الكاتب: mdahi
|
حرر في الأحد 09-11-2014 03:28 أ£أ“أ‡أپ
من بين العوامل التي أحدثت الرجة العربية ( ما اصطلح عليه بالربيع العربي) نذكر أساسا تنامي الوعي الثقافي لدى الشباب العربي بفضل تمكنه من أدوات تواصلية جديدة، مما أسعفه على ترويج خطاب التغيير والتأثير في فئات عريضة من المواطنين. وهو ما عجزت عنه الأحزاب السياسية خلال عقود طويلة سبب تشبثها بأساليب تقليدية ومتقادمة، حالت دون إيصال خطابها إلى الفئات المستهدفة. ما يهمني من إثارة موضوع " ثقافة الانترنييت" ، التي أدت دورا أساسيا في كسب رهان التغيير السياسي ببعض البلدان العربية، هو بيان حدودها وإمكاناتها في دعم التغيير الثقافي باعتباره محركا أساسيا لتسريع وتيرة التنمية المستدامة ودمقرطة المؤسسات الاجتماعية، وترسيخ "الثقافة التشاركية" حتى يؤدي المواطن دوره في المجتمع على الوجه الأحسن، ويكون عنصرا فاعلا في خضم أحداثه واختياراته..وكلما ازداد الفرد ثقافة ووعيا..كلما تحسنت مؤهلاته وقدراته، واسهم، بفاعية ونجاعة، في تنمية مجتمعه وتقدمه. 1-ظهور البرونيتاريا: علقت الأدبيات الماركسية آمالا عريضة على دور الصراع الطبقي في تغليب كفة الطبقة البروليتارية Les prolétaires على الطبقة البورجوزاية لإقامة مجتمع عادل ولا طبقي تسود فيه دكتاتورية البروليتارية. وبفضل التطور التكنولوجي ظهر صراع من نوع آخر بين طبقة رأسماليي المعلومات Les infocapitalistes وبين الطبقة البرونيتاريا Les pronétaires ([1]) من أجل التحكم في سلطة المعلومات ودواليب الديمقراطية التواصلية([2]). تحتكر الطبقة الأولى وسائل إنتاج المعلومات والأخبار وترويجها على نطاق واسع بمختلف الدعامات الممكنة ) البرامج الالكترونية، المحطات الإذاعية و القنوات التلفزية، وكبريات الصحف، ووسائط توزيع الأفلام والأغاني) وتتحكم في اللوبيات المسيرة للفضاءات التواصلية والمنتجة للبرامج الوقائية. وتتكون الطبقة الثانية من مستعملي الأنترنيبت الذين أضحوا يشكون قبائل افتراضية لمنافسة خصومهم الطبقيين، وتمكين الجماهير العريضة في مختلف ربوع العالم من الانتفاع عن بعد و مجانا بالمعارف والأخبار والخدمات ([3]). ومن بين الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الطبقة نذكر ما يلي: أ-ارتفعت نسبة المتعلمين، وتعزز مطلب دمقرطة الثقافة والمعرفة حتى لا يظلان حكرين على فئات محدودة ب-تطورت وسائل الاتصال والإعلام، وأضحى الانترنيت عاملا أساسيا للانخراط في مجتمع المعرفة. ج-تأزمت الديمقراطية التمثيلية بسبب عدم قدرتها على تلبية المطالب الملحة لمختلف الشرائح الاجتماعية. وأصبحت الأنظار، بفعل الثورة المعلوماتية، متجهة نحو ترسيخ الديمقراطية التواصلية سعيا إلى إشراك أكبر عدد من المواطنين في مناقشة الشأن العام وتدبيره، وتبادل الخبرات والمعارف التي تعمل على تحسين المؤهلات التواصلية للفرد وتنمية قدراته المهنية، وتعزيز الحوار بين الساسة والمواطنين بهدف إعمال الحكامة الجيدة، وحل المشاكل الاجتماعية المعقدة([4]). د-فقدت الجماهير الثقة بوسائل الإعلام التقليدية بحكم احتكارها للأخبار وحرصها على استخدام الأسلوب الدعائي بهدف تحسين صورة النظام السياسي القائم، وتضليل الرأي العام ومغالطته بطمس الحقائق وتمويهها. ج-أصبحت معظم القنوات التلفزية والإذاعية تركز على الجانب التجاري سعيا إلى الاستفادة من المردود المادي للوصلات الإشهارية والإعلانات التجارية. وهذا ما جعلها تولي أهمية قصوى للجانبين الترفيهي والفرجوي ، ولا تخصص إلا هامشا منحسرا للنقاشات العمومية التي يمكن أن تسهم في تنوير الرأي العام، وحفزه على مواكبة الشأن العام، والرقي بفكره ووعيه وذوقه، وتلقي مختلف الردود لتصحيح مكامن الخلل والتعثر التي تؤثر سلبا في المسيرة التنموية، وفي سيرورة التواصل بين الطبقة السياسية وعامة الشعب. 2-من جماهرية الوسائط إلى وسائطية الجماهير وقع إبدال في التعامل مع المعلومات وترويجها. كانت الدولة، من قبل، تستحوذ على وسائل الاتصال( التلفاز، والمذياع، والصحف، والفيلم، والفن) لمخاطبة جمهور أوسع بهدف ترسيخ مبادئ ومواقف معينة في أذهانهم. وقد تنامي هذا المفعول الدعائي إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. سعيا معا إلى السيطرة على " جماهيرية الوسائط mass média " بهدف التحكم في الأسلوب الدعائي والمراهنة على " الدبلوماسية العمومية" للتأثير على شريحة كبيرة من الجماهير الشعبية أيا كان موطنها ومنزعها، وحملها على اعتقاد ما يبث إليها وتصديقه. وفي هذا الصدد لعب الفن الموجه دورا كبيرا للمزاوجة بين الإمتاع والإقناع، وتلميع صورة طرف على حساب الحط من صورة الغريم. سخرت الدعاية السوفياتيه فيلم " أكتوبر" لسيرجي آيزنشتاين لإبراز مدى نجاح الثورة البلشفية وفاعليتها على جميع المستويات. وبالمقابل، استثمرت الدعاية الأمريكية سلسلة " رامبو" لاستعراض قوتها وعظمتها، وترسيخ صورة الأمريكي الهمام " الذي لا يقهر". اعتمدت كثير من الدول المستبدة على الأسلوب الدعائي (أقلية مستبدة في مواجهة جماهير عريضة مستضعفة) لفرض الفكر الأحادي وإخراس الصوت المعارض. اختلت وتزحزحت هذه المعادلة في العقود الأخيرة بسبب انتشار وسائطية الجماهير (Les médias de masse) التي أصبحت مشاعة بين الناس ومطلوبة بإلحاح بما لها من دور في التواصل الاجتماعي وتبادل المعلومات والخبرات والمشاعر، والقيام بصفقات تجارية ومشاريع جماعية، وتقويض المحظورات. وساهمت هذه الوسائطية الحديدة في ظهور طبقة البرونيتاريا وتعزيز دورها لمنافسة رأسماليي المعلومات رغم توفرهم على خبرات تقنية عالية ومعدات تكنولوجية متطورة. أصبحت البرونيتاريا تملك الوسائل التي كانت، إلى حد قريب، يحتكرها المهنيون. مما أدى إلى " قلب علائق القوى التقليدية" و" تنامي شبكات الذكاء الصناعي" ([5]). وهكذا أصبح بإمكان جماعات معينة، رغم تباعدها، أن تنظم صفوفها، وتنسق مصالحها، وتتواعد لإقامة تظاهرات في الشارع، واتخاذ قرارات حاسمة لمحاربة المفسدين الذين عاثوا في الأرض فسادا (على نحو ما عايناه ، إبان الربيع العربي، في شارع بورقيبة بتونس وميدان التحرير بالقاهرة). ولم تظل هذه الطبقة المتنامية، كما كانت من قبل، طرفا سلبيا يكتفي بتلقي الأخبار، وإنما أضحت طرفا مشاركا ومنتجا، وعاملا من عوامل الضغط للتأثير على النقاش العمومي وتوجيهه، والمراهنة على المواطنة الرقمية ( وفق منظور خوسي مانويل روبلس). وبفضل المدونات والمواقع الاجتماعية وصحافة المواطن (Journalisme citoyen) والرسائل الالكترونية أصبحت المعلومات تتناقل عبر المعمور بسرعة فائقة على مدار الساعة. وأي حدث يقع في