x
اخر ألاخبار    الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي : حوار أجراه محمد الداهي       Hommage à Mohammed Berrada : Mhamed Dahi       تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي" ، د.محمد الداهي       النغمة المواكبة .. كتاب جماعي محكم عن المفكر والروائي عبدالله العروي       لكل بداية دهشتها، محمد الداهي       استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء في كتاب " صورة الآنا والأخر في السرد" لمحمد الداهي       مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية- د. محمد الداهي       La fictionnalisation de soi dans le roman arabe Mhamed Dahi       من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات التغيير الثقافي -د.محمد الداهي       تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب. د.محمد الداهي    
التلقي العربي لرواية" دون كيخوتي" -د.محمد الداهي

يقدم هذا المبحث تصورا عاما عن التلقي العربي لرواية" دون كيخوتي" التي ما فتئت تثير شهية النقاد وتستجلب قراء من مختلف المشارب والجنسيات، نظرا لما تحفل به من سمات فنية وجمالية، وما تثيره من قضايا إنسانية في غاية التشابك والتداخل والعمق.

تمهيد:
تستتبع نظرية التلقي علاقة جدلية بين أفق التوقع ( ما يتضمنه النص) وأفق التجربة ( ما يفترضه المتلقي)، وتفتح حوارا بين الماضي والحاضر" مدرجة التفسير الجديد ضمن السلسلة التاريخية لتفعيلات المعنى"([1]). وقد جاءت هذه النظرية لاستدراك مسألة تاريخ الأدب التي استبعدت نتيجة الخلاف المحتدم بين الشكلانية والماركسية، وردم الفجوة الفاصلة بين المعرفة الجمالية والمعرفة التاريخية، وإعادة الاعتبار للنزعة الإنسانية التي غيبت من المحفل الأدبي إثر الإعلان عن موت الكائن البشري. وهي تنطلق من معاودة النظر في ثبات النظرة التقليدية للنص " فالمعنى ..ليس شيئا يستخرج من النص، أو يتم تجميعه من إيحاءات نصية، بل يتم التوصل إليه من خلال عملية تفاعلية بين القارئ والنص"([2]). لقد زعزعت نظرية التلقي التقليد السائد الذي كان يتعامل مع النص بوصفه قاعدة ثابتة للتأويل ، وانزاحت عن المفاهيم التأويلية القديمة واضعة القارئ في مركز مشروعها الـتأويلي، و مؤكدة عدم الفصل بين النص المقروء وتاريخ تلقيه. وهكذا أصبحت للقارئ مهمة جديدة لا تختزل في التلقي السلبي والتواطؤ للبحث عن المعنى الوحيد والمحدد سلفا، وإنما تقوم على ملء فراغات النص وفرجاته ، وإدراكه في صيرورته وليس باعتباره كينونة ثابتة، وبناء المعنى المتعدد من خلال التفاعل والتوصل معه ( فعل القراءة).
إن الهدف المنشود الذي سعت إليه نظرية التلقي- رغم أنه ما يزال بعيدا عن التحقيق- هو إدراك " نظرية عامة للتواصل" ذات اختصاصات متداخلة، وهي نظرية تحتوي على جميع الاختصاصات وتتكون منها في الوقت نفسه"([3]). كما "أنها مطالبة أخيرا بالانفتاح على نظريات التواصل والسلوك وسوسيولوجية المعرفة حتى يمكنها فهم كيفية إسهام الفن، بما هو أحد وسائط الممارسة الاجتماعية في صنع التاريخ... وتكون السلوك الاجتماعي وتنقله"([4]). ولقد كرست جهدها لوضع لبنات ما اصطلح عليه بالتواصل الأدبي. ويمكن في هذا الصدد الاستشهاد بالقولتين الآتيتين:
يقول إيزر: " فالتواصل الأدبي هو عملية لا يحركها ولا ينظمها سنن معطى بل تفاعل مقيد وموسع بطريقة متبادلة بين ما هو صريح وضمني، بين الكشف والإخفاء"([5]).
ويقول ياوس " ويعتبر إدراك التواصل الأدبي، الذي يضمره ما يدعى "الظواهر الأدبية" ، غاية تستهدفها أبحاث جديدة تتطلب نظرية كفيلة باعتبار التفاعل بين الإنتاج والتلقي ضمن تحليل سيرورات التلقي. فبواسطة هذا التفاعل يتم التبادل الدائم بين المؤلفين والمؤلفات والقراء، بين تجربتي الفن الحاضرة والماضية"([6]).
يضع إيزر التواصل ضمن مصطلحين آخرين وهما البنية والوظيفة وتحيل المصطلحات الثلاثة إلى ثلاث مقاربات متباينة تتمثل فيما يلي: التحليل البنيوي الذي يهتم بوصف بنية العمل وتصنيف عناصرها، ثم التحليل الوظيفي الذي ينكب على إبراز كيفية إدماج النصوص في علاقة متبادلة مع محيطها، ثم جمالية التلقي التي تعتبر التواصل الأدبي نشاطا مشتركا بين القارئ والنص.
ويرصد ياوس تاريخ التجارب الجمالية مركزا على مقولات أساسية وهي: الإبداع والإدراك والتطهير. ويعتبر التجربة الجمالية التواصلية ( التطهير) جزأ من الثالوث الجمالي الذي يضم أيضا التجربة الجمالية المنتجة ( الإبداع) والتجربة الجمالية المستقبلة ( الإدراك الجمالي). ويركز في التجربة الجمالية التواصلية على مفهوم التماهي ، الذي لا يعتبره تلقيا سلبيا وإنما "يستلزم حركة مد وجزر بين الملاحظ المحرر جماليا وبين موضوعه غير الحقيقي حيث يمكن للذات خلال استمتاعها الجمالي أن تمر عبر عدد كبير من المواقف"([7]).
