نجد الكلام في مقدمة الوسائل التي يعتمد عليها المجتمع الحداثي لحمل المتلقي على تغيير معتقداته وتبني سلوكات جديدة. وإن حل محل العنف في تسوية النزاعات، فمازال يتخذ من طرف الأطراف المتصارعة وسيلة للتطويع ( La manipulation) و القهر والتغلب.
. ونظرا لأهميته في شتى صنوف المغالبة، فقد أصبحت الحاجة ملحة إلى تعلم تقنياته والتحكم في ناصيته لإدراك المبتغى وتحقيق الأهداف المتوخاة. وهكذا تسخره الشركات لفرض منتوج ما على الزبائن. فلا تهم حقيقة المنتوج في حد ذاتها، وإنما تمويهها وتقديمها في قوالب لغوية جذابة لحفز المستهلك على ابتياعه دون روية وتفكير. ونظرا للخطورة التي أصبح يتسم بها في المجتمع الراهن، فإنه أصبح من الضروري الدفاع عن حرية التلقي حتى لا تستغل الديمقراطية لتدنيس كرامة الإنسان في الفضاءات العمومية. فإلى جانب حق التعبير بحرية عن الآراء والأفكار، نجد حق حرية تلقي الرسائل المبثوثة في ذلك الفضاء الذي يتقاسمه الناس على حد سواء.
1-التطويع التلفظي:
إن التطويع هو بناء صورة عن الواقع كما لو كانت هي الواقع بعينه، وهو -أيضا- عمل عنيف ومكره يسعى إلى سلب الحرية من المتلقي، وتغيير معتقداته. وكلما كشف المتلقي عن مقاصد المتلقي إلا وبذل مجهودا ذهنيا للإفلات من المفعول التطويعي لكلامه، والاضطلاع -إن أمكنه ذلك- بالتطويع المضاد لتفنيد مزاعمه بحجج مضادة. وفي هذا السياق ينبغي له ألا يترك له هامشا للصمت حتى يمنعه من استجماع نفسه واسترجاع ثقته بنفسه، ويحبط استراتجياته التلفظية. وفي خضم هذه الحرب التلفظية بين الطرفين تبرز ملاءمة الكلام وأهميته. يعتبر الكلام خصيصة الجنس البشري، وهو يحتوي على ثلاثة سجلات أساسية، وهي: التعبير، والإخبار، والإقناع. وإن عاش الأفراد التجارب نفسها، فكل واحد منهم ينقلها بطريقته الخاصة، وهو ما يضفي النسبية على الحقيقة. وهذا ما حذا بجون بيير فرنار بإبعاد الكلام من دائرة الطقس والصياغة الصحيحة، ويقرنه بالنقاش المحتد وبالإقناع.
لقد أصبح الكلام دعامة أساسية في المجتمع الديمقراطي لأنه يعد وسيلة أساسية للتفاوض للوصول إلى حلول مرضية وملموسة. وكل طرف يتسلح بالحجج الكافية لإرغام المتحاور معه على استساغة طروحه، وتغيير معتقداته. و كلما انزاح الكلام عن وظيفته الإقناعية إلا واتسعت دائرة العنف.
2-أجرأة الكلام تقنيا:
يعتمد الخطباء والساسة على دور البلاغة لانتقاء الأساليب المناسبة، والمراهنة على التأثير في متلقيهم. ولقد ولدت البلاغة في سياق قانوني، وفي قلب الاهتمامات التي تستند إلى فعالية الكلام لإدراك الأهداف المتوخاة. وفي هذا الصدد اقترح Corax على الخطيب جملة من الإجراءات ذات الطبيعة التقنية حتى يؤدي دوره في المحاكم على الوجه الأحسن. ولم يعتبر أرسطو البلاغة فنا للإقناع مهما كلف ذلك من ثمن، وإنما هي البحث عن وسائل الإقناع. ويعتبر القرن العشرون هو قرن الإقناع بامتياز ،لأنه ظهرت فيه كثير من تقنيات التطويع التي يتوخى منها التأثير في المتلقين، وحملهم على تغيير معتقداتهم والإيمان بأفكار جديدة. وتأتي في مقدمتها تقنيتان أساسيتان، وهما:
أ- تمويه الأخبار La désinformation : يرجع الفضل في استخدام هذا المفهوم إلى سون تسي Sun Tsé. ويعنى به عموما تحريف الأخبار وتشويه الحقائق لتضليل الرأي العام وتوجيهه. وإبان الحرب الباردة كان كل معكسر من المعسكرين المتصارعين ( المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي) يستخدم هذه التقنية لبيان سدادة طروحه وتفنيد مزاعم الخصم.
ب-الدعاية: هي عمل منظم يتوخى منه نشر رأي أو مذهب سياسي بين الناس. في السبعينات كانت لكثير من المنظمات السياسية مصالح خاصة بالدعاية تشغل أطرا مكلفة بها. وبعد انهيار جدار برلين أسندت لهذه المصالح مهمتي الإعلام والتواصل.
