حرر في الجمعة 19-07-2013 02:09 أ•أˆأ‡أچأ‡
مقدمة تشكل الدراسات العربية المعاصرة حلقة متصلة الأبعاد فيما يتعلق بما عرف بإلحاح في النصف قرن الماضي أحيانا بفكرة "الأنا " و "الآخر" ، أو فكرة (أنا - أنت) كما يقول الحبالى (ص 53) أو غيرها من الأفكار التي طرحت في المشرق والمغرب العربي على السواء ، عند حسن حنفي وتلامذته أو محمد عابد الجابري وتلامذته . وقد تراوحت الفكرة بين التناول والتداول في كثير من الدراسات مثل تاريخ العلوم، ومثل دراسات النقد الأدبي ، وشكلت محورا للسجال بين علماء ومفكري العالم العربي (المشرق والمغرب) وبين الغرب، وجاءت في كثير من الأحيان تحمل عناوين مثل : رؤية الغرب للشرق، الغرب والإسلام ، الغرب والعرب ، أو الإسلام والغرب (الأنا والآخر_ الجابري) ، الحوار الإسلامي المسيحي (عبد المجيد الصغير) المجتمع العربي والثقافة غير العربية (عبد الإله بلقريز)، الثقافة العربية في مرآة الآخر (عبد السلام بنعبد العالي)، وغيرها من الموضوعات أو العناوين التي تدل دلالة واضحة على وجود ثمة علاقة بين (الأنا) و (الآخر) أيا كان هذا الآخر. ومقتضى البيان أن مصطلح (الآخر) استخدم بصورة فضفاضة، وجاء في أغلب الظن يحمل دلالات مختلفة. فقد يكون (الآخر) الذي يتحدث عنه الكاتب هو الغرب ، ومن ثم يصبح في مقابل الشرق . وقد يكون (الآخر) هو المسيحي ، ومن ثم يصبح في مقابل المسلم ، وما إلى ذلك من كينونات . لكن اللافت للانتباه في هذا الصدد أن (الآخر) ، أيا كان هو ، يتخذ موضعه ومكانته في ذاتي الداخلية، وتتبلور صورته متساوقة في مخيلتي مع صور أخرى ، جنبًا إلى جنب ، وحينا بعد حين . وهذه الصورة تفترض (الأنا) ، إنها صورة واحدة ، ثابتة ، ساكنة ، لا تتغير ، وتقوم الأنا بنقل هذه الصورة إلى الآخرين بشكل تلقائي يدل على ثباتها وسكونها . وحين تقوم الذات بهذا فإنما تكون قد "صَدَرَتْ صورة ثابتة" Exported a fixed image وساكنة عن الآخر الذي من المفترض أنه دينامى، ومتغير في الزمان ، تجرى عليه الحوادث فتغيره من وقت لآخر ، فلا يصبح هو في اللحظة التالية. ومن ثم فإن تصور التصدير هنا تصور ابستمولوجى . هذا هو الأمر الأول . وتختار هذه الورقة أن تتناول التأطير لفكرة (التصدير Exporting )، التي نتناولها لأول مرة في الثقافة العربية ، في هذه الندوة الدولية العلامة .... في المغرب.... هذا البلد الكريم الطيب المضياف ، من خلال واحد من النصوص التي دُشنت "آنيا" في الثقافة العربية وبصفة خاصة الثقافة المغربية المعاصرة في الأيام القليلة الماضية ، وهو تصور طبيعة فكرة (التصدير) التي نتحدث عنها في المتخيل الثقافي ابستومولوجيا. وهذا الموقف الآني يمثله واحد من الكتاب والنقاد في المغرب ـــ أقصد في هذا البلد الكريم الذي كان على مر التاريخ قلعة حصينة للثقافة العربية الإسلامية ـــ وهو الدكتور محمد الداهي ، وقد تبلور موقفه في كتابه الأخير صورة الأنا والآخر في السرد ، الذي صدر مؤخرًا في القاهر عن منشورات رؤية، ولهذا دلالة مهمة تشير إلى الرابطة الثقافية بين مصر والمغرب عبر التاريخ . وهى رابطة أقوى من الروابط الزمنية المؤقتة المرتبطة بالمصالح الزائلة . إنها رابطة الإسلام والعروبة . أما الباعث على اختيار كتاب محمد الداهي " صورة الأنا والآخر في السرد" لبيان فكرة (التصدير) التي أذهب إليها فيرجع إلى ثمة أمور أهمها : الأول ، أن دراسة محمد الداهي التي أشرت إليها عَمَدت إلى (تصدير) صورة دينامية للآخر تتشكل باستمرار في ديمومة متواصلة عبر الزمن ، فكانت الحركة مقابلة للسكون التصوري المفعم به النص عادة ، هذا من جانب . الثاني، أن دراسة محمد الداهي الأخيرة "صورة الأنا والآخر في السرد" تأتى متواصلة مع بعض