تعتبر نظرية التلقي التواصل الأدبي جزءا من التفاعل الإنساني الذي يعتبر من بين انشغالات مدرسة فرانكفورت في إطار نظرية تحررية للتواصل. وتتعامل معه بوصفه نشاطا مشتركا يجمع بين النص والقارئ، وبين التجربة الجمالية والواقع المعيش، وبين الماضي والحاضر. وهكذا أعادت نظرية التلقي الاعتبار لوظائف الإنتاج والتلقي وتفاعلهما، ووجهت الاهتمام من استقرار النص وثباته إلى أفق القراءة وحركيتها، وركزت مجهودها على دور القارئ في إصدار تأويلات جديدة وإضفاء الحركية على النص. " إن حياة العمل ناتجة ليس من وجوده في ذاته بل من التفاعل الحاصل بينه وبين البشرية"([8]).
1-إعادة الاعتبار لمفهوم التطبيق في الهرمونطيقا الأدبية:
يحلل ياوس التواصل الأدبي اعتمادا على الفهم والتأويل والتطبيق، وتمثل هذه المفاهيم الوحدة الثلاثية للمنهجية الهرمنطيقية عند هانس غادامر. وفي هذا الصدد يرى ياوس أن الهرمنطيقا الأدبية-على عكس المجالات الهرمنطيقية الأخرى- لم تول أهمية تذكر لمفهوم التطبيق لكونه ظل لمدة طويلة رهن التاريخانية والتأويل المحايث. إن الاهتمام بهذا المفهوم أفضى، بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلى ظهور نظرية التلقي التي أحدثت إبدالا في مجال المعرفة الأدبية، وحتمت قراءة ثالثة من الصنف التاريخي، تستتبع إعادة تكوين أفق الانتظار وطرح أسئلة من قبيل : ماذا يقول النص بالنسبة لي؟ وماذا أقول بصدد موضوع النص؟ لقد اهتمت الهرمنطيقا الأدبية أساسا بالقراءة الأولى ( الفهم) وبالقراءة الثانية ( التأويل) واستبعدت القراءة الثالثة ( التطبيق) من اهتماماتها بدعوى أنها حكر على المجالات ذات المنحى أو النزوع العلمي. ومن خلال السياقات التي ورد فيها مفهوم التطبيق يمكن أن نستنتج ما يلي:
1-إنه يستدعي الاستجابة للرغبة في قياس وتمديد أفق تجربة القارئ، وذلك بمقارنتها بتجربة الآخر في إطار التواصل الأدبي مع الماضي([9]).
2-ليست الغاية من استحضار نص قديم أن يكون مفهوما وإنما راهنيا ويتم تعليل صلاحيته المقننة ([10]).
3- إن مشكل التطبيق لا يشمل فقط الدلالة الممنوحة للماضي، بل أيضا الدلالة التي يكتسيها المستقبل بالنظر إلى الوضعية الراهنة ([11]).
سنقوم في البداية باستجلاء كيف تلقى العرب دون كيخوتي على المستوى النقدي والإبداعي في إطار ما اصطلح عليه بالتواصل الأدبي، ثم سنحاول إبراز طبيعة الأسئلة التي انطلقت منها بحثا عن أجوبة محددة، واستجلاء كيف تعاملت مع القراءة الثالثة ( التطبيق) في ضوء ما استنتجناه من تصورات ياوس التي أعادت له الاعتبار.
2- على المستوى النقدي:
1-في دراسة محمد منذور([12]) يتضح أنه رغم إحباطات دون كيخوتي وانكساراته، فقد ظل وفيا لإحلام الشباب، ساعيا إلى المجد بحد السيف أو سنان القلم. لقد اتخذ ثرفانتيس من هذه الشخصية رمزا لشبابه وعنوانا للمغامرات الجنونية. وركز محمد مندور في تلخيصه لرواية دون كيخوتي على أهم التحديات التي واجهته لإثبات فروسيته وإقدامه، لكنه لم يجن منها إلا أسوأ الجزاء، ولم يستطع أن يرفع الظلم لفساد نفوس البشر. لقد أغراه كل فشل بمغامرة أخرى إلى أن مات حسرة على انهزامه في معركة دارت بينه وبين فارس آخر. "مات فتلقى الموت كما يتلقى محب ابتسامة حبيبته أو شهيد وجه ربه. مات بعد أن علم أن القتال لخير البشر قتال مع طواحين هواء. مات بعد أن فشلت جهوده ولم تعد لديه القدرة على استئناف حياة بليدة راتبة كالتي يحياها ملايين البشر من الخاملين"([13]). ويستنتج محمد مندور من مغامران دون كيخوتي عبرا ودروسا للأجيال الساعية إلى المثل الأعلى والملتمسة للخير والفناء.
2-تطرق عزالدين إسماعيل إلى مؤلف دون كيخوتي في فصل وسمه بالقصة، واعتبره " قصة خالدة" ومن " عيون الأدب العالمي"([14]). ومن خلال هذا الفصل يتضح أن عزالدين إسماعيل يدرج القصصي والروائي والحكائي ضمن خانة واحدة دون مراعاة مواضعات هذه الأجناس وضوابطها الخاصة، كما أنه لم يميز بين المادة الحكائية ( القصة) وطريقة سردها ( السرد) ووضعها في قالب حكائي مناسب ( الجنس). وفي أحد الهوامش لخص أطوار رواية دون كيخوتي مركزا على الجوانب الآتية: سخرية ثرفانتيس من أدب الفروسية وما يتضمنه من تصنع وزيف، وابتعاده عن الواقع، ونزوعه المثالي، واحتفاؤه بالمثل والقيم الروحية والمفاجآت العجيبة.
