت بصلة إلى مساره الفكري لأنهم يتوخون معرفة التربة التي نبتت فيها أفكاره والأجواء التي صاحبتها. يقول عبدالله العروي : " عندما خامرتني فكرة وصف الجو الثقافي الذي عاش فيه الجيل الذي أنتمي إليه وجدت نفسي أمام عمل نصف منجز . كان لا مفر لي من أن آخذ إدريس رمزاً لذلك الجيل . الجانب الوقائعي من حياته معروف مسبقا . يعلم القراء الذين تابعوا إنتاجي أنه غادر السياسة ليتفرغ للفن وأنه لم يحقق في هذا الميدان ما كان يصبو إليه. لم يبق لي إلا أن أتوسع في الجانب التحليلي . كيف يتم ذلك إلا من خلال مخلفاته المكتوبة ، نصوص مختلفة المضمون متفاوتة الطول"([5]). يعقد عبد الله العروي مع المتلقي ميثاقا سيرذهنيا بإثبات التعيين الجنسي على الورقة الثانية من المؤلف ، وبالتمييز بين "الجانب الوقائعي" والجانب التحليلي" في المقدمة التي اقتطفنا منها المقطع السابق. إن الجانب الوقائعي من حياة إدريس سبق لعبد الله العروي أن أبرزه في روايات الغربة ، واليتيم ، والفريق. وهو يتعلق عموما بما عاشه إدريس من أحداث ووقائع ، وما نسجه من علاقات ببلدته (الصديقة) وخارجها ، وما اتخذه من مسافات تجاه الواقع لما عاكس طموحاته وقاوم أفكاره النيرة . أما الجانب التحليلي ، فهو يستبعد "الأحدوثة" ، ويتقصى الجانب غير المعروف من حياة إدريس وهو المتعلق بمساره الفكري . وفي هذا السياق ما يهم ليس "جمع الوقائع وترتيبها" ، وإنما " جمع المعطيات الفكرية ونقدها". ومن بين ما يتوخاه العروي من إنتاج هذه التجربة التخييلية ، هو وصف الجو الثقافي الذي عاش فيه مجايلوه ، ومن ضمنهم إدريس الذي يعتبر رمزا لذلك الجيل. ولكل كاتب طريقته الخاصة في استقصاء المراحل الفكرية التي عاشها. فميخائيل نعيمة اعتمد على ما حبره من مذكرات ، وعبدالله العروي رجع إلى ما خلفه إدريس من أوراق متفاوتة في مضامينها وأشكالها وأنواعها ، وريمي هيس ([6]) استند إلى اليوميات التي كانت تثبت فيها والدته ما يحدث من أحداث دالة ، والكراسة التي حرر فيها مجموع الشوارد والوقائع المتعلقة بالحياة الطلابية خلال السنة الجامعية 1968-1969، والكتابة النظرية بما فيها المقالات الأولى التي تتضمن لمسات من الحذق في رصد تحولات الواقع وإحداث قطيعة مع مرحلة التيه والخمول ، والرسائل التي استرجعها من بعض الزملاء. 2- متن السيرة الذهنية: من خلال القولتين السابقتين يتبين لنا أن السيرة الذهنية هي رصد الجانب الفكري للمترجم له ، وذلك لمعرفة مراحله التعليمية والفكرية ، واستجلاء تصوراته الإيديولوجية والفنية ، ومواكبة التيارات الأدبية والفلسفية والسياسية التي تأثر بها . وبما أنها تعتمد على التحليل ، فهي تغلب الإقناع على الإمتاع ، وتكثر من أساليب التعليق والنقد والحجاج. اعتمد العروي في رصد الجانب الفكري والعاطفي لإدريس على ما خلفه إدريس من أوراق قبل أن يموت حتف أنفه . وتتكون هذه الأوراق من رؤوس أقلام ، ويوميات ، وقصص قصيرة ، ومقالات ، ورسائل ، وخواطر ، ومذكرات. فقام السارد بموافقة شعيب على ترتيبها موضوعاتيا . فكل فصل يحتوي على صنف متجانس من الأوراق تضيء جانبا من حياة إدريس الفكرية والعاطفية . وتقوم بنية المؤلف عموما على تأطير الأوراق لبيان الظرفية التي كتبت فيها ، ثم عرض واحدة منها ، ثم تناظرالسارد/الكاتب وشعيب حولها . ويتدخل السارد/ الكاتب كثيرا لإضاءة بعض الجوانب الداجية من حياة إدريس بحكم معاشرته طوال حياته الدراسية والجامعية . ويكتفي شعيب