x
اخر ألاخبار    الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي : حوار أجراه محمد الداهي       Hommage à Mohammed Berrada : Mhamed Dahi       تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي" ، د.محمد الداهي       النغمة المواكبة .. كتاب جماعي محكم عن المفكر والروائي عبدالله العروي       لكل بداية دهشتها، محمد الداهي       استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء في كتاب " صورة الآنا والأخر في السرد" لمحمد الداهي       مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية- د. محمد الداهي       La fictionnalisation de soi dans le roman arabe Mhamed Dahi       من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات التغيير الثقافي -د.محمد الداهي       تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب. د.محمد الداهي    
الاحتفاء بالنشاط التخييلي-د.محمد الداهي


فيما يلي قراءة لكتاب( الرواية ذاكرة مفتوحة، دار الآفاق المصرية، 2008) لمحمد برادة الصادر مؤخرا ، وذلك للتوقف عند بعض القضايا الجوهرية التي تشكل لحمته وسداه رغم أن محتوياته كتبت في مناسبات متباينة خلال السنوات الثلاث الأخيرة ولبواعث مختلفة.

 

سأقدم قراءة أفقية([1]) لكتاب محمد برادة الصادر مؤخرا ، وذلك للتوقف عند بعض القضايا الجوهرية التي تشكل لحمته وسداه رغم أن محتوياته كتبت في مناسبات متباينة خلال السنوات الثلاث الأخيرة ولبواعث مختلفة.


1-تجديد العُدَّة النقدية:


ينبغي أن يُقرأ الكتاب في علاقته بالتحولات المعرفية الأخيرة التي مست مفهوم الأدب ومقاربته في آن واحد، وحتمت الابتعاد عن " المقاربة التقنوية" Approche techniciste التي تتشبث بوهم " العلمية"، والاتجاه نحو " هرمنطيقا جديدة" ( على حد تعبير بول ريكور) لاستيعاب الدينامية الداخلية للعمل الأدبي، وبيان قدرته على توليد عالم يكون فعلا هو " شيء" النص اللامحدود. وبما أن النص الأدبي-علاوة على استقلالية بنيته وتماسكها- له امتدادات في المتخيل الاجتماعي ونصوص أخرى، فهو يستدعي استحضار ما يلي:


أ-يرى محمد برادة أن النقد العربي لم يعط للتخييل Fiction ما يستحقه من اعتبار رغم دوره المركزي في إعادة تشخيص الواقع وإدراكه في نِسبيَّته، وفي تشييد بناءات رمزية على أنقاض ما هو جاهز ومباشر. وتعامل محمد برادة مع التخييل بوصفه ذاكرة مفتوحة تستجمع عناصر متباينة مستوحاة من أزمنة مختلفة.


ب-إن إعادة إنتاج المعرفة الروائية وفهم التجربة الإنسانية يقتضيان توسيع مفهوم النقد الروائي ليشمل الاستكشاف والتأويل والمقارنة والتنظير أي كل العمليات الذهنية التي لا تسعف، فقط، على سبر أغوار النص الأدبي واستكشاف دخيلته وتأويله بمنظورات جديدة، وإنما بيان قيمته ومنزلته على المستوى الكوني وإبراز المعرفة النوعية التي يتضمنها أو يحرض عليها.


وفي السياق نفسه، أعاد محمد برادة الاعتبار لرواية الخيال العلمي التي لم تحظ بالاعتراف من لدن المؤسسة الأدبية رغم احتفائها بالتخييل لاستكشاف مناطق متأبية عما هو مألوف وعقلاني، والإرهاص بما سيكون عليه وضع الإنسان والعالم مستقبلا

.
2-الأفق الكوني:


كنا لحد قريب نتهيب من الكوني بدعوى عدم نضج الرواية العربية أو على الأقل عدم توفرها على الشروط التي يمكن أن تبوئها مكانة محترمة على الصعيد العالمي. لكن نتيجة عوامل المثاقفة استطاعت أن تفرض نفسها وتنتزع الاعتراف بها ( على نحو: "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم و"نجمة" لكاتب ياسين).

ويخوض محمد برادة في مناقشة العلاقة الملتبسة بين المحلي والكوني محترسا من تكرار الصيغ والأسئلة الجاهزة وساعيا إلى صوغ الإشكالات من منظور نقدي يتفاعل فيه الحاضر بالمستقبل. ويرى محمد برادة ، في هذا السياق، أن العرب مازالوا يستخفون بقيمة التخييل العلمي ويؤثرون عليه ما يجري على الأرض ، وما يتصل بالمعرفة المباشرة، " كأن هناك ضمنيا استصغارا للتخييل المتدثر بالخيال العلمي وفضاءات الفانطازيا ومتاهات العوالم غير الأرضية" ص96. ونختزل، فيما يلي، كيف شخص محمد برادة علاقة الرواية العربية بالكونية.