3-التطويع الانفعالي:
يسخر هذا النوع من التطويع العواطف وما يتمتع به بعض الأفراد من جمال ونفوذ ( على نحو الممثلين واللاعبين المرموقين) لإمالة المتلقي وإغوائه، ثم حضه على استساغة ما يعرض عليه من مواضيع. ويعتمد هذا التطويع على التقنيات التالية:
أ-استحضار العاطفة: يختار في هذا المجال أشخاص معروفين بجمالهم أو منجزاتهم لحفز المتلقي على التماهي، واقتناء ما يعرضونه من بضائع.
ب-الإغراء الديماغوجي: يضطلع به من له وجوه متعددة تؤهله للتكيف مع ظروف مختلفة، والبروز بمظهر المرشح الذي يقدرالناس مكانته.
ج- الأسلوب: يلعب الأسلوب دورا هاما في استمالة الناس ، وكسب مودتهم، وإطراب أسماعهم. وإذا لم يحسن المرء استعماله في المقامات المناسبة يمكن أن يتطير ويمتعض منه من تلقاه.
4 -التطويع المعرفي:
يرتكز هذا التطويع على تمويه المحتويات وتوجيهها، وإعادة تنظيم الوقائع لخدمة أغراض محددة. ونجد في مقدمة التقنيات التي يعتمد عليها التأطير. ويعنى به أساسا إعادة استثمار المعطيات في قوالب جديدة لحفز المتلقي على القيام بعمل ما. ولتحقيق هذا الغرض يضطلع المطوع بتحويل الحقائق إلى أباطيل أو العكس صحيح، وبالتستر على جزء من الواقع. ومن بين صنوف التأطير نذكر ما يلي:
أ- إطار الافتراء(le cadrage menteur) يُشغل الكذب بوصفه سلاحا حربيا وعنفا نفسيا؛ وذلك لحض الخصم على اتخاذ قرارات لا تخدم مصالحه.
ب-إطار المغالاة: يتلاعب المطوع بالألفاظ لإيهام المتلقي وتغليطه. وفي هذا الصدد يستعمل الألفاظ المفخخة ( على نحو إلصاق تهمة الإرهاب بالعربي)، والأكاذيب الذهنية ( استخدام الكريات الفولاذية المغطاة بالمطاط بدلا من الرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين)، والعبارات الملتبسة ( يعطي التيد لونا (أكثر) بياضا، ( يمكن) هذا القرص من معالجة المرضى، لقضاء فصل الشتاء دون زكام عليكم ب(أقراص من نوع كذا )، وتطبيع الواقع ( ترسيخ رواسم في أذهان المتلقين؛ وذلك على نحو المأساة الفيتنامية، وآفة البطالة، والزازال السياسي..).
-الإطار المكره( le cadrage contraignant ): يراهن على جعل المتلقي يقبل رأيا أو يتبنى سلوكا. ولتحقيق هذا الهدف يلجأ المطوع إلى لفت انتباهه إلى قضية معينة تتخذ تعلة للوصول إلى قضية مستضمرة.
5-الإنسان الحداثي:
ينسجم هذا الإنسان مع النموذج التواصلي، ويتفاعل مع الخبر المبثوث الذي يخاطب فيه " الخليقة البافلوفية" (نسبة إلى بافلوف) ، وتحثه على قبول ما هو معروض عليه كما لو كان حدثا طبيعيا. ومن أخطر الرسائل التي يتلقاها يوميا ، تلك التي تتعلق بالتدخين. فهي تشتغل كصواريخ متعددة الرؤوس تدمر إرادته ومقاومته، وترغمه على تبني سلوك وعادة جديدين. ومنذ سنة 1975 تعددت وسائل وتقنيات التطويع لتوسيع دائرة المدخنين. ويبدي الإنسان المطوع شعورا معقدا بالرضى والانصياع للحملات الدعائية. وهكذا ظهر صنف جديد من البشر ( الإنسان المجرد من الطوية). وهو الصــــنف المحدد خارجيا (extro-déterminé) الذي يقابله الصنف المحدد داخليا ( الإنسان التقليدي). ويتميز الصنف الأول من الثاني بكونه يخضع لقوى خارجية ( وسائل الاتصال) تؤثر في سلوكه وتحدد رؤيته للوجود. وقد سبق لتولستوي في روايته ( أنا كرنينيا) أن حدد بعض إرهاصات الرجل الحداثي على النحو التالي:" لا يغير رأيه، وإنما الرأي هو الذي يتغير داخله دون روية أوعلم. وهو-من جهة أخرى- لا يتبنى أراءه السياسية، بل تفرض عليه كما يفرض عليه اللباس والقبعة. يأخذ بطريقة آلية ما يراه في العالم الخارجي".
