|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لأم جراح الأيام السوداء-دمحمد الداهي
المقدمة: انخرطت في مشروع الكتابة عن الذات ([1]) سعيا إلى إعادة تشخيص عيّنات من ماضيها الشخصي من جهة، وإطلاق العنان لخيالها واستيهاماتها لمساءلة الوقائع المحكية في منأى عن الرواسم المكرورة والأحكام الجاهزة من جهة ثانية. وقد حرصت على التحرر من الرقابة الذاتية لخلق مسافة نقدية تجاه الذات ومحاورتها بحثا عن حقائق منفلتة وهاربة، وعلى تجريب كتابة "ملتبسة" بإمكانها أن تستوعب ما عاشته وما توهمته ، وما حدث وما كان يجب أن يحدث. 1-العنوان: قد يبدو عنوان المؤلَّف تقريريا، يفيد ما اعترى الأسوار من شقوق إما لتقادمها وتآكلها أو ارتجاجها بسبب هزة أرضية قوية. لكن لما نتوغل في قراءة المؤلَّف، يتضح أن الروائية استثمرت العنوان للتعبير عن معان إيحائية تستمد نسغها ونبضها من أحوال نفسية وشعورية. فقد صورت في الصفحة 21([2]) جسد المسرود له المنهوك والمتعب، نتيجة السنين التي قضاها في السجن، بجدران آيلة للانهيار قبل فوات الأوان. ثم طرحت في الصفحة 33([3]) سؤالا إنكاريا موحية بما حفره السجن من أخاديد عميقة في دواخله، ثم تعاود طرح صيغة السؤال نفسه([4]) مستحضرة أحاسيسه المرهفة وهو يصيخ بسمعه إلى هدير أمواج البحر ويستقبل رائحته الطيبة في زنزانة ضيقة ومظلمة. ولما نعود إلى معجم " لسان العرب" نجد أن من بين المقومات النووية للأخدود هو آثار السياط على الظهر وما شقت منه([5]). وهذا ما ينطبق، إلى حد ما، مع سياقات النص التي تبرز ما تركه الجلادون بسياطهم من آثار التعذيب على جسد المسرود له لانتزاع اعترافاته كرها وقسرا. يتضح ، من خلال هذه الإحالات الحكائية، أن الروائية استعارت للجسد جدرانا محفورة للتعبير عن تألمها وتذمرها من قسوة الجلادين وفظاظتهم ، والدلالة على ما خلفوه من آثار التعذيب في نفسية المسرود له وجسده. ورغم تفاوت حدة ألمهما ومفعوله ، فكلاهما اكتوى بجمرات السجن، وتألم من شُواظها وحرقتها. ومهما كانت مقاومة الجسد/ الجدار للرياح الهُوج والهزات العنيفة، فقد تصدع وتشقق مع مر السنين مؤذنا بنهاية مشؤومة. 2-تجنيس المؤلف: قد نجاري مؤقتا المؤلِّفة في تصنيفها لعملها ضمن الجنس الروائي. لكن بقدر ما نسترسل في قراءة المؤلًّف، ينتابنا هذا التردد ( هي ..ليست هي)([6]). قد نتوهم أحيانا بأن ما تحكيه هو جزء من ماضيها الشخصي الذي تقاسمته مع المسرود له. وتتسع أحيانا أخرى الهوة بين الحقيقة والخيال، أو بين الواقع والحلم. وهذا ما يعلل نسبيا سِرَّ وسم مؤلفها بالرواية. لكن يمكن ، في ضوء مؤشرات نصية، أن ندرج المؤلَّف ضمن التخييل الذاتي([7])، الذي ما فتئ يثير جدلا حول ملاءمته وجدواه، ويبحث عن منزلة مناسبة في المشهد الأدبي رغم كثرة النصوص الدالة عليه كونيا. وما حفزني على هذا التصنيف هو ما يلي: أ-حاولت الساردة أن تتجنب ما يثبت هويتها. فهي تتحدث عن نفسها على وجه الإجمال والتعميم، وإن كانت تستحضر، بين الفينة والأخرى، بعضا من مقوماتها الشخصية والمرجعية. ورغم أنها أودرت في النص ما يوحي باسمها الشخصي، فهي قد أضفت عليه طابعا شعريا يلتبس بزهرة / النبات، ويتناغم إيقاعيا مع كلمات أخرى وردت في السياق نفسه على الصيغة عينها" فعلة": بدرة، قطرة، ومضة. وفي هذا