الكلمة التي ألقيتها في حق المحتفي بها القاصة والروائية الزهرة رميج يوم الأحد 25 أبريل 2010 في إطار الملتقى الوطني الثامن للقصة القصيربفاس
- دورة الأديبة المغربية الزهرة رميج –دار الثقافة– فاس- أيام 23-24-25 ابريل 2010
قبل أن أتعرف إلى زهرة كنت قد قرأت لها قصة جميلة وطريفة " أنا والعصفور". ومما حفزني على قراءتها هو إعجابي بعالم الطير، وعناية بتربية صنف منه إلى أن يفرخ فأخلي سبيله ليستمتع بنسغ الحياة الحرة والطليقة. ما أثارني في هذه القصة البديعة رغبة ُالطائر، الذي مر من تجارب قاسية قبل أن يقوى على الطيران، في الاستمتاع بذرات الجمال من عل، وإبعاد الكرب والحزن من الوجوه المكلومة والكئبية.
اتصل بي يوما صديقي الميلود عثماني ليخبرني برغبته في دعم الفريق التربوي لإعداد الكتاب المدرسي بالكاتبة نفسها. تحمست لحسن الاختيار لأن خاطري هاتفني بصداقة مفيدة ومثمرة . ولما تعرفت إليها تبين لي أن أنها امرأة تقتر فيما تذخره من أحاسيس ومعارف ومهارات، فهي ليست من النوع الذي يعطيك ذاته دفعة واحدة أو يوهمك بذلك. كانت تفاجئني في كل مرة بوجه من وجوهها الإنسانية والثقافية التي تحسن مداراتها وإبرازها في الوقت نفسه. وهكذا بدأت تدريجيا أستجمع شظايا ذاتها وأفكارها لعلني أظفر بصورتها النهائية التي لا تتوقف عن التناسل والتشعب بفضل ما تتوفر عليه صاحبتها من حيوية وقدرة على التجدد. وهي ميزة يتسم بها بعض المثقفين الذين يتقنون جدلية الخفاء والتجلي حفاظا على سمعتهم الثقافية ، وحرصا منهم على مواكبة الجديد وانتظام حضورهم إعلاميا وثقافيا. كانت زهرة ضمن أربعة رجال أو أشواك لحدة طبعهم وتقلب مزاجهم. وعرفت بذكائها ولطافة حسها وصفاء سريرتها كيف تحد من غلواء الأمزجة المتقلبة ، وتتصرف بلباقة لضبط الإيقاعات الشاذة والمتفاوتة سعيا إلى استرجاع النغمات المفتقدة. كان الإيقاع أحيانا ينزاح عن مجراه الطبيعي من كثرة التعب والإعياء والأرق، وهو ما كان يؤثر في تماسك الجماعة وانسجامها. لكن لحسن حظها كانت مدعومة بامرأة رصينة تتدخل في الوقت المناسب لمنح الجو مزيدا من الجدة والمرح في الآن نفسه. لم تكن الشكلاطة السوداء تفارق حقيبتها اليدوية ، كانت توزع علينا قطعا منها بحجة أنها تبدد الحزن والتعب، وتنعش الجسم ليؤدي وظائفه على وجه الأحسن. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أقتني الشكلاطة السوداء بعدما فعل مفعولها السحري في أحشائي، وتأكدت من مزاياها وحسناتها على سلامة الجسم وفاعليته. ومن خلال احتكاكاتي بزهرة خلال هذه الفترة تأكدت من حدس عثماني وبصيرة خاطري إذ أضفت بحضورها المشع والمرح ووزنها الثقافي على لقاءاتنا قيمة مضافة، وشع ضياء فكرها وألق سحرها في شغاف قلبونا التي أنهكها السهد والإرهاق والإعياء.
لما ظهر كتابها " أخاديد الأسوار" أهدتني نسخة منه. وضعتها في مكان خاص لحفز نفسي على قراءته خشية نسيانه أو ضياعه بين الكتب. وكثيرا من الكتب الجديدة التي أنتقيها في زاوية من مكتبتي لا أجد وقتا لقراءتها لكثرة الانشغالات والاهتمامات . لكن من حسن حظي أن هذا الكتاب حظي باهتمامي. ولما فرغت من قراءته كتبت مقالا عنه نشر بداية في " العلم الثقافي" ثم في كتاب جماعي"ضد الصمت والنسيان" لبيان ما يحفل به من لغة شاعرية، ولما يتمتع من تواطؤ بين الحقيقة والخيال. وكنت من السباقين إلى تصنيفه ضمن خانة التخييل الذاتي قبل أن تعتري المفهوم، على نحول كثير من المفاهيم الجديدة، الصدأ واللبس من كثرة ترداده في غير موقعه، ودون الاطلاع على مظانه وتمثل خلفياته وأبعاده.