العالم ، ولو في منطقة نائية ومهمشة، يمكن أن يشغل البرونيتاريا وتعمل على ترويجه معززا بالصور وشهادات منتقاة من عين المكان، وتتيح إمكانات إثرائه بالتعليقات المختلفة للإلمام بحيثياته من جميع الجوانب. لم يكن هذا ممكنا خلال العقود الماضية بسبب احتكار الدولة لوسائل الإعلام. وعندما ينشر خبر لا يروق حكامها تقوم بتكذيبه أو تمويهه واتهام مروجيه ب"المخربين المسخرين" من لدن جهات أجنبية لزعزعة استقرار البلاد ونشر البلبلة في نفوس المواطنين. كانت الدولة، حسب وجهة نظر Michel Serres، تتقن "إخراج تمثلية الخوف". فكل ما تبثه قنواتها ومحطاتها هو عبارة عن محتويات منتقاة بعناية لترهيب الجماهير بما يقع في العالم من كوارث طبيعية وأحداث مميتة. وموازاة مع أسلوب الترهيب تحسن الدولة تدبير " الندرة". فهي تخلق لدى المواطن حاجات معينة بواسطة الوصلات الإشهارية، وتشجعه على اقتنائها قبل نفادها بحجة ندرتها وكثرة الطلب عليها. لكن نتيجة توطد وسائطية الجماهير حل الترغيب محل الترهيب، وعوضت الندرة بالوفرة([6]). وهكذا أصبح مستعملو الانتريت يرتادون عوالم افتراضية ترضي فكرهم وذوقهم، وتشعرهم بحريتهم واستقلاليتهم وإنسانيتهم. ويعاينون ، عن كثب، أن الندرة مجرد وهم لحفزهم أكثر على الاستهلاك وتحسيسهم بتواضع قدراتهم . و يكتشفون ، بالمقابل، أن الوفرة هي نتاج طبيعي لتقدم البشر، وتزايد حاجاتهم ورغباتهم، وتكافؤ قدراتهم ومؤهلاتهم، وإمكانية وصول بعضهم إلى سلطة القرار بفضل مثابرتهم وتحسين أدائهم. وهذا مما سيؤدي إلى تقويض النموذجين الاقتصادي والسياسي التقليديين القائمين على تدبير الندرة، وإثارة مزيد من النقاش حول التدابير القانونية والزجرية لحماية حقوق الملكيتين الفكرية والصناعية، وتعزيز دمقرطة المجتمع حتى لا تظل فئة محدودة تحتكر السلطة السياسية وتوجه المعلومات والأخبار كما يحلو لها. 3-رهانات جديدة للاتصال: " أصبح بإمكان الفرد أن يشغل مكانا في الأنترنيت، ويسهم، بفاعلية، في إنشائه دون أن تتدخل فروق العادات والخصوصيات التي تتحكم في العالم الواقعي"([7]). وهكذا انحسرت " التراتبية الاجتماعية" بفضل دمقرطة المعرفة وتيسير سبل الولوج إليها. أصبح الفرد ، أكاشفا عن هويته أم متسترا عليها، مشاركا في المنتديات والمدونات والدردشات لكسب مزيد من التجربة، وتبادل المعلومات والخبرات والمواقف، والتعارف مع أنداده من داخل البلد وخارجه. لعبت وسائل الإعلام التقليدية دورا هاما في إرساء دعامات الديمقراطية رغم ما نجم عنها من عيوب ( خاصة ما يتعلق بتوجيه الرأي العام وتطويعه وتضليله ) أدت، مع مر الأيام، إلى فقدان الثقة بجدوى الانتخابات مادامت تخدم مصالح فئة على حساب أخرى. و نتيجة التقدم التكنولوجي ظهرت أشكال جديدة لتفاعل الناس فيما بينهم وتواصلهم وتفاهمهم في منأى عن أشكال المضايقة والمراقبة التي كانت تحد من حرياتهم الشخصية والجماعية، وتصدهم عن التعبير عن مواقفهم وآرائهم. أ-تحول كل فرد إلى مراسل ينتقي الأخبار، ويلتقط الصور المناسبة، ثم يعمل، فيما بعد، على ترويج المحتويات على نطاق واسع . وهو ما عجزت عنه وكالات الأنباء الدولية بسبب عدم قدرتها على وضع مراسلين معتمدين في كل الأحياء والأزقة والمناطق. ب- تعززت حرية التعبير، وتنامى لدى الفرد الإحساس ب"الحق في التواصل". كانت المعلومات، فيما سبق، تروج بتباطؤ وتقتير، وتخضع للرقابة والوصاية. في حين نعاين الآن ثورة معلوماتية هائلة تعبر القارات دون حسيب أو قريب. ما يتخوف منه هو تفاقم التلوث المعلوماتي الذي يلازم غالبا الوفرة، ويصيب الأفراد بتخمة ذهنية. وهو ما يتطلب التحري فيما ينشر، والتأكد من صحته وصدقيته. ج- يتبادل المتصفحون المعلومات والخدمات والخبرات فيما بينهم سعيا إلى تحسين أدائهم التقني، وإدارة المواقع بفاعلية حرصا على إنتاج المعارف الطرية والأصيلة، وتحميل المحتويات المرجوة. " لقد عملت هذه العادات الجديدة على إرباك الإشهار، وقلب علائق القوى"([8]). . أصبح العالم عبارة عن بيت من زجاج يشف عما يتوفر عليه ويحتويه. يمكن أن نتعرف، في رمشة عين، إلى شخص مفترض، ونأخذ معلومات عنه، ونواكب مستجداته وأنشطته وأعماله عن طريق مدونته أو صفحته في المواقع الاجتماعية فهما، علاوة على دعامات الكترونية أخرى، تسهمان في تمتين الروابط الاجتماعية والثقافية بين المتصفحين، وتحفزانهم أكثر على التلاحم والانسجام لاتخاذ موقف جماعي ومشترك إزاء حيف أو عائق ما. د-أصبح المتصفح لا يتلقى الإخبار بسلبية، وإنما يتفاعل معها، ويعلق عليها، ويضطر أحيانا إلى تعديلاها أو تنقيحها. ظهرت في البداية تجربة الويكيwkies التي أتاحت للمتصفحين إمكانيات تصحيح ما يطلعون عليه وتعديله. ثم برزت، فيما بعد، تجربة "الموسوعات الحرة" التي يساهمون في تطعيمها بالمحتويات المناسبة، وتصحيح هفواتها، وملء بياضاتها. كما أن المتصفح يعلم من خلال نسبة الزوار أن الخبر المعاين اطلع عليه عدد كبير من القراء نظرا لطراوته وأصالته وجدته. و في المنحى نفسه، يكون على بينة من مدى ملاءمة الكتاب المعروض للبيع في موقع "أمازون" من خلال عدد النجوم المضفاة عليه. هـ أصبح التواصل غير مكلف وغيربطيء على نحو ما كان عليه من قبل.يمكن للفرد، بواسطة الخدمات المجانية التي يوفرها الأنترنيت، أن يسهب في التواصل بالصوت والصورة مع غيره لمدة طويلة. ونظرا لتقدم المعدات التكنولوجية قلت درجة "التشويش" التي كانت تبطئ أو تعرقل تواصل الناس فيما بينهم بأريحية وسلاسة واسترسال. وعلى عكس التواصل التقليدي أصبح بإمكان الفرد أن يتواصل مع أكثر من شخص في الوقت نفسه. يرهص جول دو روزناي بحدوث نقلة ، في المنظومة الكونية، من الاقتصاد الطاقي إلى الاقتصاد المعلوماتي. وهو ما يؤشر عموما على وقوع تحول حضاري. ستخضع، إثره، جميع النماذج التقليدية ( العمل، التجديد، أنظمة المكافأة والتبادل، بنية العائلة، الديمقراطية، العولمة الاقتصادية والمالية) إلى المساءلة والتبدل. وسيعمل التواصل العمودي أو الممتد (الجميع إزاء الجميع) على تسريع وثيرة التبادلات الاقتصادية والمالية والثقافية، وتوطيد " اقتصاد المجانية" حتى يتوفر الجميع على البرامج الحرة والمعدات التقنية المتطورة التي تيسر لهم الولوج إلى مجتمع المعرفة ومواكبة تحولاته السريعة. ليست هذه المكاسب التكنولوجية ،التي حققتها البرونيتاريا، كافية لوحدها، لا بد لها أن تتماشى جنبا إلى جنب مع ما يسميه جول دو روزناي ب " الاشتراكية البيئية" (écosocialisme) حتى تستفيد الأجيال الحالية والقادمة من الثروات الطبيعية والبيئية بنوع من الإنصاف والعدل. 