الصدد، لا يمكن للساردة أن تستوعب مشاعر الزهرة إلا في إطار " مثالية رمزية". وهذا ما يبين مدى حرص الساردة على العناية بالزهور ليس لجمالها ونضارتها وأريجها فقط ، وإنما لكونها ، أيضا، تبعث شريطا من الذكريات من مرقدها. كما أنها، من جهة ثانية، تحاول أن تجسد من خلال ذاتها ما تشعر به الأم / الأنثى من أحاسيس مرهفة إزاء أشياء بسيطة وتافهة أحيانا وحيال أخطار محذقة أحيانا أخرى. ب-إن مواءمة الساردة بين الوظائف المرجعية ( دعم الجانب السيرذاتي في النص) والوظائف الانعكاسية( عكس الذات متشظية في مرايا متقابلة) والوظائف الصورية( إنتاج صورة طوبوية عن الذات) جعلها تضفي الخيالي على الواقع، وتعيد مساءلته بأسئلة جديدة، وتعيد النظر في بعض الأحكام الجاهزة والانطباعات السريعة، وتشرع الإمكانات السردية على احتمالات أخرى . ج-إن المؤلَّف، على نحو أعمال أخرى تستوحي العينات السيرذاتية، يشكك في الميثاق المرجعي( خطاب الحقيقة)، ويعيد الاعتبار إلى الميثاق التخييلي ( خطاب الخيال)([8]). ولا تهم في هذا النوع من الأعمال مدى صِدْقيّة الأحداث المحكية ومطابقتها للواقع، وإنما قدرة أصحابها على إعادة تشخيص حيواتهم الشخصية بطريقة فنية، والكشف عن حقائق داخلية"Vérités intérieures " تجسد طبيعة العلاقة التي ينسجونها مع محيطهم والآخرين، وتُجلّي تطلعاتهم وأحلامهم المحبطة. د- بقدر ما تنتج المؤلِّفة هذه الحقيقة ( الحقيقة السرديةVérité narrative)، تنفصل عن ذاتها محاولةً سبر أغوارها، وإضاءة جوانبها الداجية. كما أنها لا ترغب في الجلوس على كرسي الاعتراف لقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وإنما تسعى إلى التحرر من الرقابة الذاتية لتقول ما يحلو لها وتعيد تأمل أيام قاسية وجميلة لفهم ملابساتها وأبعادها وامتداداتها، ومحاكمة مرحلة مجحفة لا يستطيع " التعويض المالي" أن يطمس ما خلفته من آثار وخيمة وجراح غائرة في نفوس المعتقلين وذويهم على حد سواء. 3-الثنائية الصوتية: تسترجع الساردة شريط ربع قرن من العشرة التي جمعتها بالمسرود له. وفي هذا الصدد تعتمد على الدعامات والجزئيات التي يمكن أن تسعفها على استرجاع ماضيهما المشترك في عنفوانه ونضارته وإشراقاته رغم ما تخللته من هزات ورجات عنيفة. ولهذا تحرص على بقاء رائحته في المخدة التي كان يتوسدها حتى تشمها كل ليلة. " أنفاسك التي تشربها كل شيء فيه، وخاصة مخدتك التي أرفض غسل حشوتها والتي أتشمم رائحتك فيها كل ليلة" ص63. ولم يثنها سجنه في "الجزيرة السوداء أو النائية" ورحيله المبكر عن مخاطبته ومناجاته كما لو كان طيفا يلازمها في نومها وغفوتها ويقظتها. وأحيانا تتوهم ، من شدة الهذيان سورة الغضب، أنه زارها لتفقد أحوالها، ومشاطرتها غربتها وقلقلها الوجودييْن. تعرفت إليه لما زارته في السجن ضمن لجنة طلابية. وما أثارها فيه بدايةَََ هو صمته وعدم رغبته في مشاركة الآخرين شغبهم وضجيجهم. ولما توطدت علاقتهما واحتضنهما السجن الأكبر (الحياة) عاينت عن كثب ما تركه السجن من جراح متغوِّرة في نفسيته، ومن آثار وخيمة على جسده ونظرته إلى الحياة رغم أنه مازال في ريعان شبابه وعزه. وإن كانت الساردة تستحضر فضاءات متناثرة، فهي تركز على فضاءين رئيسين، وهما : فضاء البيت (محرابها) الذي يحضن ذكريات حبهما وأسرارهما وتطلعاتهما