3-خصص غبريال وهبة دراسة مفصلة لدون كيخوتي في كتابه المعنون ب دون كيشوت بين الوهم والحقيقة ([15]). وهي تتكون من بابين. وكل باب يتكون من ثلاثة فصول. بين المؤلف في الباب الأول الظروف التاريخية والاجتماعية التي عاش فيها ثرفانتيس، وأبرز مغامراته التي تتشخص بعض آثارها ومعالمها في روايته دون كيخوتي، وأثبت سجلا مسلسلا بأعوام لها دلالتها في حياته.
وانكب في الباب الثاني على سرد مغامرات دون كيخوتي المفعمة بالغرابة والجنون، وبيان رغبته في إضفاء رداء النبالة والجمال على عالم تافه وفظ، وإصلاح ما في العالم من شرور. كما قدم جردا لأهم شخصيات الرواية محاولا إثبات إرسائها الاجتماعي والتاريخي، ومبرزا مواصفاتها و وظائفها، ومتوخيا تحديد مكانتها في مركز اهتمامات دون كيخوتي. وفي الأخير حاول رصد الأصداء التي خلفتها رواية دون كيخوتي في أقطار مختلفة، وفي نفوس كتاب من طينة هنري فيلدينج وغوستاف فلوبير ووالتر سكوت وشار ديكنز وبوشكين وتورجنيف. كما أن تأثيرها لم يقتصر على المجال الروائي وإنما تعداه إلى مجال المسرح والموسيقى والتشكيل.
من خلال هذه الدراسة يتبين أن غبريال وهبة كان يبحث أساسا عن المطابقة بين الرواية والواقع ، وذلك من خلال استحضار أشخاص من لحم ودم تنطبق عليهم مواصفات شخصيات من ورق، وتعليل أحداث الرواية وتفسيرها من المنظور التاريخي كما لو وقت فعلا. واكتفى برصد وقائعها وتلخيص مضامينها دون التوقف عند مستوياتها التخييلية والبنائية. ومن إيجابية العمل أن صاحبه صوب الخطأ الشائع في نطق ترفانتيس باللغة العربية([16])، وتعامل مع دون كيخوتي بوصفها جنسا روائيا و"لغزا محيرا" و"تحفة تاريخية" و"عملا فريدا وعظيما"، وخصص لها دراسة مفصلة بعدما لاحظ أنه " لم يكتب في مصر عن حياة ميجل ثرفانتس، مبتدع دون كيخوتي، إلا النذر اليسير.. بضع صفحات هنا وهناك في مقالات قصار أو مقدمات يستهلون بها رواية " دون كيخوتي" المترجمة إلى العربية"([17]).
4-أشار عبد القادر الشاوي إلى خضوع دون كيخوتي للقيود التي كان يفرضها المجلس الملكي على نشر أمثاله من الكتب. وبمقتضاه حظي الكتاب ببراءة التصويب، وحددت تسعيرته الرسمية. وتمتاز النسخة الأصلية باحتوائها على كلمة التشريف الملكي كتبها خوان أميسكيطا بالنيابة. ثم تطرق عبد القادر الشاوي إلى الإهداء الذي وجهه ثرفانتيس إلى الدوق ( بيجار) دون ألفونصو دييغو لوبيز، ثم نوه بترجمة ألين شولمان لرواية دون كيخوتي باللغة الفرنسية لقدرتها على مخاطبة فئات واسعة من القراء،" على عكس الترجمات الأخرى التي لم تفلح في تقريبها إليها، لالتصاق بعضها بالنص الأصلي"([18]). وفي الأخير،بين عبد القادر الشاوي النجاح الذي حققته رواية دون كيخوتي على مستوى إقبال القراء عليها من مختلف الأعمار والأجيال. وقد انعكس هذا النجاح على مجموع أعمال ثرفانتيس الأدبية.
5-عالج عبد الفتاح كليطو()[19] رواية دون كيخوتي من زاوية أنها تقدم نفسها باعتبارها مؤلفا كتبه عدة مؤلفين. فمنذ بداية الفصل الأول يثير ثرفانتس أن ما يرويه قد نهله من مصادر مختلفة. وفي نهاية الفصل الثامن يعتبر نفسه مجرد "مؤلف ثاني" يضطلع فقط باستنساخ نص كتبه Cide Hamete Benengeli تحت عنوان "تاريخ دون كيخوتي دي لامنشا". وقد اضطر عبد الفتاح كليطو إلى كتابة اسم المؤرخ العربي المفترض بالأحرف اللاتينية نظر لاختلاف المترجمين العرب في ترجمتها ([20]). اعتقد ثرفانتس في البداية أن الكاتب المفترض لدون كيخوتي هو إنسان حكيم يتمتع بطاقات وقدرات فوق-طبيعية، لكنه تعجب واندهش لما علم أنه إنسان مغربي عادي. لقد تعامل ثرفانتس مع النص السابق بمكر مضفيا عليه الطابع المسيحي القشتالي ومستبعدا الأنساق الثقافية العربية. وهكذا يرى عبد الفتاح كليطو أن الترجمة الماكرة لم تسعف ثرفانتس من استعادة الشكل العربي الأصلي([21]).