دعوتها يوما إلى كلية الآداب عين الشق للمشاركة في الحصص المشتركة التي كنت أتوخى من خلالها خلق حوار نقدي بين الطلبة ونقاد وكتاب متميزين. وما حضني على دعوتها، علاوة على تقديري الشخصي لها، هو اضطلاع بعض الطلبة بإنجاز عرض على كتابها. ولما فاتحتهم في موضوع دعوتها وجدت ثلة منهم يعرفوها ويقدرونها أيما معرفة وتقدير لأنه سبق لهم أن تتلمذوا لها في الثانوي، وحكوا لي أنهم كانوا يتعاملون معها كأم رؤوف تحدب عليهم في أوقات الشدة والضيق. ورغم أن توقيت العرض (يوم الأربعاء 19 دجنبر2008) صادف اقتراب عيد الأضحى فلقد كانت القاعة غاصة بالطلبة الذين أبانوا عن قدرات عالية في قراءة المؤلف وإبداء ملاحظات عليه ومحاورة العارضين. ولما انتهت الحصة تقدم بعض الطلبة لإهداء باقة من الورد إلى المبدعة زهرة الرميج والتقطوا صورا جماعية معها بهواتفهم عربونا على محبتهم لها، وتنويها بذكرها، وتأهيلا لمكانها، واعتزازا بإشعاعها الثقافي. لم تخيب زهرة رميج - التي دشنت أول حصة من الحصص المشتركة- ظن الجميع لما تتمتع بها من خصال وميزات ، وفتحت شهية استضافة كتاب ونقاد آخرين ( أذكر منهم ليلى أبو زيد وأحمد لكبيري وإدريس النقوري وحسن المؤدن ورشيدة بنمسعود..) للإفادة من خبراتهم وتجاربهم. وكأي تجربة ناجحة لا بد أن يستضمر لها بعد الغلاة الحقد والضغينة بحكم عدواتهم للجدة والتحديث في أي مجال من مجالات الثقافة الرحبة.
التقيت بزهرة آخر مرة في المعرض الدولي السادس عشر للنشر والكتاب. كانت ، على جري عادتها، مبتسمة ونشيطة ومضطربة من كثرة مواعيدها وانشعالاتها. زفت لي بشرى طبعها لكتابين دفعة واحدة على نفقتها الخاصة حرصا منها على التعجيل بإصدارهما . طلبت مني مهلة لتختفي بين الأمواج البشرية ، ثم عادت بعد هنيهة حاملة في يديها الكتابية فدبجتهما بكلمة رقيقة ثم توارت من جديد عن أنظاري. ما أثار انتباهي لأول وهلة وأنا أتصفح روايتها الأخيرة " عزوزة" هو حجمها وهو ما يشي بتكلفتها المادية و يجلي المجهود الذي اضطلعت به زهرة في جمع موادها وفتل خيوطها وتصحيحها وطبعها.
انتهزت فرصة سفري خارج المغرب لأحمل معي هذا الكتاب حتى يؤنسني في غربتي ويطفئ لوعة اشتياقي لوطني. كم ترددت في حمله معي لثقله وضخامته، لكنني، لحسن الحظ، وجدته حملا خفيفا على قلبي من شدة الإعجاب بعوالمه وعدم الملل من قراءته. كنت أسترق الفرص المتاحة في المطار والطائرة وغرفة الفندق لمتابعة قصة " عزوزة" مع عائلتها وزوجها أحمد وأبنائها وحماتها وضرتها" الحمرية". لم تكن ، كأي مسافر، تهمني الجوانب الفنية أو التقنية وإنما الاستمتاع بالقصة وعوالمها التخييلية. كنت أحرص على تتبع حالة " عزوزة" وحركاتها وانفعالاتها وسكناتها فقط، وما طرأ على حياتها من تحولات ومفاجآت وتقلبات. وما أثارني ، في مسارها، هو عزمها القوي على تحمل الألم بكل ألوانه وأطيافه وأصنافه. فهي، على نحو كل امرأة خبرت عتمات الحياة وذاقت قسوتها ومرارتها، عرفت كيف تصون مصلحتها وتتخلص من منافسة ضرتها في خضم الصراعات العاطفية القوية، و المصالح المتضاربة الهوج، والكوارث والدواهي القاسية والمدمرة. ويرجع الفضل إلى ابنتها حليمة التي قاومت الانتحار بالكتابة والسرد مؤثرة عدم تكرار مأساة " أنا كرنينا" و" إما بوفاري"، ساعية إلى استرجاع شريط حياة أسرتها و خاصة قطب رحاها "عزوزة".
تتماهي زهرة إلى حد ما مع العصفور الذي يعاند غوارب الحياة، وينتفض على ضعفه وعزلته بحثا عن موقع يناسب طموحاته وتطلعاته، ويتحدى الأقوياء والمتجبرين بالتحليق بعيدا في عنان السماء، ويبعد القبح والنحس والطيرة من الوجوه الكلحة ، و يرتق فتوق النفوس الجريحة والمحبطة، ويحمل فوق جناحية التعساء مثلي ومثلكم ليستمتعوا بجمال الكون وقد غمره شروق جديد.