وأحلامهما، وفضاء السجن الذي أفقدهما نكهة الحياة، وجعل أيامهما تتعاقب داخله وخارجه في رتابة وإملال. وبينهما ينتصب فضاء البحر الذي يغري بركوب غواربه بحثا عن اختراق آفاق مجهولة وارتياد فضاءات جديدة، وسعيا إلى تجديد نٍُسغ الحياة بأحلام وتطلعات فاتنة ورائقة. تتشبث الساردة بالحكي لمقاومة ما يمكن أن يدمر ما هو " جميل وبديع" في الحياة الدنيا رغم غدرها وتقلبها، وإطلاع المسرود له بما جد من أخبار عائلية وسياسية، ومحاولة فك طلاسم الرموز والعلامات التي لم تكن تعيرها اهتماما من قبل، والتحرر من قيود الماضي وعذاباته وآلامه، والتعبير عن إحساس الذنب الذي يعتريها كلما قارنت وضعها خارج السجن بحالته داخله." عاودني الشعور نفسه الذي شعرت به في أول زيارة مع اللجنة الطلابية... الإحساس بالذنب. أن أستمتع بالحياة وبجمال البحر وصخوره وأمواجه ورذاذه وعطره ودفئه وشمسه و...و.... وأنت وأمثالك في تلك الزنازين المظلمة التي تتآكل جدرانها بفعل رطوبة البحر؟ فيا للمفارقة؟" ص34. وإن ركزت الساردة على الخطاب المسرود للتعبير عن معاناتها وتحليل ذاتها، فهي تركت هامشا للمسرود له ليعبر بالخطاب المنقول عن فلسفته في الحياة (إما نكون أو لا نكون)، واستخفافه بالتعويض المالي لجبر الأضرار وطي صفحة الماضي الأليم، واتخاذه مسافة من العملين النقابي والسياسي لكونهما انزاحا عن رسالتيهما النبيلتين، وانتقاده للشعارات الطَّنانة واللغة المُتخشِّبة. ورغم أن كلامه المباشر لا يشغل إلا حيزا ضئيلا مقارنة بالخطابين المسرود والمحول، فهو يرن داخلهما، وينثر بين ثناياهما " جزره اللغوية" و " عيناته الإيديولوجية". وهو ما يبين أن الساردة تحرص على " الحوارية المتبادلة" ليتفاعل صوتها مع صوت المسرود له، ولإشراكه، حضوريا وغيابيا، في كل شاذة وفادة تهم مسيرتها في الحياة ، وتبادل التأثير ( رغم أنها تشتكي من كونه أثر فيها في حين لم تستطع أن تؤثر فيه بدورها)، واستحضار خطابه لمواجهة ما عرفه العالم من تحولات أثرت سلبا في " القيم الأصيلة" التي طالما ناضل من أجلها. 4ـ مرآوية السرد: تتناسل من رحم السرد الأصلي ( مناجاة السارد للمسرود له) محكيات صغرى. قد يتبادر ظاهريا بكونها حشوا واستطرادا، لكنها ، من الزاوية الوظيفية، تدعم السرد الأصلي وتعكس فضاياها ومحتوياتها على نحو مصغر (وهذا ما يصطلح عليه بالإرصاد المرآتي Mise en abyme )([9]). ونمثل، في هذا السياق، بما يلي: أـ تتخيل الساردة نفسها في الصفحة 9 بأنها في صحراء شاسعة تسير حافية، ومتعثرة في الرمال، ومقتفية أثر المسرود له الذي يهرب طيفه باستمرار كلما اقتربت منه. وكلما اعتقدت أنها أدركت مبتغاها يحصل لها كباسط كفيه للماء وما هو ببالغه([10]). يعكس هذا المحكي ، على صغره وضآلته، مجريات الأحداث كلها. تعاني الساردة من الوحدة القاتلة، و رعونة الحياة وقسوتها كما لو كانت تعيش في صحراء مُمْحِلة لا ترحم من تحضنه بين كثبانها التّيْهاء. يتراءى لها، عبر الأفق البعيد واللامنتاهي ، قبسٌ من الأمل ( أو تتوهمه كما لو كان حقيقيا) اعتقادا منها بأنها ستلتقي بمن تحب (يتشخص المسرود له في صورة الحبيب والزوج والرفيق والمناضل) ، لكن سرعان ما يخيب أملها وترتد أحلامها إلى الدرك الأسفل. فلا يبقي أمهامها، والحالة هكذا، إلا دعوة براق يطير بها بعيدا حيث