الدراسات التي صدرت له من قبل مثل : "نوعية السيرة الشعبية وحكائيتها : من أجل وعى جديد بالتراث السردي" (صدرت في مجلة كتابات معاصرة ، العدد 13-14 عام 1998 ) . و"قضايا منهجية في دينامية النص الروائي" ( وقد صدر هذا المقال في مجلة البيان ، العدد 374 عام 1998) و "بحث عن مواصفات السيرة الذاتية" (مجلة الثقافة المغربية ، العدد 18 عام 2001 ) ، وأخيرا "مسألة تجنيس السيرة الشعبية ضمن الكلام العربي" (مجلة البحرين الثقافية ، العدد 32 عام 2002 ) وهذه الدراسات قامت على استكناه علاقة (الأنا) بـ (الآخر) على مستويات مختلفة ، وتوظيف الفهم النقدي للسرد تواصلا واتصالا . تواصلا بين نقاد ومفكرين مغاربة وفرنسيين ، واتصالا بين الفكر المغربي العربي بتماسكه الثقافي والبنائي والفكر الغربي ، مدللاً على أنه قد لا يكون من الصحيح (تصدير) صورة جماعية عن الفكر العربي للغرب ، أو في المقابل ، استجلاب صورة غربية جماعية إلى الشرق ، هذا من جانب ثان . إن السيرة الذاتية تجمع في طياتها جوانب مُلغزة (أحيانا) تنزلق من مرحلة التكوين إلى مرحلة النضج، مما يعنى الإفصاح عن التطور النفسي لصورة الآخر التي يتم تصديرها ، كما أنها صورة تكونت عبر الزمن . وهنا يثبت الناقد محمد الداهي من خلال دراساته المتقدمة، أن صورة الآخر في المتخيل الثقافي ليست صورة سكونية على ما قد يتوهم ، وإنما هي صورة دينامية تنزلق فيها ، ومن خلالها، مفاهيم مختلفة ، وهى صورة مفعمة بالحيوية والتجدد . وقد انكشفت هذه الصورة وتجلت بشكل أكبر في كتابه الأخير "صورة الأنا والآخر في السرد" . (تصور الدينامية يبدو أنه بدأ يشكل محور اهتمام محمد الداهي في نهاية التسعينات : على سبيل المثال دينامية الإقراء :أوراق عبدا لله الغروي مثالا، دار وليلي،ط1، 1997 ، قضايا منهجية في دينامية النص الروائي،مجلة البيان، ع374، 1998) 1-نص صورة الأنا والآخر في السرد يقع النص الذي نتناوله في مقدمة وثمانية فصول بالإضافة إلى النتائج. أما المقدمة فقد اشتملت على رؤية كلية للدكتور محمد الداهي . وجاء الفصل الأول عن: رد الاعتبار للذات في تجلياتها الشخصية والقومية ، ويتناول الفصل الثاني "صورة المغربي والأسطورة البربرية ، وأما الفصل الثالث فقد جاء بعنوان صارخ : انتقاما من الآخر . على حين أن الفصل الرابع تناول الوجه المتوحش والمتحضر للآخر. وخصص الفصل الخامس عن :تجليات الآخر المتعددة . وأما الفصل السادس فقد عقد لتناول شعرية الذاكرة : جراح الماضي وإمكانات النسيان . ويتناول الفصل السابع الهوية المضطربة وكراهية الآخر . وأخيرًا يأتي الفصل الثامن ليتناول صورة العراق بين عبثية الحروب والتغيير المنشود. ثم تأتى الخاتمة التي يلخص فيها الداهي وجهة نظره إجمالا . وقد زودت الدراسة بالمراجع العربية والأجنبية والتي شكلت مكنز المؤلف في دراسته . أ-إشكالية النص تتمثل الإشكالية الرئيسة للنص في استكشاف ما تفرزه البنية الصراعية بين الآخر الغالب والأنا المغلوبة. ويركز النص على صورة الآخر المتعدد والمتحول ، مما يعطى صورة عن وتيرة الصراعات بين الأنا والآخر من خلال ظروف وملابسات مختلفة. ونحن نعرف أن مصطلح الآخر من المصطلحات التي شاعت في مجتمعاتنا، بصورة قوية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين. وهو مصطلح متعدد الجوانب ، كاشف لعلاقات ورؤى سياسية وإيديولوجية ، مفصح عن منظومة صراعية في علاقته بالأنا . نحاول إذن أن نتعرف على ( تصدير صورة الآخر) في كينونتها وجوهرها من خلال بعدين أساسيين هما: الأول كيف استُقْبِلت صورة الآخر؟ ثم، كيف تم تصدير (صورة الآخر) التي استقبلت، في زمان مضى، إلى ( آخر) في زمان لاحق. ب-بين الأدب والفلسفة لا بد من طرح السؤال حول الرابطة بين الأدب والفلسفة، أو بين النقد الأدبي والنقد الفلسفي بصورة أكثر تحديدًا. انصبت أعمال محمد الداهي _ التي أشرت إليها اختيارًا ، وغيرها من الدراسات التي قدمها _ على النقد الأدبي والسرد بصورة أساسية . والسرد نص ، حين يتناوله الباحث أو الناقد بالدراسة إنما يعيش فيه ، ويعمل على خلخلته وتفكيكه ، ليقدم لنا الحركة المتدفقة للنص ، التي تنساب من الماضي إلى الحاضر الذي يعيش فينا ، متقدما في حركة فكرية رشيقة متواصلة إلى المستقبل الذي يمثل التجديد والحيوية ، وهذا التقدم لا يكون في وثبات كتلك التي تمثلها لنا وثبات الكنجرو. ويتأسس على هذا أن النص المُعاش في سيرورة دائمة ، تلتقط الذات جوانبه المتعددة متجاوزة الزمان الاستاتيكى الجامد ، منتقلة إلى دينامية الزمان المفعمة بالحيوية والتجدد. لكن هذا التقدم الدينامي لا يكون ، كما أشرت سابقا، إلا من اعتبار خلخلة النص . فما الذي نقصده بفعل الخلخلة إذن؟ إن مسألة خلخلة النص ، أو تفكيكه ، إنما تسبغ على مفرداته تأويلات و رؤى جديدة تنطلق من أبعاد الصورة التي يراها الناقد كما تدفقت إليه . وهنا تلعب الرؤى التأويلية لمنظومة مفردات النص دورًا مهما في مخيلة الناقد الذي يعمد دائما إلى تجاوز أطر الزمان المحدود منطلقا إلى فضاء المخيلة اللامحدود ، والمفعم بالصور التي تنتجها الذات إنتاجا ، ( وتُصَدِرَها) للآخر من خلال رؤى جديدة لما تحصل لدى الذات من خلخلة النص وتفكيكه . والناقد الذي يقوم بهذا العمل النقدي إنما تأتى رؤيته متفردة Unique لا مثيل لها . (خيالي امتلكه ولا يشاركني فيه أحد)، هذه هي مفردة الناقد الأولى. والتفرد هنا يضفى على النقد طابعا ذاتيا . ولذا وجب أن يكون متفردا ، وهنا تصبح القاعدة ( ما هو ذاتي متفرد، لا يقبل المشاركة)، ومن ثم تصبح أيقونة التأويل ذاتية الطابع متفردة المنحى ، لا يشارك الأديب فيها أي كائن آخر مهما تشابهت العقول والتأويلات واتفقت الرؤى . إن عيوننا قد تتشابه ولكن ما أراه بعيني لا تراه أنت بعينيك. وتلتقي حلقة النقد الفلسفي مع النقد الأدبي فيما بسطناه من خصائص . والنقد الفلسفي في جزء كبير منه هو عماد ولب ما نعرفه في الدراسات الفلسفية بالإبستومولوجيا التي تغوص في أعماق المعرفة العلمية وتفكك جوانبها ، وتعزل العناصر عن بعضها ، المتفق منها والمختلف ، وتسبر أغوارها الواحدة تلو الأخرى ، وتُعمل النقد بصورة أساسية . والفيلسوف الذي يقوم بهذا الجهد هو ابستمولوجى بالدرجة الأولى ، ودوره في تفكيك المعرفة العلمية ، أو النظرية، أو النص العلمي ، إنما يكشف عن العملية التأويلية التي تنصب على مفردات النص المعرفي بعد تفكيكه ، وهو ما يعرف في إطار الدراسات الفلسفية ( بالهرمونطيقا) حيث يكشف النص المعرفي الذي يتناوله الابستمولوجى عن نص آخر متوارٍ وراءه ، يأتي من خلال معرفة جديدة يتم (تصديرها ) للآخر عبر القراءة التي أتاحت المعرفة الجديدة . يسعى الإبستمولوجى إذن إلى ما وراء الألفاظ ، هو بالمعنى الأدق يسعى إلى تحديد الدلالة Denoting المساوقة للنص ، والكامنة فيه في الوقت ذاته. يشارك الناقد الابستمولوجى رؤيته للنص وتصديره للآخر ، إذ النص/ النظرية قبل التناول لم يعد هو بعد التفكيك المعرفي والتصدير للآخر . لدينا إذن حالتان : الحالة الأولى: النص/ النظرية قبل التناول. وهو يشكل نسقا مغلقا closed system بالتعبير الذي وضعه كارل بوبر في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه The Open Society and Its Enemies . وأنا أستعير من بوبر تعبيره اللفظي دون مفهومه الذي أطلقه على المجتمع في هذه الحالة ، أي حالة الخضوع للتقاليد الثابتة غير المتحولة والتي تمثل ما هو سكونى ، استاتيكى . الحالة