4-مطامح البرونيتاريا العربية: لم تكن الأنظمة العربية ، المتشبثة بالأسلوب الدعائي، تعتقد أن أحداثا كبيرة وسريعة تقع خارج سيطرتها ونفوذها ومراقبتها. لم تتوقع أن البرونيتاريا وجدت ضالتها في الشبكة العنكبوتية، بعد سنين من القمع المسلط على رقابها، فشكلت جبهة افتراضية لإسماع صوتها المعارض والمقموع. استثمرت غضبة الشارع العربي لإشعال فتيل الثورة والدعوة إلى إسقاط الأنظمة المستبدة التي كممت الأفواه وقطعت الأنفاس حتى يظل صوتها الأوحد هو المتحكم في زمام البلاد ورقاب العباد. استفادت البرونيتاريا العربية من مكاسب الثورة الإعلامية والتكنولوجية لإيصال مطالبها إلى العالم. استخدمت كل الدعامات الرقمية الممكنة لنقل صور وشهادات وأشرطة فيديو عن انتهاكات حقوق الإنسان العربي، والتعريف بأشكال التضييق على الحريات الشخصية والجماعية. لم يتوقع الرئيس المخلوع زين العابدين بنعلي، جريا على عادات منهم على شاكلته وقالبه، أن حدثا، من قبيل ما وقع في سيدي بوزيد إثر إقدام العاطل محمد البوزيدي على إحراق ذاته، سيخترق الحصار المضروب على الإعلام، ويصبح مادة دسمة تتناقلها مختلف المنابر الإعلامية، ويكشف عن مظاهر الاستبداد والحيف والظلم، ويقلب موازين القوى بحثا عن نظام ديمقراطي يكفل الكرامة للتونسيين. وبعد أيام من ثورة تونس انتفضت كثير من الشعوب العربية سعيا إلى رحيل النظام المستبد وحرصا على إقامة انتخابات نزيهة تفضي بوصول حكام يحظون باختيار الشعب وثقته ومحاسبته. سعت البرونيتاريا العربية، في كل قطر على حدة، إلى تشكيل "قبيلة افتراضية" على الفايسبوك لتنسيق مصالحها، وتوحيد الخطط والشعارات، وبرمجة صيغ نضالية للاحتجاج والاعتصام في الساحات العمومية. وما يهمني أساسا من حراك الربيع العربي، الذي تعددت أسماؤه بحكم تضارب الآراء والتحليلات حوله، هو بيان الدور الذي اضطلعت به البرونيتاريا العربية في تقويض الأنظمة المستبدلة والمتقادمة، واستجلاء طبيعة ما قامت به في ضوء التحديات الكبرى التي تواجه العالم العربي، وإبراز ما إن حققت الرهان المنشود فيما يخص استثمار الانترنيت على الوجه المطلوب سعيا إلى تقليص الفجوة الرقمية والولوج إلى مجتمع المعرفة.وفي هذا الصدد نضطر، بداية، إلى إبداء الملاحظات الآتية: أ- أي دور للمثقف؟ لوحظ في السنوات الأخيرة انحسار دور المثقف بسبب عزلته واهتمامه بقضايا علمية وثقافية صرفة أو بحثه عن مواقع اجتماعية وحزبية تضمن له الترقي والأبهة الاجتماعيين. وهو ما جعله ينأى عن النقاشات الساخنة والقضايا الجوهرية، ويتخلى عن سلطته النقدية الهادفة إلى ترسيخ ثقافة مضادة ، ولا يعير اهتماما كبيرا للتحولات الاجتماعية والثقافية المباغتة التي لا تستجيب لتوقعاته وتحليلاته. إن أغلب المثقفين يتبنون الدورية الخطية الصارمة والحتمية التقنية (مستوحاتان ، على التوالي من التاريخانية و الفلسفة الوضعية) ولا يكترثون بالتطورية الفوضوية التي تفضي إلى الفوضى الخلاقة، والانشطار الثنائي، وكارثة التشعب العادي، وكارثة التشعب الكارثي الفراشي أي كل ما تنتج عنه صيرورة غير منتظمة، وما تترتب عليه تحولات مفاجئة لم تكن متوقعة أو في الحسبان. بدد الحراك العربي مفهوم المثقف العضوي، وأسهم في ظهور مثقف جديد ( ناشط إعلامي وحقوقي ومدني) يحمل من الهم الثقافي ما يمت بصلة إلى الشأن العام، ويدون مقالات بمواصفات معينة (لها طول معلوم، لغتها سهلة، قدرتها على المزج بين الخبر والتعليق والتشعب، تنوع عقدها (اللغة، الصورة، شريط فيديو)) لإيصال فكره إلى شريحة عريضة من المتصفحين وتلقي ردودهم وتعليقاتهم، ويتوفر على مؤهلات تقنية لاستعمال الحاسوب والولوج إلى الانترنيت والمشاركة في المنتديات والمواقع الاجتماعية. وهذا ما أدى إلى بروز أسماء ثقافية جديدة لعبت دورا كبيرا في مواكبة الثورة من عين المكان، والمشاركة في النقاشات العمومية لتنوير الرأي العام وبيان فداحة ما يقع من مجازر إنسانية وانتهاكات فظيعة. ولقد اضطلعت قنوات بعينها بدور طلائعي لمواكبة مجريات " الربيع العربي". ونظرا للحصار المضروب على الإعلام في مختلف الدول العربية، اضطرت القناة إلى الاستفادة من جهود البرونيتاريا العربية التي كانت تمدها بصور وشهادات وأشرطة من قلب الحدث. ورغم رداءة التصوير وعدم احترافيته فقد استطاعت محتوياته أن تؤدي وظيفتها الإعلامية في نقل أبشع الجرائم التي ترتكب في حق شعب أعزل يحلم بالحرية وينشد الكرامة الإنسانية. ب- المواطنة الافتراضية: اكتشفت البرونتاريا تدريجيا أن هناك مواطنة افتراضية عابرة للأوطان والقارات لا تمت بصلة إلى ما تعاينه في محيطها الاجتماعي. وأضحت مواصفات هذه المواطنة تفعل في نفوس المتصفحين ووجدانهم، وتؤثر في فلسفتهم في الحياة، وتحرضهم على الثورة بحثا عن تحقيق ما يتمتع به أندادهم في الدول المتقدمة. وفي المنحى نفسه، وجد كثير من المثقفين في الرواية متنفسا للتعبير عن المشاكل الاجتماعية والسياسية بطريقة فنية، وتشخيص معالم" مواطنة تخييلية" تتحقق فيها مطالب الذات (الحنين الملحمي)، وتتقلص فيها الفوارق الاجتماعية والطبقية. وتقوم هذه "المواطنة" أساسا على نقد الإيديولوجية السائدة، وبيان هشاشة اللغة الواحدة الآمرة، وإفساح المجال للشخوص للتعبير عن آرائها ومواقفها ومطالبها على نحو تتفاعل أو تتصارع فيه الأصوات والعينات الإيديولوجية واللغات الفردية والجماعية على قدم وساق سعيا إلى توطين القيم الكونية التي تضمن حقوق المواطن وتسعفه على أداء وجباته بعدالة وإنصاف. يمكن، من باب التمثيل، أن نورد مثالا عن بعض العينات الروائية العربية التي تستحضر جوانب من هذه المواطنة المغيبة في أرض الواقع لانهيار كثير من القيم العليا، وانسداد الآفاق أمام الجماهير العريضة، وتضييق الخناق على الحريات العامة. يتسم عنوان رواية " ذات لصنع الله إبراهيم([9]) بالصبغة الإيحائية. فهو اسم امرأة موظفة في أرشيف صحيفة عانت الأمرين من انتقال مصر من النظام الاشتراكي إلى النظام الليبرالي لعدم قدرتها على مواكبة مسيرة الهدم والبناء (توفير مصروف يلبي حاجات الأسرة بسبب غلاء المعيشة ). تتباهى أمام زميلاتها في العمل بقدراتها الفائقة على تدبير شؤون بيتها وتأثيثه بمعدات ولوازم فاخرة ، لكنها لما تعود إليه تدخل في مواجهة عنيفة مع زوجها عبد المجيد لعدم استجابته لطلباتها الملحة لقلة موارده المالية. وذات، من جهة أخرى، هي مصر التي دخلت عهد الخصخصة التي أسهمت في تعميق الفجوات بين الطبقات الاجتماعية وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتبذير المال العام، وانتشار برامج البث المعتادة (الشائعات-الطرائف- الفوازير-الاغتياب). أجبرت سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي مختلف الفئات على الانخراط في مسيرة "الهدم والبناء"، والبحث عن المال للتغلب على صروف الدهر. ونتيجة تعمق الهوة بين الواقع والأماني (وخاصة بين ما يزعمه الخطاب الرسمي وبين ما يعاينه الفرد في حياته اليومية) تقوى خطاب الجماعات الإسلامية في أفئدة الناس لأنه أضحى يدغدغ مشاعرهم واعدا إياهم ببدائل مثلى ووعود براقة. ونتيجة معاناة ذات من أزمة نفسية حادة ( دخول زوجها إلى السجن بعد تشاجره مع الشنقيطي وكثرة المصاريف وارتفاع الأسعار) أصبحت مفعمة بالخطاب الديني لطرد العفاريت التي أصبحت تقلقل راحتها وتقض مضجعها. ركزنا، فيما تقدم، على نمطين من المواطنة (الافتراضية والتخييلية) لبيان المفارقة بين الواقع والطوبى، وبين المعيشي والافتراضي، وإبراز الإمكانات التي تتيحها الفضاءات الرحبة والمفتوحة لفرز نخب جديدة من رحم الثورة الرقمية، والتعبير عن الهواجس المغفية، والتطلع نحو آفاق جديدة، والتحرر من أشكال التلصص والرقابة والوصاية المفروضة من عل. مكنت الفضاءات الافتراضية الشباب، على اختلاف مستوياتهم التعليمية والثقافية وتباين أقطارهم، من التواصل فيما بينهم، وتبادل الخبرات والآراء والمواقف، وتوحيد الخطط والرغبات والمشاريع المشتركة. وهكذا أصبحوا يشكلون قوة ضاغطة ومنتجة وعبر قارية لتغيير الأوضاع الاجتماعية المزرية، ومناشدة مجتمع بديل يضمن كرامة المواطن، ويعترف بالحقوق الإنسانية والكونية ( الحق في التنمية، والحق في التعليم، والحق في الشغل، الحق في الاختلاف، الحق في المشاركة الثقافية والسياسية، الحق في الهوية الثقافية) . اكتشفوا ضالتهم بعيدا عن الأشكال الثقافية والإعلامية السائدة التي لا يجدون فيها ما يشفي غليلهم، وما يعبر عن همومهم ومشاغلهم. اهتدوا، بفضل الثورة التكنولوجية، إلى فضاءات افتراضية ( اليوتوب Youtube، الفايسبوك Facebook، توتيرTwitter، المدونات الشخصيةBlogs ، ما سبيس My Sapace، وركوتOrkut ...) تحولت ، مع مر السنين، من قنوات للتسلية والاسترواح والتعارف إلى منابر لانتقاد الأساليب الاستبدادية في الحكم والشطط في استعمال السلطة، و تعبئة الرأي العام وحفزه على الثورة ، والسعي إلى تغيير العقليات والرؤى للوجود، والإرهاص بقيم كونية يتمتع بها المواطن في كل بقعة من ربوع الكون. وهكذا تجاوزوا، في ظرف وجيز، الوظيفة التقليدية للفئة المثقفة والنخبة السياسية، وأصبحوا صناع القرار السياسي في منأى عن أشكال الاحتواء والالتفاف والتوافق المعتادة التي غالبا ما ترضي حفنة صغيرة على حساب الجماهير العريضة، وتحرف النقاش عن أداء وظيفته الحقيقية لتفادي تراكم المشاكل واستفحالها عوض تقديم حلول سطحية ومؤقتة ( ما يصطلح عليه بالحلول الترقيعية). وجد المثقف أو السياسي نفسه - في خضم هذه التحولات والثورات المفاجئة- خارج اللعبة الجديدة، وغير مؤثر في دواليبها، وغير متحكم في زمامها ونتائجها. فما عليه إلا أن يترقب الوقت المناسب ليتلون بألوانها، ويتكيف مع آلياتها محاولا استكشاف خلفياتها ومغازيها، وبيان تأثيرها على زحزحة موازين القوى وعلائقها. وبالمقابل، أسهمت المواطنة التخييلية ( وإن كانت محدودة التأثير) في تشخيص المشاكل الاجتماعية والسياسية بطريقة فنية، و نقد الإيديولوجية السائدة واللغة المتخشبة، و المطالبة باستنبات القيم الأصيلة في المجتمع، والحنين إلى كلية خفية (التناسب والتناغم بين الذات ومطالبها)([10]) . أثارت الرواية، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، بعض المشاكل التي تحول دون تقدم المجتمع وازدهاره وضمنها غياب التأطير الاجتماعي السياسي، واستشراء الليبرالية المتوحشة، وغلبة السلطة على المجتمع. ج-هاجس التغيير وليس الحكم: لم يستند الحراك العربي، عكس الثورات الإنسانية السابقة، إلى منظومة إيديولوجية واضحة، ولم يفرز قيادة كاريزماتية لقيادة الثورة وتوجيهها أو" قوة تغيير تهيمن ، بالمعنى الكرامشي، على الشارع، وتحمل مشروعا تنضوي تحته الجماهير الواسعة، وتتمتع بقدرة فعلية على تولي الحكم"([11]). كان هاجس البرونيتاريا العربية هو اقتلاع ضرس الاستبداد، ثم مواكبة سيرورة التغيير حتى لا يزيغ عن سكته. وبعد أي ثورة يأتي من يأكل ثمارها مؤقتا إلى أن تسترجع نسغها ونبضها مع مر الأيام إن لم نقل مع مر السنين. استفادة الحركات الإسلامية، بحكم عذريتها السياسية، ومحافظة الجماهير، وشعبوية شعاراتها وتحاليلها، من الحراك العربي. وهو مؤشر إيجابي بدخول هذه الحركات إلى المعترك السياسي ،عوض الانسحاب منه ومقاطعته، لامتحان قدراتها على تدبير الشأن العام، وحل المشاكل الاجتماعية للمواطنين، ومحاربة مظاهر الفساد، والاحتكام إلى نتائج صناديق الاقتراع لمعرفة حجمها في المعادلة السياسية، والاعتراف بتعددية الأفكار والآراء والبدائل. وفي هذا المضمار لا بد من الإشارة إلى أن الأحزاب المسيحية الديمقراطية لعبت دورا هاما في ترسيخ الأعرف الديمقراطية بأوروبا. ومع مر الزمن أضحت أحزابا عادية لا يجادل أحدا في مرجعياتها الدينية. كما أن التدبير العمومي هو من صنع البشر وخميرة لاجتهاداتهم التي تحتمل الخطأ والصواب. وعندما نتوصل إلى هذه النتيجة، بفضل الممارسة والتقويم والنقد المستمرين، سيتيسر على الناس التمييز بين أحزاب ذات شرعية تاريخية وأخرى ذات شرعية شعبية، أو بين المرجعية السياسية /المؤسسية و المرجعية الدينية / التاريخية. وما يسترعي الانتباه في الحراك العربي ظهور مفارقات كثيرة يمكن أن نذكر بعضا منها. تتجلي المفارقة الأولى في عدم تحول الشباب القائد للثورة إلى تيار أو حزب سياسي يسعى إلى الوصول إلى السلطة لتطبيق برامجه والاستجابة لمطالب الشارع. وتكمن المفارقة الثانية في رفض شرائح كبيرة من البرونيتاريين الانخراط في أي حزب سياسي. ومن نافلة القول التأكيد على دور الأحزاب السياسية في استقواء الخيار الديمقراطي، وتعزيز تعديدية الآراء والأفكار بمختلف مظاهرها وتجلياتها ( وليس تعددية الأعراق والملل والانتماءات القبلية والطائفية). لا يمكن للخيار الديمقراطي أن ينتعش ما دامت كثير من الفئات والتوجهات منكمشة على نفسها ومتوارية عن المشهد السياسي. إنه خيار " قائم على التسليم بحتمية التعايش مع الخطإ وبنسبية الحقيقة. ولهذا-وليس لأي سبب آخر-وجب التمييز بين الشأن السياسي الذي هو شأن بشري دنيوي والشأن الديني الذي هو شأن رباني وأخروي"([12]). 