تشاء. ب ـ تستحضر الساردة في الصفحة 30 صورة قطة تتألم متمرغةَ في التراب ، لكن لا أحد من المارة يقدم لها عونا بدعوى أنها لا تريد أن تغادر المكان. أكيد أن القطة ماتت، فحلت روحها في الساردة. فهي الأخرى كابدت الألم بكل عزم وإصرار. وأن انفتحت أمامها أباريق الأمل ومنافذ الخلاص، آثرت أن تمكث في"محرابها" منتظرة الحل الذي جسمته في ذهنها وظلت وفية له إلى الأبد. ج ـ يصور المسرود له الصفحة 86 نفسه بالمزارع الذي لم يجن من بذوره أي شيء بسبب عقم الأرض. لو سكن أرضا أخرى لكان حصادها مثمرا. لكن قدره هو أن يعيش في أرض جدباء تبخل عمن يغدق عليها ويتفاني في عشقها. يلخص المسرود له ،في هذه الصورة الاستعارية، حياته ويُجلّي موقفه من الوجود. فرغم التضحيات التي قدمها في سبيل وطنه، لم ير أي شيء تحقق على مستوى الواقع. والأدهى في الأمر أن ما كان يحلم به تلاشى كغيمة صيف بسبب المؤامرات والصراعات والخيانات التي أضعفت القوى التواقة للتغيير والمراهنة على غد مزهر ومشرق. وهذا ما زاد من تألمه نفسيا وتبرمه من العمل الحزبي وحنقه على الصمت المتواطئ ، و حفزه على التوبة إلى الذات لمعاينة المسافة الشاسعة بين الشعارات البراقة وبين الواقع الاجتماعي المزري. " أين الحلم الأكبر الذي تنازلت بسببه عن كل شيء" ص86. د-تصور الساردة علاقة المسرود له بوطنه بعلاقة الابن بالأم الجاحدة (انظر الصفحة 126). ظل يبحث عنها مدة طويلة. ولما اهتدى إلي عنوانها بمساعدة طاقم برنامج تلفزيوني أنكرته ولفظته كأنها لم تعرفه قط. أرادت الساردة من خلال هذه العلاقة الاستعارية بين المحكيين ( المؤطِّر والمؤطَّر) أن تبين جحود الوطن تجاه بعض أبنائه البررة . لم يبادلهم الحب بمثله، ولم يحدب عليهم في وقت الشدة والقسوة. 5ـ التصوير الشعري: تجمع الزهرة رميج في " روايتها" بين التصوير الشعري والتخييل الروائي. وهذا ما جعل عملها يقترب في كثير من مفاصله من تخوم السرد الشعري الذي "يستعير وسائل عمله وآثاره من الشعر، كما يقتضي تحليله أن يعير اهتماما، في الوقت نفسه، لتقنيات وصف الرواية والشعر. إن الشعر السردي ظاهرة انتقالية بين الرواية والشعر"([11]). ولم تحافظ الزهرة على البذخ الشعري في مختلف المتواليات السردية، إذ ينحسر إن لم نقل يخفت أحيانا بسبب هجمات الواقع وصخبه. وهو ما يدعم الجانبين المرجعي والأطروحي اللذين يراهنان على تشخيص ومواكبة ما يحدث في الواقع من تحولات سريعة تشكك في كثير من اليقينيات ، وتكشف عن هشاشة اللغة المتخشبة ( غزو الأمريكان للعراق، تورط جنود أمريكين في فضائح سجن أبي غريب، الأحداث الإرهابية بالدار البيضاء في 16 ماي 2003 ، تعويض ضحايا الانتهاكات الجسدية لطي صفحة سنوات "الجمر والرصاص"، تنامي ظاهرة التطرف الديني بالمغرب..). ويمكن أن نعاين في ما تكبته الروائية عن ذاتها عمقا في تناول القضايا السياسية والمعيشية، فهي تتناولها في منأى عن الرواسم والأحكام الجاهزة، وتكشف عما تختزنه طويتها من أسرار وهواجس وأحلام. إن المبدع الحقيقي، في نظر العقاد، ليس هو من يصف الحوادث السياسية، وإنما من يقدر على الصياغة الجميلة في إعرابه عن العواطف والنظرات([12]). ونعاين في كثير من المفاصل السردية حرص الروائية على إضفاء طابعا شعريا على ما تحكيه من وقائع مفجعة ومأساوية. ومن بينها