بطرح الأسئلة وإبداء الملاحظات الدقيقة محتفظا لنفسه بحق النطق بكلمة الفصل في الأخير. ورغم تدخلاته المقتضبة فهو قد حرص على أن تكون المناظرة بينه وبين السارد/ الكاتب متكافئة لتظهر كل طرف على حقيقته الفكرية والمذهبية . فإذا كان السارد/ الكاتب يدافع عن المشروع الليبرالي ، فإن شعيب - بحكم تكوينه التقليدي- يذب عن المشروع السلفي . وهكذا يتضح أن المناظرة ظاهريا تتناول أوراق إدريس ، لكنها عمقيا تستنطق الموروث الثقافي ، وتعاود النظر في كثير من خباياه وقضاياه. يمكن أن نتبع الخطة التي رسمها لنا الكاتب ، فنجاريه في ترتيبه للأوراق . وهكذا نتعرف من خلال كل فصل على حدة على جانب من الحياة الفكرية والعاطفية لإدريس . فعلى سبيل المثال ، يعرف فصل العائلة بحالة إدريس مدنية ( اسمه ، مدينته ، حيه ، أفراد آسرته ) وبالعلاقة المضعفة التي تربطه بالفتى. ثم يأتي فصل المدرسة ، ليبين لنا مراحل تعلم إدريس من الثانوي إلى التحاقه بالجامعة ، والموجات الفكرية التي تأثر بها ( الوجودية ، نتشة ، ديكارت ، الماركسية) . ويحتوي فصل الوطن على تدبير فرنسا مؤامرة نفي الملك الشرعي محمد الخامس لدفن القضية المغربية ، ويتخذ فيه مواقف جريئة ممن أعطوا لفرنسا الفرصة لتعميق الأزمة ، وساهموا فيما وسمه إدريس بالمهزلة أو الجريمة. وعندما نقفز إلى فصل العاطفة نجده يدور حول علاقة إدريس بالفتاة الألمانية برودنثيا والفتاة الفرنسية كاراميا ، ومعاملتهما كشبحين لأنه كان في حاجة إلى محاور مفترض ، ومناجاة ذاته. ويجلي فصل الذوق ارتقاء إدريس من مستوى استهلاك الأفلام إلى مستوى تذوقها ، ويكشف عن ثقافته السينمائية الواسعة مشاهدة وإطلاعا ونقدا. ويمكن أن نعيد ترتيب الأوراق على هوانا . وذلك بتوزيعها إلى خمسة أزمنة ، نطلق عليها أفعالا أسوة بما قام به فليب لوجون في دراسته لكلمات جون بول سارتر([7]). 3-الأفعال الخمسة : 1- الحفز: يحض شعيب الكاتب على إنقاذ أوراق إدريس من الضياع وترتيبها ، وتحويلها إلى عمل سيري متكامل ومنسجم ، وإعادة الاعتبار لصاحبها . ويقترح عليه الاحتفال بالسنوات العشرين التي قضاها في ظلمات الاستعمار ، وبمثيلاتها التي قضاها في نور الاستقلال. 2-الانفتاح على العالم : ما يلفت النظر في أوراق إدريس هو نباهته وهو مازال في بداهة مشواره التعليمي ، ثم تضايقه في سن المراهقة من أوهام العشيرة والعائلة ، ثم تشبثه بالحنين إلى بطولات التاريخ الذي حببه له لوزينكي ، ثم صدعه بمواقف جريئة من بعض الأحداث والكتابات . وفي كل ذلك لبعت عوامل كثيرة في توسيع رؤيته ، وشحذ تجربته ، نذكر منها على وجه الخصوص : متابعة دراساته بمدن متعددة ، مواكبته للموجات الفكرية والسينمائية وتأثره ببعضها ، قضاؤه ردحا من الزمن بباريس ذات الإشعاع الفكري والثقافي ، تتبعه عن كثب للمشكل المغربي ، شغفه المتواصل بالقراءة والمطالعة . 3- النضج الفكري والارتداد إلى الذات : لما حل بباريس يوم 10 أكتوبر 1953 لمتابعة دراسته العليا ، اكتشف ذوقا جديدا ، واكتسب منهجية صارمة للتحليل والنقد ، وطالع كتبا كثيرة تهم علاقة الشرق بالغرب ، والأزمة المغربية ، والهوية العربية الإسلامية ، وتربى شعوريا داخل القاعات السينمائية المظلمة. وفي هذه الفترة وقع اختلال بين النضج الفكري والتوازن العاطفي . " العقل يفهم والقلب يثور" ص142. فازداد حزنه وقتوطه ، وتضاعفت تعاسته وعزلته.
|
|
Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009 |