وتوفي الكاتب المغربي ا إدمون عمران المالح، صباح أمس الاثنين15 نونبر 2010، بالمستشفى العسكري بالرباط، عن سن تناهز 93 سنة، بعد معاناة طويلة مع المرض، الذي لم يحل دون إصراره عن حضور الأنشطة الثقافية ومواكبتها. وفيما يلي كلمة الناقد والروائي محمد برادة تنويها بخصال الفقيد وجهوده النضالية والأدبية، وتأبينا لروحه الطاهرة، واعتزازا بالصداقة المتينة التي جمعتهما في مسارات البحث عن الطمأنينة المفتقدة والإمساك بتلابيب الضوء الهارب. فعزاؤنا واحد في هذا المصاب الجلل،و مواساتنا الصادقة لأسرته الصغيرة ولكل المثقفين المغاربة .
لـو كان الأمــر بيدك لـعاتـَبناك على رحيلك لأنك ستـتـرك فراغا كبيرا في مجال الصداقة والحوار وفـــنّ العيش . مـِـن مدينة آسـفي مسقط رأسك ، إلى الصويرة ، إلى البيضاء ، إلى باريس ثم أخيرا الرباط حيث آذنتْ شمسك بالمغيب ، وأنـت هـو أنـت : المغربي ذو الجذور الضاربة في أعماق التربة ، المـُـتيـقـّظ للدفاع عن حق شعبك في الاستقلال ، المناضل من أجل كرامة البسطاء ، الكاتب المجدد المـُراهن على الخلق والإبداع . أنت هو أنـت : المغربي الذي لا يجعل من اختلاف الديانة سـبــبـا للنزاع والمشادة ، لأن الأسبقية عندك هي للعدالة وقيم الحرية والحق والجمال ؛ ومن ثــمّ مساندتك غير المشروطة للفلسطينيين وإدانتك سياسـة َإسرائيل ومرجعيتها الصهيونية .
أذكر حين عرفتك ، مـطلعَ سبعينات القرن الماضي في باريس ، كنـتَ شابا يتدفق عطاء وحيوية وجرأة غير مـعتـرف ببداية الشيخوخة التي كان عمرك بدأ يرتـادها . وكانت روايتك " المجرى الثابت " (1980 )،أروع شهادة مزدوجة قدمتها عن المواطنين المغاربة اليهود الذين تركوا بصمات عميقة في تاريخنا ، وعن مأساة تـرحيلهم بالتحايـُل وغسل الدماغ ليفارقوا وطنا لــهـُم فيه أعمـق الجذور . وهذا هو جـرحك الذي لم يندمل قط ، لأن ذاكرتك ممتـلـئـة بمشاهد حياتية تـواشجتْ عـبـْـرَها روابط الجـِـوار والصداقة ولـغة ُالكلام المشتركة . ذاكــرتـُـك لم تقبل أن تمتدّ أيدي مســتـعمــلي الدين لأغراض سياسية احتلالية ، انتـزعتْ عشيرتك من محيطها الطبيعي ، وشــوّهتْ تاريخا عرف لحظات الانسجام والتفاعل الخصب في مختلف تجليات الحياة ، سواء في فترة الكفاح الوطني أو من خلال إبداعات الموسيقى والغناء والطبخ وكل ما يزرع بذور الفرح والانتشاء ...
لم تمنعك تجربتك السياسية الطويلة داخل الحزب الشيوعي المغربي من أن تـُـقدم على النقد الذاتي، ومن أن تــولـيَ وجـهك نحو الكتابة التي طالما كـبــتّ شرارتها تحت ثقل المسؤولية الحزبية . عــُدتَ إلى الكتابة مـُزودا بالخبرة والمعرفة والذاكرة ومزودا، بالأخص ، بمفهوم فني جمالي لا يجعل الأدب وسيلة للدفاع عن عشيرة أو حزب أو إيديولوجيا ، بل يسعى إلى أن يضعها موضع تساؤل لالـتـقاط ما هــو قـيـْد المخاض ، مــُبـشرا بدفقات حياتية تتحدى اللغة المـُــتخشبــة والشعارات الجوفاء التي تموت ساعة َولادتها .
وللحقيقة أقول ، إنــك وقدْ جاوزت التسعين من عمرك ، لم تـعرف المهادنة ُسبــيـلا إليك ،لأنك احتفظت بحيويتك وروحك النقدية ومتابعتك لــما تحبــل به ساحــة ُالفن والأدب من عطاءات . وكيف أنسى وأنا أســامرُك ، منذ أسبوع ، رُفــقـة َالصديق خليل غريب ، تلك الكلمات التي كنت تـتلفظ بها من صوت مـُتـعب لكنه مــُصــرّ على أن يقول بأن المسألة الثقافية تحتاج إلى إعادة نـظر ؟ تسكتُ قليلا ثم تضيف : أودّ أن أحضر معكم ، إذا تحسنت حالتي ، للمشاركة في الحوار .
ستكون معنا أيها العمران ، فالذين عرفوك لن ينسوك، وأنمــوذجك الأنيق ، الســّـمح في الحياة لن يفارقنا ، وكلماتك ستزداد إشــعـاعا في ليلنــا البهيم . لأجل ذلك ، أقول إنك فقط تبتــعد لتكون أقرب.
محمد برادة 15-11-2010