نذكر أساسا : أ-الانزياح اللغوي: نزعت الروائية الزهرة رميج إلى الاشتغال على اللغة لجعلها أكثر تعبيرية عن أحاسيسها المرهفة حيال ما يكتنفها ويقع لها. واضطرت أحيانا، تحت وقع الهذيان وسورة التماهي مع الموصوف، إلى امتحان قدراتها على قول الشعر الطليق. وبما أنه غير مشيد على خلفية حوارية، فهو لم يسهم في التعدد اللغوي داخل المؤلَّف، وإنما يدعم ثخونة الدليل اللغوي وإيحائيته. ( ومن الصور الواردة في المؤلف نذكر على سبيل المثال أحمل جراحي بداخلي/أنتعل أحذية الجن/زحفت الدواخل الهشة مدرجة في دمائها/ كان الجرح مازال مفتوحا عن آخره/ أن ألبس طاقية الإخفاء وأجنحة البراق/ كنت كطائر الفينق الذي فقد الذاكرة/ شعرهن الملون بألوان الذهب والفضة والنحاس..الخ. ب-الاستعارات النصية: سبق لنا أن أشرنا إلى اتسام المؤلَّف أحيانا بالميسم المرآوي. وما يهمنا منه هو طابعه الاستعاري الذي يسعف على نسج علاقة مشابهة افتراضية بين المستعار والمستعار له، وتعزيز تفاعلهما سعيا إلى توليد معان وإيحاءات جديدة، وإضفاء الانسجام على المؤلف كله. وفي هذا الصدد نستدل بمثالين فقط يمكن أن ينسحبا على أمثلة وشواهد مختلفة
المحكي الإطار(المستعار) المحكي المُؤطَّر (المستعار له) علاقة المشابهة عدم رغبة الساردة المُتفجعة في مغادرة "محرابها" رغم بروز أباريق الأمل وإرهاصاته خارجه. إصرار القطة المتألمة على المكوث في مكانها رغم توفرها على حلول للفرار بجلدها. [+تحمل الألم] و[+عدم مبارحة المكان]. مناجاة المسرود له الذي يعشق وطنه ويتفاني في خدمته. تتبع أطوار بطل فيلم "جمال أمريكا" الذي ظل متشبثا بعدم مواجهة الخيانة والعنف بمثليهما، وحريصا على الوفاء لوطنه وضميره. [+التمزق الداخلي] و[+حب الوطن ووالفاء له] و[+مقاومة الإغراءات المادية]. وفي السياق نفسه، يمكن أن ندرج تصوير الساردة حياتها في مدها وجزرها بحالة الشمس في بروزها واختفائها." تأكدت أني لا أحلم، وأن هذه الأشعة حقيقية وليست وهمية. الشمس تعرف مدى عشقي لها... تعرف أن حياة نوارة الشمس مرتبطة بها. لذلك، أكيد، أنه عز عليها أن تراني في الحال الذي أنا عليه" ص128. فعندما تبرز الشمس تحس الساردة بأن أشعتها تداعب وجهها، وتنشر الحرارة في دواخلها، وتبعث الأمل من مرقد أحشائها، وتفتح عينيها -بعد أن غرقت أياما طويلة في سُبات عميق وشقاوة مُمضّة- لمعاينة فراشات في غاية نشاطها وحيويتها ونباتات ( الأزهار والدفلى) في منتهى يُنعها ونضارتها وطيبتها، ولمعانقة البحر في ألقه وغبطته ونشاطه. ولما تتوارى الشمس وراء الغيوم تشعر الساردة بكرب وحزن كبيرين كما لو كانت في قبو مظلم. ولم لا؟ والكون السابح في ظلمته يذكرها بغيهب السجن حيث ينتظر المعتقلون (عشاق الشمس) انقشاع الغيوم وإدبار الليل البهيم لينعموا بأشعة الشمس التي توحي لهم باسترجاع حريتهم، وممارسة أنشطتهم المعتادة، ولقاء أحبتهم وأقاربهم. ج- توهم الشخصيات: من خلال الثنائية الصوتية تطفو ، بين الفينة والأخرى، شخصيات عابرة (أو موتيفات حرة Motifs libres) يمكن أن يُستغنى عنها دون أن يؤثر ذلك سلبا على البناء العام " للرواية" ( الابن/ الأولاد/ الصديق/ السلاطين/ العاطلون عن العمل/ سائق سيارة الأجرة/السجناء/ الناجون/ الوجوه السبعينية السوداء..). وما يلفت النظر، عموما، أنها باهتة