يعد التطويع من بين عناصر الضغط الاجتماعي الذي يحض الإنسان الحداثي على الامتثالية. وهذا ما عزز لديه الإحساس بالفردانية والاحتراس. فهو في الآن نفسه اجتماعي بحكم تلقي الأخبار من العالم الخارجي وإرسالها، وحذر مما تبثه وسائل الإعلام لكن ليست له قدرة على الإفلات من قبضتها ومقاومتها، إذ سرعان ما يجد نفسه تحت رحمتها متبنيا سلوكا معينا دون أن يعي بأخطاره وخلفياته ( اشتراء قنينة كوكا كولا).
ويحذر المؤلف من تنامي اليمين المتطرف الذي يشغل التطويع التلفظي لتهييج الرأي العام وتوجيهه، وإضفاء الطابع المبتذل على " القضايا الحيوية والملحة". وفي هذا الصدد يرى أن مقتل الوزير الأول السابق إسحاق رابين ليس ناجما عن حدث مفرد، وإنما هو نتيجة للدعاية المفرطة التي اضطلع بها اليمين المتطرف لمواجهة مساعي السلام والتفاوض بين إسرائيل وفلسطين. "كان القاتل من الناحية الصورية متطوعا، ولكنه من الزاوية الواقيعة متأثر بالأقوال التطويعية التي كان يروجها اليمين اليهودي المتطرف" ص151. وبالمقابل، تصاعد مد " الجبهة الوطنية" ضد المهاجرين بدعوى أنهم مسؤولون على المشاكل التي تعاني منها فرنسا. وهذا ما جعلهم عرضة للعنصرية والتصفية الجسدية.
6-معايير الكلام:
يهدد التطويع المجتمع الديمقراطي بحجة ينازع أحد مقوماته الأساسية التي تتعلق بحرية التعبير. كما أنه يمس شرف المرء بتجريده من إنسانيته وتحويله إلى ألعوبة بين أيادي الآخرين. ولما نعاين الأدبيات التي تناولت التطويع نجد أنها - رغم خطورته وسلبياته- تعتبره عنصرا مشروعا ومقبولا. ونجد ضمنها ثلاثة اتجاهات أساسية:
1-ينسجم التطويع مع طبيعة المجتمع الديمقراطي بحكم أنه حل محل العنف لمعالجة المشاكل الاجتماعية.
2-ليس التطويع مهما في حد ذاته وإنما الوسائل التي تستخدم في تشغيله لتحقيق أهداف معينة. يدافع هذا الاتجاه عن حياد التقنيات. فلا تكمن الخطورة في القنبلة الذرية بل في الأهداف اللاأنسانية المتوخاة من صنعها.
3- إن التطويع هو سلاح الضعفاء، فهو ملاذهم الأخير لما يتجردون من النفوذ ووسائل الضغط. ومن ثمة يطرح السؤال التالي: أيكون من الشرعي -لما تكون الديمقراطية مهددة- استخدام أساليب لا ديمقراطية للدفاع عنها؟ يمكن أن نجيب بالإيجاب، لكن مثل هذه الحالة نادرة ، وتشكل استثناء.
لقد أصبح من الضروري مقاومة التطويع والحد من آثاره، وذلك بالتعرف على الآليات التطويعية، وتدريب المتعلمين على ثقافة تحليل الرسائل وتفكيك شفراتها وإدراك مقاصدها، واضطلاع المجتمع بدوره في ضمان حرية التلقي بموازاة مع حرية التعبير، والحد من المخاطر التي تهدد الديمقراطية في الفضاءات العمومية ( الحملات الدعائية للتدخين، وتنامي ظاهرة اليمين المتطرف، وانتشار أخلاق التخلي عن المعتقدات الأصلية بالعنف وتحت ضغط الكلام والإجراءات التطويعية).
مما تقدم يتبين أن الدول الكبرى أنعشت نظام " دعه يعمل" الذي أصبحت الديمقراطية بمقتضاه مسخرة لخدمة أهداف محددة سلفا. إن الديمقراطية التي منحت للكلام مكانة لائقة في الحياة العمومية أضحت مهددة من طرف التقنيات التطويعية التي تسعى إلى إخضاع الفرد وتدجينه. ولهذا ينبغي توفير له هامش من حرية الاختيار والتلقي حتى يشعر بمواطنته وكرامته، والاستغناء عن الأساليب الدعائية التي تروم إكسابه سلوكات جديدة والتحريض عليها(على نحو التدخين). " لقد حان الوقت -ربما- للتفكير في شروط تفتح حرية حقيقية للكلام، وذلك لضمان أحسن إنجاز للديمقراطية" ص 210.
*****
1-فليب بروطون (Philippe Breton)، الكلام المطوع، منشورات الاكتشاف،2000. أحرز هذا الكتاب على جائزة أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية سنة 1998