الثانية : النص/ النظرية بعد التناول، وهو يشكل نسقا مفتوحا System Open . كان النص قبل التناول ينطوي على عناصر مغلقة ، انعقدت رابطتها استاتيكيا ولم تخضع للتأويل بعد. لكن النص بعد التناول أصبح مفتوحا يحتمل العديد من التأويلات ، ومن ثم تصبح التأويلات في مرحلة النسق المفتوح ممكنة بالتساوي، يختار الناقد ، أو الابستمولوجى، تأويلا واحدًا ممكنًا من بين الطروحات المختلفة و (يُصدر) صورته للآخر . وقد يتأتى الناقد ، أو الابستمولوجى، إلى الصورة النهائية للتأويل الذي (صدره) للآخر من خلال قراءته لما بين السطور ، أو ما نطلق عليه أحيانا (المسكوت عنه) . إذن لعلنا نحصل على الصورة التي من خلالها نستطيع أن نقرأ مسار تصدير الصورة في كتابه الأخير. يقدم لنا محمد الداهي تصورا أوليا كمسلمة في تحديد نمط العلاقة بين الأنا والآخر ، بحيث تسمح لنا بصوغ فكرتنا ، إذ البديهية الأولى تتمثل في "تفاعل طرفين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين (الأنا والآخر). ولا تتضح صورة الآخر إلا من خلال طبيعة العلاقة التي تنسجها الأنا معه بطريقة إيجابية أو سلبية " (صورة الأنا والآخر في السرد، 7) . وحتى يتجنب محمد الداهي اللبس والغموض في فكرته ، يذكرنا بأن هذه العلاقة تتحدد على ثلاثة أنحاء هي : الأول، اعتبار ثقافة الآخر ( أي الثقافة المنظور إليها) متفوقة على ثقافة الأنا ( الثقافة الناظرة)، الأمر الذي يعزز لدى الذات الشعور بالضعف والصغار إزاء الآخر . الثاني ، اعتبار ثقافة الأنا متفوقة على ثقافة الآخر . الثالث، التعامل بطريقة إيجابية مع الحقيقة الأجنبية لكونها تكمل الحقيقة المحلية وتعضدها. ومن منطلق اعتبار أن الأنا والآخر لا تتضح صورة الواحد منهما إلا من خلال الآخر ، ذهب إلى أن هذا الموقف " هو السبيل الوحيد للتبادل الثقافي المثمر والحوار الحضاري البناء " ، ومن ثم فإن الأنا لا ترى إلا من خلال الآخر . فالعلاقة متبادلة ، وتؤسس دربا من التفاعل بين الطرفين . ويترتب على هذا أن الأنا والآخر في تفاعلهما تتشكل في وعي كل منهما صورة للآخر ليست " إعادة إنتاج" له ؛ وإنما هي "صورة جديدة". ولكن كيف يتحدد التفاعل والالتقاء بين الأنا والآخر وجودًا وعدمًا ، أو بمعنى آخر سلبا وإيجابا ؟ إن الإجابة على هذا السؤال إنما تكون " بالنظر إلى علائق القوى التي تمنح الغلبة لطرف على حساب الطرف الآخر " ( المرجع السابق، 11) وهذا لا يكون إلا "بالاحتكام إلى التجارب التاريخية " . فالأنا إذ تفترض وجود عدو يهددها لينال من هويتها ، فإن ذلك يؤدى إلى وجودها في حالة يقظة دائمة لكل الاحتمالات لصيانة الهوية والحفاظ عليها ، ومن ثم الاحتراس من الآخر . ومن منطلق احتراس الذات من الاعتداء على هويتها تتجه الذات بعمق، في تعاملها مع الآخر، إلى بلورة الخصوصية وتنظيم الهوية . وهنا يجرد لنا محمد الداهي موقفين للأنا ، وهى بإزاء الاحتراس هما:الأول، أن إغراق الذات في العداوة ، يؤدى إلى تنامي مشاعر الكراهية والحقد إزاء الآخر ، ومن ثم فإن احتدام الصراع بين الأنا والآخر يعزز مشاعر الكراهية وأساليب العنف تجاه بعضها البعض ، ويتضح هذا في " تحيين أمة أو جماعة لأحداث بعينها لأنه تعتبرها مؤسسة لهويتها الخاصة" وهنا تتخذ موقفًا حيال الآخر باعتباره شرًا لابد وأن يتوخى الحذر منه ، ومن ثم ينبغي مقاومته. ومن ثم يذهب الداهي إلى ضرورة "إحداث مصالحة تاريخية .... بين الشعوب والأمم". وأما الأمر الثاني، فيكمن في أن تعزيز مشاعر الحب والتفاهم بين البشر ، يؤدى إلى تكريس الفعل التواصلي . ومن هذا المنطلق تتداعى إلى الذهن الأطر المحددة التي هي قوام فكرة المنغلق ، التي أشرت إليها من قبل ، وهو ما يرفضه محمد الداهي لأنه " يحول دون التطرق إلى المشكل الحقيقي الذي يهم احتكاك الحضارات والثقافات فيما بينها"، وهنا لابد من استحضار البعد الإنساني لتنقية الوعي الجماعي من الحساسيات المفرطة من أجل تعزيز تفاعل الثقافات إيجابيا . (المرجع السابق، ص 15) ويبدو أنه من الطبيعي أن ندلل بالأمثلة على موقف محمد الداهي من فكرته الأساسية التي قدمها لنا من خلال السرد . اختار من بين النصوص السردية التي طرحها في الفصل الرابع بعنوان "الوجه المتوحش والمتحضر للآخر" في مؤلف فدوى طوقان: رحلة جبلية رحلة صعبة (1967-1968) . يقدم لنا محمد الداهية أروع تحليل لأعمال فدوى طوقان منتهيا إلى أن صورة الآخر اتخذت أشكالا مختلفة ، وقد تدرجت هذه الأشكال من السكوني المتشدد الذي يعيش في كهفه الخاص ، أو المنغلق closed ، إلى المنصف المنفتح الذي يطرح جانبا كل الأفكار المسبقة ، والذي يعترف بضرورة التفاعل مع الآخر والتواصل معه . حضرت صورة الأجنبي في "رحلة جبلية رحلة صعبة" من خلال مظهرين: المظهر الأول ممثلا لصور الإنجليز /المستعمرين لكونهم أسهموا بقدر كبير في تكريس وتنفيذ المطامع الصهيونية بفلسطين، ومن ثم فإنهم "أصل الشر والبلاء". المظهر الثاني ممثلا لصورة الإنجليز المتحضرين، فقد وجدت فدوى طوقان كل ود وترحيب منهم حين ارتحلت إلى إنجلترا، وأحاطوها بالرعاية والعناية. وقد بينت فدوى طوقان الوجه الحضاري للإنجليز، باعتبارهم الآخر الذي وصف من قبل بأنه "أصل الشر والبلاء " ، من خلال صورة صدرتها لنا عن عراقة جامعات بريطانيا ، وعن إقبال الناس على زيارة بيت شكسبير بصورة كبيرة . فكأن فدوى طوقان صدرت لنا الصورة التي يرفضها الناس ، وهى صورة الإنجليزي السابق ، المستعمر ، أصل الشر . وفى الوقت ذاته صدرت لنا صورة الإنجليزي الحالي الذي تخلص من " العجرفة والوطنية الزائدة والغلظة والقسوة". ويكشف هذا عن التحول من العقل المنغلق إلى العقل المنفتح . وفى " الرحلة الأصعب" تتمثل صورة الأجنبي في مظهرين متقاطعين هما: الأول : العقل المنغلق وتمثله صورة اليهود المتطرفين " الذين لا يقصون الآخر ( الفلسطيني) فحسب وإنما يسعون إلى تدميره واجتثاثه. يكنون كراهية للعرب ، ويحرصون على تهجيرهم وترحيلهم .... ويكدون من أجل محو دولة فلسطين من الخريطة واقتلاع جذورها ، ويؤمنون بدور العنف في إقامة السلام " ( المرجع السابق ، 150 ) الأمر الذي يعنى بالنسبة لنا تصدير إسرائيل لفكرة الكراهية ، ومن ثم استمرار حلقة العنف الدائرة في الشرق الأوسط واستمرار دوران عجلة الحرب . وهذا الموقف يمثل في رأينا العقل المنغلق ، وهو يضاد ويتقاطع في الآن نفسه مع الصورة الأخرى التي تمثل العقل المنفتح. لقد تميز العقل المنغلق بسمات أهمها : 1- الكراهية التي جعلت الإسرائيليين المتشددين لا يستسيغون دفاع العرب عن أنفسهم، ورغبتهم في العيش الكريم، وإسرارهم على استرجاع الفلسطينيين وطنهم المغتصب. وفى الوقت ذاته جعلت أصحاب نظرة الكراهية من الإسرائيليين يحتكمون إلى حكاية " الوعد الإلهي" وخرافة " التفوق العرقي ". 2- التدابير القمعية التي باتت تتخذها إسرائيل من وقت لآخر لترهيب وردع الفلسطينيين والتي من بينها العقاب الجماعي ومصادرة الأراضي والاعتقالات ... وغيرها . ولكن في مقابل آليات العقل المنغلق المتمثلة في الكراهية والتدابير القمعية كان الأمل والاعتداد بالذات فقد مكنا معا لاستمرار المقاومة . الأمر الثاني : العقل المنفتح : ما كشفه محمد الداهي ، من خلال هذه الصورة، هو عينه مااستشفته فدوى طوقان من "صورة اليهود المعتدلين الذين " يعترفون بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته ، وينادون بالسلام والتعايش . لا يهمهم حجم إسرائيل ولو ظل صغيرًا. إن كل ما