تنطلق قراءة عبد الفتاح كليطو من موضوع واحد هو Benengeli بوصفه موضوعا للتأمل، وذلك لمعرفة هوية المؤلف الحقيقي لرواية دون كيخوتي، وبيان غاية ثرفانتس من إسناد فعل الحكي إلى كاتب عربي مجهول وضرب من ضروب الخيال، واستجلاء جدلية الكتابة والمحو أو لعبة التطريس في دون كيخوتي. ما يثير في قراءة عبد الفتاح كليطو أنها استدراكية. تقول الشيء ونقيضه، و تصدع بحقيقة ثم تستدركها فيما بعد دون الإحالة عليها بصريح العبارة. قد توقع هذه القراءة القارئ المتسرع في شرك الإبهام والتناقض. لكنها تحتم على القارئ اليقظ أن يفكك ألاعيب اللغة الإبداعية معيدا تشكيل معانيها بطريقة نسقية. يصرح عبد الفتاح كليطو بما يلي : " بعد ذلك، سيبلغ إلى عمله أن مغامراته قد صاغها في كتابCide Hamete Benengeli، وفورا يبدي رغبته في الاطلاع على الطريقة التي وصفه بها ويسأل عن كيف ينظر إليه القارئ"([22]). وفيما بعد يصدع بما يلي:" قد نتساءل لماذا لم يكتب دون كيخوتي روايته بنفسه. إنه يمتلك، وهو المتشرب بالأدب، كل الصفات اللازمة"([23]). مرة يقول أن كاتب الرواية هو ثرفانتيس ومرة يعتبر كاتبها هو دون كيخوتي. لكنه، في نهاية الدراسة، يشيد حقيقة على أنقاض ما سبقها مؤكدا أن هم القارئ ( الوحيد الجدير بشخصية دون كيخوتي) ليس الجري وراء سراب مخطوط Cide Hamete Benengeli وإنما الانكباب على إعادة كتابة رواية دون كيخوتي وبنائها للإمساك بالأثر العربي المنفلت. وعلى عكس الدراسات السالفة، فإن كليطو يتعامل ، بطريقة محايثة، مع قضية محددة، وينطلق من أسئلة محددة للبحث عن أجوبتها بين ثنايا الرواية.
6-يبين عبد الوهاب مؤدب ([24]) أن رواية دون كيخوتي تتعامل مع الإسلام بوصفه عدوا مهيبا يمثل الشرق في نضاله ضد الغرب على حلبة البحر الأبيض المتوسط. يستند مؤدب إلى مقاطع حكائية تدعم تطرحه، ومسعاه وتجيب عن الأسئلة التي ينطلق منها. ومن ضمنها صراع الخرفان الذي توهمه دون كيخوتي حربا بين جيشين. يشف هذا التصوير عن "العلاقة بين الغيرية المذهبية والاقتران الجسدي" ([25])، كما يكشف عن " البنية الحربية لحوض المتوسط" ([26]). يتعامل عبد الوهاب مؤدب مع دون كيخوتي بوصفها ميثولوجيا حربية تشيد الهوية الإسبانية التي تقوم على ثلاثة أسس، وهي الجبال (إسبانيا المنيعة) والمسيحي العريق ونقاوة الدم.
وفي السياق نفسه يحلل حكاية " الأسيرة وزريدة" لإبراز ما كانت تتسم به المنطقة الوسيطية ( ما بين الفضاءين) من " حداثة كوسموبوليتانية" على المستوى اللغوي، ومن تضارب المواقف على المستوى الإيديولوجي ( الإخلاص، والخيانة، والتظاهر). وتمثل حكاية الموريسكي ( ريكوتة) وابنته (آنا فيليكس) وسيلة جذرية للتخلص من إسلام التقية ، وهذا ما يفسر أن " المعيار كان عرقيا أكثر منه دينيا"([27]). إن العوائق جميعها التي تعترض مشاريع دون كيخوتي المجنونة تعزى إلى " مورو ساحر" " هذا الجني المنتمي إلى هذا الشعب الباطني، وغير المرئي، الذي ما فتئ يؤرق الوعي الإسباني بلا فكاك"([28]).
إن مخطوط السيد حامدي هو من البقايا والآثار التي تستدعي من إسبانيا إنعاشها وإعادة بعثها للتذكير بالدين الإسلامي. " كان يوما ما " داخليا" بالنسبة لأوروبا، وها هو اليوم مطرود، محول إلى " خارج" يساهم في تحديدها، وإلى جار هو من القرب سيما وأنها ترغب باستبعاده"([29]).
من خلال هذه القراءة يتضح أن عبد الوهاب مؤدب يتعامل مع دون كيخوتي كما لو كانت رواية أطروحة تبرز الصراع القائم بين المسيحية والإسلام، كما يستنتج منها درسا لا يتجلى في إقبار الدين أو العيش على حداده، وإنما في عرضه والاحتفاء به في حقيقته. فإذا ما نبش الإسبان في تلك البقايا والآثار فهم سيساهمون في إعادة إعادة تأسيس ذاكرتهم نفسها، واستجماع الخيوط التي تربطهم بالبلدان المتاخمة لبلدهم. إن الخلفية التي تؤطر قراءة مؤدب هي الإجابة عن السؤال الذي يؤرقه بوصفه مسلما يعاني من تجربة المنفي في فرنسا([30])، والبحث عن موضع ثقافي " ما بيني" يحل التعاون والتآزر بين الحضارتين (الإسلام والمسيحية ) محل التنابذ والتصارع، والتقاط صدى التعايش الأندلسي بين الأديان الثلاثة . " إنه حنين إلى عصر وسيط جميل لكنه منصرم"([31]).
7-ينطلق مقال عبد الكبير الخطيبي([32]) من فرضية رائجة مفادها أن ثرفانتس يحدث، في روايته "دون كيخوتي"، قطيعة مع روايات الفروسية والأنواع الأدبية السائدة في عصره، ويمارس الكتابة على نصوص سابقة. انصب عبد الكبير الخطيبي على جنون ثرفانتس انطلاقا من ثلاثة مستويات، وهي :
1-أقام فصلا بين العقل والجنون، وبين القراءة والواقع.