5- شبكات التواصل الاجتماعي: الواقع والمآل. لقد ساهم الربيع العربي في تزايد عدد المنخرطين في الشبكات التواصلية وفي مقدمتها الفايسبوك. وهو مؤشر إيجابي مكنهم من مواكبة الثورة الإعلامية والتواصلية، والمشاركة في القضايا الحيوية التي تهم أساسا حرية الفرد وكرامته، وتنسيق المصالح المشتركة ذات الصبغة السياسية أو المهنية أو الثقافية أو الترفيهية. ومن بين الأسئلة التي يمكن أن تثار بصدد فاعلية الفايسبوك وملاءمته نذكر أساسا سؤالا يهم ما إن كان لهذه الظاهرة الافتراضية تأثير أو مردود ثقافي إيجابي على من يركب غواربها وينغمر في لجها بهدف الاستفادة من ذخيرتها، وتطوير قدراته ومؤهلاته. و يمكن لإجابتنا،في هذا الصدد، أن تتفرع إلى النقاط الآتية: ا- أسهم الانترنيت بشكل كبير في الإطاحة بالطغاة العرب. وهو ما حذا بكريستوف أغيتونChristophe Aguiton إلى التحدث عن " ثورة الأنترنيت"([13]) التي تعززت بوسائل أخرى من قبيل الهاتف النقال وعينة من الفضائيات التي اضطلعت بتعبئة الجماهير وحفزها على مقاومة الخوف والانخراط في المد الثوري. بدأنا نعاين ، مع مر الشهور، أن مختلف الشبكات الاجتماعية أضحت مخترقة من لدن المخابرات لرصد المتظاهرين وتعتيم الحقائق وكذلك من لدن نشطاء الحركات الإسلامية لتوجيه الجماهير وفق وجهات نظرها وشعاراتها ومواقفها. وهو مما أسهم، علاوة على عوامل أخرى، في انحسار حماس " الشباب الثوري" ، وتعرضه إلى أشكال التشويش والتعتيم. فبمجرد أن ينشر خبر إلا ويجد بالمرصاد من يرد عليه ويعلق على الردود المتناسلة بصدده بأسماء مستعارة. مما يبين أن هناك " حربا افتراضية" معلنة تسعى من خلالها الحركات الإسلامية، أمام تراجع المد الليبرالي، إلى كسب رهانها وفرض وجهات نظرها. ومن خلال تصفح المواقع ذات الاستقطاب الجماهيري الكبير يتبين مدى اضطلاع أطراف معينة ب" تقسيم المهمات والأدوار" للمداومة على الإشادة بمدى سداد مواقفها وآرائها، وتسفيه الآراء المعارضة. وما يستأثر أكثر باهتمام المتصفحين هو الدردشة، وتعاليق المجاملة المقتضبة، وتبادل التهاني والصور وأشرطة الفيديو. لقد تحولت هذه الفضاءات، في عمومها، إلى مشاهد للفرجة والترفيه يتبادل فيها الأصدقاء صورا مثيرة وأشرطة فيديو نادرة ومناظر جذابة. وهو ما أدى إلى الوفرة المفرطةsurabondance أو التلوث الإخباري infopollution الذي يصعب فيه التمييز بين الغث والسمين، الجوهري والعابر، الجدي والهزلي. وإن أثيرت قضايا حيوية ( غالبا ما تمت بصلة إلى المطالب السياسية واللغوية والهووية) فهي ، غالبا، ما تعالج بطريقة جدالية تتسم عموما بالانفعال والعنف اللفظي والسطحية واللامبالاة. ب-أصبحت هذه الفضاءات تكرس الثقافة بوصفها عاملا من عوامل " التقسيم الاجتماعي، وموطنا ، على الدوام، للنزاعات التي لا تخلو من نفحات سياسية"([14]). مما أدى إلى تنامي المطالب العرقية والدينية واللغوية من جهة، وتناسل الأقليات والجماعات المطالبة بحقها في ممارسة حرية المعتقد أو الجنس من جهة ثانية. أصبحت الثقافة/ العالم تنحو منحى متطرفا (الثأر الثقافي La revanche de la culture) حرصا على إعادة الاعتبار للأقليات أو الجماعات التي مورست عليها مختلف صنوف التعذيب والإبادة والقهر والتهميش. وهكذا نزع الجدال بين الأطراف المتنازعة إلى در الملح في الجراح الرمزية والمادية (الذاكرة الجريحة)، وتطويع الذاكرة لأغراض إيديولوجية أو سياسية ( الذاكرة المطوعة)، وتعتيم علاقة البشر بالعالم. إن الأمر ، في نظر جيل ليبوفتسكي، يقتضي ، توخيا لإقامة مصالحة جديدة مع الذاكرة والعالم، تمكين المواطن من الثقافة العامة (أي الثقافة التاريخية) حتى يتسنى له أن يتمثل التوجهات والمعالم الكبرى للتطور البشري، ويفهم العالم الذي يعيش فيه. وما هو منتظر من الثقافة لا يتوقف عند هذا الحد. لا بد من تحسين مؤهلات الفرد وقدراته الإبداعية حتى يؤدي دوره على أحسن ما يرام في مختلف المجالات. ويمكن لهذا الدور الجديد للثقافة أن " يشكل عدلا لإمبراطورية الاستهلاك السلبي وذلك بتفجير قوى المتخيل" ([15]). ج-كرس الانترنيت " ثقافة البزنيس" . وهي علامة من علامات التحول الذي عرفتها الثقافة مع الثورة الإعلامية والتواصلية. انتقلت الثقافة من ثقافة تعنى بالقيم النبيلة إلى ثقافة تهتم أكثر بما يضفي جمالية ورونق على المنتجات الثقافية (مصا يصطلح عليه أيضا بالرأسمالية الثقافية) لجلب أكبر عدد من المثقفين. وفي هذا الصدد أصبحنا نعاين كثرة المدونات والصفحات والمواقع التي ينشد أصحابها الشهرة والتألق والأبهة. " أن تنجح هو تربح المال وتكسب الشهرة وتصبح منتصراwinner " ([16]). كما أصبحنا نعاين مختلف مظاهر " التسليع الثقافي" لجلب الأموال وترويجها على نطاق واسع. وفي هذا الصدد استطاع دانيان هيرست Danien Hirst أن يبيع 223 من لوحاته بالمزاد العلني دون عرضها في المعارض. وارتفعت المعاملات التجارية من 27,7 مليار أور عام 2002 إلى 43,3 مليار أور عام 2006. و أصبحت عواصم بعينها تستقطب أكثر من غيرها مثل هذه المعاملات التجارية التي تعنى بترويج الفن المعاصر. و في مقدمتها تأتي لندن ثم نيويورك ثم بكين. تمثل الصين لوحدها 24 بالمائة من السوق العالمي للفن المعاصر. ومن بين 25 فنانا عالميا الأكثر بيعا لأعمالهم نجد أن نصفهم من الصين. أصبحنا اليوم أمام صيغ جديدة لترويج المنتج الثقافي وبيعه. تضطلع به مؤسسات عالمية ( دور للبيع بالمزاد العلني، مندوبو المعارض، محافظو المتاحف الكبرى) تقدم خدمات جديدة للاستثمار في الأعمال الفنية ( إقامة حفلات موسيقية، تنظيم عروض سينمائية، تنشيط السياحة الثقافية). د-أضحى النشر الالكتروني متاحا وسريعا على عكس ما يتسم به النشر الورقي من بطء وتمييز ورقابة. وتيسرت سبل النشر للشباب سواء بإنشاء مدونات خاصة بهم أو النشر في مواقع ذات قاعدة جماهيرية عريضة. وقد مكنهم النشر الالكتروني من ترويج منتجاتهم، والتعريف بأنفسهم، وتلقي ردود محفزة من أصدقاء افتراضيين ينتمون إلى أقطار مختلفة. و في هذا الصدد، نقتطف مقطعا من شهادة أحمد القاضي صاحب مدونة" يا مراكبي"، التي تبين كيف تورط تدريجيا في شرك النشر الالكتروني إلى أن أصبح مداوما عليه ومسهما فيه بانتظام، وذلك بعد أن استشعر ثقته بنفسه بفصل الردود المشجعة والمحفزة التي يتلقاها من قرائه الافتراضيين." فقد بدأت بداية حذرة للغاية وكأنني أتحسس طريقي. وكنت أعرض حينها خواطري بإيجاز وتحفظ شديدين، إلى أن شجعتني التعليقات وتفاعلات القراء على أن أنطلق بحرية شيئا فشيئا"([17]). ومع مر السنين تألقت كثير من الأسماء بفضل مثابرتها على النشر، وقدرتها على التواصل مع أجيال مختلفة، وتوفرها على أعداد كثيرة من عناوين الأشخاص الذاتيين والمعنويين، وسعيها الحثيث إلى تقديم خدمات ثقافية متنوعة ( على نحو التعريف باللقاءات الثقافية أو تقديم تقارير عنها، وترويج البلاغات والإعلانات الثقافية، وإعادة نشر مقالات بعينها مع الحرص على ذكر