يريدونه هو حدود آمنة ومعترف بها " . والفكرة التي تحصلت هنا ويبرزها تصور التصدير تتمثل في أن فكرة "الحدود الآمنة" ضد "فكرة إسرائيل الكبرى" بل وتتقاطع معها . لقد كشف محمد الداهي عن معطيات ومفردات الموقفين ، وبين الجوانب المتعددة لهما ، وكشف عن أن فدوى طوقان كانت "تستحضر ما اعترى( الذاكرة الجريحة) من صدمات قوية جراء مراهنة الآخر على تدمير الهوية واستئصالها من جذورها " (المرجع السابق ، ص 155) يقيم محمد الداهي هذا الجانب موقف فدوى طوقان بقوله " وفى هذا الإطار يندرج الموقف الإيجابي لبعض المثقفين والنشطاء اليهود الذين يمارسون النقد التاريخي لتشييد ذاكرة منصفة لتلطيف اللغة وتنقيتها من الألفاظ المثيرة ، والاعتراف بحق الإنسان الفلسطيني في الحرية والاستقلال والكرامة".(المرجع السابق، 156) ومن ثم فهو ينظر إلى العلاقة بين الأنا والآخر من زاوية سياسية -ثقافية- تاريخية ، ويؤطر هذه العلاقة بصورة دقيقة تنطق بالدينامية والحيوية المتدفقة ، يقول محمد الداهي " إن المراهنة على المستقبل يقتضى إقامة مصالحة تاريخية بين الطرفين المتنازعين ، وتضميد الجراح المادية والرمزية ، وطي صفحة الماضي ونسيان ما ادخرته من أحداث أليمة ووقائع صادمة " ( المرجع السابق ، 156) ، ونجده يدلل على هذا المعنى من خلال أعمال فدوى طوقان التي تستبدل الصراع بالتسامح مع (الآخر)، والتي انتقلت من التصور "المتوحش" إلى "المتحضر". وهى تمثل رغبة (الأنا) في طي صفحة الماضي البغيض ، يقول محمد الداهي في هذا الصدد في تصوير هذا المنعطف المهم " ورغم ما ينجم عن الصراع من مواصفات لاذعة حيال الآخر ، فإن فدوى طوقان احتاطت من إلحاق الأذى المعنوي به ، وميزت بين وجهيه الاستعماري والحضاري . وهذا ما حفزها على مرافقة عينة من اليهود وتقديرهم بما صدر عنهم من مواقف إنسانية إزاء القضية الفلسطينية . وفى السياق نفسه أعجبت بتحضر الإنجليز وجديتهم. فبفضلهم ازدادت ثقتها بنفسها ، وارتقى حسها الحضاري ، وتحسن ذوقها الثقافي . اكتشفت معهم معنى الحياة وروعتها وبهاءها ، فطوت صفحة الماضي الأليم الذي عاشته في نابلس للانخراط في حياة جديدة مفعمة بالحرية والنشاط والعطاء والحرارة الإنسانية " ( المرجع السابق ، 156) والملاحظ هنا أن محمد الداهي الإبستمولوجى تداخل مع محمد الداهي الناقد ، وكلاهما عمل من خلال المنظور السيكولوجي في بعض مستوياته . وأبرز دليل على ذلك محاولة محمد الداهي كشف إبعاد الذاكرة الجريحة . لكن دعنا نحاول قراءة موقف الداهي من الذاكرة عموما من خلال رؤيته لتاريخ الحركة الوطنية في المغرب على وجه الخصوص . 2-حفريات الذاكرة عقد محمد الداهي الفصل السادس لتناول "شعرية الذاكرة: جراح الماضي وإمكانات النسيان" ، وفيه قدم لنا أوسع وأوفر بحث عن الذاكرة ، وهو يقول في مفتتح هذا الفصل إن مراده " إبراز كيف تتقاطع وتتكامل الذاكرتان المعرفية والتداولية في إعمال الذاكرة لاستحضار صورة عما مضى ، وإعادة النظر فيها ، وفى عملية سردها ، وفى ممارستها ، وفى امتدادها الزمنية" ( المرجع السابق ، 200 ـــ 201) . وفى هذا الصدد كان سؤاله المباشر : ما الذاكرة ؟ يبرز محمد الداهي أول صورة من صور الذاكرة الجماعية التي هي " بنية تتيح تطور هذه السيرورة الرائعة المتمثلة في نشر المعرفة وترويجها وتراكم الثروات الثقافية " ( المرجع السابق ، 203) ، ولهذه الذاكرة وظائف وسمات : أ-وظائف الذاكرة الجماعية الوظيفة الأولى : تؤدى الذاكرة دورا مهما في ضمان الاستمرارية الثقافية التي تمكن جماعة ما من الحفاظ على إرثها الثقافي والمعرفي المشترك وصيانته من النسيان والتلاشي والدمار . الوظيفة الثانية:إن الذاكرة بمثابة ذخيرة ثقافية حية تستوعب، باستمرار، القيم الثقافية لجماعة ما وأشكالها التعبيرية والرمزية، أي كل ما يميزها عن غيرها. الوظيفة الثالثة: تنقل الذاكرة التجربة التي تقاسمتها جماعة ما واحتفظت بها. وهذا النوع من الذاكرة يمكن أن يكون إما تجربة جماعية محدودة أو تجربة جماعية واسعة. ب-سمات الذاكرة الجماعية تمتاز الذاكرة الجماعية بعدة سمات مهمة تتمثل في: 1- المشاركة: فهي الخيط الرفيع الذي يربط الفرد بجماعته. 