2-يوجد تنافذ بين العقل والجنون، وبين القراءة والواقع.
3-في ما وراء الفصل بين العقل والجنون، أشرع ثرفانتس الكتابة على قارئ مجنون . فهذا الأخير يعتبر " قارئا مجنونا أكثر منه فارسا"([33]).
ويعتبر عبد الكبير الخطيبي موضوع الجنون ناجما عن وضعية الكتابة وعن مواجهة الكاتب لنفسه، وعن اللغة المشخصة.
تتميز قراءة عبد الكبير الخطيبي بالانزياح عن القراءة الواقعية التقليدية التي تعنى بجنون الشخصية محاولة رصده في العمل الأدبي وبالمقابل ، يتوخى عبد الكبير الخطيبي الكشف عن جنون ثرفانتس نفسه، وبيان كيف تخلص منه وعالجه بواسطة الكتابة. وما يثير في قراءة عبد الكبير الخطيبي أنه يبحث عن " الأسطورة الشخصية" لثرفانتس من خلال عمله كما لو كان مرآة مجلوة، ويقيم تقابلا بين توماس ( بطل قصة حامل الليسانس الزجاجي في المجموعة القصصية " قصص نموذجية") ودون كيخوتي من حيث انخراطهما في عالم الأسفار وإصابتهما بأغرب جنون ( جنون مسكون بالحقيقة)، وتبنيهما لتصورات كانت موجودة سلفا.
3-على المستوى الإبداعي:
سأبين كيف تلقت عينات من السرد العربي رواية دون كيخوتي وتفاعلت عمليا مع عوالمها التخييلية:
1-تتكون رواية حارسة الظلال دون كيشوت في الجزائر لواسيني الأعرج([34]) من مستويين سرديين متباينين. يتعلق المستوى الأول ( المحكي-الإطار) باضطلاع السارد بوصف رحلة فسكيس دي سرفانتس دالميريا ( الملقب بدون كيشوت) إلى الجزائر وتتبع مختلف مراحلها بهدف اكتشاف المغارة التي حجز فيه جده سرفانتس وأخيه رودريغو. فبمجرد وصوله إلى الجزائر اتصل بحسيسن الموظف بوزارة الثقافة لمساعدته على تنفيذ مشروعه الصحفي الذي نصحه به بيدرو دو سيفي، وتبنته الجريدة التي يعمل بها. وقبل سفره جمع معلومات عن كل المواقع التي مكث بها سرفانتيس ، وقرر أن ينفذ مشروعه الصحفي مهما كلفه ذلك من ثمن. لما وصل إلى المغارة رفقة حسيسن جذب صورة قديمة لها مقارنا بين حالتها السابقة وحالتها الحالية. لقد كانت -بفضل مجهودات الجالية الإسبانية بالجزائر- معلمة حضارية وثقافية وقبلة سياحية . ومع مر السنين اندثرت آثارها ،وتآكلت ملامحها، وانحسر جمالها ورونقها، ونهبت محتوياتها ومآثرها النفيسة (اللوح التذكاري لسرفانتيس وتمثاله النصفي) ليعاد بيعها خلسة في المفرغة. وبعيد مغادرة المغارة احتجزت الشرطة دون كيشوت بحجة دخوله إلى الجزائر بطريقة غير قانونية، فقام حسيسن بمختلف المساعي لإبعاد تهمة الجوسسة عنه وإطلاق سراحه. لم يعان حسيسن فقط مع موظفي الأمن ووزارة الداخلية وإنما أيضا مع وزير الثقافة والإرشاد الوطني الذي عاتبه على مساعدة "جاسوس" يهدد أمن الدولة، و انتزع منه ملف ندوة غرناطة ليسلمه إلى رئيس جامعة الجزائر المركزية.
ويتعلق المستوى الحكائي الثاني (المحكي المؤطر) بسرد دون كيشوت ما وقع له في السجن (نسخة الكورديلو التي سلمها الكباييرو إلى السارد). وهو عبارة عن يوميات حاول من خلالها أن يستحضر ما دونه في كناشتة التي حجزتها منه السلطات الجزائرية. وقد سعى من خلالها أن يقتفي أثر جده لما أراد تأليف كتاب الجزائر Le traité d'Alger وكذلك البرتغالي كاسكا رينهاس Mascarenhas الذي ألف كتاب أسير الجزائر. ورصد دون كيشوت في يومياته وقائع تتعلق بحالته النفسية وأحلامه واستيهاماته، وتذكر ما وقع لجده في سفينة "الشمس"Le soleil ومحكيات نانا عن حارسة الظلال، ومحاورته لزوار حقيقيين(الحراس وكباييرو الملحق الثقافي للسفارة الإسبانية بالجزائر) أو مفترضين ( على نحو المرأة النبيلة والشهمة زريد أو مايا، وملء الفراغات والبياضات التي تخللت المحكي-الإطار.
من خلال هذه الرواية نستنتج ما يلي:
ا-توخى دون كيشوت من مشروعه الصحفي تقديم أكبر تكريم لجده سرفانتس ، وإبراز الحالة المأساوية التي أصبحت عليها المغارة من جراء الإهمال والنهب. كانت تعتبر من المآثر التاريخية التي يتردد عليها السياح لاستحضار روح سرفانتس ومغامراته. ومن بين اللحظات المشعة التي مرت منها المغارة اضطلاع الجالية الإسبانية بتخليد الذكرى السنوية الثالثة لصدور كتاب دون كيخوتي بحضور لويس ماريناس قنصل إسبانيا في الجزائر. ومن خلال الرسالة التي حملها الكباييرو رفقة نسخة من الكورديلو إلى السارد يحكم دون كيشوت على نفسه بأنه أوفر حظا من جده سرفانتس لأنه استطاع أن يرى في خمسة أيام ما لم يستطع هو رؤيته في خمس سنوات. أطلق سراح سرفانتس سنة 1580 مقابل فدية قدرها خمس مائة إيكو ذهبية، أما دون كيشوت في الرواية فقد طرد بدعوى أنه يشكل خطرا على أمن الدولة.