أصحابها..). وبفضل تألقهم الكترونيا شقوا طريقهم بسهولة إلى عالم النشر الورقي الذي كان عصيا عليهم من قبل،وأصبحوا، بعدما كانوا قابعين خلف حواسبهم، يُستدعون إلى المشاركة في المنتديات واللقاءات الثقافية. يسعف الفضاء الشبكي الكتاب على تشكيل قبيلتهم الافتراضية بحكم أنهم يتقاسمون المشاعر والأفكار والميول نفسها، ويدعم مساعيهم نحو التعارف والتفاهم الاندماج والتكتل والتنسيق والتعاون وتبادل الخبرات ووجهات النظر والمواقف. وبما أن النشر الورقي يستصغر من قيمة منتجاتهم فهم يجدون في أعضاء القبيلة ما يشد بأزرهم، ويرفع من معنوياتهم، ويعزز ثقتهم بأنفسهم، ويعضد مساعيهم للانخراط في المشروعات الجماعية والتعريف باللقاءات والمنتديات الثقافية ،ويطري ما تجود به قريحتهم دون قيد أو شرط، و يحضهم على المغامرة والتحدي، ويسهم في تزايد شهرتهم وتحسين أوضاعهم الاعتبارية. يتبادلون فيما بينهم الرسائل والردود والتعليقات والصور وأشرطة الفيديو حرصا على موافاة بعضهم البعض بالمستجدات، وسعيا إلى تحسين أدائهم التواصلي وتنمية رصيدهم المعرفي. وهكذا أحدثوا لأنفسهم- بصفتهم " جيلا رقميا" (حسب وجهة نظر إيف غونزاليس كيخانو)- فضاء تواصليا جديدا قوامه التفاعل المشيد على التقاط الرسائل المسترجعة بهدف تعزيز مكامن القوة وتدارك مواطن الضعف وتوسيع جماهرية المنتج وإشعاعه ورواجه في أرجاء المعمور. ويصاب الشاب المبدع بالدهشة عندما يعاين كثرة الردود السريعة التي تلاحق منتجه وتواكبه عن كثب. في حين لا يتحقق المفعول نفسه لو نشره في جريدة أو مجلة. سيشعر، حينئذ، كما لو أن صوته الأحادي يضيع هباء منثورا في صحراء مترامية الأطراف دون أن يكون له رجع الصدى المتوقع. هـ-يرى برنار بولي Bernard Pouletأن الوسائل الجديدة للتواصل "غيرت جزءا كبيرا من سلوكاتنا الاجتماعية : كيف نتكلم، ونلتقي، ونصغي، ونقرأ، ونكتب، ونستهلك، وندخل في علاقات مع الغير"([18]). ومن علامات التغيير أن القراءة أضحت، عكس ما كانت عليه من قبل، أفقية تتوقف بسرعة فائقة عند العناوين والملخصات والمحتويات البارزة. وهي، في جوهرها، ليست قراءة بمعنى الكلمة وإنما هي إبحار متشعب في ربوع الكلمات والصور وأشرطة الفيديو بحثا عن المعلومات المطلوبة دون عناء يذكر. ولا تكمن فاعلية المحتويات المتصفحة في عدد الزوار الذين ارتادوها أو في قيمة المعلومات المعروضة وإنما في عدد الروابط المتضمنة واللامحدودة التي تحيل على نصوص أخرى([19]). وما يهم المتصفح أساسا جاهزيةُ المعلومات، وبساطتها، وإيجازها، وسرعة تحميلها. وعندما يتواصل مع غيره لا يكترث للنقاشات المثارة وللأفكار المتداولة بقدر ما يهمه التعرف إلى ما أنجزه أصدقاؤه أو ما هم بصدد إنجازه. إن اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من مفاجآت وأسرار وبرامج، هي التي تستأثر باهتمام المتصفحين للتعرف، عن كثب، على ما مستجدات أصدقائهم المفترضين (لقاءات، رحلات، خواطر) على نحو تكون فيه معززة بصور حية وتعليقات منتظمة. 6-عوائق التغيير الثقافي: يمكن أن نجملها فيما يلي: أ- مازال العرب، وإن تقلصت نسبيا الفجوة الرقمية([20])، يعانون من مخلفاتها بسبب استفحال الأمية الرقمية التي تمس شريحة كبيرة من المواطنين، وعدم استفادة المستعملين عموما من البرامج الحرة لدعم مسارهم الشخصي أو المهني، واشتغال المراهقين (digitals natives)([21]) أساسا بالرياضة والموسيقى والترفيه في حين لا يلون إلا أهمية نادرة للحقول المعرفية المتوفرة مجانا . فما يهم المبحرين، في المقام الأول، هو " الدينامية العلائقية dynamique relationnelle" التي تسعف أغلبهم على خلق علاقات جديدة مع كائنا افتراضية من مختلف الأقطار بهدف تبادل المعلومات والمشاعر والآراء التي تمت بصلة إلى ذوقهم وفلسفتهم في الحياة. ب-بدأت الخبرة Expertise تتراجع تدريجيا خاصة بعد ظهور الويب الثاني . أضحى البشر متساوين في إنتاج المعرفة وترويجها. وهو ما يكرس ظاهرة الدمقرطة الثقافية حتى لا تظل حكرا على فئات بعينها. وأحسن مثال هو تجربة " ويكيبيديا" (الموسوعة" التعاونية" على الخط) التي تتيح لأي فرد أن ينتج مادة ويصحح أو يضيف ما يراه مناسبا. وأصبحت، مع مر السنين، من المواقع الهامة التي يعتمد عليها في استجماع المعلومات المطلوبة والملحاحة. بدأ نعاين، بالمقابل، ظهور صحافيين هواة ، ينافسون الصحافة التقليدية بوسائلهم الخاصة، وينزعون أكثر إلى " الخبر" بوصفة وسيلة لتحاور المواطنين على قدم المساواة عوض اعتباره درسا يلقنه مختصون لمن هم أقل منهم معرفة واطلاعا وخبرة. ج-تستوعب الإيديولوجية المساواتية (idéologie égalitaire) مزايا كثيرة (دمقرطة الثقافة، فضح أساليب التطويع والتضليل، نشر أخبار طرية على مدار الساعة). وما يعاب عليها هو طابعها الشعبوي لاضطلاعها بنشر الخبر بطريقة غير مهنية ودون التحري في صدقيته وصحته. وهو ما جعل كثيرا من الخبراء يشتكون من عدم دقة بعض المعلومات المروجة، وسطحيتها، ومغالطتها للمتصفحين. لما اطلع أنديريو كين Andrew Keenعلى تعريف " المحرك النفاث النووي" المنشور في موسوعة " ويكبيديا" وجده عاما وغير دقيق يمكن أن يدلي به أي شخص ذي ثقافة محدودة. وهو ما جعله يدلي بالتصريح الآتي: " باسم الدمقرطة أنهكنا الحقيقة، وشوهنا الخطاب الحضاري، وارتددنا بالخبرة والتجربة والموهية إلى الدرجات السفلى..لا يقدم الويب الثاني، في الحقيقة، إلا معلومات سطحية عن العالم عوض أن يعرض تحاليل عميقة، وآراء حاسمة، وتعليلات متزنة..تحولت مهنة الإعلام إلى صخب يمارسه ملايين من المدونين الذين يتحدثون عن أنفسهم في الوقت عينه"([22]). إن مثل هذا التصريح وغيره كثير، يثير أكثر من سؤال حول صدقية محتويات الإنترنيت وملاءمتها بسبب إقدام أشخاص عاديين على منافسة الخبراء والمختصين في إنتاج المعرفة وترويجها على نطاق واسع. وهو ما نعاين جزءا منه في أبحاث الطلبة الذين يستنسخون معارف جاهزة دون التحري في مرجعيتها وسدادها، والتأكد من المستوى العلمي والثقافي لأصحابها. ناهيك عن استفحال مظاهر الانتحال والسرقة والتضليل والاعتداء على الحقوق المادية والمعنوية للمؤلف والحقوق المجاورة. ومن الخطورة بمكان أن نعاين كثيرا من المعلومات المزيفة التي تمس سيادة الدولة دون أن تجد من ينبري لتصحيحها أو الرد عليها. مما يتطلب أكثر من أي وقت مضى استحداث لجان علمية وبيداغوجية لتنبيه الناشئة إلى بعض الأخطاء المعرفية الرائجة التي يمكن أن تلحق ضررا بتكوينهم الثقافي والمعرفي وإرشادهم إلى المواقع والمكتبات الرقمية التي تحظى بالمصداقية وتحترم أخلاقية المهنة . د-يقتضي ولوج مجتمع المعرفة وبناءها توفر البنيات