كما لو كانت مستمدة من حلم. لا يهم الساردة من إدراجها التدقيق في هويتها ومواصفاتها ورصد أدوارها وإنما بيان وقعها وتأثيرها النفسيين على مجرى حياتها الشخصية من جهة، والسعي إلى خلق الانطباع بالواقع من جهة ثانية. د-الدفقات الشعورية: تتوالي الأحداث في شكل " أنساق لحظات"([13]) ( حفل الفطام/ تهريب المسرود له من الجزيرة السوداء/ العناية بالأزهار/ الفشل في مراودة النوم/ تلازم السجن والمقبرة/ تهاطل الأمطار بغزارة/ التقدم بطلب للحصول على التعويض/ استفحال ظاهرة الصراصير/ أحداث 16 ماي الإرهابية..). وإن وردت متفرقة ومتباعدة زمانيا ومكانيا، فهي تنتظم في شكل دفقات شعورية تكشف عما تختزنه السريرة من تطلعات وأحلام واستيهامات، وترصد رحلة الذات في مجهول الكون وخضم الحياة لمحاكمة الجلادين، ومحاسبة الذات، والتخلص من وزر الماضي وكابوسه. وهذا ما جعل الساردة تؤثر الزمن النفسي لقدرته على سبر أعماق الأخاديد التي حفرتها " سنوات الجمر والرصاص" في نفوس المعتقلين السياسيين وذويهم على حد سواء) ، ولا تكترث بالزمن المرجعي إلا في المفاصل السردية التي تستدعي مواكبة حدث جسيم أو التأريخ للحظة حاسمة بالجملة، ما يميز مؤلّف " أخاديد الأسوار" عن غيرها من المؤلفات، التي نبشت عن آثار "سنوات الجمر والرصاص" وأسرارها، أن صاحبته راهنت على إعادة تشخيص "التجربة الاستثنائية" التي تقاسمتها مع المسرود له بطريقة فنية يمتزج فيها الخيال بالواقع، وتتقاطع فيها الأبعاد الصوفية والرومانسية والثورية والرمزية. فهي لم تتوخ من مشروعها الحكائي أن تقول الحقيقة و تبوح بأسرارها وتفاصيل حياتها، وإنما سعت إلى الارتقاء به إلى مستوى " المثالية الرمزية" لتشخيص من خلال ذاتها آلام من اكتوى بحرقة التجربة نفسها، ومعاودة مساءلة لحظات هاربة من الماضي لعلها تمسك بتلابيب" حميميتها المفتقدة"، وتهتدي إلى "الطمأنينة المثلى" ، وتجد أعذارا وتعليلات لإخراس " الضجيج" الذي يسكن دواخلها.
-------------------------------------------------------------------------------- هوامش: المقدمة: [1] -الزهرة رميج : أنين الماء، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، الكتاب التاسع،ط1، 2003. [2] -الزهرة رميج : نجمة الصباح، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، [3] -من بين ترجماتها نذكر ما يلي : مسرحيتا عبد اللطيف اللعبي : تمارين في التسامح وقاضي الظل (2005)، ورواية لبهاء الطرابلسي : امرأة ليس إلا (2005)، و ورواية نفيسة السباعي: نساء في الصمت، 2006 ( وكل هذه الأعمال نشرت بالمركز الثقافي العربي البيضاء/بيروت). النص: [1] -الزهرة رميج : أنين الماء، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، الكتاب التاسع،ط1، 2003. [2] -الزهرة رميج : نجمة الصباح، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، [3] -من بين ترجماتها نذكر ما يلي : مسرحيتا عبد اللطيف اللعبي : تمارين في التسامح وقاضي الظل (2005)، ورواية لبهاء الطرابلسي : امرأة ليس إلا (2005)، و ورواية نفيسة السباعي: نساء في الصمت، 2006 ( وكل هذه الأعمال نشرت بالمركز الثقافي العربي البيضاء/بيروت النص: [1] -الزهرة رميج: أخاديد الأسوار، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، 2007. [2] - " ذلك الماضي الذي كان بداية انهيار جدرانك قبل الأوان" ص21 [3] -" هل كنت تقوى على رؤية ما أراه ويراه كل نفس حساسة دون أن يحفر خنادق أخرى بداخلك" ص51. [4] - يا إلهي؟ ألهذا كان السجن قد حفر أخاديده عميقا بداخلك؟ كيف كنت تستقبل هدير الأمواج والبحر ورائحته الزكية وأنت حبيس غرفة ضيقة مظلمة؟" ص33. [5] - ابن منظور: لسان العرب، أعاد بناءه على الحرف الأول من الكلمة يوسف خياط، المجلد الثاني، دار العودة دار لسان العرب بيروت،1988، ع2، ص796. [6] - صيغة معدلة ل " أنا ولست أنا" انظر : Jacques Lecarme Eliane Lecarme -Tabone : L'autobiographie , Armand Colin ,1997, p271. [7] - هناك من ينحت الكلمة على النحو الآتي: تخيييل حقيقي Véri-fiction وهم بذلك يحيلون على الكلمة لانجليزية (Faction)المنحوتة من الأحداث (Facts) والتخييل (Fictions). انظر في هذا الصدد: Claude Arnaud : « L'aventure de l'autofiction » in Le magazine littéraire ( Les écritures du Moi) , hors -série, n°11, Mars-Avril, 2007, p 25. [8] - لقد فصلنا هذه الوظائف التي ذكرها فانسون كلونا (التخييل الذاتي بحث في إضفاء التخييل على الذات في الآدب (1989)) في كتابنا : الحقيقة الملتبسة، منشورات المدارس، 2007، ص159. [9]-من مميزاته الجوهرية التضمينInclusion ( تضمن المحكي الإطار على محكيات صغرى) والانعكاسية Réflexivité ( اضطلاع المحكيات المؤطرة بعكس ما يحدث في المحكي الإطار على نحو مصغر). ويعد أندريه جيد هو أول من صاغ مفهوم الإرصاد المرآوي في يومياته(1889-1939) :" أحب كثيرا أن نعثر في العمل على موضوع هذا العمل نفسه منقولا على مستوى الشخصيات. لا شيء ينير الموضوع ويوطد أبعاد المجموع أثبت من ذلك. وهكذا توجد في لوحات مملنغ (Memling) أو كونتين متزيس(Quentin Metzys) مرآة صغيرة محدبة داكنة تعكس بدورها داخل الغرفة الذي يجري فيها المشهد المرسوم. وهو ما نعاينه أيضا في لوحة الوصيفات لفلاسكيز(Velasquez) ( لكن مع اختلاف طفيف). ونجده أخيرا في الأدب، في مشهد من إحدى مسرحيات هاملت(Hamlet)، وفي مسرحيات أخرى، وكذلك مشاهد العرائس وحفلات القصر، وفي وليام مستر..). انظر في هذا الصدد: Lucien Dällenbach : Le récit spéculaire Essai sur la mise en abyme, Seuil,1977,p15. [10] - يقول الله تعالي : " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه للماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" سورة الرعد 14. [11] - Jean Yves Tadié : Le récit poétique PUF, 1976, p 7. [12] ـ يتحدث عباس محمود العقاد عن وظيفة الشعر، ويستدل بمثال الشاعر " جيتي" الذي يجمع النقاد بأنه شاعر عظيم وإن لا نجد في ديوانه بيتا في وصف الزلازل السياسية التي أحاقت بألمانيا في حياته. ويمكن أن نعمم الحكم على المبدع بصفة عامة. فقد يكون عمله خلوا من حوادث الحياة، لكنه يشخصها بطريقة فنية، ويعد عاملا من عوامل الحوادث. انظر في هذا الصدد :ساعات بين الكتب، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، 1999، ص179. [13] - عبارة لجاستون باشلار مأخوذة من : السرد الشعري، م.سا ص10.
الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأحد 16-05-2010 03:24 أ£أ“أ‡أپ الزوار: 2749 التعليقات: 0
|