ب-وموازاة مع الرحلة الاستكشافية لدون كيشوت، تميط الرواية اللثام عن الهاجس الأمني بالجزائر، وتفاقم ظاهرة الاستخفاف بالثقافة رغم دورها في تقدم الشعوب ورقيها، وظهور فئات جديدة متخصصة في تصنيع الفضلات والنفايات وترميم الآثار المسروقة لإعادة بيعها بأثمان باهضة إثر تزايد الطلب عليها من طرف البورجوازية الصاعدة.
ج- تقوم بنية الرواية على صنفين من التعارض. يتمثل الأول في تضارب موقف السلطة وموقف حسيسن من دون كيشوت. يجمع أفراد السلطة ( الشرطة، وزير الثقافة، وزارة الداخلية) على أنه جاسوس دخل إلى الجزائر بطريقة غير قانونية لتهديد أمنها واستقرارها. في حين أن حسيسن يفند هذه التهمة مبرزا أنه صحافي كبير يعشق مهنته باستماتة ." فوق كل هذا فهو رجل طيب ويحب هذا الوطن كثيرا وإلا لما زاره في وقت يخلي فيه الجميع أمكنتهم بسبب الإرهاب" ص227. ويتشخص التعارض الثاني بين السلطة وعالم المفرغة. وإن كانت السلطة تعارض ظاهرة البيع غير المهيكل في المفرغة، فهي لا تستطيع أن تحد من ظاهرة استفحالها وتفاقمها بحجة كونها مجرد مزبلة لحرق النفايات والأشلاء غير القابلة للاستعمال " هذا المكان مفرغة لحرق النفايات وليس مكانا لإعادة تصنيع الفضلات.السلع التي تصل إلى هذا المكان لا وجود رسمي لها لأنها قانونا، يفترض أن تكون قد أحرقت كمادة تالفة.كل شيء ههنا خاضع لنظام محكم تسيره الظلال" ص69. وقد أسعف عالم المفرغة على ظهور فئات جديدة ( البحاثة، البائعون، المسيرون) تعزل النفايات المفرغة من الشاحنات، وتتكفل بإعادة تصنيعها وترميم الآثار المسروقة لإعادة بيعها.
2- تتكون حكاية بنت أخ دون كيخوتي ([35])أيضا من مستويين سرديين . يهم أحدهما( المحكي-الإطار) تجربة عبد الله في قراءة الكتب ( وخاصة الروايات). كان يكتفي في البداية بتصفح الصور وتهجي الكلمات، ولما اكتسب ملكة القراءة اتضح له أن الرواية جنس ملتبس بل وماكر.ويتمثل ثانيهما ( المحكي المؤطر) في شكل استطرادات عالمة وتأملات نقدية واصفة تتمحور حول مفهوم القراءة ومستواياتها المختلفة، وعلاقة الكتابة بالصورة والجنون والقتل والحرق. وفي هذا الصدد يتخيل السارد أن دون كيخوتي-بعد استرجاع صوابه- كان يرغب في قراءة كتب دينية عن حياة القديسين، وذلك على نحو ما ألت إليه حياة القديسة تيريزا الآبلية التي ألفت رواية فروسية قبل أن تتحول إلى التصوف رغبة منها في الموت مثل القديسين لتظفر بالإكليل الذي حظوا به. ثم يستطرد لإبراز رغبة بنت أخت دون كيخوتي في حرق الكتب بدعوى أنها أفسدت عقل عمها المحبوب، و" مسكونة بشياطين فظيعة، وسحرة معتدين يعكرون سلام البيت ويشكلون تهديدا متواصلا"([36]). قرر الخوري إحراق الكتب استجابة لطلب بنت أخ دون كيخوتي، "لكن الغريب أنه أنقد بعضها من النار، ومنها رواية أماديس دي غول لمونتالفو، ويحكم عليها فقط بالحبس في بئر جافة" ([37]). واحتكم في عملية الانتقاء على ملكته النقدية التي تستنكر كل ما هو رديء ومؤذ.
نستنتج من هذه الحكاية ما يلي:
ا-استثمر كليطو شخصية دون كيخوطي من جديد لإثارة موضوعة أثيرة لديه، وتتعلق أساسا بإحراق الكتب لكونها تفتن العقول وتفسدها وتهدد سلام الناس وطمأنينتهم.
ب-إن من يحيط بدون كيخوطي- باستثناء بنت أخيه- أو يطلع على مغامراته، يجد نفسه مورطا في لعبته، ومصابا بعدوى جنونه، ومجردا من هويته.
3- تتكون قصة دون كيشوت ([38]) من أربع شخصيات يمكن أن تصنف على المستوى الجنسي إلى ذكر (دون كيشوت وجندب) وأنثى ( أميمة وأمية)، وعلى المستوى العاطفي إلى علاقة دون كيشوت بأميمة وعلاقة جندب بأمية. يعيد السارد تنشيط شخصية دون كيشوت مركزا على بعض سماتها وخصائصها، ومضفيا عليها شحنات دلالية جديدة اقتضتها الوظيفة المسندة لشخصية دون كيشوت في القصة، وطبيعة العلاقة التي نسجتها مع شخوص من إبداع السارد وتخيله. فمن بين المواضيع التي حافظ عليها نذكر أساسا إلحاح دون كيشوت على الخروج منتصرا في أي معركة يواجهها، ورغبته في منازلة الطواحين الهوائية وتطويعها.