التمكينية (توسيع مجال الحريات، استحداث المؤسسات الحاضنة، خلق الحوافز والمبادرات الداعمة للإبداع، صوغ التشريعات القانونية)، وتوطين المعرفة باعتبارها فعلا مركبا يستوعب النقل والترجمة والتربية والتدريب([23]) أي كل ما يسعف على الرقي من النقل والانبهار إلى الإنتاج والتوظيف. ينشأ، في قلب هذه الشروط، إنسان مجتمع المعرفة الذي يستثمر المكاسب المعرفية والرقمية للانخراط في بناء الاقتصادات الجديدة ( فضاءات العمل المثمر، والإنتاج المتنوع، والخبرات الثرَّة). لم تستوف الدول العربية هذه الشروط رغم تفاوتها في سلم تملك أنظمة مجتمع المعرفة ومرتكزاته. وهو ما يعني افتقار الإنسان العربي لكثير من المؤهلات التي يمكن أن تؤهله إلى الانفتاح على مكاسب العصر المعرفية والتواصلية، والتفاعل إيجابا مع المستجدات الرقمية والتقنية، والتسلح بمهارات جديدة لبناء رأسمال معرفي متين، والانخراط في خضم التنمية المستدامة. هـ-ما يميز العصر الحالي هو هيمنة " ثقافة الشاشة" التي أحدثت تغيرات جوهرية في مختلف التجليات الثقافية والأدبية([24]). أصبحت للأدب والثقافة وظائف جديدة تتطلب من الفرد التوفر على المؤهلات الضرورية لمواكبتها والاضطلاع بها. وبسبب استفحال "الأمية الرقمية" أصبح الإنسان العربي غير قادر على مسايرة الإيقاع السريع لتطور المعرفة وانفجارها على مستويات عديدة، والاستفادة من الخدمات المجانية التي يوفرها له الانترنيت. لا يستفيد الإنسان العربي إلا من النزر اليسير الذي يزخر به للتواصل مع غيره في شؤون حميمة وذاتية ذات صبغة آنية ومستعجلة. في حين ينتفي " النقاش العمومي" بحثا عن الحلول الممكنة بالحوار الرصين والبرهان الحجاجي. تراجع دور كثير من الجمعيات الثقافية التي أضحت غير فاعلة في المشهد الثقافي بسبب أعطاب ومشاكل كثيرة. وهذا ما دفعها إلى التخلي عن وظيفتها النقدية. هذا الوضع استفادت منه كثير من الحركات الإسلامية التي اكتسحت الفضاءات العمومية، وبدأت تروج لخطابها ومطامحها وترهص بقدرتها على إصلاح الوضع الاجتماعية. لكن المحك الحقيقي لأي تجربة في التدبير ليس الأماني والمطامح والوعود وإنما تصحيح الوضع القائم وإحداث التغيير المرتقب. و-بدأت كثير من الأسئلة ما بعد الحداثيةPost-modernes وما بعد الإنسانية post-humains تستأثر باهتمام الشركات الكبرى ( على نحو غوغل، والياهو، وميكروسفت، ولاري باج..) بهدف أولا " استحداث ذكاء اصطناعي يضاعف من قدرات الإنسان، وقد يعوض دماغة"([25])، ثم ثانيا خلق وجائه بين الإنسان والحاسوب لضمان تفاعلهما على الوجه الأحسن. سيمكن هذا التفاعل من الحصول على "كفاءات استثنائية"، والتحكم في السلوك البشري بوسائط الكترونية، وإدارة عقله وبرمجته كما لو كان جهازا متطورا. شكلت البرمجة البشرية، إلى حد قريب، مادة دسمة للخيال العلمي. وقد تصبح ، في غضون العقود القادمة، حقيقة ملموسة. ما تسعى إليه البشرية، في نظر إريك شميتEric Schmidt، هو تشييد ذكاء اصطناعي أكثر ذكاء من العقول البشرية([26]). وإن تحقق هذا الحلم ستتغير كثير من العادات الإنسان وطرق تفكيره وتفاعله مع العالم وبني جنسه. ز- تشكل الفردانية الجديدة new-individualismeقطب الرحى في الشبكات التواصلية.. لا يتورع كل من له صفحة خاصة من إطلاع الآخرين على أحواله وأسراره ومنجزاته ومشاريعه. أصبح " كائنا دون طوية ودون جسد. يعيش في مجتمع خلو من السر. ينزع أكثر نحو ما هو اجتماعي، الذي ليس له وجود إلا من خلال تبادل الأخبار في مجتمع أضحى أكثر شفافية بفضل الآلات الجديدة للتواصل" ([27]). وما يعزز الحميمية بين الأصدقاء المفترضين هو سعيهم إلى المكاشفة والمصارحة والتناجي، وهذا ما يجعل محادثاتهم مغرقة في الذاتية ومنشغلة بالآني واللحظي. وإن تكاثرت مؤخرا صفحات يعنى أصحابها بالقضايا الفكرية والثقافية، فهي، رغم إثارتها لمواضيع هامة وملائمة، لا تستلفت انتباه الزوار إلا نادرا، ولا تستقطب إلا ثلة من المتحاورين. و لا يرقى النقاش المثار إلى ما هو منتظر ومؤمل منه، إذ غالبا ما ينحرف عن جادة الصواب، ويختزل في ردود ذات صبغة جدالية وانفعالية لمناصرة فكرة ما أو مناهضتها. ن- إن الفرد " لا يستمد طاقته وماهيته المعيشية من مؤهلاته الداخلية التي تنبع من أعماقه، وإنما من قدراته كانسان موصول ومتصل " بأنماط التواصل الرحبة" لجمع ومعالجة وتحليل المعلومات التي هو في أمس الحاجة إليها للعيش"([28]). أضحى، بحكم الاحتكاك المنتظم بها، مجبولا على خلة جديدة تتمثل في التتابع التواصلي (continuité communicationnelle) التي تحتم عليه أن يستعمل يوميا مختلف الأدوات التواصلية ( مذياع، تلفاز، هاتف، انترنيت..) لمعرفة المستجدات والتواصل مع غيره..استعمل البرونيتاريون العرب كل الوسائل التواصلية الممكنة للتخلص من الحصار الإعلامي المفروض عليهم، وترويج خطاب التغيير على نطاق واسع، واقتراح بدائل جديدة للعيش الكريم. وقد استعانوا، في هذا الإطار، بمختلف الدعامات الثقافية ( أشعار، خواطر، أقوال مأثورة، خطب، أشرطة فيديو، محاضرات) لإذكاء الحماس في المواطنين، وحثهم على مناهضة الخوف والخنوع، وحفزهم على الاحتجاج والاعتصام في الفضاءات العمومية. كان من المؤمل أن تظل جذوة الحماس مشتعلة ومتوقدة حتى يحقق الربيع العربي أهدافه المرجوة..وهذا ما يتطلب إثارة نقاش عمومي حول البرامج المقترحة وسبل تنفيذها وتحقيقها على أرض الواقع.. وما يؤثر سلبا في مسيرة التغيير هو انتفاء النقاش في مختلف الفضاءات العمومية.. لا يمكن للديمقراطية، في هذا الصدد، أن تتطور وتؤتي ثمارها بدون نقاش عمومي يشارك فيه المثقفون والساسة لتعزيز مكامن القوة وتفادي مواطن الضعف من جهة، وتنوير الرأي العام حتى يكون على بينة مما يحدث في البلد ومما تتخذ فيه من قرارات حاسمة. أ-عزز الربيع العربي لدى الفرد الإحساس بالانتماء إلى ثقافته العربية-الإسلامية سعيا إلى مقاومة أشكال الاستلاب والحفاظ على مقوماته الشخصية الأساس. وقد استطاع، في خضم الأحداث ، أن يبلور خطابا جديدا لكسب رهان التغيير المنشود، ويبتكر أسلوبا فريدا في مناهضة المستبدين. ومن بين القضايا التي استأثرت بنقاش البرونيتاريين نذكرا اساسا قضية الديمقراطية..من إيجابيات هذا النقاش أنه لم يتخذ صبغة جدالية على نحو ما كان عليه من قبل لبيان أيهما أصلح وأفيد الشورى أو الديمقراطية..أضحى لفظ الديمقراطية متداولا ومستساغا حتى من لدن من كان يعتبره نبتة غريبة مستوردة..أصبح الجميع مقتنعا أن التغيير الممكن لا بد أن يمر من إعطاء الكلمة للشعب لاختيار من يراه أهلا لتدبير شؤونه والاستجابة لمطالبه الملحة...