2- التذكر إذ بواسطته استطاعت الأمم الحفاظ على إرثها الثقافي . وفى إطار التذكر يقدم لنا نظرية بول ريكور في التمييز بين الاستذكار REMEMRATION والتذكر MEMORISATION : الاستذكار فيه استحضار لحدث سابق ، في حين يستدعي التذكر التوفر على المعارف والقدرات المناسبة لاستجماع خيوط ما مضى بإحساس التبئير والمسؤولية(ص206). 3- الاستمرارية الثقافية. إن الذاكرة الجماعية لا تفصل بين الماضي والحاضر ، وهى تمثل "تيارا فكريا متواصلا لا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حي" وهى خزان تدخر فيه الجماعة إرثها الثقافي والمعرفي . 4- الطابع الحركي. تعيد الذاكرة الجماعية تنظيم ما سبق لتواكب التغيرات الاجتماعية التاريخية ، وهي تعتبر "نصا ذهنيا متشعبا" ، يحيل كل نص، بمقتضاه، إلى نص آخر . وتسمى بالذاكرة الخطابية( التناصية ــــ السياقية) . 5- الثبات والتماسك الذي يتبدى في وعى الجماعة بهويتها عبر الزمن. 6- التعيين الزمكانى وفيه تتبدى قدرة المرء على استحضار ما مضى وتعيين موضعه في الزمان والمكان . ثم يميز لنا محمد الداهي بعض الصور الأخرى المهمة للذاكرة ابستومولوجيا مثل : -الذاكرة الفردية : والمتمثلة في السيرة الذاتية -ذاكرة الجيل: وخلص إليها من قراءة الأعمال المختلفة لعبد الله العرى والتي ركز فيها على العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية لبيان الهوة بين الأماني والواقع. -ذاكرة الحي: والتي كشف عنها من خلال أعمال عبد الغنى أبو العزم حيث ركز على دور الجماعة الوسيطة( الأسرة) في تربية الأبناء على سلوكيات وقيم تقليدية. -ذاكرة الحركة الوطنية التي تناولها من خلال أحد من وكبوها من خلال انخراطهم في النضال الوطني، ومواكبته لأحداثه عن كتب، وهو عبد الهادي الشرايبى في مؤلفه " ثمن الحرية" الذي رصد فيه تجربته في الحركة الوطنية، وانتماءه إلى أحد فصائلها، وبين ما قاسه جيله من تضحيات وصنوف العذاب والتنكيل حتى ينعم الجيل الموالي بثمار الحرية وقطوفها. لا يغيب عن بالنا أن الذاكرة تلعب دورا مهما على أكثر من صعيد ؛ فضلا عن إنها مسؤولة بصورة مباشرة عن حفظ الجماعة عبر التاريخ . ومن ثم كان من الضروري بالنسبة للناقد المغربي محمد الداهي أن يضرب بسهم التحليل في حفريات الذاكرة ، وأن يتعقب صورها المختلفة: ( الذاكرة المستعارة ــ الذاكرة المغلفة ـــ الذاكرة الجريحة ـــ الذاكرة المطوعة ) وهو بصدد قراءة بعض الأعمال التخييلية المغاربية خاصة عند العرى في كتاباته المختلفة ، وعبد الغنى أبو العزم في الضريح (1994) ، وعبد الهادي الشرايبى في ثمن الحرية (1978) لكن ما نراه في إطار بيان صورة العلاقة بين الأنا والآخر على المستوى الإبستمولوجى أن محمد الداهي لم يكن يتعقب منحنيات الذاكرة عند عبد الله العروى ، ولا عند جيله فحسب( المرجع السابق، 214 وما بعدها) ، وإنما كان يحفر في الذاكرة ليعرى للأجيال الخلفية الثاوية لذاكرة الحركة الوطنية في المغرب( المرجع السابق، 229 ) التي تكشف عن مدى تعلق الشعب المغربي بملكهم محمد الخامس (المرجع السابق، 242) الذي نفاه الفرنسيون خارج البلاد . هي الذاكرة التي " كان الوطنيون يلاحقون (بها) كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإدارة الاستعمارية " (المرجع