إن طبيعة السياق جعلت دون كيشوت يؤدي وظائف جديدة ويدافع عن قضايا معينة. لقد جعل منه السارد شخصية عربية مولعة بلعب النرد في المقهى، وتدخين النرجيلة، ومنشغلة بالمد الإمبريالي والتخلف والتجزئة، ومعجبة بأغنية نصري شمس الدين التي يدور موضوعها حول الطواحين. فهي ، بالنسبة لدون كيشوت، تمثل رمزا دائما، وتعبر عن الصراع الذي يخوضه الإنسان في هذا العالم على مختلف الأصعدة. " إذا هدأت انتهت مشاكلنا، وإذا تحركت، فالعياذ بالله"([39]).
من خلال هذه القصة نخلص إلى ما يلي:
ا-وإن حافظ السارد على بعض صفات ومميزات دون كيشوت، فقد أسند له وظيفة جديدة تتمثل في تشخيص وضع الإنسان العربي في مواجهة المشاكل التي تحذق به من كل جانب. لم تدم نشوة احتفاء دون كيشوت ( شخصية هاني الراهب) بانتصاره الوهمي إلا لحظات عابرة ، فاستحالت إلى هزيمة قاسية ونكراء. وهكذا يجتر الهزائم الدونكخوتية ( نسبة إلى شخصية سرفانتس) كما لو حكمت عليه الأقدار بأن يعيش حياة سيزيفية.
ب-من خلال موضوع الطواحين اضطلع السارد بتشخيص ثلاثة مواقف متباينة. موقف ( تمثله أميمة) لا يقيم أي وزن لرمز الطواحين حاصرا مهمتها في إنتاج الطحين، ثم موقف ( الجماهير) يكتفي بمعاينة ما يراه في الواقع من معارك دون الإسهام فيها بدعوى أنها مغامرات مجنونة غير محمودة العواقب، ثم موقف ( دون كيشوت) يجازف بحياته لمواجهة مشاكل الحياة العاتية بما أوتي من شجاعة وقوة. وبعد سقوط دون كيشوت يظهر دون كيشوت جديد([40]) محاولا محو الصورة الباهتة التي ظهر عليها سلفه ويتندر بها الرواة وواعدا الجماهير بتحقيق الانتصارات الباهرة.
خاتمة:
حددنا، فيما سبق، بعض مقومات القراءة الثالثة ( التطبيق) وحصرناها في ثلاثة عناصر جوهرية ( المقارنة، الراهنية، النظرة إلى المستقبل)، يتضح من خلالها ليس فقط كيف تلقى العرب دون كيخوتي على اختلاف منطلقاتهم ومستوياتهم، وإنما أيضا كيف تم تحليلها وتشريحها نقديا، وكيف استثمرت عوالمها التخييلية إبداعيا.
1- لما نقارن بين عينات المتن يتضح أن رواية دون كيخوتي استأثرت باهتمام النقاد والمبدعين على حد سواء.
ففيما يخص الجانب النقدي تباينت مستويات المقاربات واختلفت مرجعياتها وفرضياتها. ويمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أصناف: أحدها ركز على تلخيص دون كيخوتي مركزا على موضوعات محددة (السفر، والجنون، والقتال، والموت..)، وثانيها بين الظروف التي اكتنفت إنتاج الرواية وطبعها وترجمتها إلى اللغة العربية، وثالثها انطلق من مضامينها لإبراز علاقة الشرق والغرب وموقف الإسبان من الإسلام.
أما فيما يخص الجانب الإبداعي، فنلاحظ أن عينة واحدة ( قصة هاني الراهب) أعادت استثمار شخصية دون كيخوتي مسندة لها وظائف جديدة أملاها الوضع السياسي العربي المتأزم، أما العينتان الأخريان ( رواية واسيني الأعرج وحكاية عبد الفتاح كليطو) فركزا اهتمامها، على التوالي، بحفيد دون كيخوتي وببنت أخيه. وإن اختلفت المحكيات في التعامل مع شخصية دون كيخوتي، فهي تتفق على اعتبارها رمزا ثقافيا ومعلمة حضارية.
وما يلفت النظر في مختلف العينات اختلاف النطق في الأعلام (سرفانتس/ثرفانتس، دون كيشوط/ دون كيشوت/ دون كيخوتي/ دون كيخوطي،سيدي حامد بن الأيلي/ وسيدي حامد بن الإنجيلي/ سيدي حامد بن النجيلي/ والسيد حامد ابن الغالي /السيد حامد بن إنخيلي). وهذا ما حذا بعبد الفتاح كليطو أن يتعمد كتابة هذا الأسم الأخير بالأحرف اللاتنية تجنبا للبس المثار حوله في اللغة العربية نظرا لكثرة التأويلات والتخمينات.
2- انصبت بعض العينات على إبراز راهنية دون كيخوتي بتأكيد مكانتها الإبداعية، وقدرتها على إثارة أسئلة معيشة تهم علاقة الشرق بالغرب،وإمكان إستثمارها لفضح الواقع العربي المهترئ ( على نحو رواية واسيني الأعرج، وقصة هاني الراهب).