أ-ينبغي رصد سيرورة الرواية العربية وتحولاتها في ضوء علاقتها بالرواية العالمية وخاصة بالنصوص الرائدة التي فرضت نفسها على المستوى الكوني ( على نحو أعمال ديستوفيسكي وبروست وجويس وفولكنر..). ومن هذه الزاوية فإن نقد الرواية العربية يستدعي استحضار نصوص ذات صبغة عالمية وذلك بهدف المقارنة لتبين ملامح النضج والقصور في الرواية العربية، وإبراز الخلفيات الفنية والفكرية التي يحتكم إليها الروائي العربي لتجديد الشكل الروائي والإسهام في بلورة مفهوم الرواية الكونية المتمردة على الانغلاق والقومية الضيقة.


ب-بين محمد برادة كيف أسهمت رواية " دون كيخوتي" لترفانتيس في فتح الطريق أمام الحداثة الروائية، مستندا إلى آراء بعض النقاد ( خاصة طوماس بافيل وإميل كونديرا) ومتوقفا عند بعض المكونات العامة التي تخول لهذه الرواية صفة الريادة في مسار الرواية الكونية ( تعدد الرواة، التضعيف الحكائي، الأجناس المتخللة، تعدد الأصوات، التخييل). و يستنتج في الأخير أن الحديث عن " دون كيخوتي" هو رهان مفتوح يتجدد ضمن سياقات متغيرة، ويظل قريبا من هموم الإنسان في أبعاده الكونية وأسئلته الوجودية المشتركة.


ج- حاول برادة أن يستجلي العناصر الفنية التي مافتئت تضفي التوهج والنضارة على " مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير رغم مضي مائة وخمسين سنة عن ولادتها ( أنهى فلوبير كتابتها عام 1856). ومن بين هذه العناصر التي ركز عليها برادة نذكر أساسا: اللاتذويت، وتواري الكاتب خلف النص، وتعدد المنظورات السردية، وتعدد الأصوات، والاعتناء بالإيحاء. وما يجعل الرواية تستجيب لتوقعات القراء هو أن مؤلفها حدس في إمكانات افتراضية ينطوي عليها شكل رواية المستقبل. كما أنها مازالت تعتبر مادة خصبة للاقتباس الروائي أو للتخييل الروائي بعد إدراج شخوصها في مواقف جديدة بالنظر إلى تبدل المعايير الأخلاقية في المجتمع. " بعد 150 سنة، لم تشخ "مدام بوفاري" بل ظلت مغرية ب" المعارضة" والتحليل وإعادة الكتابة، لأنها تستثير لدى القارئ حاسة الخلق والتفاعل الحر مع عالم متخيل تنبض داخله الأشياء والشخوص والحوارات، ويتألق النثر الروائي في حلة تنسجها الدقة في الوصف، وإيقاع الجملة والنبرة الملائمة" ص123.


د-حتمت النماذج الروائية الجيدة تجاوز دائرة المحلي والانفتاح على مغامرة الرواية الكونية في مختلف أبعادها وتجلياتها. وهذا ما حفز محمد برادة على تفكيك معادلة المحلي والكوني في ضوء أسئلة ومعطيات جديدة، والمراهنة على الرواية الكونية التي تحمل قيما إنسانية جديدة، وتدخل في صراع مع رواية تتمنَّع بعولمة الربح والاستهلاك والتسلية.


3-القيم الثقافية الجديدة:


لقد عودنا محمد برادة في مقارباته النقدية على التحرر من إسار الإيديولوجية البنيوية وعدم التخندق في التحليل الشكلاني الصرف . وهذا ما أهله ، علاوة على تحليل العناصر الفنية البارزة، إلى استكشاف المواد الدلالية والتخييلية التي تستمد نسغها من اللاشعور الجمعي والمتخيل الاجتماعي، وتمد جسورها مع نصوص آخر لمحاورتها وإعادة تنبيرها. وفي هذا الإطار يتعامل محمد برادة مع الرواية ليس بوصفها أداة للتسلية والاسترواح، وإنما باعتبارها عاملا من عوامل الدمقرطة الثقافية وإحلال قيم أصيلة محل قيم مهزوزة و متقادمة ومزيفة. وفيما يلي بعض القيم التي تراهن عليها الرواية العربية إسهاما منها في سيرورة التحديث الاجتماعي.