السابق، 237). ومن ثم كان على ذاكرة المغرب أن ترصد تكون الحركة الوطنية ونشأتها وتطورها ومسارها النضالي، وكيف أنها أصرت في مطالبها " بعودة الملك الشرعي إلى عرشه" ( المرجع السابق، 241). كانت وقفة محمد الداهي عند حفريات الذاكرة مسألة مهمة جمعت بين الفرويدية والرسللية . الفرويدية أتاحت له بسط اللاشعور عند بؤرة الشعور ليصبح في قلب الوعي المعرفي الحقيقي ، وليس الوعي الزائف ، وكان هذا من خلال تعقب البعد السيكولوجي السسيوثقافى ، وهذه مسألة اقتضت منه أن يوظف إمكاناته المعرفية للكشف عن هذا الجانب . وتأتى بعد عملية الكشف هذه عملية أخرى تحليلية تعمل على استبعاد كل ما هو زائد حتى تستحضر الذات في تجليات وعيها " بعض الرموز الوطنية لمد الجسور بين الماضي والحاضر وتقوية الذاكرة المشتركة وصيانتها من الضياع والتلف والتلاشي" (المرجع السابق ، 242) . على هذا الأساس كان من الضروري أن يتجه محمد الداهي إلى إبراز مستويات الذاكرة على المستوى الشعوري لتظل محفورة في مخيلة الأجيال يتوارثونها جيلا بعد جيل لتؤجج فيهم حمية الوطنية وتدفعهم دوما للحفاظ على الوطن ، ولتصبح الذاكرة المشتركة للوطن أرشيفا يختزن الجراح الرمزية التي تستدعى تضميدها ، ومن ثم تنطبق على الحركة الوطنية في مقابل استعمار المغرب. لكن الإغراق في الوطنية قد يؤدي إلى الإكبار من شأن الذات والاستصغار من قيمة الآخر. وبالمقابل، يفضي الإفراط في التذكر إلى الإفراط في النسيان. فما يعد مجدا لطرف يعد خزيا للآخر. ولما يحتفل بحدث يوجه اللوم إلى الآخر بكونه سببا في ما حدث للأنا من شرور وبلايا. تنامت، في الآونة الأخيرة، صحوة الذاكرة لطي صفحة الماضي الأليم، والاطلاع على أرشيفات لفهم ما حدث، ومعاودة تأثيث الذاكرة وترميمها في منأى عن أساليب التطويع والتضليل والأدلجة. من خلال هذه التصورات يتضح أن الباحث الناقد محمد الداهي استفاد من ثلاثة مجالات ضمن تخصصه العام السيميائيات الثقافية في تقاطع من الصوريات(Imagology) وهو المجال الأثير لدى المختصين في الآداب المقارنة. وأحسب أن الدكتور محمد الداهي أثبت لنا ثلاثة أمور متصلة هي: الأول: أنه أعاد تأريخ الحركات الوطنية والتحررية من منظوره كناقد وأديب. قرأ ما بين السطور في سجلات التاريخ حرصا على فهم طبيعة العلاقة الملتبسة بين الأنا والآخر. وهو، بذلك، يسعى إلى توسيع " شعرية الذاكرة"( اليوميات، شهادات، السير الذاتية، مذكرات، رسائل..) حتى لا تظل الحقيقة حكرا على المؤرخين. ينبغي، تعزيزا لهذا الطرح، أن نولي أهمية إلى ما كتبه شهود عن حدث ما، أو نستمع إلى شهاداتهم سعيا إلى معاينة الحقيقة من زوايا ومنظورات مختلفة. الثاني: أنه على صعيد الفهم المعرفي قدم لنا رؤية لعلاقة الذات المغربية بالاستعمار إبان فترة حرجة من فترات التاريخ المغربي النضالي . وهي فترة تركت جروحا غائرة في نفسية المغربي. وما يؤسف له أن الغرب يدر الملح في هذه الجروح مستعملا في كل فترة ألفاظا صادمة لا تجرح الآخر فحسب وإنما تضعه في مرتبة دنيا. الثالث : يدعو إلى الرد بالكتابة ليس بطريقة انفعالية أو بتبادل النعوت المستبشعة، وإنما بالرقي بالكتابة إلى مستوى النضج حتى تقدم صورا جديدة للأنا عوض تكريس الصور النمطية والمسكوكة. ولا حظ في هذا الاتجاه أن السرد نزع أكثر إلى الكراهية والإفضاء. وهو ما بينه من خلال ما تصطلح عليه جوديث باتلر بجروحية اللغة. رغم حصول كثير من الدول على استقلالها مازالت تستعمل ألفاظا متوارثة تتصف بالعنف والاعتداء والاستصغار. وهو ما يقتضي ثورة لغوية لتنقية اللغة من كل ما هو جارح وصادم. وهو من بين المداخل للاعتراف بهوية الذات وكرامتها وديناميتها في حضن الاختلاف الثقافي والتعدد اللغوي.
|