3-انطلقت بعض العينات من الرواية لاستشراف آفاق المستقبل. وفي هذا الصدد استنتج محمد مندور من مغامرات دون كيخوتي عبرا ودروسا للأجيال الساعية إلى المثل الأعلى، وأشرع هاني الراهب قصته على احتمالات حكائية مفترضة نتيجة ظهور دون كيشوت جديد بإمكانه تفادي أخطاء سابقه لإصلاح أحوال الأمة العربية، وتظل الجزائر-حسب رواية واسيني الأعرج- مخبأة في الظل حتى يأتي خويا حمو ويكشف سره ويحفظه من التلف ويعيد الاعتبار إلى الوظيفة الثقافية لأهميتها في رقي المجتمع وتوسيع دائرة إشعاعه السياحي والحضاري ، ويرى عبد الوهاب مؤدب أن بعث مخطوط السيد حامدي من مرقد النسيان هو تذكير الإسبان بضرورة إعادة الدفء إلى العلاقات التي كانت تجمعهم بالمسلمين خاصة وأنهم يتقاسمون تاريخا وذاكرة مشتركة. ومع ذلك يظل السؤال الأساسي معلقا أيمكن لدون كيخوتي في مختلف صوره وتجلياته أن يحقق ما كان يصبو إليه ( إصلاح أحوال الناس) أم تنطبق عليه أسطورة الرجوع الأبديLe retour éternel ( حسب وجهة نظر نيتشة).
----------------------------------------------------------
الهوامش:
[1] -هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة رشيد بنحدو، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد 484، ط1، 2004، ص103.
[2] -روبرت س. هولاب، نظرية التلقي ( مقدمة نظرية)، ترجمة خالد التوزاني والجلالي الكدية، منشورات علامات،ط1،1999،ص141.
[3] -االمرجع نفسه، ص99.
[4] -هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي.. م.سا ص134.
[5] -فولفغانج إيزر، فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب ( في الأدب)، ترجمة حميد لحمداني والجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، مطبعة النجاح الجديدة،1995،ص100.
[6] -هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي..م.سا ص102.
[7] -روبرت س. هولاب، نظرية التلقي، م.سا ص73.
[8] --هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي..م.سا ص35.
[9] -Hans robert Jauss,Pour une herméneutique littéraire, traduit de l'allemand par Maurice Jacob , ed Gallimard,1982,366.
[10] -المرجع نفسه ص 18.
[11] -المرجع نفسه ص 19.
[12] -"دون كيشوط Don Quichotte"، في : نماذج بشرية، دار المعرفة، ط3،1961، ص/ص55-65.
[13] - المرجع نفسه ص64-65.
[14] -عزالدين إسماعيل، النقد الأدبي الحديث، دار الثقافة،دار العودة، بيروت،1983، ص/ص502-504.
[15] - صدر عن الهيئة العامة للكتاب، 1979.
[16] - ينطق بالإسبانية ثرفانتيس وليس سرفنتيس وفق نطقه بالإمجليزية أو الفرنسية.
[17] -المرجع نفسه ص6.
[18] - عبد القادر الشاوي، " ميغيل سرفانتيس: رواية الفروسية والأحلام المستحيلة"، الحوارات، منشورات الموجة، ط1، 2003،ص10.
[19] - عبد الفتاح كليطو، « Cide Hamete Benengeli" في لسان آدم ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر،ط1،1995،91-97.
[20] - من بين الترجمات المقترحة ،في إطار تأويل الاسم وإيجاد ما يعلله باللغة العربية، نذكر ما يلي: سيدي حامد بن الأيلي، وسيدي حامد بن الإنجيلي، وسيدي حامد بن النجيلي، والسيد حامد ابن الغالي، والسيد حامد بن إنخيلي..ألخ.
[21] -عبد الفتاح كليطو، Cide Hamete Benengeli، م.سا ص97.
[22] -المرجع نفسه ص94.
[23] -المرجع نفسه ص96.
[24] - " وضعيات الإسلام في دون كيخوتة"، الكرمل، العدد 11،1985، ص/ص101-111.
[25] -المرجع نفسه ص102.
[26] -المرجع نفسه ص103.
[27] -المرجع نفسه ص 108.
[28] -المرجع نفسه. يقصد الإسبان بالموروLos Moros المسلمين بصفة عامة.
[29] -المرجع نفسه ص110.
[30] -الانطلاق من الأثر الإسلامي الذي مازال يفعل في كيانه إن لم يكن كمعتقد فعلى الأقل كثقافة، والبحث عما يمكن أن يضفي على إقامته نوعا من الصفاء والهدوء في قلب التناحر التارخي الذي ما زال يجثم على حوض البحر الأبيض المتوسط. انظر في هذا الصدد إلى ص101.
[31] -المرجع نفسه ص 101.
[32] - " المستويات المتعددة للكتابة"، الكرمل، م.سا ص/ص112-114.
[33] -المرجع نفسه ص113.
[34] -صدرت في طبعتها العربية عن دار الجمل، المانيا، 2000.
[35] - هذه الحكاية مثبتة في: عبد الفتاح كليطو، حصان نيشتة، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر،ط1،2003، ص-ص54-62.
[36] -المرجع نفسه ص 58.
[37] -المرجع نفسه ص58.
[38] - في المجموعة القصصية لهاني الراهب، جرائم دون كيشوت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط2،1979، ص/ص112-118.
[39] -المرجع نفسه ص 115.
[40] - انظر في هذا الصدد إلى قصة " جندب هريشلان أو مغوار"، المرجع نفسه ص130.

الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الخميس 10-06-2010 11:52 أ•أˆأ‡أچأ‡  الزوار: 6824    التعليقات: 0

العناوين المشابهة
الموضوع القسم الكاتب الردود اخر مشاركة
تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأربعاء 25-02-2015
لكل بداية دهشتها، محمد الداهي مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 19-01-2015
استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الإثنين 24-11-2014
مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الثلاثاء 18-11-2014
من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات ... مقالات ودراسـات محمد الداهي 0 الأحد 09-11-2014