أ-المحلية والكونية:


يدافع محمد براة عن رواية كونية تتغذى من مختلف الروافد العالمية. ويرى ، في هذا الصدد، أن عينات من الرواية العربية استطاعت أن تخترق الأفق الكوني نتيجة تفاعلها مع نصوص رائدة ومحاورتها لنصوص تراثية. ومما يؤشر على دخول الرواية العربية في شرنقة الكوني هو حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل رغم ما أثاره هذا الحدث من ردود متباينة في العالم العربي. وينبغي ، بعد رحيله، أن نسائل سيرورة تلقي إنتاجه الضخم والمتنوع، ونمارس قراءة حرة متحررة من الاختزالية ومنتفضة على أشكال الرقابة والوصاية، وذلك لاستجلاء رحابة المتخيل واستكناه مجموع مكوناته شكلا ومضمونا. " إن استمرار نصوص محفوظ فاعلة داخل الحقل الروائي، هو رهان يتوقف نجاحه على جرأة وبصيرة من قرأوه، وبالأخص من سيقرأونه، من منظور الحوار الحر، والتأويل المتواشج مع أسئلة يحبل بها واقعنا الذي لا يكف عن التبدل" ص131.


ب-الدَّمْقرطة الثقافية:


تؤدي الرواية دورا أساسيا في انتهاك صفاء اللغة الواحدة ونقاوتها، وتعرية رواسب التقليدية، ونقد الامبريالية والامتدادات الاستعمارية والفوارق الطبقية، والتحذير من مخاطر عولمة التخييل وتسويقه لأغراض تجارية. ولم يكن وكد الروائيين العرب، من وراء تجديد الشكل الروائي واستكشاف مجاهيل الذاتين الفردية والجماعية، الفضحَ والتشهيرَ، وإنما استشراف آفاق رحبة بحثا عن طمأنينة الإنسان العربي ورفاهيته في منأى عن كل أشكال الرقابة والوصاية . وبهذا الصنيع، فإن الرواية ، بحفرها في خبايا اللاشعور واستنطاقها لمخزون الذاكرة، تسهم في دمقرطة المجتمع و في وضع الإنسان أمام اختيارات كثيرة لإسعافه على الشعور بإنسانيته و تحقيق جزء من أحلامه الهاربة. كما تعد الرواية، وخاصة رواية الخيال العلمي، أحد الوسائل الناجعة لمساءلة المتستقبل وتحسيس القراء بأسئلته المحرجة. وهذا رهان متوقف على " توسيع فضاءات التخييل ليتمكن المبدع من توظيف جميع المكونات التي تسعف على تدعيم كونية الأدب والإبداع" ص101.


ج-المواطنة الديمقراطية:


يرى محمد برادة أن الرواية تستمد نسغ حركيتها من رحم مجتمع مقتنع بفلسفة "المواطنة الديمقراطية" وجدواها. ويقصد بها الأفق المناهض للأصولية المتزمتة والمتطرفة، والخيار الاجتماعي الذي يضمن حقوق الفرد ومواطنته ويحقق ما يتوخاه من تنمية وعدالة ومساواة. وإذا فرض هذا الاتجاه نفسه فإن الإبداع الأدبي والفكري سيتسع ليستوعب قيما كونية جديدة ، هي بصدد التكون والتبلور في سياق عالمي يجنح نحو العنف والمجابهة وهيمنة العولمة الاستهلاكية.


مما تقدم يتضح أن التخييل، في مختلف صيغه وتشكلاته، يشكل الخيط الرابط لمختلف فصول الكتاب. فهو يكشف عن إحدى مفارقات الواقع والمتمثلة في قدرة العمل الروائي على التعبير، بعمق، عن أسئلة معقدة تهم مصير الإنسان وتكشف عما يستضمره من تطلعات وأحلام واستيهامات سعيا إلى تحقيق التكامل التام بين ذاته وبين مطالبه وحاجاته ( الحنين إلى عصر الملحمة على حد تعبير جورج لوكاش) رغم تدهور المناخ السياسي والبنيان الاجتماعي. ويشكل التخييل أيضا نقطة ضوء في عالم مظلم لصوغ أسئلة لمناهضة أشكال القمع واستشراف آفاق المستقبل . " وهي أسئلة تستقر وتحفر في مناطق لا تطاولها أذرع السلطة الأخطبوطية" ص 20.