ومن نقائص النقاش المثار حول الديمقراطية أنه ظل حبيس الطرح السياسي النفعي (كيفية الوصول إلى الحكم واقتسام السلط) ولم يتعداه لإثارة قضايا أخرى لصيقة ومرتهنة به.. على نحو الاستلاب الثقافي، والتعدد الثقافي، والتعدد اللغوي.. وإن ظلت مثل هذه القضايا مغيبة من النقاش العمومي وبدون حلول مناسبة فإن التجربة الديمقراطية ستصبح، مع مر السنين، منهكة ومتعبة بسبب مشاكل تكتنفها من كل جانب، وتحول دون نضجها وبالتالي إسهامها في تفاهم البشر وتعاونهم وتعايشهم أيا كان انتماؤهم الطائفي والديني والعرقي واللغوي. خاتمة: حاولنا، فيما قبل، أن نبين الدور الذي اضطلعت به " ثقافة الانترنيت" في مناهضة الاستبداد، واقتراح بداثل جديدة للحكم والعيش. لم يأت التغيير، رغم طابعه المباغت، اعتباطا وإنما ساهمت في صنعه نخب متمكنة من الأدوات التقنية والتواصلية الجديدة. اجتازت بعض الدول العربية المرحلة الأولى ( إزاحة المستبدين وتبني التجربة الديمقراطية) بنجاح وفاعلية بعد مخاض عسير..وهي الآن مقبلة على مرحلة جديدة وحاسمة تتمثل في الاستجابة لتوقعات المواطنين وحل مشاكلهم الاجتماعية حتى يشعروا بمواطنتهم وينعموا بالعيش الكريم.تعاني " ثقافة التغيير"، في هذه المرحلة ، من كثير من المشاكل والمثبطات بسبب " تفاقم الأمية الرقمية" التي تحول دون استفادة السواد الأعظم من المنجزات العلمية والثقافية الكونية. وهذا ما يحرمها إن لم يقصها من الإسهام في التنمية المستدامة، والانخراط في المشاريع التشاركية التي تتطلب من الفرد حدا أدنى من المهارات والمؤهلات الأساسية. لا ينبغي أن ننخدع ببريق " ثورة الانترنيت" رغم دورها في فتح صفحة جديدة من تاريخ الأمة العربية..مازال الطريق عسيرا ومافتئت المشاكل المتراكمة عالقة..وهذا ما يتطلب وضع خطط تنموية شاملة قوامها الرأسمال البشري المؤهل، والمراهنة على الزمن لإحداث نقلة حضارية وثقافية في ذهنية الإنسان العربي. الهوامش: [1] - الكلمة مركبة من السابقة (Pro) التي تفيد " قبل" و" أمام" و"مناسب"ولفظ (net) التي يعنى بها شبكة الانترنيت. والمقصود بالمصطلح طبقة جديدة من مستعملي الشبكات الرقمية الذين ينتجون محتويات رقمية ويروجونها على نطاق واسع. انظر: Joël de Roznay , La révolution du pronétariat des masses média aux média des masses, Fayard,2006,p12. [2] - لا يقصد بالديمقراطية التواصلية التصويت عن بعد (e-démocratie) أو التواصل بين الحكام والشعب (cyberdémocratie) وإنما تمكن المواطن من أدوات جديدة للتواصل مع غيره. [3] - استفدنا في بيان أوجه هذا الصراع من الكتاب الآتي: -Joël de Roznay , La révolution du pronétariat des masses média aux média des masses, op.cit. [4] - وهو ما سيدعم سيروتي الديمقراطية التشاركية والديمقراطية الشبكية (syberdémocratie) .لا تسعيان فقط إلى تيسير العمل الإداري عن بعد ( على نحو دفع الضرائب والاستفادة من الخدمات على الخط) وإنما خلق حوار سليم وبناء بين الساسة والمواطنين. وتعتمد هذه الديمقراطية على التغذية الإرجاعية ( استثمار ردود فعل المواطن أكانت سلبية أو إيجابية) لحسين التواصل بين المسؤولين والمواطنين وتعرُّف مكامن الخلل والقوة. [6] - رغم إيجابياتها فهي تحمل في طياتها جانبا سلبيا يتمثل في ظاهرة " التلوث المعلوماتي" الذي يتطلب من المتلقي إعمال ذكائه وفطنته لتمييز الحقيقي من المزيف، والصالح من الطالح. [7] - Joël de roznay, 2020 : les Scénario du futur comprendre le monde qui vient, Des idées et des Hommes, paris, avril, 2007. [10] - انظر جورج لوكاش، نظرية الرواية،ترجمة الحسين سحبان، منشورات التل، ط1، 1988. " ذلك هو عصر الملحمة. قطعا ليس غياب الألم وأمن الكينونة هما ما يكسو البشر بقسمات بهيجة ودقيقة....بل إن ما يكسوهم بذلك لهو هذا التناسب الكامل بين أفعال الروح ومطالبها؛ مطلب العظمة ومطلب الاكتمال ومطلب الامتلاء" ص 25. [11] - أحمد حرزني، أي صيف بعد الربيع العربي؟، الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي 2011-2012، منشورات جامعة محمد الخامس والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ص 10. [13] - انظر في هذا الصدد كتاب : Tariq Ramadan , L’islam et le réveil arabe, Presse Châtelet, 2011,p72. [14] -Hervé Juvin & Gille Lipovestsky, L’occident mondialisé controverse sur la culture planétaire, Le livre de poche,2010, p103. [17] - " المدونون يتحدثون شهادات من قلب مجتمع التدوين المصري"، مجلة فصول، العدد 79، شتاء- ربيع 2011، ص237. [18] -Bernard Poulet, La fin des journaux et l’avenir de l’information, édition revue et augmentée, Gallimard, 2011,p 140. [20] - قدمت مؤخرا الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات الأرقام الآتية: يبلغ عدد مقتني الهواتف النقالة عام 2011 ما يربو على 37 مليون. وهي موزعة كما يلي : 17 مليون و164 ألف هاتف نقاد بالنسبة لشركة اتصالات المغرب، 11 مليون و221 ألف هاتف نقال بالنسبة لشركة ميديتيل، و11 مليون و810 ألف هاتف نقال بالنسبة لشركة ونا كوربوريت. وبلغ عدد المنخرطين في الانترنيت إلى 3 ملايين و795 ألف. وهي موزعة وفق النسب الآتية : تأتي في المرتبة الأولى اتصالات المغرب ب 53,60 %، ثم بمديتيل ب 29.74 %، ثم وانا كوربوريت ب 16.66 %. وسجلت الوكالة أن هناك تراجعا في الاشتراك بالانترنيت بنسبة 28 %. اخذنا هذه الأرقام من جريدة أخبار اليوم، العدد 823، بتاريخ 03/08/ 2012. [23] - انظر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم ، تقرير المعرفة للعالم 2009، نحو تواصل معرفي منتج، دار الغرير/ دبي، الإمارات العربية المتحدة ، ص 207, [24] - ظهرت أنواع أدبية جديدة نذكر منها الرواية المتشعبة، والكتابة الجماعية، والشعر الالكتروني والتخييل المتشعب، والقصيدة الحية.الخ. وفي هذا الصدد نلاحظ أن القصيدة مرت عبر مراحل متعددة بدءا من القصيدة الملموسة ( يتفاعل فيها الشعر بالفنون التشكيلية) إلى قصيدة الفيديو Vidéopoème مرورا بالقصيدة البصرية والقصيدة المسموعة. وفي كل مرحلة تستثمر القصيدة مكاسب تقنية متطورة لتجديد نسغها وشكلها وكينونتها بحثا عن آفاق جديدة للمغايرة والتحول والتجدد. [25]- قولة نيكولا كار Nocholas Carr مأخوذة من كتاب: Bernard Poulet, La fin des journaux et l’avenir de l’information,op.cit p210. [27] -Philippe Breton , L’utopie de la communication le mythe du « village planétaire », La découverte/Poche,1997, p50. |
|
Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009 |