ويأتي كتاب محمد برادة في سياق الاهتمام بالتخييل من جوانب متعددة لفهم طبيعته ووظيفته ليس في العمل الأدبي فحسب وإنما في المجتمع أيضا، وذلك نتيجة تزايد الاهتمام به في صناعة الأفلام وفي تدعيم الثقافة الشبكية (Cyberculture). وكما عاينا من زوايا مختلفة فإن محمد برادة يعتني بالتخييل بوصفه ذاكرة مشرعة على احتمالات وآفاق وتجارب متعددة، ومنهمكة على استكشاف مجاهيل الذات واستقصاء الحقائق المغفية والأحلام المحبطة، ومقاومة الطابوهات وأشكال التكريس والامثتالية والرقابة. ويدعو محمد برادة، في الإطار نفسه، إلى توسيع نطاق التخييل العلمي الذي يستوحي فرضيات العلم ونتائجه، ويضع الإنسان المعاصر أمام آفاق وبدائل جديدة للعيش ومواجهة مشاكل الحياة المتفاقمة.


لقد سبق لي أن قلت ، في البداية، إنه يُستحسن أن يقرأ كتاب محمد برادة في موازاة مع إصدارات جديدة تسائل منزلة الأدب ومقاربته ( وخاصة كتاب "الأدب في خطر" لتزفتان تودورف([2])) أو تفتح آفاقا جديدة للارتقاء بالتحليل من مستوى السردية(Narrativité) إلى مستوى التخييلية (Fictionnalité). وأشير في هذا الصدد إلى كتابين هامين اعتمد عليهما محمد برادة في تحليلاته. أولهما " ما التخييل؟" لجون ماري شايف([3]) يتوخى هذا الكتاب فهم الأسس الأنتربولوجية للتخييل نتيجة ابتداع " واقع مفترض réalité virtuelle" وضع حدا فاصلا بين العوالم الرقمية وأشكال التخييل التقليدية. وهذا ما جعل صاحبه يهتم بالمواقف الذهنية والآليات النفسية والمفترضات التداولية([4]). وثانيهما كتاب " ميزة التخييل" لدوريت كوهن([5]). فبعد أن عرفت التخييل بوصفه سردا غير مرجعي اضطلعت بتحليل بعض أشكال الكتابة ( التاريخ والسيرة الذاتية والسيرة والرواية) لبيان درجة حضور التخييلية فيها والتمييز بين المعطيات القابلة للتذكر والتحقق (كما هو الحال في السيرة الذاتية الواقعية أو التاريخ أو السيرة) وبين المعطيات المبتكرة وغير القابلة للتحقق (كما هو الحال في الرواية والسيرة الذاتية التخييلية).
----------------------------------------------------------
الهوامش:


[1] -تستدعي القراءة العمودية التوقف عند كل فصل على حدة لإبراز محتوياته وقضاياه. ويتكون الكتاب من سبعة فصول، وهي :نقد الرواية وإنتاج المعرفة، الرواية العربية: الكونية أفقا، دون كيخوتي وتأسيس حداثة الرواية، ندرة رواية الخيال العلمي العربية في سياق أسئلة المستقبل، اللغة الروائية العربية وسيرورة التعبير، مدام بوفاري تبلغ عامها المائة والخمسين، من قرأ نجيب محفوظ.
[2] -Todorov ( Tzvetan) : La littérature en péril , Falammarion ,2007.
[3] -Schaeffer ( Jean-Marie) : Pourquoi la fiction , Seuil,1999.
[4] -يميز جون ماري شايفر بين قضيتي التخييل والعمل الأدبي. فغاليا ما يقرن التخييل بالإعمال الأدبية، في حين يعتبر كفاية نفسية يتمرن عليها الطفل والراشد على حد سواء للتفاعل مع الواقع . وحاول شايفر في كتابه أن يجيب عن الأسئلة الآتية: لم نهتم بالتخييل؟ ولم نستهلكه ونستمتع به؟ ومن أين يُستمد ؟ وما جذوره التاريخية؟


[5] -Cohen ( Dorrit) : Le propre de la fiction traduit de l'anglait ( Etats-Unis) par ClaudeHary-Schaeffer,Seuil,2001.

 

الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الخميس 10-06-2010 09:20 أ£أ“أ‡أپ  الزوار: 2216    التعليقات: 0

العناوين المشابهة
الموضوع القسم الكاتب الردود اخر مشاركة
تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأربعاء 25-02-2015
لكل بداية دهشتها، محمد الداهي مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 19-01-2015
استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 24-11-2014
مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الثلاثاء 18-11-2014
من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأحد 09-11-2014